Search or ask ابحث او اسأل
April 28, 2023

شرح عقيدة الحافظ فخر الدين ابن عساكر رحمه الله

عقيدة أهل السنة
عقيدة الحافظ فخر الدين ابن عساكر رحمه الله


http://alsunna.org/audio/arabic/aqeedah_ibn_asakir.mp3
قال الشيخ فخر الدين بن عساكر رحمه الله:
[اعلم أرشدَنا الله وإياكَ أنه يجبُ على كلّ مكلَّف أن يعلمَ أن الله عزَّ وجلَّ واحدٌ في مُلكِه، خلقَ العالمَ بأسرِهِ العلويَّ والسفليَّ والعرشَ والكرسيَّ، والسَّمواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينهما. جميعُ الخلائقِ مقهورونَ بقدرَتِهِ، لا تتحركُ ذرةٌ إلا بإذنِهِ، ليسَ معهُ مُدبّرٌ في الخَلقِ ولا شريكٌ في المُلكِ، حيٌّ قيومٌ لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نومٌ، عالمُ الغيب والشهادةِ، لا يَخفى عليهِ شىءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، يعلمُ ما في البرّ، والبحرِ وما تسقطُ من ورقةٍ إلا يعلمُهَا، ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرضِ ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين. أحاط بكلّ شىءٍ علمًا وأحصى كلَّ شىءٍ عددًا، فعالٌ لما يريدُ، قادرٌ على ما يشاءُ، له الملكُ وله الغِنَى، وله العزُّ والبقاءُ، ولهُ الحكمُ والقضاءُ، ولهُ الأسماءُ الحسنى، لا دافعَ لما قضى، ولا مانعَ لما أعطى، يفعلُ في مُلكِهِ ما يريدُ، ويحكمُ في خلقِه بما يشاءُ.

لا يرجو ثوابًا ولا يخافُ عقابًا، ليس عليه حقٌّ [يلزمُهُ] ولا عليه حكمٌ، وكلُّ نِعمةٍ منهُ فضلٌ وكلُّ نِقمةٍ منه عدلٌ، لا يُسئلُ عما يفعلُ وهم يسألونَ. موجودٌ قبل الخلقِ، ليس له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يَمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كلٌّ، ولا بعضٌ.

ولا يقالُ متى كانَ ولا أينَ كانَ ولا كيفَ، كان ولا مكان، كوَّنَ الأكوانَ ودبَّر الزمانَ، لا يتقيَّدُ بالزمانِ ولا يتخصَّصُ بالمكان، ولا يشغلُهُ شأنٌ عن شأن، ولا يلحقُهُ وهمٌ، ولا يكتَنِفُهُ عقلٌ، ولا يتخصَّصُ بالذهنِ، ولا يتمثلُ في النفسِ، ولا يتصورُ في الوهمِ، ولا يتكيَّفُ في العقلِ، لا تَلحقُهُ الأوهامُ والأفكارُ، (لَيْسَ كَمِثلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) اهـ.]

الشرح:


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى ءاله وأصحابه الطيبين.

وبعد، فإن رسالة الإمام فخر الدين بن عساكر من الرسائل المهمة التي فيها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد أثنى عليها الحافظ صلاح الدين العلائي وسماها “العقيدة المرشدة”، ووافقه على ذلك الإمام تاج الدين السبكي وقال في ءاخرها: “هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سنيٌّ”، فلأهميتها أحببننا نشر هذه العقيدة مع شرح موجز لها، فنسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه على كل شىء قدير.

مقدمة

الحمد لله خالق الليل والنهار، رافع السموات السبع بغير عمد العزيز القهار، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار، وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الأطهار وبعد:

فإن علم التوحيد هو أفضل وأشرف العلوم وذلك لكونه متعلقًا بأشرف المعلومات التي هي أصول الدين، قال الله تعالى: [سورة محمد]، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل فقال: “إيمان بالله ورسوله”.

وقد كان للسلف مزيد عناية بعلم التوحيد، وللخلف مزيد اعتناء بإفهامه الناس مع بيان أدلته العقلية والنقلية، حتى إن العلامة الفقيه المتكلم محمد ابن هبة المكي ألّف منظومة في علم التوحيد وأهداها للسلطان الغازي صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في المدارس، فلهذا رأيت شرح رسالة الشيخ الفقيه فخر الدين بن عساكر الشافعي، وهي رسالة موجزة، فحللت ألفاظها، وأوضحت عباراتها بلفظ موجز لطيف، يسهل على الأطفال فهمها، وعلى الطلبة حفظها، وسميته: “مرشد الحائر في حل ألفاظ رسالة فخر الدين بن عساكر”.

وأنوه أن هذه الرسالة فيها ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة مختصرة جامعة ناقضة لعقيدة أدعياء السلفية زورًا، موضحة لعقيدة الأشاعرة التي هي عقيدة الصحابة ومن تبعهم بإحسان من سلف وخلف، وهي رسالة عظيمة أثنى عليها الحافظ صلاح الدين خليل بن كَيكَلدي العلائي رحمه الله المتوفى سنة 761اهـ وسماها “العقيدة المرشدة” وقال: “وهذه العقيدة المرشدة جرى قائلها على المنهاج القويم، والعقد المستقيم وأصاب فيما نَزَّه به العلي العظيم” اهـ، نقل ذلك الإمام تاج الدين السبكي في طبقاته ووافقه في تسميتها بالعقيدة المرشدة وساقها بكاملها، وقال في ءاخرها ما نصه: “هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سني” اهـ.

