الحمد لله مالك الملك رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين الذي جاء بالحق المبين، المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين فتحوا الفتوحات وأقاموا قواعد الدين.
نبذة مختصرة عن الأئمة الأربعة
الإمام الأكبر أبو حنيفة النعمان
ترجمته
هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت، قال ابن خلكان: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطى بن ماه الفقيه الكوفي، مولى تيم الله ابن ثعلبة. وقيل في نسبه أيضًا أنه النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزُبان. ولد سنة ثمانين للهجرة وكان خزَّازًا يبيع الخز وهو نوع من النسيج، طلب العلم في صباه ثم اشتغل بالتدريس والإفتاء، وأدرك ستة من الصحابة وروى عنهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أنس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن أبـي أوفى، وعبد الله بن جزء الزبيدي، ومعقل ابن يسار.
أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع من عطاء بن أبي رباح وأبي إسحـٰق السّبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصوّاف ومحمد بن المنكدر ونافع، وروى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وأبي الحسن زيد بن الحسين رضي الله عنهم، وأبي بكر الزهري.
ويبلغ عدد مشايخه من التابعين الذين روى عنهم نحو المائتين.
ومن تلامذته عُبيد الله بن المبارك ووكيع، وأشهرهم أبو يوسف القاضي ومحمد ابن الحسن الشيباني، وغيرهم كثير.
مناقبه
لم يبلغ الإمام المجتهد أبو حنيفة رضي الله عنه من العلم والمرتبة وقوة الحجة ما بلغ لو لم يكن قوي القريحة متفتح الذهن قوي الحافظة؛ إذ روي عنه من العجائب في القضاء والفقه ما يشهد بتفوقه وذكائه، من ذلك أن رجلاً أتاه وقال له: يا إمام، دفنتُ مالاً مدة طويلة ونسيت الموضع الذي دفنتُهُ فيه، فقال الإمام: اذهب فصَلّ الليلة إلى الغداة فإنك ستذكره إن شاء الله، ففعل الرجل فلم يمضِ إلا أقل من ربع الليل حتى ذكر الموضع الذي دفن فيه المال، فجاء إلى أبي حنيفة رضي الله عنه وأخبره بذلك فقال: لقد علمتُ أن الشيطان لا يدعُك تصلي الليل كله، فهلا أتممتَ ليلتك كلها شكرًا لله.
ويروي أصحاب التواريخ والسير والتراجم القصص الكثيرة عن ذكائه وفطنته وقوة قريحته.
لقد كان الإمام رضي الله عنه رجلًا زاهدًا ورعًا تقيًا كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى، فقد روى ابن خلكان في «وفيات الأعيان» عن أسد بن عمرو أنه قال: صلى أبو حنيفة فيما حُفظ عليه صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة، وكان عامة ليله يقرأ جميع القرءان في ركعة واحدة، وكان يُسمع بكاؤه في الليل حتى يشفق عليه جيرانه، وحفظ عليه أنه ختم القرءان في الموضع الذي توفي فيه سبعة ءالاف مرة.
وقال يزيد بن الكُميت: كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله، فقرأ بنا علي بن الحسين المؤذن ليلة في العشاء سورة ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾ وأبو حنيفة خلفه، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يتفكر ويتنفس، فلما خرجت تركت القنديل فيه زيت قليل يكاد ينطفئ، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم وقد أخذ بلحيته وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرًا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرًا، أجِر النعمان عبدك من النار ومما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك، قال: فأذَّنْتُ والقنديل يُزْهر، فلما دخلتُ قال لي: اكتم عليَّ ما رأيت، وركع ركعتين وجلس حتى أقمتُ الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.
وقد أراد الخليفة المنصور أن يوليه القضاء فأبى، فحلف المنصور ليفعلَنَّ، فحلف الإمام ألا يفعل، فقال الربيع بن يونس الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف فقال: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني، وأبى أن يلي.
وروي عن الربيع أنه قال: رأيت المنصور ينازل أبا حنيفة في أمر القضاء فقال أبو حنيفة: اتَّقِ الله ولا تُرعي أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ولا أصلح لذلك، فقال له المنصور: كذبت، أنت تصلح، فقال له: قد حكمت لي على نفسك، كيف تولي قاضيًا على أمانتك وهو كذّاب وكان يزيد بن عمر بن هُبيرة الفزاري أمير أراده أن يلي القضاء بالكوفة أيام مروان بن الحكم فأبى عليه فضربه مائة وعشرة أسواط في كل يوم عشرة، فلما رأى امتناعه عن القضاء خلَّى سبيله.
