مطالعة الكتب بدون تعلُّم لا تكفي
الحمد لله ربِّ العالَمين وصلى الله على سيّدنا محمَّد أشرف المُرسَلين وحَبيب ربِّ العالَمين وعلى ءاله وصَحْبِه الطيّبِين الطاهِرين.
أمّا بعد،
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّـيْنَ﴾ معناه الذين يَبدأون بِصغار العِلم ثُمَّ بِكِباره، فلا ينبغي لطالب العلم أن يَبدأ بالمُطَوَّلات قبل المختصرات حتى لا يَفْهَم شيئًا على خلاف وَجهِه و كتب أهل العلم مختصراتٌ ثم متوسطاتٌ ثم مطولاتٌ فيُخشى على المبتدئ إذا بدأ بالمطوَّلات أن يَضِلَّ لِعَدَم فَهْمِه الأمر على ما هو.
فَقَد حصل مِن رَجلٌ في فرنسا كان يُطالعُ في صحيح البخاري وَحْدَه فقال كلمة كفرية، قال: “كيف تقولون الانتحار حرامٌ والرسولُ أراد أن ينتحر” وذلك لِسُوء فَهْمِه وانشغاله بالمُطالَعة لِنَفْسِه دونَ الرُّجوع إلى أهل العلم. والذي في البخاري هو أنَّ الرسول لما انْقَطَع عنه الوحيُ زمانًا هَمَّ أن يُلْقِيَ بنفسهِ من ذروةِ جَبَلٍ معنى ذلك أنه كان يَعتقد أنه إنْ فَعَلَ ذلك لا يَحصُل له أدنى ضَرر. إنما أراد من ذلك تخفيف الشوق الحاصل له.
ثُمَّ إنّ الأعمال لا تُقْبَل عند الله إلا أنْ تُوافِق الشريعة، وموافقةُ الشَّرع وعدم مُوافَقَته لا يُعرف إلا بالعلم، والعِلمُ لا يُؤخَذُ إلا مِن أفواه العلماء، ولا تكفي مطالعة الكتب بغير تَلَقٍّ مِن أفواه العلماء، بل كثيرٌ من الناس الذين يَضِلُّون سَبَبُه أنهم لا يَتَلَقُّون عِلمَ الدين من أفواه العلماء بل يعتمدون على المطالعة في مُؤلَّفات العلماء، فكيف الذي يطالع في الكتب التي حُشِيَتْ بالأحاديث المكذوبة والأخبار المعلولة والغُلُوّ المذموم والكَذِب على الدين والتجسيم والتشبيه أي تشبيه الله بخلقه والعياذ بالله تعالى.
وقد قال الحافظ الكبير الخطيب البغدادي نقلاً عن بعض المحدِّثين: “مَن طالَع الكُتُبَ لنفسهِ بدونِ مُعَلِّمٍ يُسمَّى صُحُفِيًّا ولا يُسمى مُحَدِّثَا ومَن قَرأ القُرءآن لِنَفْسه بِدُون مُعَلِّمٍ يُسَمَّى مُصْحَفِيًّا ولا يسمى قارئًا”.
وكان أبو حيّان الأندلسيّ النَّحْوي كثِيرًا ما ينشد:
يَظُنُّ الغَمْرُ أنَّ الكُتْبَ تَهْـدِي*** أَخـَا فَـهْمٍ لِإدْراكِ العُلُـــومِ
وَمـا يَدْرِي الجَـهُولُ بِأنَّ فِيـها *** غَوامِضَ حَيَّرَتْ عَقْلَ الفَهِيمِ
إِذا رُمْتَ العُلُومَ بِغَيْرِ شَيْــخٍ *** ضَلَلْتَ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ
وتَلْتَبِسُ العُلُومُ عَلَيْكَ حَتَّـى *** تَصِيرَ أَضَلَّ مِن تُومَا الحَــكِيمِ
* الغُمْر: الجاهل الذي لم يُجَرِّب الأُمور.
* رُمْتَ: طَلَبْتَ
وتوما هذا كان طبيبا، ولكن تَطَــبُّبُه مِن الكُتُب، وقد وَقَع التَّصحيف في بَعض الكتُب التي عِندَه، فكان يَقْرَأ: “الحيَّةُ السَّوداء شِفاءٌ مِن كُلّ داءٍ”. تَصَحَّفَتْ كَلِمَة (حَبّة) إلى (حَيّة) فمَاتَ بِسَبَب تَطَبـُّبِه خَلْقٌ كَثِير.
فلا تكون المعرفة بمطالعة الكتب بل باختيار عارف ثقة أخذ العلم عَمَّن قبله بالسند المتصل فنـتلقى منه العلم الشرعي الصافي الخالي من الأفكار الدسيسة والآراء المنحرفة.
وسبحان الله والحمد لله، والله أعلم.
بعض المصادر:
– الدُرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني 2/63.
– لسان العرب لابن منظور: باب غ م ر.