وعلى هذه العقيدة سار شيخنا وقدوتنا العلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري في جميع مؤلفاته في العقيدة، فليُحذر من المشوشين المدفوعين والمأجورين للمشبهة المجسمة نفاة التوسل.

وأخيرًا نسأل الله المولى الكريم التوفيق والعفو والمغفرة، إنه على كل شىء قدير.

بسم الله الرحمن الرحيم

الشرح: المعنى أبتدىء باسم الله أو ابتدائي باسم الله، والرحمن أي الكثير الرحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا وللمؤمنين خاصة في الآخرة، والرحيم أي الكثير الرحمة للمؤمنين.

قال الشيخ فخر الدين بن عساكر رحمه الله:

الشرح: أن المؤلف هو فخر الدين أبو منصور  عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله ابن الحسين الدمشقي المعروف بابن عساكر الفقيه الشافعي المشهور. قال أبو شامة: ليس في أجداده من اسمه عساكر، وإنما هي تسمية اشتُهرت عليهم في بيتهم، ولعله من قبل أمهات بعضهم، وهو ابن أخي أبي القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عساكر محدث الشام وحافظها. ولد سنة خمسين وخمسمائة كما كتب بخطه في بيت جليل كبير، واهتم رحمه الله بالعلم من صغره، وتفقه على قطب الدين مسعود النيسابوري وزَوَّجه ابنته، وتلقى العلم أيضًا من عمه الحافظ أبي القاسم وشرف الدين عبد الله بن محمد ابن أبي عصرون، وأم عبد الله أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر وأختها ءامنة أم محمد وغيرهم، ودرّس وحدَّث في مكة ودمشق والقدس وغيرها، ومدحه عدد من العلماء المعروفين كما نقل الذهبي في السِّير وغيرُهُ، بل قال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية: “هو ءاخر من جُمِعَ له بين العلم والعمل، اتفق أهل عصره على تعظيمه في العقل والدين”.

وقال أبو شامة في ذيل الروضتين: “بعث إليه المعظّم ليوليه القضاء وطلبه ليلًا، فجاءه فتلقاه وأجلسه إلى جنبه، فأحضر الطعام فامتنع، وألحَّ عليه في القضاء فقال: أستخير الله، فأخبرني من كان معه قال: ورجع ودخل بيته الصغير الذي عند محراب الصحابة – أي في الجامع الأموي – فقام ليلته في الجامع يتورع ويبكي إلى الفجر، فلما أصبح أتوه فأصرَّ على الامتناع وأشار بابن الحرستاني فوُلِيَ، وكان قد خاف أن يُكره فجهز أهله للسفر وخرجت المحابر إلى ناحية حلب، فردَّها العادل وعزّ عليه ما جرى ورقّ عليه وقال: عيّن غيرك، فعيّن له ابن الحرستاني”. ومن شعره:

خَف إذا ما بِتَّ ترجو           وارجُ إن أصبحتَ خائف

كم أتى الدهرُ بعُسرٍ             فيه لله لطائف

وصنف في الفقه والحديث عدة مصنفات. وتوفي في عاشر رجب سنة 620هـ، وقلَّ من تخلف عن جنازته، ودفن في مقابر الصوفية في دمشق. قال أبو شامة: “أخبرني من حضره قال: صلى الظهر وجعل يسأل عن العصر، وتوضأ ثم تشهد وهو جالس وقال: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، لقنني الله حجتي، وأقالني عثرتي، ورحم غربتي، ثم قال وعليكم السلام، فعلمنا أنه حضرت الملائكة ثم انقلب ميتًا” اهـ، وكان مرضه بالإسهال رحمه الله تعالى.

قال رحمه الله: “اعلم أرشدَنَا الله وإياكَ أنه يجبُ على كل مكلفٍ أن يعلمَ أن الله عزَّ وجلَّ واحدٌ في مُلكِهِ”.

الشرح: أنَّ المُلك هو السلطان، والمعنى أنه يجب على كل مكلف أن يعتقد جزمًا من غير شك أن الله تعالى لا شريك له في سُلطانه، أي ليس لهذا العالم مالكٌ غيره ولا مدبرٌ غيره ولا إله غيره.

والواحد إذا أطلق على الله معناه الذي لا شريك له في الألوهية ولا مثيل له، والمكلَّف هو البالغ العاقل الذي بلغته دعوة الإسلام.

قال رحمه الله: “خَلَقَ العالمَ بأسرِهِ العلويَّ والسُّفليَّ والعرشَ والكرسيَّ والسمواتِ والأرضَ وما فيهمَا وما بينهمَا”.

الشرح: أن العالم العلويَّ هو السموات وما فوقها، والسفليَّ الأرضين وما تحتها، والمعنى أن كل شىء في هذا العالم إن كان في السموات أو في الأرض أو فوق السموات أو بين السموات والأرض أو تحت الأرض، كلّ ذلك بخلق الله عزَّ وجلَّ وهو الذي أخرجه من العدم إلى الوجود، ويدخل في ذلك أعمال العباد ونواياهم إذ هي جزء من هذا العالم، قال الله تعالى: (وخَلَقَ كُلَّ شىء) [سورة الفرقان]. والمقصود بما في السموات كالملائكة، وبما فوقها كالجنة، وبما بين السموات والأرض كالقمر والشمس والنجوم، وبما في الأرض كالبشر، وبما تحت الأرض كجهنم فإنها موجودة تحت الأرض السابعة([1]).

قال رحمه الله: “جميعُ الخلائِقِ مقهورونَ بقدرتِهِ، لا تَتَحركُ ذرةٌ إلا بإذنِهِ، ليسَ معهُ مدبرٌ في الخَلقِ ولا شريكٌ في الملكِ”.

الشرح: أن العرش الذي هو أعظم الأجرام حجمًا مقهور لله تعالى، الله هو الذي خلقه وجعله في هذا المكان المرتفع جدًّا وهو الذي يبقيه في ذلك الموضع فلا يخرُّ على السموات والأرض فيدمرها تدميرًا، فما سوى العرش مقهور لله من باب الأولى، قال الله تعالى: (وهو ربًُّ العرش العظيم) [سورة التوبة]، وهو سبحانه وتعالى المدبّر لكل شىء أي الذي يصرف الأشياء على مقتضى مشيئته وعلمه الأزليين فلا يحصل في كل العالم حركة ولا سكون إلا بتدبيره عزَّ وجلَّ. هو تعالى مصرّف الأشياء ومصرّف القلوب كيف يشاء، إن شاء أزاغ قلب العبد وإن شاء أقامه كما قال عزَّ وجلَّ: (ونُقَلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم) [سورة الأنعام]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك” رواه مسلم والبيهقي. فلا مدبّر تدبيرًا شاملًا لجميع الخلائق إلا الله، وأما التدبير الجزئي كتدبير الملائكة لأمر المطر والسحاب والنبات على حسب ما أمر الله وشاء في الأزل فيجوز إضافة مثل هذا إلى المخلوق كما قال الله في الملائكة: (فالمدبرات أمرًا) [سورة النازعات]، وإذا كان تصريف القلوب بيد الله فالأعمال الخارجية هي بالأولى خلق ج، وليس الأمر كما تقول المعتزلة إن العبد هو خلق أفعال نفسه وليس الله خالق كل شىء، قبَّحهم الله. الله تعالى قال: (الله خالقُ كُلِّ شىء) [سورة الزمر] والشىء يدخل تحته الأجسام والجوارح والأفعال فالعبد ليسَ له إلا أن يكتسب العمل والله يخلقه.

ومعنى يكتسبه يعلق إرادته وقدرته وهما مخلوقتان والله يخلق هذا الفعل خلقًا أي يحدثه من العدم فيجعله موجودًا، فلا يحصل إلا بإيجاد الله وخلقه، والعبد الموفَّق برحمة الله وفضله ينظر إلى المعنى الحقيقي لهذه الحركات والسكنات، فأنا إن حركت يدي أشعر بهذه الحركة وبأنني وجهت قصدي لذلك، ولكنَّ العقل والشرع يحكمان أنني لست خالقها بل هذه الحركة التي قامت بي هي خلق الله.

قال رحمه الله: “حيٌّ قيومٌ لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نَومٌ”.

الشرح: أن الحيَّ إذا أُطلق على الله معناه مَن له الحياة الأزلية التي ليست بروح ولحم ودم، وأما القيوم فمعناه مدبر الخلائق، ليس معناه أنه قائم في عباده يحلُّ فيهم. وفسَّر بعضهُم القيوم بالدائم الذي لا يزول.

والسِّنَةُ معناها النُّعَاسُ، والنوم يكون بحيث يغيب عقل الشخص ولا يسمع كلام من عنده، فالله تبارك وتعالى منزه عن ذلك كما قال في ءاية الكرسيّ: (الله لا إله إلا هو الحيُّ القيوم لا تأخذه سنةٌ ولا نوم) [سورة البقرة].

قال رحمه الله: “عالمُ الغيبِ والشهادَةِ، لا يخفَى عليهِ شىءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، يعلَمُ ما في البر والبحرِ، وما تسقُطُ من ورقَةٍ إلا يعلمُهَا، ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرضِ ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبينٍ. أحاطَ بكل شىءٍ عِلمًا وأحصَى كلَّ شىءٍ عَدَدًا”.

الشرح: أن الله تعالى يعلم الأشياء جملة وتفصيلا، يعلم ما كان أي ما وُجد ويعلم ما يكون أي ما سيوجد، حتى نعيم الجنان الذي يتوالى ولا ينقطع عَلِمَهُ في الأزل، يعلم الواجب واجبًا والجائز جائزًا والمستحيل مستحيلا، وهو سبحانه وتعالى عالم بذاته وبصفاته وبما يحدثه من مخلوقاته بعلم واحد أزليّ أبدي لا يتغير.

وبعض غلاة المعتزلة ومنهم أبو الحسين البصري قالوا: “إن الله لا يعلم ما سيفعل العبد إلا بعد خلقه”، وهذا كفر صريح والعياذ بالله، فالله تعالى أنزل القرءان ذا وجوه ليبتلي العباد فانقسم الناس فرقتين فرقة تفسر هذه الآيات فتضعها في مواضعها فتفوز، وفرقة تفسرها فتضعها في غير مواضعها فتهلك، ومثال ذلك قوله تعالى: (الآن خَفَّفَ الله عنكم وعَلِمَ أنَّ فيكم ضعفًا) [سورة الأنفال] فمن جعل قوله (وعَلِمَ أنَّ فيكم ضعفًا) مرتبطًا بقوله: (الآن) أي أن الله علم ذلك بعد أن لم يكن عالمًا فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا، ومن فهم المعنى الصحيح للآية أي أن الله خفف عنكم الآن ما كان واجبًا عليكم من مقاتلة واحد من المسلمين لعشرة من الكفار بإيجاب مقاتلة واحد من المسلمين لاثنين من الكفار وذلك لأنه علم بعلمه الأزلي أن فيكم ضعفًا فقد أصاب الحق واهتدى لسواء السبيل.

ثم إنَّ كل شىء يحدث في هذا العالم في السموات والأرض وفي البر والبحر وما تحت الثرى مكتوب في الكتاب المبين أي في اللوح المحفوظ كما روى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أمر القلم الأعلى فقال: “اكتب ما كان وما يكون إلى يوم القيامة”.

ومعنى “أحاطَ بكل شىءٍ علمًا” أنه سبحانه يعلم ما وُجد وما سيوجد بعلمه الأزلي.

ومعنى “وأحصَى كل شىءٍ عددًا” أنه عزَّ وجلَّ علم بعلمه الأزلي أعداد كل شىء علمه قبل أن يكون أيُّ مخلوق من المخلوقين كما قال تعالى: (وأحصى كُلَّ شىءٍ عددا) [سورة الجن].

قال رحمه الله: “فَعَّالٌ لما يُريدُ”.

الشرح: أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ما شاء حصوله بمشيئته الأزلية فعَلَهُ بفعله الأزلي، ومشيئته أي إرادته أزليةٌ والمُراداتُ حادثة، وفعله أزليٌّ والمفعول حادث.

ولا تتغير مشيئة الله عزَّ وجلَّ لأن التغير يحصل في المخلوقين وهو أكبر علامات الحدوث، قال تعالى: (ما يبدَّلُ القولُ لدىَّ) [سورة ق]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى: يا محمد إني إذا قضيت أمرًا فإنه لا يردَّ” رواه مسلم. وإنما يغيّر الله المخلوقين بحسب مشيئته التي لا تتغير، فما شاء حصوله وُجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه، وما لم يشأ وجوده لا يوجد أبدًا، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” رواه أبو داود. وسواء في ذلك الخير والشر والطاعة والمعصية والكفر والإيمان فإنها كلها تحصل بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، لكن الخير بمحبة الله وبرضاه وبأمره والشر ليس بمحبة الله ولا برضاه ولا بأمره.

فمن اتقى الله فبتوفيقِ الله له، ومن فسق وعصى فبخذلان الله له وهو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، أي لا حول عن معصيةِ الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله.

وليس العبد في ذلك مجردًا عن المشيئة ولكنه تحت مشيئة الله تبارك وتعالى كما قال في الكتاب العزيز (وما تشاءون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين) [سورة التكوير].

قال رحمه الله: “قَادِرٌ على ما يشاءُ”.

الشرح: الله تبارك وتعالى له قدرة شاملةٌ يُحدث بها الأشياء فلا يُعجزه شىء ولا يحتاج إلى استعانة بغيره كما قال في محكم التنزيل: (وهو على كل شىءٍ قدير) [سورة المائدة]، ولا يلحق قدرته نقص أو ضعف أو عجزٌ بل قدرته تامة كما قال في القرءان الكريم: (إن الله هو الرَّزَّاقُ ذُو القوَّة المتين) [سورة الذاريات].

قال رحمه الله: “له الملك”.

الشرح: أي له السلطان التام الذي لا ينازعه فيه منازع، ومُلكه تعالى غير الملك المخلوق الذي يعطيه لمن يشاء من عباده لأن هذا يزول.

قال رحمه الله: “وله الغِنَى”.

الشرح: أي القيام بنفسه أي لا يحتاج إلى غيره وهو الغنيُّ كما سمى نفسه في القرءان، وورد ذكر الغنيّ في حديث ذكر تسعة وتسعين اسمًا رواه ابن حبان والترمذي والبيهقي وغيرهم، ولعل ما في بعض النسخ من ذكر الغناء من تحريف بعض النساخ.

قال رحمه الله: “وله العِزُّ”.

الشرح: أنه سبحانه وتعالى عزيز كما قال: (والله عزيزٌ ذو انتقام) [سورة ءال عمران] قال الحليمي: ومعناه الذي لا يوصل إليه ولا يمكن إدخال مكروه عليه، وقال الخطابي: العزيز هو الذي لا يُغلب، ذكره الحافظ البيهقي.

قال رحمه الله: “والبَقَاءُ”.

الشرح: أن الله تعالى موصوف بالبقاء وهو استمرار الوجود بلا طروء فناء. وبقاؤه تعالى واجب عقلا لا يجوز في العقل خلافه فلا باقي بهذا المعنى إلا هو. وأما الجنة والنار فمن حيث ذاتهما يجوز عليهما الفناء عقلًا، لكنهما باقيتان بإبقاء الله لهما أما بقاء الله فذاتيٌّ. ويلزم من بقائه بقاء صفاته من قدرة وعلم وسمع وبصر ومشيئة وغير ذلك.

قال رحمه الله: “ولهُ الحكمُ”.

الشرح: أنه سبحانه وتعالى يحكم بما يريد.

قال رحمه الله: “والقَضَاءُ”.

الشرح: القضاء هو الخلق كقوله تعالى: (فقضاهنَّ سبع سموات) [سورة فصلت] والمعنى أنه عزَّ وجلَّ يخلق ما يشاء فيبرزه من العدم إلى الوجود. ويأتي القضاء بمعنى الأمر كما قال تعالى: (وقضى ربُّكَ ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) [سورة الإسراء] أي أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه وعلى مثل ذلك يُحمل قوله: (وما خلقت الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون) [سورة الذاريات] أي إلا لآمرهم بعبادتي، وليس المعنى أنه شاء لكل منهم أن يعبده لأنه لو شاء أن يعبدهُ كلُّهم ولا يعبدوا غيره لما وجد كافر، قال تعالى: (ولو شاء ربُّكَ لأمَنَ من في الأرض كلهم جميعًا أفأنتَ تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين) [سورة يونس] معناه القلوب ليست بيدك يا محمد إنما هي بيد الله، فلو شاء الله الاهتداء لكل الناس لكانوا كلهم من أمة الإيمان، ولكنَّ الله لم يشأ ذلك فصار بعض مؤمنين وصار بعض كافرين.

قال رحمه الله: “ولهُ الأسمَاءُ الحُسنَى”.

الشرح: أن الله له الأسماء الحسنى أي الدالة على الكمال، فكل أسماء الله حسنى ليس شىء منها إلا دالا على الحسن، أي ليس فيها ما يدل على نقص في حقه تعالى، فالقادر يدل على القدرة، والعلام يدل على العلم، والرحمن والرحيم يدلان على إثبات الرحمة له تعالى، والعزيز يدل على إثبات العزّ له، والسميع يدل على إثبات السمع له، والواحد يدل على إثبات الوحدة له، والخالق يدل على إثبات الخلق له، والبصير يدل على إثبات البصر له، وهكذا كل أسمائه تدل على الكمال.

فيستحيل عليه الاسم الذي يدل على النقص فلا يصح أن يسمَّى بآه كما يتصور بعض الناس، كثير من المنتسبين إلى الشاذلية يعتقدون بل يذكرون في كتبهم أن من أسماء الله “ءاه”، مع أن ءاه لفظ للشكاية والتوجع باتفاق اللغويين، ونص أهل المذاهب الأربعة أن الأنين يبطل الصلاة، ومعلوم أن ذِكر الله لا يبطل الصلاة فلو كان “ءاه” من أسماء الله لما أبطل الصلاة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا تثاءبَ أحدُكم فليضع يدَهُ على فِيْهِ، وإذا قال ءاه ءاه فإنَّ الشيطانَ يضحكُ من جوفهِ” أي يدخل إلى فمه ويسخر منه. وءاه من ألفاظ الأنين بل هو أشهرها ويبلغ عددها عشرين كما ذكرها علماء اللغة، وهؤلاء الذين قالوا “ءاه” اسم من أسماء الله يعتمدون على حديث موضوع ولفظه: “دعوه يئن فإن الأنين اسم من أسماء الله”، ولم يرد في حديث صحيح ولا موضوع أن ءاه اسم من أسماء الله، فالعجب لهؤلاء كيف اختاروا لفظ “ءاه” من بين تلك الألفاظ العشرين وتركوا ما سواه وان منها “ءاوُوهُ” و”أوّتاهُ”، فمقتضى احتجاجهم بذلك الحديث الموضوع أن تكون هاتان الكلمتان من أسماء الله كغيرها من ألفاظ الأنين.

وكذلك لا يجوز تسميته بالمقيم كما يلهج بذلك بعض الناس يقولون: سبحان المقيم.

كما أنه لا يجوز أن يسمى الله روحًا ولا عقلًا كما سمى سيد قطب الله تعالى “العقل المدبر” لأن الروح والعقل مخلوقان، فكيف يتركُ هذا الرجل الأسماء الحسنى ويسمي الله بأسماء من عنده، فقد ذكر الإمام الأشعري رضي الله عنه أنه لا يجوز وصف الله بالروح.

وقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة” وفي بعض الروايات: “من حفظها” وهي تبين المراد. وقد ورد في تعدادها عدة روايات، منها ما رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العليّ الكبير الحفيظ المُقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدىء المعيد المحي المميت الحيّ القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور.

فائدة: أسماءُ الله الحسنى التّسعةُ والتّسعونَ مَن حَفِظَهَا وفَهِمَ معناها مضمونٌ له الجنةُ، ويوجَدُ غيرُها أسماءٌ لله ولكن ليسَ لها هذه الفضيلة التي هي للأسماءِ التّسعة والتّسعين، وأسماءُ الله الحسنى بأيّ لغةٍ كُتِبَت يَجِبُ احتِرَامُها.

قال رحمه الله: “لا دَافِعَ لما قَضَى”.

الشرح: وهذا يُفهَمُ من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله تعالى: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدّ” رواه مسلم، وهذا الحديث القدسيّ يُستفاد منه أنه لا أحد يمنع نفاذ مشيئة الله، ومن هنا يعلم فساد قول بعض الناس كان الله يريد أن يخلق فلانًا ذكرًا فخلقه أنثى.

واعتقاد البعض بأنَّ الله يبدّل مشيئته إذا دعا الإنسان أو تصدق من حلال فهذا غير صحيح ولا يليق بالله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله: “ولا مَانِعَ لما أعطَى”.

الشرح: أن هذا جاء معناه في حديث البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر صلاته: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لما منعتَ ولا ينفع ذا الجَدّ منكَ الجَدُّ”، فإذا شاء الله تعالى لعبد أن تصيبه نعمة من النعم فهو يمكّنه منها ولا يستطيع أحد أن يمنعها عنه، كما روى الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ولو أن الخلق اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشىء لم يقضه الله عليك لم يقدروا عليه، رُفعت الأقلام وجفت الصحف”.

قال رحمه الله: “يفعَلُ في ملكِهِ ما يريدُ”.

الشرح: أن ما أراد الله تعالى في الأزل وشاء حصوله بمشيئته الأزلية لا بد أن يكون فيخلقه بتخليقه الأزليّ من غير أن يكون عزَّ وجلَّ مجبورًا على شىء بل الأمر كما قال تعالى في القرءان: (وربُّكَ يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ) [سورة القصص].

قال رحمه الله: “ويَحكُمُ في خلقِهِ بما يَشَاءُ”.

الشرح: أنه سبحانه وتعالى يُحرّم ما يشاء ويفرض ما يشاء.

قال رحمه الله: “لا يَرجو ثوابًا ولا يَخَافُ عِقَابًا”.

الشرح: أن الله سبحانه وتعالى لا يرجو من عباده ثوابًا أو منفعة قال تعالى: (ما أريدُ منهم من رزقٍ وما أريدُ أن يطعمون) [سورة الذاريات] فالله ما كلفهم بالعبادة لأنه يلحقه نفع من ذلك، ولا نهاهم عن شىء لأنه يخاف ضررًا أو عقابًا من أحد منهم، وكيف يرجو ثوابًا من عباده أو يخاف عقابًا وهو خالقهم وخالق أعمالهم.

قال رحمه الله: “ليسَ عليه حَقٌّ [يلزمُهُ] ولا عليهِ حُكمٌ”.

الشرح: أنَّ الله تعالى ليس عليه واجب يلزمه فعله ولا حُكم عليه لأحد، إذ لا يمنعه أحد من شىء ولا يأمره بشىء.

قال رحمه الله: “وكُلُّ نِعمَةٍ منهُ فَضلٌ”.

الشرح: أن النعمة هي المِنَّة أي ليس فرضًا على الله أن يعطي عباده النعم بل هو متفضل متكرم بذلك، فلو لم يعطهم هذه النعم لم يكن ظالمًا لهم كما قال سبحانه (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبدًا) [سورة النور].

قال رحمه الله: “وكل نِقمَةٍ منهُ عَدلٌ”.

الشرح: أن النقمة هي العقوبة فمن أثابه الله فبفضله ومن عاقبه فبعدله ولا يظلم الله أحدًا، ولا يُعترض عليه، ولا يقال على وجه الاعتراض لِمَ يؤلم الأطفال والبهائم ويسلط عليهم الأوجاع والأمراض وليس عليهم ذنب، ومن قال ذلك فقد اعترض على الله إلا إن أراد استكشاف الحكمة في إيلام الأطفال والبهائم فقال لِمَ يؤلم فلا يكفر. والأمر كما استدل المؤلف بقوله تعالى: (لا يُسئَلُ عمَّا يفعلُ وهم يُسئلون) [سورة الأنبياء].

قال رحمه الله: “لا يُسئلُ عما يفعَلُ وهم يُسألونَ”.

الشرح: أنه لا يعترض عليه في فعله ولا يسألُ، وأما العباد فيسألون لأنه المالك الحقيقي لكل شىء ولا يشاركه في ملكه أحد، يملك العباد وما ملَّكهم وهو يفعل في ملكه ما يشاء، ولذلك لا يُتصور منه الظلم لأنه حكيم لا يضع الأمور في غير مواضعها، ولأن الظلم يُتصور ممن له ءامر وناه كالعباد، إذ الظلم هو مخالفة أمر ونهي من له الأمر والنهي، ولذلك يُسأل العبد لِمَ فعلت كذا ولِمَ فعلت كذا كما جاء في حديث الترمذي: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به”، وأما الله تعالى فلا ءامر له ولا ناه، لذلك لا يُسأل ولا ينسب إليه ظلم أو تفريط كما قال عزَّ من قائل: (لا يُسئَلُ عمَّا يفعلُ وهم يُسئلون) .

قال رحمه الله: “موجودٌ قَبلَ الخلقِ”.

الشرح: أن وجود الله تبارك وتعالى أزليٌّ، فهو عزَّ وجلَّ كان موجودًا قبل الخلق وحده في الأزل كما جاء في حديث عمران بن الحصين: “كان الله ولم يكن شىء غيره” رواه البخاري والبيهقي وغيرهما. ولا أزليَّ سواه كما قال الله تعالى: (هُوَ الأوَّلُ) [سورة الحديد]، فإنَّ علماء البيان قالوا: مما يفيد الحصر كون المبتدإ والخبر معرفة وفي هذه الآية المبتدأ مضمر أي “هو” والخبر “الأول” وكلاهما معرفة فدل على أنه لا أولَ بمعنى لا بداية لوجوده أحدٌ سوى الله جلَّ وعلا.

ومن اعتقد أن شيئًا من العالم بنوعه أو بأفراده لا بداية لوجوده فقد كذَّب هذه الآية وفارق الإسلام، ولحق بالفلاسفة والدهرية بإجماع علماء المسلمين، وقد جاء في أكثر من خمسة من كتب أحمد بن تيمية أن نوع العالم قديم لا بداية لوجوده لم يزل مع الله وهذا كفر صريح.

قال رحمه الله: “ليسَ لهُ قَبلٌ ولا بَعدٌ”.

الشرح: أن هذا نفيٌ لسبق العدم عن الله وكذلك نفي للحوق الفناء به تبارك وتعالى لأن كل ما ينافي ثبوت الأزلية أو البقاء له تعالى فهو باطل، لأن الألوهية لا تصح لمن لم يتصف بهما، فالإله من خصائصه أنه واجب الوجود فلا يجوز عليه عقلًا أن يسبقه أو أن يلحقه العدم.

قال رحمه الله: “ولا فوقٌ ولا تحتٌ ولا يمينٌ ولا شمالٌ ولا أمامٌ ولا خَلفٌ”.