علمه وقوة حجته
لقد كان الإمام رضي الله عنه مجتهدًا مطلقًا قوي الحجة. وقد كان في وقته سيف السنة المسلط على رقاب المعتزلة، فقد تتبع مجالسهم في البلاد وناظرهم وأقام عليهم الحجة، وبلغ في علم الكلام (وهو علم التوحيد) أنه كان المشار إليه بين الأنام، وكان معتمد أهل السنة وأشهرهم في الرد على أهل الأهواء ولا سيما المعتزلة. وقد نقل صاحب كتاب «التبصرة البغدادية» عن الإمام أبي عبد الله الصيمري أن الإمام كان متكلم هذه الأمة في زمانه وفقيههم في الحلال والحرام.
ونقل الخطيب في تاريخه عن حرملة بن يحيى عن الشافعي أنه قال: من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. وروى كذلك الشافعي أنه قيل لمالك رضي الله عنه: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلًا لو كلّمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا لقام بحجته.
وذكر الخطيب في «تاريخ بغداد» أيضًا أن أبا حنيفة رأى في المنام كأنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث من سأل ابن سيرين فقال: صاحب هذه الرؤيا يثور علمًا لم يسبقه إليه أحد قبله.
عقيدته
كان الإمام رضي الله عنه على عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم إذ التقى ببعضهم وأخذ عنهم، وشأنه شأن غيره من أئمة السلف الذين هم على عقيدة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشبيه والجسمية والمكان، ويدل على ذلك ما جاء في كتابه «الفقه الأبسط» وهو قوله: «كان الله ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخَلْق، كان ولم يكن أينٌ ولا خَلْق ولا شىء وهو خالق كل شىء».
ومن نفيس كلامه في تنزيه الله تعالى عن كل ما هو من صفات الأجسام قوله في الفقه الأكبر: «يده صفته بلا كيف» أي أن اليد صفة له من غير أن تكون جارحة» وقال أيضًا: «والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لا جسم ولا عَرَض ولا حَدَّ له ولا ضد ولا ند ولا مثل، لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شىء من خلقه، وهو شىء لا كالأشياء».
كما كان أيضًا من المنزهين لله تعالى عن الصوت والحروف واللغة، إذ بَيَّن أن كلام الله تعالى الذاتي الأزلي الأبدي ليس بحرف ولا صوت فقال في «الفقه الأبسط» ما نصه: «ويتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بلا ءالة ولا حرف، فصفاته غير مخلوقة ولا مُحْدثة، والتغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين، ومن قال إنها مُحدثة أو مخلوقة أو توقف أو شك فهو كافر».
وفي كل هذا بيان ودليل ساطع على أن علم الكلام الذي هو علم التوحيد المتعلق بمعرفة ما يجب لله من الصفات وما يستحيل عليه من الصفات، هو علم ممدوح بدليل أن الإمام أبا حنيفـة رضـي الله عنه كان من أكثر الناس اشتغالًا به في وقته، وكان تبحره في هذا العلم هو سلاحه المشهور على أهل الأهواء والضلال ولا سيما المعتزلة، إذ تتبعهم في البلاد ودحض مزاعمهم وأبطل شبهاتهم وبيَّن زيفهم. إلى هذا فإن كتابيه «الفقه الأكبر» و «الفقه الأبسط» دليل ساطع على خوضه في علم الكلام من خلال إقامته الأدلة العقلية والنقلية على مسائل علم الكلام التي هي على مذهب أهل السنة والجماعة.
وفاته
كانت وفاته سنة مائة وخمسين للهجرة، وهي السنة التي وُلد فيها الإمام الشافعي لإحدى عشرة ليلة خلت من جُمادى الأولى فقيل «مات قمر وولد قمر». وقيل مات في السجن لرفضه أن يلي القضاء، وقيل إنه لم يمت في السجن. وقد خرج في جنازته قريب الخمسين ألفًا فصلي عليه ودفن في مقبرة الخيزران في بغداد ، رحمات الله الواسعة عليه.
الحمد لله مالك الملك رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين الذي جاء بالحق المبين، المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين فتحوا الفتوحات وأقاموا قواعد الدين.
كان للإسلام سلف صالح من العلماء الأجلاّء الذين اختصوا بحمل الدين الإسلامي وتبليغه إلى الناس وقد تولوا القيام بالمهمة على أكمل وجه فخلّفوا لنا ثروة عظيمة من كنوز الفكر في جميع فنون العلوم النافعة للمجتمع الإسلامي. ومنهم:
الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه
اسمه نسبه ومولده:
هو أبو عبد الله الشيباني أحمد بن محمد بن حنبل من بني شيبان ابن ذهل يجتمع نسبه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في نزار، فأحمد من ولد ربيعه من نزار والرسول صلى الله عليه وسلم من ولد معدّ بن نزار ولد في ربيع الأول سن 164، جاءت أمه حاملة به من مرو في خرسان وولدته في بغداد وكان أبوه عندما توفي شابا وله من العمر ثلاثون سنة وكان أحمد طفلا فرعته أمه.