الشرح: أن هذا أصل من أصول الاعتقاد وهو تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن أن يكون في أية جهة من الجهات أو في جميعها، ليس الأمر كما يعتقد بعض الجهلة أن الله موجود في جهة فوق، وبعضهم يعتقد أن الله في جهة أمام منحصرٌ بين العبد وبين الكعبة، وبعضهم يعتقد أنه كالهواء حالٌّ ومنبثٌّ في كل مكان، وبعضهم كالمدعو ناصر الدين الألباني يعتقد أنه محيط بالعالم من كل الجهات كما تحيط اليد بما تمسكه، هذا كله باطل ينافي التوحيد الصحيح. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي وهو من أهل القرون الثلاثة الأولى في عقيدته التي سماها عقيدة أهل السنة والجماعة: “تعالى – أي الله – عن الحدود والغايات – أي النهايات – والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات” اهـ، وكلامه هذا من خالص التوحيد وجواهر العقيدة، لأن من اتصف بشىء مما ذكر أو كان في جهة من الجهات يكون له حدٌّ ومقدار وصورة، وهذه صفات الأجسام، والله تعالى ليس جسمًا كما قال سبحانه: (ليس كمثله شىء) [سورة الشورى].

وليس اختصاص الله بجهة فوق كمالا في حقه سبحانه كما يظن بعض الجهلة إذ أن الشأن في علو المكانة وليس في علو الحيّز والمكان، فهؤلاء الملائكة الحافون بالعرش مكانهم أعلى بكثير من أنبياء الله تعالى ولكن الأنبياء أفضل وأرفع عند خالقهم عزَّ وجلَّ.

قال رحمه الله: ولا كُلٌّ ولا بعضٌ”.

الشرح: أن الله تبارك وتعالى ليس جسمًا مركبًا من أجزاء ولذلك لا يوصف بالكلية ولا بالبعضية والجزئية.

قال الحليميُّ في تفسير اسم الله “المتعالي” معناه المرتفع عن أن يجوز عليه ما يجوز على المحدَثين من الأزواج والأولاد والجوارح والأعضاء واتخاذ السرير للجلوس عليه، والاحتجاب بالستور عن أن تنفذ الأبصار إليه، والانتقال من مكان إلى مكان ونحو ذلك، فإن إثبات بعض هذه الأشياء يوجب النهاية، وبعضها يوجب الحاجة، وبعضها يوجب التغيير والاستحالة، وشىء من ذلك غير لائق بالقديم ولا جائز عليه. إهـ. نقله عنه الحافظ البيهقي في كتاب الأسماء والصفات.

قال رحمه الله: “ولا يُقالُ متى كَانَ ولا أين كَانَ ولا كَيفَ”.

الشرح: أنه لا يجوز أن يقال متى كان الله لأن هذا فيه نسبة البداية والوجود بعد سبق العدم إليه وجريان الزمان عليه، ولا يجوز كذلك أن يقال أين كان الله على معنى السؤال عن موضعه ومكانه، ولا أن يقال كيف كان لأن فيه نسبة الكيفية أي صفات المخلوقين إليه.

ثم بعد أن ذكر رحمه الله النهي عن هذه الكلمات قرر الاعتقاد الصحيح.

فقال رحمه الله: “كَانَ ولا مَكانَ، كَوَّنَ الأكوانَ، ودَبَّرَ الزمانَ، لا يتقيدُ بالزمانِ، ولا يَتَخَصَّصُ بالمكانِ”.

الشرح: ليس مراد المؤلف بقوله: “ولا يتخصص” أنه متحيز بالجهات كلها لأن ذلك باطل كما تقدم والجهات غيرُهُ تعالى وقد كان ولا شىء غيره، ومعناه أن الله تعالى موجود بلا مكان وهي عقيدة أهل السنة بل والمسلمين جميعًا سلفًا وخلفًا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره” رواه البخاري والبيهقي وابن الجارود، أي كان في الأزل ولم يكن مكان ولا شىء من المخلوقات وبعد أن خلق المكان لم يتغير سبحانه وتعالى عما كان، فمن هذا الحديث وأمثاله من النصوص أخذ أهل السنة قولهم الله موجود بلا مكان.

وقد روى الحافظ البيهقيُّ رحمه الله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء” ثم قال: “استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى فإنه إذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان” اهـ.

وروى الرمليُّ وغيره قول عليّ كرَّم الله وجهه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان” اهـ، وروى الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزَّبيديُّ في شرح الإحياء بالإسناد المتصل أن الإمام عليًّا زين العابدين كان يقول: “سبحانك لا يحويك مكان” اهـ، وزين العابدين كان أفضل أهل البيت في زمانه.

وقد قرَّر هذه العبارة من لا يحصى من علماء الإسلام كأبي حنيفة وابن جرير الطبري والماتريدي والأشعري وغيرهم بل نقل التميمي إجماع أهل السنة على أن الله موجود بلا مكان، ذكره في كتابه الفرق بين الفِرق، فلا عبرة بعد ذلك بمشبّه يعترض على المصنف وغيره من فطاحل أهل العلم في إيرادهم لهذه الكلمة القيّمة، فإنَّ من خالف ذلك وأثبت لله تعالى المكان فقد شبهه بالمخلوقات وجعله عديلا لها وخالف صريح القرءان وصحيح الحديث والعقل.

فهو سبحانه خالق المكان ومدبّر الزمان ومُجريه، ومكوّن الأكوان أي خالق المخلوقات ومبرزها من العدم إلى الوجود فلا يحتاج إليها ولا يوصف بصفاتها، كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: “أنَّى يشبه الخالق مخلوقه” فلذلك لا يجوز أن ينسب إليه الاختصاص بمكان أو بكل الأماكن ولا بزمان أو بكل الأزمنة، تعالى عن معاني المحدَثين وسِماتِ المخلوقين.

قال رحمه الله: “ولا يَشغلُهُ شأنٌ عن شأنٍ”.

الشرح: أن الله تعالى يبرز الأشياء من العدم إلى الوجود بمشيئته وقدرته الأزليتين وبتخليقه الأزليّ من غير حاجة إلى جارحة أو إلى استعمال ءالة، بل بمجرد تعلق مشيئته وقدرته بالمقدورات توجد في الوقت والمكان الذي شاء وجودها فيه، ولا يؤخر ذلك ولا يمنعه مانع كما قال تعالى: (إنما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له كن فيكون) [سورة يس] والموصوف بهذه الصفات لا يشغله شأن عن شأن ولا أمر عن إنفاذ أمر ءاخر، وإنما يحصل ذلك لمن يشتغل بالجوارح ويستعين بالآلات فإنه إذا استغرق شغلها بأمر عَسُرَ عليه الاستعانة بها في أمر ثانٍ، والله عزَّ وجلَّ منزَّه عن ذلك.

قال رحمه الله: “ولا يلحقُهُ وَهمٌ، ولا يكتَنِفُهُ عقلٌ، ولا يتخصَّصَ بالذهنِ، ولا يتمثَّلُ في النفسِ، ولا يتصورُ في الوهمِ، ولا يتكيَّفُ في العقلِ، لا تلحقُهُ الأوهامُ والأفكارُ”.

الشرح: أن هذا يختصره قول الإمام ذي النون المصري إبراهيم بن توبة رحمه الله تعالى حيث قال: “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك” اهـ، رواه الخطيب في تاريخ بغداد، وذلك لأن كل ما تتصوره ببالك فهو مخلوق والخالق لا يشبه مخلوقه، كما قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: “من انتهض لمعرفة مدبره فاطمأن إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطّل، وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّد”. اهـ، لذلك نهى السلف عن التفكر في ذات الله تعالى للوصول إلى حقيقته، لأنه لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله، إنما معرفتنا بالله هي بمعرفة ما يجب له تعالى وما يستحيل في حقه وما يجوز في حقه، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله”، رواه البيهقي.

وكلُّ من يتفكر في ذاته تعالى فيتخيل بخياله صورة أو يتوهمها بوهمه ويعتقد أن ما تخيّله وتوهَّمه هو الله فهو ليس مسلمًا موحدًا إذ لا فرق بينه وبين عابد الصنم، فعابد الصنم عبد صورة نحتها وهذا عبد صورة تخيلها، وأما المؤمن المصدق فيعبد من لا شبيه له ولا مثيل، كما قال الإمام أحمد الرفاعيُّ رضي الله عنه: “غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان”، وهذا كله يؤخذ من قوله تبارك وتعالى في الآية المحكمة الجامعة من سورة الشورى: (ليس كمثله شىء) ولذلك ختم رحمه الله عقيدته النافعة هذه بإيراد هذه الآية:

(لَيسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)

الشرح: قدَّمَ تعالى التنزيه في هذه الآية على قوله (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ليُعلَم أن سمعه ليس كسمع غيره أي ليس بأذن أو بواسطة، وأن بصره ليس كبصر غيره أي ليس بحدقة لأنه سبحانه ليس كمثله شىء.

ويناسب هنا أن نختم هذا الحلَّ الموجز لعبارات هذا المتن بإيراد ما رواه أبو نعيم في حليته في ترجمة عليّ بن أبي طالب قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث، ثنا الفضل بن الحباب الجمحيّ، ثنا مسدّد، ثنا عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، عن النعمان بن سعد قال: كنت بالكوفة في دار الإمارة دار عليّ بن أبي طالب إذ دخل علينا نوف ابن عبد الله فقال: يا أمير المؤمنين بالباب أربعون رجلًا من اليهود فقال عليٌّ: عَليَّ بهم، فلما وقفوا بين يديه قالوا له: يا عليّ صف لنا ربك هذا الذي في السماء كيف هو؟ وكيف كان؟ ومتى كان؟ وعلى أي شىء هو؟ – واليهود مشبهة يعتقدون أن الله موجود في السماء ويقعد على العرش، تعالى الله عما يصفون – فاستوى عليٌّ جالسًا وقال: “معشر اليهود، اسمعوا مني ولا تبالوا أن لا تسألوا أحدًا غيري، إن ربي عزَّ وجلَّ هو الأول لم يبدُ ممَّا، ولا ممازِجٌ مَعمَا، ولا حالٌّ وهمًا، ولا شبح يُتقصى، ولا محجوب فيُحوى، ولا كان بعد أن لم يكن”، وقال: “من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود” اهـ، والمحدود عند علماء التوحيد واللغة ما له حجم فالعرش محدود والذرة محدودة، فمعنى كلامه رضي الله عنه أن الله تعالى ليس له حجمٌ أي موجود بلا مكان. ومعنى قوله أن الله تعالى لا يوصف بالجلوس لأن الجالس محدود، والله تعالى ليس جسمًا كبيرًا وليس جسمًا صغيرًا، وأنه لا يوصف بصفات الأجسام وصفات الأجسام كثيرة منها الشكل والحجم واللون والحرارة والبرودة والجلوس والحركة والسكون والتغير،

والله سبحانه أعلم.

ملخص لهذا المقال:
* عقيدة ابن عساكر هي عقيدة أهل السنة والجماعة قاطبة
* صفات الله ثابتة بلا كيف ولا تشبيه
* الله لا يسكن سماءً ولا أرضاً
* الله ليس جسماً كبيراً ولا جسماً صغيراً

Prev Post

قصة خلق نبي الله ءادم عليه السلام

Next Post

التحذير من غلو بعض الناس

post-bars