مشايخه:
أول طلب أحمد للعلم كان سنة 179 هجرية. فسمع أحمد من هشيم، وإبراهيم بن سعد، ويزيد بن هارون، ومحمد بن إدريس الشافعي.
تلاميذه:
وروى عنه عبد الرزاق بن همام، ومحمد بن إدريس الشافعي، والأسود بن عامر وغيرهم من كبار العلماء أمثال البخاري ومسلم وغيرهم.
مناقبه:
وكان الإمام أحمد إماما في الحديث وضروبه إماما في الفقه والورع والزهد وحقائقه وقد قال إبراهيم الحربي أدركت ثلاثة لم ير مثلهم أبدا يعجز النساء أن يلدن مثلهم رأيت أبا عبيد القاسم بن سلام ما أمثله إلا بجبل نفخ فيه روح ورأيت بشر بن الحرث ما شبهته إلا برجل عجن من قرنه إلى قدمه عقلا ورأيت أحمد بن حنبل كأن الله جمع له علم الأولين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء، وعن الحسن بن العباس قال قلت لأبي مسهر هل تعرف أحدا يحفظ على هذه الأمة أمر دينها قال لا أعلم إلا شابا بالمشرق يعني أحمد بن حنبل، وقال إبراهيم بن شماس خاص الناس فقالوا إن وقع أمر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن الحجة على وجه الأرض فاتفقوا كلهم على أحمد بن حنبل حجته وكان الشافعي يأتيه إلى منزله فعوتب في ذلك فأنشد:
قالوا يزورك أحمد وتزوره
قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته
فلفضله فالفضل في الحالين له.
مصنفاته:
وكان له العديد من المصنفات منها المسند، والناسخ والمنسوخ، والرد على الزنادقة فيما ادعت من متشابه القرءان، والتفسير، وفضائل الصحابة، والمناسك والزهد.
وفاته:
مرض أبو عبد الله بالحمى ليلة الأربعاء من شهر ربيع الأول سنة 241 ودام مرضه 9 أيام وتوفى يوم الجمعة 12 من ربيع الأول وهو ابن سبع وسبعين سنة ويروى أنه حضر جنازته ثمانمائة ألف رجل وستين ألفا امرأة وأسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس وحكى عن إبراهيم الحربي قال رأيت بشر الحافي في النوم كأنه خارج من مسجد الرصافة وفي كمه شىء يتحرك فقلت ما هذا في كمك فقال نثر علينا لقدوم روح أحمد الدر والياقوت فهذا ما التقطته.
اللهم اجعل همنا نشر العلم ودأبنا إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
ترجمة الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة
ترجمته
هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر أنس بن الحارث بن غيمان الأصبحي المدني وينتهي نسبه إلى يعرب بن يشجب بن قحطان. جده مالك بن أنس من كبار التابعين وأحد الذين حملوا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليلا إلى قبره كما ذكر ذلك القشيري، ووالد جده هو الصحابي أبو مالك الذي شهد المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا بدرًا، وأما والدة الإمام مالك رضي الله عنه فهي العالية بنت شريك بن عبد الرحمـٰن الأسدية، وأبناؤه هم: يحيى ومحمد وحماد. والإمام مالك هو أحد أصحاب المذاهب الأربعة المدونة المعروفة والمشهورة في بلاد المسلمين.
ولد في المدينة المنورة سنة خمس وتسعين للهجرة نشأ مُجدًا في التحصيل والرواية وقد أخذ العلم وروى عن عدد كبير من التابعين وتابعيهم الذين يعدون بالمئات نذكر منهم: نافع مولى ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وأبا الزناد وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
ولقد كان رحمه الله إمام دار الهجرة، فانتشر علمه في الأمصار واشتهر في سائر الأقطار وضربت إليه أكباد الإبل وارتحل الناس إليه من شتى الأنحاء، فكان يدرّس وهو ابن سبع عشرة سنة، فمكث يُفتي ويعلم الناس، حتى إن كثيرًا من مشايخه رووا عنـه كمحمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمـٰن فقيه أهل المدينة، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة وروى عنه كثير من الرواة حتى إن القاضي عياضًا ألف كتابًا عدَّ فيه ألفًا وثلاثمائة اسم ممن روى عن الإمام رضي الله عنه، أشهرهم سفيان الثوري والإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي وعبد الله بن المبارك.
مناقبه
كثير من علماء التابعين قالوا إن الإمام مالكًا رضي الله عنه هو الذي بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أعلم من عالم المدينة».
ولقد كان الإمام مالك بن أنس معظمًا للعلم حتى إنه إذا أراد أن يحدث توضأ وصلى ركعتين وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا متمكنًا على طهارة.
وكان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه معظمًا للنبي صلى الله عليه وسلم موقرًا له، فقد قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: «لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه ولقد كنت أرى جعفر بن محمد كان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلا