Search or ask ابحث او اسأل
April 28, 2023

ضروريات الاعتقاد

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسول الله وعلى ءاله وصحبه وسلّم، وبعد
فإن الله تبارك وتعالى يقول:{ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات }[سورة محمد].
ويقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقيّ: “طَلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلم ٍ” أيْ أن طلب العلم الشرعيّ فريضة على كل مسلم، وليس المراد أنه يجب معرفة جميع مسائل الدين بتفاصيلها، إنما المراد أن هناك قدرًا من علم الدين يجب معرفته على كل مسلم.

 ولقد وجدنا كتاب المحدّث الحافظ الشيخ عبد الله الهرري الذي سمّاه: (مختصر عبد الله الهرري الكافِل بعلم الدين الضروري) كتابًا مختصرًا مفردًا في هذا العلم، أخذه من كتاب سلم التوفيق لعبد الله بن الحسين بن طاهر مع حذف مواضع منه أو تبديلها، وزيادة فوائد، فرأينا أن نطبعه لعظيم فائدته. ولما كانت هذه الفائدة لا يحصّلها طالبها إلاّ بشرح ألفاظها رأينا أن نطبَع شرحه للشيخ نفسه لتسهيل فهمه وزيادة نفعه. ولقد عملنا على جعل زيادات المؤلّف وما تصرّف فيه بين عاقفتين [ ] لتتميز بذلك. والأصل في كلمة شىء ونحوها أن تكتب بلا نقط الياء، وما وجد منه منقوطًا في هذا الكتاب هو على خلاف الأصل. ونسأل الله الثواب الجزيل وحسن الختام.
قسم الأبحَاث والدراسَات الإسلامية

 
بسم الله الرحمن الرحيم

قال المؤلف: [الحمدُ لله ربِّ العالمينَ الحيِّ القيومِ المدبّر لجميعِ المخلوقينَ، وبعد: فهذا مختصرٌ جامعٌ لأغلبِ الضروريّاتِ التي لا يجوزُ لكلِّ مكلّفٍ جهلها مِنَ الاعتقادِ، ومسائلَ فقهيّةٍ مِنَ الطهارةِ إلى الحجِ، وشىءٍ من أحكامِ المعاملاتِ على مذهبِ الإِمامِ الشافعيِّ، ثمّ بيانُ معاصي القلبِ والجوارحِ كاللسانِ وغيرِهِ. الأصلُ لبعضِ الفقهاءِ الحضرميين وهو عبد الله بن حسين بن طاهر ثمّ ضُمِّن زياداتٍ كثيرةً من نفائسِ المسائلِ معَ حذفِ ما ذكرَهُ في التصوّف وتغييرٍ لبعض العباراتِ مما لا يؤدّي إلى خلافِ الموضوعِ. وقدْ نذكرُ ما رجّحَه بعضٌ منَ الفقهاءِ الشافعيينَ كالبُلْقِينيّ لتضعيفِ ما في الأصلِ].
الشرح: قوله ثمّ ضُمِّن زيادات إلخ… ذلك شأن الاختصار المعروف عند المؤلّفين، ليس ملتزَمًا عندهم أن لا يبدل المختصِرُ في مختصره بعض ما في الأصل أو أن لا يأتي بزيادة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “طلبُ العِلم فريضة على كل مسلم” أي علم الدين الضروري الشامل لمعرفة الله ومعرفة رسوله وغيرهما من ضروريّات الاعتقاد، والشامل أيضًا لمعرفة أحكام الصّلاة والطهارة شروطًا وأركانًا ومبطلات وغيرهما من ضروريّات علم الدين، ولمّا كان هذا المختصر حاويًا لهذه الأشياء كان ينبغي الاعتناء به أي لاشتماله عليها.

ضروريّات الاعتقاد
قال المؤلف: فصلٌ: يجبُ على كافةِ المكلّفينَ الدُّخولُ في دينِ الإِسلامِ والثُّبوتُ فيه على الدَّوامِ والتزامُ ما لزمَ عليه من الأحكامِ.
الشرح: المكلّف هو البالغ العاقل الذي بلغته دعوة الإِسلام، أي من بلغه أنه لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله وكان صحيح السمع لم يكن أصم، فهذا هو المكلّف الذي هو مُلْزَمٌ بأن يُسلم ويعمل بشريعة الإسلام، أن يؤدِّيَ الواجبات ويجتنب المحرّمات. ومن مات قبل البلوغ فليس عليه مسئولية في الآخرة، وكذلك من اتّصل جنونه إلى ما بعد البلوغ فمات وهو مجنون فليس مكلّفًا، وكذلك الذي عاش بالغًا ولم تبلغه دعوةُ الإِسلام أي أصلُ الدعوةِ، وليس شرطًا لبلوغِ الدعوةِ أن تبلغه تفاصيل عقائد الإسلام بأدلّتها بل يكون مكلّفًا بمجرّد أن يبلغه أصل الدعوة، ولا يكون له عذرًا أنه لم يكن فكّر في حقيّة الإسلام برهة من الزمن، لأنَّ الرّسول ما كان يُمهل الكفّار برهةً مِنَ الزمن ليفكِّروا بعد أن يبلِّغَهُم دعوة الإسلام في حقّيتها يومًا ولا يومين ولا أكثر من ذلك، بل كان يعتبر ذلك كافيًا في انتفاء العذر عنهم إن لم يتّبعوا الإسلام، كان يكتفي بأن يُسْمِعَ العربَ المشركين في الموسم أي موسم الحج حين يجتمعون من نواحٍ شتى أنّه لا إله إلاَّ الله وأنّه رسول الله ، كان يمرّ فيهم مرورًا؛ ثمّ لما جاء الإذنُ بالقتال كان يحارب كل من استطاع محاربتَهُ من كل أولئك الذين بلّغهم بعد تجديد الدعوة أو من غير تجديد، إلا من بدت له مصلحة في مصالحتهم لمدّة معيّنة لا للأبد. لذلك قال العلماء: يستحبّ تجديد الدعوة بلا إيجاب أمام القتال، فقد روى البخاريّ ومسلم أنّه صلى الله عليه وسلم قاتل بني المصطَلِق وهم غارّون أي لا علمَ لهم فقتل مقاتلتهم وسبى نِساءهم وَذَرَارِيَّهم، فلو كان يُشترطُ لجواز مقاتلة الكفّار أن يُعطَوْا مهلة للتفكير في صحّة الإِسلام وحقّيّته فالرّسول كان أولى بذلك لكنه لم يكن يمهلهم برهة للتفكير بل اكتفى لقتالهم بأنّه كان بلَّغهم قبل ذلك أصل الدعوة.

فذلك دليل على أن من سمع في الأذان الشهادتين وهو يفهم العربيّة فهو مكلّف، فإن مات ولم يُسلم استحقّ عذاب الله المؤبّد في النار.

قال المؤلف: فممّا يجبُ علمُهُ واعتقادُهُ مطلقًا والنطقُ به في الحالِ إن كان كافرًا وإلا ففي الصلاةِ الشهادتانِ وهما: أشهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .
الشرح: أنّ أول ما يجب على الإنسان معرفة الله ومعرفة رسوله والنطقُ بذلك مرةً واحدة، ومن حصل منه ذلك مع الاعتقاد الجازم فهو مسلم مؤمن؛ ثم لا يكمل إيمانه وإسلامه إِلا بأداء الواجبات واجتناب المحرّمات. ثم اختلف العلماء في وجوب النطق بالشهادتين بعد تلكَ المرَّة وأكثر العلماء على وجوب النطق بالشهادتين في كل صلاة، وقال مالكٌ بعدم وجوب النطق بالشهادتين في الصّلاة حيث إنّ التشهّد عنده في الصلاة سُنّة ليس فرضًا من فروض الصلاة أي على الراجح المشهور في المذهب.

ثمّ إنّ النطق الذي يجب على الكافر يحصل بلفظ: أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله باللغة العربيّة وبترجمته لغيرها من اللّغات، وعند بعض الشافعيّة إن كان يعرف النطق بالعربيّة لا ينطق بغيرها، فمن كان أعجميًّا يقول: (أنّ محمدًا) بالهاء يُقال له: قُلْ: (أبا القاسم) ويضيف: (رسول الله ). وإذا لم يكن يأتي بهاء لفظ الجلالة (الله ) فيكفي ترجمته بلغته. وليس يُشترط خصوص هذا اللفظ بل يكفي ما يعطي معناه كأن يقول: لا ربّ إلا الله ، أو: لا خالق إلا الله ، ويكفي محمّد نبيّ الله ؛ لكن لفظ أشهد أفضل من سائر الألفاظ لأن أشهد لها امتياز على أعلم وأعرف ونحو ذلك من الألفاظ وهو أنَّهُ يتضمَّن معناها اللغوي العلم والاعتقاد والاعتراف.

قال المؤلف: ومعنى أشهدُ أنْ لا إِله إِلا الله [أعلمُ وأعتقدُ وأعترفُ] أنْ لا معبودَ بحقٍ إِلا الله .
الشرح: معنى قول الفقهاء: لا معبودَ بحقّ إِلا الله ، لا يستحق أحدٌ أن يُعبَد أي أن يُتذلّل له نهاية التذلّل إلاّ الله كما قال بذلك الإمام الفقيه تقي الدين السبكي وقد قال السيوطي: إنه حافظٌ فقيهٌ أُصوليٌّ لغويّ نَحوي متكلّم. وقال الذهبي فيه: [الوافر]

ليهنَ المنبرُ الأمَويُّ لمّا علاهُ الحاكمُ البحرُ التقيُّ
شيوخُ العصْرِ أحفظهم جميعًا وأخطبهم وأقضاهُم عليُّ

يعني السبكيَّ عليَّ بن عبد الكافي، وغيرُه ولفظ السبكيِّ: العبادةُ أقصى غاية الخشوع والخضوع، وذكر ذلك الإِمام اللغوي مرتضى الزبيدي في شرح القاموس، ولو كان معنى العبادة مطلق الطاعة لمخلوق في أيّ شىء طاعة أو معصية لكان عمّال الحكّام الجائرين كفّارًا، فهل يقول هؤلاء الذين يكفّرون المتوسلين بالأنبياء والأولياء إنهم مشركون، أَلَيس هؤلاء هم أنفسهم يطيعون الحكّام في بعض المعاصي فيكونون كفَّروا أنفسهم وإن لم يشعروا.

وممّن فسر العبادة بذلك الراغب الأصبهاني وهو لغوي مشهور يكثر النقل عنه صاحب شرح القاموس مرتضى الزبيدي قال في تأليفه مفردات القرءان: العبادة غايةُ التذلّل. فهؤلاء الذين يكفّرون المستغيثين بالأولياء والأنبياء ليتعلّموا معنى العبادة في لغة العرب قبل إطلاق ألسنتهم بالتكفير؛ وهذا معنى العبادة المُرادة بقوله تعالى: {لا إله إلا أنا فاعبدون} [سورة الأنبياء] وبقوله تعالى: {إياك نعبد} [سورة الفاتحة]، وهذه هي العبادة المختصّة لله تعالى التي من صَرَفها لغيره صار مشركًا، وليس معناها مجرّد النداء أو الاستعانة أو الاستغاثة أو الخوف أو الرَّجاء كما زعم بعض النّاس أن مجرّد نداء شخص ميت أو غائب شرك، وكذلك استعانته به إلا بالحيّ الحاضر حتى لو قال قائل: يا محمّد صار عندهم كافرًا وكذا لو قال قائل: يا رسول الله المدد صار كافرًا عندهم. وهؤلاء جاهلون بمعنى العبادة في لغة العرب، قال الليث وهو إمام من أئمة اللغة متقدّم: ويُقال للمشركين هم عَبَدَةُ الطاغوت ويقال للمسلمين عباد الله يعبدون الله . وقال الله عزّ وجَلّ:{اعبدوا ربكم} [سورة البقرة] أي أطيعوا ربّكم، وقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [سورة الفاتحة] أي نطيع الطاعة التي يُخضَع معها. اهـ. قال ابن الأثير: والعبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، وفي المصباح للفيُّومي أحد مشاهير اللغويين: عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع، وفي تاج العروس مع القاموس: والعِبادة بالكسر الطاعةُ… إلخ.

فإن قال هؤلاء وأمثالهم: أَلَيْس وردَ في تفسير {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [سورة التوبة] أنّ عبادتهم لهم طاعتهم فيما حرّموا وحلّلوا من تلقاء أنفسهم. فالجواب أنّ ذلك داخل تحت هذا التعريف: الانقياد والتذلّل، فإنهم انقادوا لهم في ذلك، تذلّلوا لهم لأنهم كانوا يعتقدون أنّهم يستحقّون أن يُطاعوا في ذلك حقيقة وليس الذي حصل منهم مجرد أنهم أطاعوهم فإن المسلم قد يطيع من له عليه رئاسة في المعصية لكنه لا يطيعه على الوجه الذي أطاعته النصارى أحبارهم ورهبانهم فلا يكونون عابدين لرؤسائهم كأولئك. وكذلك مجرّد الطاعة لمخلوق في المعصية ليس عبادة له وإشراكًا بالله .

قال المؤلف: الواحدُ الأحدُ الأولُ القديمُ الحيُّ القيّومُ الدائمُ.
الشرح: معنى الواحد الذي لا شريك له في الألوهيّة.

وأمّا الأحد فقال بعض العلماء: هو بمعنى الواحد، وقال بعضهم: الأحد هو الذي لا يقبل الانقسام أي ليس جسمًا لأن الجسم يقبل الانقسام عقلًا والله ليس جسمًا.

ومعنى الأوّل الذي لا ابتداءَ لوجوده فهو وحده الأوّل بهذا المعنى.

وبمعناه القديم إذا أُطلق على الله لأنَّ قِدَم الله ذاتيٌّ وليس زمنيًّا، وقد وردَ في تعداد أسماء الله الحسنى القديمُ وإن لم يثبت إسناده لكن أجمعت الأمّة على جواز إطلاق القديم على الله . ذكره الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين.

وأمّا معنى الحيّ إذا وُصِف الله به أنه موصوف بحياة أزليّة أبديّة ليست بروح ولحم ودم، بل حياته صفة قديمة قائمة بذاته تقتضي صحة الاتصاف بالعلم والقدرة والإرادة.

ومعنى القيّوم الدائمُ الذي لا يزول فقد سمّى الله نفسه بهذا الاسم.

وأمّا الدائم فمعناه الذي لا يلحقه ولا يجوز عليه الفناء، وبمعناه الباقي، لأنه يستحيل عليه عقلًا، ولا دائم بهذا المعنى إِلا الله ، فلا شريك لله تعالى في الديْموميّة لأنَّ ديموميته استحقَّها لذاته لا شىء غيره أَوْجَبَ له ذلك، وأَمَّا ديموميّة غيره كالجنّة والنار فهي ليسَت ذاتيّة بل هما شاءَ الله لهما البقاء، أَمَّا من حيث ذاتُهما فيجوز عليهما عقلًا الفناء، لكن ورد في الشرع بقاؤهما بنص القرءان والسنّة النبوية وأجماع الأمة، ولذلك فإن القول بفنائهما أو فناء النار دون الجنّة كفر.

قال المؤلف: الخالقُ الرازقُ العالِمُ القديرُ الفعَّالُ لِمَا يُريد، ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن.
الشرح: معنى الخالق أنّه الذي أبدع وكَوَّنَ جميعَ الحادثات، فما سوى الله تعالى حدث بخلقه تعالى وتكوينه وإبداعه، والخلق هو الإِبراز من العدم إلى الوجود فلا خالق بهذا المعنى إِلا الله . أَمَّا قوله تعالى:{فتبارك الله أحسن الخالقين} [سورة المؤمنون] فمعناه أَنَّ الله أحسن المقدِّرين لأنَّ تقديره لا يخطىء ولا يتغيّر وتقدير غيره يجوز عليه الخطأ والتغيّر، فيجوز بهذا المعنى أي التقدير إطلاق الخلق على غير الله كما قال زهيرٌ الشاعر في وصف ممدوحه هَرِم بن سنان: [الكامل]

ولأنتَ تفري ما خَلَقْت وبعْـــض القوم يخلقُ ثم لا يفري.

معناه أنت تقدِّر وتنفِّذ وبعض الناس يقدِّرون ولا ينفِّذون، أي أنت لك مَزيَّةٌ بذلك. كما أنه يأتي بمعنى التصوير كَمَا قال تعالى في حقّ عيسى: {وإذ تخلق من الطين بهيأة الطير} [سورة المائدة] وكما أنَّه يطلق على افتراء الكذب قال تعالى: {وتخلقون إفكا} [سورة العنكبوت] أي تفترون الكذب.

ومعنى الرَّازق الذي يوصل الأرزاق إلى عباده.

ومعنى العالم المتّصف بالعلم، فالله موصوفٌ بعلمٍ أزليّ أبديّ لا يتغيَّر، فهو عالِمٌ لا كالعلماء لأنَّ علم غيره حادثٌ.

ومعنى القدير المتَّصف بالقدرة، وهي صفةٌ أزليّةٌ أبديةٌ يؤثّر بها في الممكنات أي في كل ما يجوز في العقل وجوده وعدمه، بها يوجِد ويُعْدِم. وبمعناه القادر إِلا أنَّ القدير أبْلغ لأن معنى القادر المتّصف بالقدرة، وأمَّا القدير فمعناه له قدرة تامَّة.

ومعنى الفعّال لِمَا يُريد أنه قادرٌ على تكوين ما سبقت به إرادته، لا يعجزه عن ذلك شىء ولا يمانعه أحدٌ، ولا يحتاج إلى استعانة بغيره، ولا تخلّف لمراده.

ومعنى ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن، أن كل ما شاء الله في الأزل أن يكون كان وما لم يشأ الله في الأَزل أن يكون لا يكون، ولا تتغيّر مشيئته لأنَّ تغيّر المشيئة دليلُ الحدوث، والحدوثُ مستحيلٌ على الله ، فهو على حسب مشيئته الأزليّة يغيِّر المخلوقات من غير أن تتغيّر مشيئته. وهذا اللفظ أجمع عليه المسلمون سَلَفُهم وخلفُهم وهو مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم علّم بعض بناته: “ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن” وَلَم يُخالف فيه إلا المعتزلة ومن اتَّبعهم.

فكل ما شاءَ الله في الأَزل وجوده دخل في الوجود وما لم يشأ الله في الأَزل وجوده لا يدخل في الوجود ولو دعا داعٍ أو تصدّق متصدّق.

قال المؤلف: [الذي] لا حول ولا قوَّة إِلا [به الموصوفُ] بكل كمالٍ يليق به [المنزَّهُ] عن كل نقصٍ [في حقِّه].
الشرح: أمَّا لا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم فقد ثَبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رغَّب فيه وورد عنه هذا اللفظ بكماله، وثبت عنه بدون زيادة “العليّ العظيم”، فمن شَاءَ ذكر لا حول ولا قوَّة إلا بالله ، ومن شاءَ ذكر لا حول ولا قوّة إِلا بالله العليّ العظيم، وقد ورد أيضًا بزيادة العزيز الحكيم. ومعنى لا حول ولا قوّة إلا بالله أي لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوّة على طاعة الله إلا بعون الله ، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح.

والله تعالى موصوفٌ بكل كمالٍ يليق به، وإنَّما قُيّدت هذه العبارة بلفظ يليق به لأنَّ الكمالَ إِمَّا أنْ يكون كمالا في حقّ الله وفي حقّ غيره كالعلم أو لا كالوصف بالجبّار مدحٌ في حقّ الله وذمٌّ في حقّ الإنسان، وكالوصف برجاحة العقل مدح في حقّ الإنسان ولا يجوز أن يوصف الله بذلك، فكما أنَّه تعالى متّصفٌ بكل كمالٍ في حقّه فهو منزَّهٌ عن كل نقصٍ أي ما لا يليق به تعالى كالجهل والعجز والمكان والحيِّز واللون والحدّ، قال أبو جعفر الطحاوي أحمد بن سلامة المتوفَى في أوّل القرن الرَّابع الهجري في عقيدته التي ذكر أنّها بيان عقيدة أهل السُّنّة والجماعة عقيدةِ أبي حنيفة وصاحبَيْه أبي يوسف القاضي ومحمّد بن الحسن الشَيباني وهم من أئمَّة السَّلف: “لا تحويه الجهات الستّ كسائر المبتدعات”، معناه لا يجوز على الله أن يكون محدودًا فإذًا هو منزَّهٌ عن أن يكون جالسًا لأن المتّصف بالجلوس لا بُدَّ أنْ يكون محدودًا، والمحدود يحتاج إلى من حدّه بذلك الحدّ ولا يجوز أن يحُدَّ نفسه بحدّ يكون عليه لأنَّ معنى ذلك أنّه خلق نفسه وذلك محال لأن الشىء لا يخلق نفسه.

قال المؤلف: ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السَّميعُ البصيرُ، فهو القديمُ وما سواهُ حادثٌ وهوَ الخالقُ وما سواهُ مخلوقٌ.
الشرح: الله موصوفٌ بأنَّه ليس كمثله شىء من اللطائف والكثائف والعلويّات والسفليّات، وقد يأتي بعضُ أهل الوحدة المطلقة بلفظ متناقض فيقول أحدهم: ليس كمثله شىء وهو عين كل شىء، ومنهم من يقول بأنّه عين الأَشياء، يعنون بذلك أنَّ الله جُمْلةُ العالَم وأفراد العالَم أجزاءٌ منه، وقد قال بعضهم: أنا جزءٌ من الله . ويقول بعضهم أحيانًا لشخصٍ: أنتَ الله ، وهذا الجدار الله . فهؤلاء لا تأويل لكلامهم ولا يجوز الشكّ في كفرهم. قال أهل الحقّ: إن الله هو الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، وما سواه فهو حادث.

ومعنى قوله: فهو القديم وما سواه حادث وهو الخالق وما سواه مخلوق، أن العالَم حادث الجنس والأفراد وخالفت الفلاسفةُ في ذلك فقال قسمٌ منهم: “العالَم العلويّ أزليّ بمادته وأفراده” ومن هؤلاء أرسطو وتَبِعَهُ ابنُ سينا والفارابي، وقال بعضهم: “العالَم قديم الجنسِ والنوعِ حادث الأَفراد”، وهؤلاء متأخّرو الفلاسفة وتبعهم أبو العبّاس أحمد بن تيمية من غير أن ينسِبَ نفسه إلى اتّباعهم بل نَسَبَ ذلك زورًا وبهتانًا إلى أئمَّة الحديث. قال الإِمام بدر الدين الزركشي في الفريقين: “وضلَّلهم المسلمون وكفّروهم” معناه أَنَّ الفريقين كفّارٌ بالإجماع.

وذكر تلك العقيدة الفاسدة أي أنَّ العالم أزليٌّ بنوعه حادث بأفراده ابن تيمية في خمسة من كتبه: منهاج السُّنّة النبويّة، وموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وكتاب شرح حديث النزول، وكتاب شرح حديث عمران بن حصين، وكتاب نقد مراتب الإجماع. وقد رأيت ذلك بعيني فيها، وقال جلال الدين الدَّوانيّ في شرح العضديّة: وقد رأيت في تأليف لأبي العبّاس أحمد بن تيمية القول بالقدم الجنسي في العرش. والدَّوانيّ من علماء القرن التاسع ترجمه السخاوي وقال فيه: ثقة.

قال المؤلف: [فكلُّ حادثٍ دخلَ في الوجودِ من الأعيانِ والأعمالِ من الذَّرةِ إلى العرشِ، ومن كلّ حركةٍ للعبادِ وسكونٍ والنوايا والخواطرِ فهو بخلقِ الله لم يخلقهُ أحدٌ سوى الله ، لا طبيعةٌ ولا علّةٌ بل دخولُهُ في الوجودِ بمشيئةِ الله وقدرتِهِ، بتقديرهِ وعلمهِ الأزليّ لقولِ الله تعالى:{وخلق كل شىء} [سورة الفرقان] أي أحدثَهُ من العدمِ إلى الوجودِ فلا خلْقَ بهذا المعنى لغيرِ الله ، قال الله تعالى:{هل من خالق غير الله} [سورة فاطر] قال النَّسفِيّ: فإذا ضربَ إنسانٌ زجاجًا بحجرٍ فكسرهُ، فالضربُ والكسرُ والانكسارُ بخلقِ الله تعالى، فليسَ للعبدِ إلا الكسبُ، وأمّا الخلقُ فليسَ لغيرِ الله قال الله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [سورة البقرة].
الشرح: أن كل ما دخل في الوجود أي وُجدَ بعد أن كان معدومًا من الأعيان أي الأجسام ونحوها مما يقوم بذاته، والأعمال والنوايا والخواطر هو بخلق الله تعالى، وهذا موافق ومنسجم مع قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : “إن قلوب بني ءادم بين إصبعين من أصابع الرَّحمن يقلبها كيف يشاء”؛ فيدخل في ذلك أعمال العباد الاختيارية وغير الاختيارية، وخالفت في ذلك المعتزلة في أفعال العبد الاختيارية فقالت: إن العبد هو خالقها.

فكفَّرهم العلماء المحقّقون كأبي منصور البغدادي، والإمام البُلقيني _ وهو من أكابر أصحاب الوجوه من الشافعية، والإمام أبي الحسن شيث بن إبراهيم المالكي وغيرهم؛ وكذَّبت في ذلك المعتزلة قول الله تعالى: {وخلق كل شىء}وقوله {هل من خالق غير الله} وغيرهما، ومعنى الخلق هنا الإِبراز من العدم إلى الوجود؛ ولفظة شىء في هذا الموضع شاملة لكل ما دخل في الوجود.

ثم إنه لا يصح أن تكون الطبيعة خالقة لشىء من الأشياء لأن الطبيعة لا إرادة لها ولا مشيئة ولا اختيار، وكذلك العلّة لا يصح أن تكون خالقة لشىء من الأشياء فليس للعبد من عمله إلا الكسب وهو توجيه العبد قصده وإرادته نحو العمل فيخلقه الله عند ذلك قال تعالى:{لها ما كسبت} أي من الخير {وعليها ما اكتسبت} أي من الشر.

فأثبت الله تعالى الخلق لنفسه وتمدَّح بذلك لأنه شىء يختص به، وأثبت للعبد الكسب. وهذا هو المذهب الحقّ.

قال المؤلف: وكلامُهُ قديمٌ كسائِرِ صفاتِهِ لأنَّه سبحانَهُ مباينٌ لجميعِ المخلوقاتِ في الذّاتِ والصِّفاتِ والأَفعالِ سبحانَهُ وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا.
الشرح: معناه أَنَّ كلامَ الله الذي هو صفة ذاته قديم أزليٌّ لا ابتداءَ له، وما كان كذلك فلا يكون حرفًا وصوتًا؛ القرءان والتوراة والإِنجيل والزَّبور وسَائر كتب الله إن قُصد بها الكلام الذاتي فهي أزليّة ليس بحرف ولا صوت، وإن قُصد بها اللفظ المنزّل الذي بعضه بلغة العرب وبعضه بالعبرانيّة وبعضه بالسُّريانية فهو حادثٌ مخلوقٌ لله لكنها لَيْسَت من تصنيف مَلَك ولا بَشَر، فهي عباراتٌ عن الكلام الذاتيّ الذي لا يوصف بأنّه عربيٌّ ولا بأنّه عبرانيٌّ ولا بأنّه سُريانيٌّ، وكلٌّ يُطلق عليه كلام الله ، أي أنَّ صفةَ الكلام القائمة بذات الله يُقال له كلام الله واللفظ المنزَّل الذي هو عبارة عنه يقال له كلام الله ؛ فتبيَّن أَنَّ القرءانَ له إطلاقان: الأول إطلاقه على الكلام الذاتي الذي ليس هو بحرفٍ ولا صوت ولا لغة عربية ولا غيرها، والثاني إطلاقه على اللفظ المنزَّل الذي يقرؤه المؤمنون.

وتقريب ذلك أنَّ لفظ الجلالة (الله ) عبارة عن ذات أزليّ قديم أبديّ، فإذا قلنا: نعبد الله ، فذلك الذات هو المقصود وإذا كُتِبَ هذا اللفظ فقيل: ما هذا؟ يُقال: الله ، بمعنى أنَّ هذه الحروف تدلّ على ذلك الذات الأزليّ الأَبديّ لا بمعنى أَنَّ هذه الحروف هي الذات الذي نعبده، فصفة الكلام أزليّة أبديّة لا يجوز أن تكون حرفًا أو صوتًا لأنَّ الحرف والصوت مخلوقان بالمشاهدة، فكما أنَّ صفاته من العِلم والقدرة والإِرادة وغير ذلك أزليّة قديمة كذلك كلامه الذاتي أزليٌّ قديم ليس حرفًا ولا صوتًا، وذلك لأَنَّه سبحانه مباينٌ أي غير مشابِه لجميع المخلوقات في الذات أي ذاته لا يشبه ذوات المخلوقات، والصِّفات فصفاته لا تشبه صفات المخلوقات، والفعل أي فعله لا يشبه فعل المخلوقات لأنَّ فعل الله تعالى أزليّ أبديّ والمفعول حادث، كما أنَّ قدرةَ الله تعالى أزليّة ومقدوره حادث، فنحن العوالم كلنا مقدورون لله تعالى أوجدنا بقدرة أزليّة أبديّة. قال الإِمام أبو حنيفة رضي الله عنه والبخاري رحمهما الله تعالى: “فعله تعالى صفةٌ له في الأَزل والمفعول حادث”.

ومعنى “سبحانه” تنزيه أي تنزيهًا لله تعالى؛ ومعنى تعالى تنزّه. وهو تبارك وتعالى متعالٍ أي متنزّه عمّا يقول الظالمون أي الكافرون، ولمّا كان الكفر هو أعلى الظلم وأكبره وأشدّه أطلق الله في القرءان الظالمين وأراد به الكافرين لأنَّ كلَّ الظلم الذي هو دون الكفر بالنسبة إلى الكفر كلا ظلمٍ.

قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [سورة البقرة].

قال المؤلف: [فيتلخصُ مِن معنَى مَا مَضَى إِثبات ثلاثَ عشرةَ صفةً لله تعالى تكرَّرَ ذِكرُها في القرءانِ إمَّا لفظًا وإما معنًى كَثيرًا وهي: الوُجودُ والوَحدانيةُ والقِدمُ أي الأزليةُ والبَقاءُ وقِيامُهُ بنفسِهِ والقُدرةُ والإِرادةُ والعِلمُ والسَمْعُ والبَصَرُ والحَيَاةُ والكَلامُ وتنزُّهُهُ عنِ المشابهةِ للحادثِ. فلمَّا كانت هذهِ الصّفات ذِكرُها كَثيرًا في النُّصوصِ الشرعِيّةِ قَالَ العلماءُ: يجبُ معرِفَتها وُجوبًا عَينيًّا].
الشرح: أنه يتلخص من معنى ما مضى إثبات ثلاث عشرة صفة لله تعالى تكرر ذكرها في القرءان إما باللفظ وإما بالمعنى وهي:

* الوجود: قال الله تعالى: {أفي الله شك} [سورة إبراهيم] وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : “كان الله ولم يكن شىء غيره”.

* والوحدانية: قال الله تعالى: {لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا} [سورة الأنبياء].

* والقِدم: قال الله تعالى: {هو الأول والآخر} [سورة الحديد].

* والبقاء: قال الله تعالى: {ويبقى وجه ربك} [سورة الرحمن] أي ذاته.

* والقيام بالنفس: قال الله تعالى: {فإن الله غني عن العالمين} [سورة ءال عمران].

* والقدرة: قال الله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم }[سورة الأنعام].

* والإِرادة: أي المشيئة قال الله تعالى: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين} [سورة التكوير].

* والعِلم: قال الله تعالى: {وأن الله قد أحاط بكل شىء علماً} [سورة الطلاق].

* والسمع والبصر: قال الله تعالى: {وهو السميع البصير} [سورة الشورى].

* والحياة: قال الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [سورة البقرة].

* والكلام: قال الله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} [سورة النساء].

* والتنزّه عن المشابهة للحادث: قال الله تعالى: {ليس كمثله شىء} [سورة الشورى].

ويجب معرفة هذه الصفات وجوبًا عينيًّا كما ذكر ذلك السنوسي صاحب العقيدة السنوسية والشرنوبي والفضالي وغيرهم.

قال المؤلف: [فَلمَّا ثبتَتِ الأَزليةُ لذَاتِ الله وجبَ أَن تكونَ صفاتُهُ أزليّة لأنَّ حُدوثَ الصّفةِ يستلزمُ حدوثَ الذَّاتِ].
الشرح: هذه الصفات الثلاث عشرة أزلية بأزلية الذات لأنه لو كان يحدث في ذات الله تعالى حوادث لوجب أن يكون ذاته حادثًا فلما ثبت في العقل قِدم الله تعالى وأزليته ثبوتًا قطعيًّا وجب أن تكون صفاته أزلية.

قال المؤلف: ومعنى أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله [أعلمُ وأعتقدُ وأعترفُ] أنَّ محمدَ بنَ عبدِ الله بنِ عبد المطلبِ ابن هاشمِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيَّ صلى الله عليه وسلم عبدُ الله ورسولُهُ إلى جميع الخلق، [ويتبعُ ذلك اعتقادُ أَنَّه] وُلِدَ بمكّةَ وبُعثَ بها وهاجرَ إلى المدينةِ ودفنَ فيها، و[يتضمّنُ ذلك] أَنَّه صادقٌ في جميعِ ما أخبَرَ بهِ [وبلَّغَهُ عن الله ] فمن ذلك: عذابُ القبرِ ونعيمُهُ وسؤالُ الملكين منكرٍ ونكيرٍ والبعثُ والحشرُ والقيامةُ والحسابُ والثوابُ والعذابُ والميزانُ والنارُ والصِّراطُ والحوضُ والشفاعةُ والجنّةُ والرؤيةُ لله تعالى [بالعين في الآخرة بِلا كيفٍ ولا مكانٍ ولا جهةٍ كما يُرى المخلوق]، والخلودُ [فيهما]. [والإِيمانُ] بملائكةِ الله ورسلِهِ وَكُتُبِهِ وبالقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ وأَنَّه صلى الله عليه وسلم خاتمُ النبيّين وسيدُ ولد ءادمَ أجمعينَ.
الشرح: معنى أشهد أنَّ محمّدًا رسول الله أعلم وأعتقد وأصدِّق وأؤمن بأنّ نبيّنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلبِ عبدُ الله ورسوله إلى كافة الخلق، والمُراد بالخلق هنا الإِنس والجنّ، قال تعالى: {ليكون للعالمين نذيراً} [سورة الفرقان] إذْ هذا الإنذار للإنس والجنّ فقط لا دخول للملائكة فيه لأنهم مجبولون على طاعة الله فلا يحتاجون إلى إنذارٍ، وأمّا من قبله من الأنبياء فلم يكن مرسلًا إلى الإنس والجن، فالإيمان برسالة سيِّدنا محمّد هو أصل معنى الشهادة الثانية، لكنها تتضمّن مسائل كثيرة وتتبعها أحكام عديدة منها:

* كونه من قريش وهم أشرف قبائل العرب لهم الصدارة بين العرب.

* ووجوب معرفة أنّه صلى الله عليه وسلم وُلِد بمكّة وبُعث أي نزل عليه الوحي بالنّبوة وهو بها ثم هاجر إلى المدينة، وأنّه مات في المدينة فدُفِنَ فيها.

* وأنّه صادقٌ في كل ما أخبر بهِ عن الله تعالى سواء كان من أخبار من قبله من الأمم والأنبياء وبدءِ الخلق، أو من التحليل أو التحريم لبعض أفعال وأقوال العباد، أو مما أخبر به مما يحدث في المستقبل في الدنيا وفي الآخرة، فمن ذلك:

1 _ الإِيمان بعذاب القبر، ومن عذاب القبر عرض النار على الكافر كل يوم مرتين مرةً أوّل النهار ومرةً ءاخر النهار يتعذَّب بنظره ورؤيتهِ لمقعدِه الذي يقعده في الآخرة، وتضييقُ القبر عليه حتى تختلف أضلاعه، وضرب منكرٍ ونكير له بمطرقة بين أذنيه؛ ويشمل ذلك ما يحصل لبعض عُصاة المسلمين لا لجميعهم ممَّا هو دون ما يحصل للكافر كضغطة القبر حتى تختلف أضلاعه، والانزعاج من ظلمةِ القبر وَوَحشته.

2 _ والإِيمان بنعيم القبر فإِنَّه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك أيضًا، ومنه توسيع القبر سبعين ذراعًا في سبعين ذراعًا على المؤمن التَّقيّ ومَن شاء الله له من غير الأتقياء كبعض الشهداء ممَّن استشهدوا ولم يكونوا أتقياء، وتنويره بنورٍ يشبه نور القمر ليلة البدر، وغيرُ ذلك كشمّ رائحة الجنّة.

3 _ والإِيمان بسؤال الملكين منكرٍ ونكير، وهو يحصل للمؤمن والكافر من هذه الأمة أي الذين أُرسل إليهم محمّد ويقال لهم: أمّة الدعوة، والذين ءامنوا منهم يُقال لهم: أمّة الإجابة. ثمَّ المؤمن الكامل لا يلحقه فزعٌ ولا انزعاج من سؤالهما لأنَّ الله يُثَبِّتُ قلبَهُ فلا يرتاع من منظرهما المخيف لأنهما كما جاء في الحديث أسودان أزرقان؛ ويُستثنى من هذا السؤال الطفل والشهيد وكذلك الأنبياء. والمُراد بالطفل من مات دون البلوغ.

4 _ والإِيمان بالبعث وهو خروج الموتى من القبور بعد إعادة الجسد الذي أكله التراب إن كان من الأجساد التي يأكلها التراب وهي أجساد غير الأَنْبياء وشهداء المعركة، وكذلك بعض الأَولياء لا يأكل الترابُ أجسادهم لما تواتر من مشاهدة ذلك. ومنهم عبد الله بن عمرو والد جابر وكثير غيره من السلف، وممن بعد السلف الحافظ أبو عمرو بن الصلاح فقد حدّثني الشيخ سهيل الزبيبي عن عبد المتعال الحفار الدمشقيَّين أنه شاهد جثّة الحافظ ابن الصلاح صحيحة لم يتغيّر منها شىء وقد مضى على وفاته أكثر من ثمانمائة سنة.

5 _ والإِيمان بالحشر وهو أن يُجْمَعُوا بعدَ ذلك إلى مكانٍ.

6 _ والإِيمان بالقيامة وأوّلها من خروج النّاس من قبورهم إلى استقرار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار، وقد تُطلَق الآخرة على ذلك وعلى ما بعدَه إلى ما لا نهاية لَهُ.

7 _ والإِيمان بالحسَاب وهو عرض أعمال العباد عليهم، والثواب والعذاب. أَمَّا الثواب فهو الجزاء الذي يُجازاه المؤمنُ في الآخرة ممَّا يسرُّهُ. وأمَّا العذاب فهو ما يسوء العبدَ ذلك اليوم من دخول النار وما دون ذلك.

8 _ والإِيمان بالميزان أي ما يوزن عليه الأعمال، فالكافر ليسَ له حسناتٌ يوم القيامة إنَّما توضَع سيئاته في كفّة من الكفتين، وأَمَّا المؤمن فتوضَع حسناته في كفّة وسيئاته في الكفّة الأخرى.

9 _ والإِيمان بالنار أي جهنم أي بأنَّها مخلوقةٌ الآن ولا تزال باقية إلى ما لا نهاية له، هذا مذهب أهل الحقّ، وليس الأَمر كما يقول ابن تيمية: إنَّها تفنى لا يبقى فيها أحدٌ، وقد قال قبل ذلك في كتابه منهاج السُّنّة النبويّة: اتّفق المسلمون على بقاء الجنّة والنار وخالف في ذلك جهم بن صفوان فكفّره المسلمون، وللإِمام السُّبكيّ ردٌّ على ابن تيمية سمَّاه: (الاعْتِبَار ببَقَاءِ الجنَّةِ والنَّار).

10 _ والإِيمان بالصراط وهو جسرٌ يمدُّ على ظهر جهنَّم فَيَرِدُهُ الناسُ، أحد طرفَيْهِ في الأرض المبدَّلة والطرف الآخر فيما يَلي الجنّة بعد النار فيمرُّ الناس فيما يسامتُ الصِّراط. فالمؤمنون على قسمين:

قسمٌ لا يدوسون الصِّراط إِنَّما يمرّون في هوائه طائرين، وهؤلاء يَصدُق عليهم أنّهم وردوها لأنه ليس من شرط الورود المذكور في القرءان بقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [سورة مريم] دخولُها.

وقسم يدوسونه، ثم هؤلاء قسمٌ منهم يُوْقَعون فيها وقسمٌ ينجيهم الله فيخلصون منها.

11 _ والإِيمان بالحوض وهو مكانٌ أَعَدَّ الله فيه شرابًا لأَهل الجنّة يشربونَ منه قبل دخول الجنّة فلا يصيبهم بعد ذلك ظمأٌ، وإنما يشربون من شراب الجنّة تلذّذًا.

12 _ والإِيمان بالشفاعة وهي تكون للمسلمين فقط، فالأَنبياء يشفعون وكذلك العلماءُ العاملون والشهداءُ والملائكة.

13 _ والإِيمان بالجنَّة وهي دار السلام.

14 _ والإِيمان بالرؤية لله تعالى بالعين في الآخرة بأنّها حقٌّ، وهذا خاصٌّ بالمؤمنين يرونه وهم في الجنّة بِلا كيفٍ ولا تشبيه ولا جهة، أي أنّه تعالى لا يكون في جهة ولا مكان إِنَّما هم في مكانهم في الجنّة، رؤية لا يكون عليهم فيها اشتباه لا يشكّون هل الذي رأوه هو الله أم غيره كما لا يشكّ مبصِرُ القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب أَنَّ الذي رءاه هو القمر. ففي ذلك قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم : “إِنَّكم سترون ربَّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تَضامُّون في رؤيته” _ رواه مسلم _ وروي: “لا تُضَامُونَ”. شبَّه رُؤْيَتَنَا له من حيثُ عدم الشَّك برؤية القمر ليلة البدر، ولم يشبِّه الله تعالى بالقمر كما يزعم بعض الجُهّال فإنهم إذا ذُكِرَ لهم هذا الحديث يتوهّمون أنَّ الله يشبهُ القمر وقد صرَّحَ بعضُ العوامّ بذلك.

15 _ والإِيمان بالخلود فيهما، فيجب الإِيمان بأنَّ أهل الجنّة يخلدون في الجنّة وأهل النار يخلدون فيها، لا موت بعد ذلك.

16 _ والإِيمان بملائكة الله أي بوجودهم، وأنّهم عبادٌ مكرمون.

17 _ والإِيمان برسله أي أنبيائه من كان رسولاً ومن لم يكن رسولاً، فالنَّبيُّ غير الرَّسول هو إنسان أُوحيَ إليه لا بِشَرعٍ جديد بل أُوحيَ إليه باتِّباع شرع الرَّسول الذي قبله وأن يبلّغ ذلك، والرَّسول مَن أُوحيَ إِليه بشرع جديد أُمِر بتبليغه، ومن الغلط الشنيع ما ذكره بعض العلماء أنَّ النبيّ من أوحيَ إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. وأوّل من أُرسل إلى الكفّار سيدنا نوحٌ عليه السلام، وقد صحّ أنّه أوّل الرُّسل إلى أهل الأرض أي بعد حدوث الكفر بين البشر وليس معناه أنّه لم يكن قبله نبيّ ولا رسول بل كان ءادم نبيًّا رسولا، أما نبوّتُهُ فيشهد لذلك حديث الترمذي: “ءادم فمن سواه من الأنبياء تحت لوائي يوم القيامة” حسّنه الترمذي، فمن نفى نبوته فهو كافر بالإجماع كما في مراتب الإجماع.

18 _ والإِيمان بالكتب، وهي كثيرة لكن أشهرها هؤلاء الأَربع التوراة والإنجيل والزّبور والفُرْقان. قال وهب بن منبِّه: قرأتُ سبعين كتابًا مما أنزل الله .

19 _ والإِيمان بالقدر خيره وشرّه، ومعنى ذلك أن كل ما دخل في الوجود من خيرٍ وشر هو بتقدير الله الأَزلي فالخير من أعمال العباد بتقدير الله ومحبَّته ورضاه، والشرّ من أعمال العباد بتقدير الله لا بمحبَّته ورضاه قال تعالى : {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [سورة الأنفال].

قال ابن عبّاس: يحول بين الكافر والإِيمان، وبين المؤمن والكفر. روى ذلك البيهقي في كتاب القَدَر والحاكم في المستدرك.

وقد ورد في حديث جبريل الصحيح المشهور لفظ: “والقدر خيره وشرّه” رواه مسلم، وفي لفظ: “والقدر كلّه”.

ويناسب هنا إيراد عبارة البيهقي في كتابه القضاء والقدر من حديث عليّ ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مَن سرَّه أن يمُدَّ الله في عُمُره ويوسّع له رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتّق الله وليصل رحمه”.

قال الشيخ (يعني البيهقي): وتفسير ذلك وما قبله في قول ابن عبّاس أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: حدَّثنا أبو العبّاس محمد بن يعقوب حدَّثنا أبو جعفر محمّد بن عبيد الله بن المنادي حدَّثنا شجاع بن الوليد حدَّثنا أبو سلمة عمرو بن الجون الدالاني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: “إن الحذر لا يغني من القدر، وإنَّ الدعاء يدفع القدر وهو إذا دفع القدر فهو من القدر”. اهـ.

وحدَّثنا أبو عبد الله الحافظ حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ حدَّثنا حامد بن محمود حدَّثنا إسحق بن سليمان الرازي حدَّثنا حنظلة عن طاوس عن ابن عبّاس قال: “لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله عزَّ وجلّ يمحو بالدعاء ما شاء من القدر”. انتهى.

وحدَّثنا أبو عبد الله الحافظ حدَّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب حدَّثنا محمّد بن إسحق الصغاني حدَّثنا روح بن عبادة حدَّثنا حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن عكرمة عن ابن عبّاس في قول الله عزَّ وجلَّ:{ يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [سورة الرعد] قال: يمحو الله ما يشاء من أحد الكتابين، هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت {وعنده أم الكتاب} أي جملة الكتاب. انتهى.

قال الشيخ: والمعنى في هذا أنَّ الله جلَّ ثناؤه قد كتب ما يصيب عبدًا من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك، وأنّه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صِلة الرحم وغيرها لم يصبه ذلك البلاء ورزقه كثيرًا وعمّره طويلاً وكتب في أمّ الكتاب ما هو كائن من الأمرين، فالمحو والإِثبات يرجع إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عبّاس. والله أعلم.

وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أحمد بن كامل القاضي أخبرنا محمّد ابن سعد العوْفي حدَّثنا أبي حدَّثنا عمّي قال: حدّثني أبي عن أبيه عطيّة عن ابن عباس في قوله: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} قال: هو الرَّجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو؛ والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله فهو الذي يثبت.

قال الشيخ: وقد دلَّ بعض ما مضى من السُّنن أنَّ الواحد منّا قد يعمل زمانًا بمعصية الله ثم يُختم له بعمل أهل الجنّة، ويعمل الآخر زمانًا بطاعة الله ثم يُختم له بعمل أهل النار فيرجع كل واحد منهما إلى ما سبق من علم الله فيهما فيحتمل أن يكون المحو والإِثبات راجعين إلى عملهما. والله أعلم.

وأمَّا ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني محمّد بن إسمعيل السكري حدَّثنا أبو قريش حدَّثنا أبو محمّد نصر بن خلف النيسابوري حدَّثنا يعلى بن عبيد حدَّثنا عبد الرَّحمن بن إسحق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود قال: ما دعا عبد بهذه الدعوات إِلا وسَّع الله عليه في معيشته: يا ذا المنّ ولا يُمنُّ عليك، يا ذا الجلال والإِكرام، يا ذا الطَّوْل لا إِله إِلا أنت، ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني في أمّ الكتاب عندك شقيًّا فاثمح عنّي اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني في أُمّ الكتاب محرومًا مقتّرًا عليَّ رزقي فاثمح عنّي حرماني وتقتير رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} انتهى.

قال: فهذا موقوف.

وروي عن أبي حكيمة عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطّاب وهو يطوف بالكعبة يقول: اللَّهمَّ إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتَ عليَّ الشِقوة والذنب والمَقت فامحني وأثبتني في السعادة { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. انتهى. هكذا رواه حمّاد بن سلمة عن أبي حكيمة وبمعناه رواه هشام الدستوائي عن أبي حكيمة مختصرًا وقال: فإِنَّك تمحو ما تشاء وتُثبت وعندك أمّ الكتاب. انتهى. وأبو حكيمة اسمه عصمة بصري تفرَّد به فإن صحَّ شىء من هذا فمعناه يرجع إلى ما ذكرنا من محو العمل والحال. وتقدير قوله: اللَّهمَّ إن كنت كتبتني أعمل عمل الأشقياء وحالي حال الفقراء برهة من دهري فاثمح ذلك عنّي بإثبات عمل السعداء وحال الأغنياء، والله عل خاتمة أمري سعيدًا موفّقًا للخير فإِنَّك قلت في كتابك: { يمحوا الله ما يشاء} أي من عمل الأشقياء {ويثبت} أي من عمل السعداء ويبدّل ما يشاء من حال الفقر ويثبت ما يشاء من حال الغنى. ثمَّ المحو والإِثبات جميعًا مسطوران في أُمِّ الكتاب. وقد أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو منصور النَضْرُ بي حدَّثنا أحمد بن نجدة حدَّثنا سعيد بن منصور حدَّثنا جرير عن منصور قال: قلت لمجاهد: ما تقول في هذا الدعاء: اللَّهمَّ إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فاثمحه منهم واجعله في السعداء، فقال: حسن. ثم مكثت حولا فسألته عن ذلك فقال:{حم والكتاب المبين إنا أنزلنه في ليلةٍ مبركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمرٍ حكيمٍ} [سورة الدخان]. قال: يفرق في ليلة القدر ما يكون في السّنة من رزق أو مصيبة، فأمَّا كتاب الشقاء والسعادة فإنه ثابت لا يُغيَّر. انتهى. يعني رجع عن قوله الأول إلى الثاني.

أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الواحد الزاهد حدَّثنا أحمد بن عبيد الله يعني النرسي حدَّثنا عبيد الله بن موسى حدَّثنا ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله عزَّ وجلّ: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [سورة الرعد]. قال: يريد أمر السماء، يعني في شهر رمضان، فيمحو ما يشاء غير الشقاء والسعادة والموت والحياة. انتهى.

وأخبرنا أبو زكريا أخبرنا أبو الحسن الطرائفي حدَّثنا عثمان بن سعيد حدَّثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله: { يمحوا الله ما يشاء} يقول: يُبدِّل الله ما يشاء من القرءان فَيَنْسَخُهُ، ً { ويثبت} يقول: يثبت ما يشاء لا يُبدله،{وعنده أم الكتاب} يقول: جملة ذلك عنده في أمّ الكتاب الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب؛ هذا أصحّ ما قِيل في تأويل هذه الآية وأجراه على الأصول، وعلى مثل ذلك حملها الشافعي رحمه الله ؛ ومن أهل العلم من زعم أَنَّ المراد بالزيادة في العمر نفي الآفات عنه والزيادة في عقله وفهمه وبصيرته. انتهى كلام البيهقي.

فاثنظر أيُّها الطالب الوقوف على الحقيقة وتأمَّل؛ إِنَّ هذه الألفاظ المروية عن قتادة وابن مسعود وعمر وابن عبّاس ليس فيها هذه الكلمات التي اعتادَ الناس قراءتها في ليلة النصف من شعبان إِنَّما المذكور في ذلك بعضُ ما يقرءونه. واعلم أنَّ البيهقي لم يصحِّح شيئًا من هذه الروايات وقد أتى بصيغة التردّد فيما روى عن عمر للدلالة على عدم ثبوته، وترجيحُهُ أن يكون المعنى المراد بالآية الناسخَ والمنسوخَ دليلٌ على أنه لم يثبت عنده ما سوى ذلك. وأنت قد رأيت أنَّ البيهقي لم يعرِّج على الكلمة التي اعتادوها وهي: “اللَّهمَّ أسألك بالتجلّي الأعظم في ليلة النصف من شعبان المكرم التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم” بالمرَّة، بل الصحيح أنَّ تلك الليلة هي ليلة القدر كما يفهم ذلك من قول الله تعالى:{ إنا أنزلنه في ليلةٍ مبركة } [سورة الدخان]. مَعَ قولِهِ: { إنا أنزلنه في ليلة القدر} [سورة القدر].

فلا تكنْ أسيرَ التقليد في غير معنى.

واعلم أنَّ الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم : “والقدر خيره وشرّه” يعود إلى القدر باعتباره بمعنى المقدور لا التقدير الذي هو صفة أزليّة أبديّة لله.

ويتضمَّن الإِيمانُ برسالة النبيّ الإِيمان بأنّه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين لأنّه أخبر بذلك، قال عليه الصلاة والسلام: “وخُتم بي النبيُّون” رواه مسلم.

وقوله بأنَّ سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم سيِّد ولد ءادم أجمعين هذا متفقٌ عليه عند العلماء وهو مأخوذٌ من حديثٍ رواه الترمذيّ: “أنا سيد ولد ءادم يوم القيامة ولا فخر”، أي لا أقول ذلك افتخارًا إِنَّما أقول تحدّثًا بنعمة الله ، وفي ذلك جواز وصفه بأنّه سيد البشر. ويعرف من ذلك جواز قول: اللَّهمَّ صلِّ على سيدنا محمّد، وإن لم يَرِدْ في حديث الصلاة على النبي إلا قولوا: اللهم صلّ على محمد، لأنَّ هذه زيادة لفظٍ يناسب الأَصل فهو جائز، فقد كان عبد الله بن عمر يزيد في التشهّد (وحده لا شَريكَ له) ويقول: وأنا زدتها، أي أنا زدتُ وحده لا شَريك له؛ رواه أبو داود.

قال المؤلف: [ويجبُ اعتقادُ أَنَّ كلَّ نبيٍّ منْ أنبياءِ الله يجبُ أَنْ يكونَ متّصفًا بالصدقِ والأمانةِ والفطانةِ، فيستحيلُ عليهم الكذبُ والخيانةُ والرذالةُ والسفاهةُ والبلادةُ؛ وتجبُ لهم العصمةُ منَ الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسَّة قَبلَ النبوّة وبعدَهَا، ويجوزُ عليهِم ما سوى ذلكَ مِنَ المعاصي لكنْ يُنبّهونَ فورًا للتوبةِ قبلَ أن يقتديَ بهمْ فيها غيرُهُمْ. فمِنْ هنا يعلمُ أن النبوّةَ لا تصحُّ لإِخوةِ يوسفَ الذينَ فعلوا تلكَ الأفاعيلَ الخسيسةَ وهمْ مَنْ سوى بِنيامينَ. والأسباطُ الذينَ أنزلَ عليهمُ الوحيُ همْ مَنْ نُبِّىءَ منْ ذريتِهِمْ].
الشرح: الأنبياء يجب لكلّ منهم أن يكونَ بهذه الأخلاق وهي:

الصدق: فيستحيل عليهم الكذب لأَنَّ ذلك نقصٌ ينافي منصب النبوّة.

والأمانة: فينتفي عنهم التلبّس بالكفر قبل النبوّة وبعدها، وكذلك التلبّس بالكبيرة، وكذلك التلبّس بالصغيرة التي فيها خَسَاسةٌ ودناءة كسرقة حبّة عنب، فإن هذه صغيرة لكنها تدل على دناءة نفسٍ، ويستحيل عليهم التلبّس بالرذالة كائنة ما كانت، ويستحيل عليهم صفة السفاهة.

والفطانة: فيستحيل عليهم الغباوة لأَنَّ الغباوة تنافي مَنْصِبَهُم، لأنهم لو كانوا أغبياء لنفر منهم الناس لغباوتهم والله حكيم لا يفعل ذلك، فإِنَّهم أرسلوا ليبلّغوا الناسَ مصالح ءاخرتهم ودنياهم، والبلادة تنافي هذا المطلوب منهم.

وأمّا ما ورد في أمر إبراهيم في القرءان الكريم أنّه قال: {بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانول ينطقون} [سورة الأنبياء] فليس هذا كذبًا حقيقيًّا بل هذا صدقٌ من حيث الباطن والحقيقة لأَنَّ كبير الأصنام هو الذي حمله على الفتك بهم أي الأصنام الأخرى من شدّة اغتياظه منه لمبالغتهم في تعظيمه بتجميل هيأته وصورته، فحمله ذلك على أن يكسِّر الصغار ويهينَ الكبير، فيكون إسناد الفعل إلى الكبير إسنادًا مجازيًّا فلا كذب في ذلك.

وأمَّا قوله عن الكوكب حين رءاه: {هذا ربي} [سورة الأنعام] فهو على تقدير الاستفهام الإِنكاري فكأَنَّه قال: أَهذا ربِّي كما تزعمون، ثم لمَّا غابَ قال:{لا أحب الآفلين} [سورة الأنعام] أي لا يصلح أن يكون هذا ربًّا فكيف تعتقدون ذلك، ولما لم يفهموا مقصوده بل بقوا على ما كانوا عليه قال حينما رأى القمر مثل ذلك، فلما لم يجد منهم بغيته أظهر لهم أنّه بريء من عبادته وأنّه لا يصلح للربوبيّة، ثم لما ظهرت الشمس قال مثل ذلك فلم يرَ منهم بُغْيَتَه، فَأَيِسَ منهم فأظهر براءته من ذلك؛ وأمَّا هو في حدِّ ذاته كان يعلم قبل ذلك أنَّ الربوبيّة لا تكون إلا لله بدليل قوله تعالى: {ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل} [سورة الأنبياء] فلذلك لا تصحّ النبوّة لإِخوة يوسف الذين فعلوا تلك الأفاعيل الخسيسة من ضربهم يوسف ورميهم له في البئر ونحو ذلك وهم من عدا بنيامين.

وأمّا الأَسْباط الذين ذكرهم الله في القرءان فهم ذرية هؤلاء لأنَّ منهم مَن أوتيَ النبوة.

باب الردة
قال المؤلف: فصلٌ: يجبُ على كلِّ مسلم حفظُ إسلامِهِ وصونُهُ عمَّا يفسدُهُ ويبطلُهُ ويقطعُهُ وهوَ الرِّدةُ والعيَاذُ بالله تعالى، [قالَ النوويُّ وغيرُهُ: الردّةُ أفحشُ أنواعِ الكفر].
وقد كثُرَ في هذا الزمانِ التساهلُ في الكلامِ حتى إِنَّهُ يخرج منْ بعضهمْ ألفاظٌ تُخرجُهُمْ عن الإِسلامِ ولا يَرَوْنَ ذلك ذنبًا فَضْلاً عنْ كونِهِ كُفرًا، [وذلكَ مصداقُ قولِهِ صلى الله عليه وسلم : “إِنَّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النارِ سبعينَ خريفًا” أَيْ مسافةَ سبعين عامًا في النزولِ وذلكَ منتَهَى جهنَّمَ وهو خاصٌّ بالكفارِ. والحديثُ رواهُ الترمذيُّ وحسَّنَهُ، وفي معناه حديثٌ رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ. وهذا الحديثُ دليلٌ على أنّه لا يُشترطُ في الوقوع في الكفرِ معرفةُ الحُكْم ولا انشراحُ الصَّدْرِ ولا اعتقادُ مَعنى اللَّفْظِ كما يقولُ كتابُ “فِقهُ السُّنَّةِ”. وكذلك لا يُشترطُ في الوقوعِ في الكفر عدمُ الغضبِ كما أشارَ إلى ذلكَ النوويُّ، قال:”لو غَضِبَ رجلٌ على ولدِهِ أو غلامِهِ فضربَهُ ضرْبًا شديدًا فقال له رجلٌ: أَلستَ مُسلمًا؟ فقال: لا، متعمدًا كفر” وقاله غيره من حنفيةٍ وغيرهم].
الشرح: قال الحافظ أبو زرعة العراقي في نكته على التنبيه والمنهاج والحاوي: كتاب الردّة: قول المنهاج : هي قطع الإِسلام بنيّة أو قول كفر أو فعل سواء قاله استهزاءً أو عنادًا أو اعتقادًا، فيه أمور:

أحدُها أن قوله بنيّة ليس في المحرَّر والروضة والشرحين والحاوي، وذكره ليدخل في الضابط العزم على الكفر في المستقبل فإنه يكفر في الحال.

ثانيها كان ينبغي تأخير ذكر القول عن الفعل كما في الحاوي لأن التقسيم فيه.

ثالثها تعبيره بأو في قوله أو عنادًا أو اعتقادًا أحسن من تعبير الحاوي بالواو لأنَّ أحدهما كاف.

وأورد شيخنا الإِمام البلقيني عليهما أمورًا:

أحدها أن عبارتهما لا تتناول كفر المنافق فإنه لم يسبقه إسلام صحيح.

ثانيها أنّ ذلك لا يتوقّف على قطعه الإِسلام بنفسه، فولد المرتدَّين المنعقد في ردّتهما صحّح النووي أنه مرتدٌّ إذا لم يكن له أصل مسلم لكن سيأتي تصحيح أنّه مسلم.

ثالثها أن التنقّل من كفر إلى كفر حكمه حكم المرتدّ في أنّه لا يقبل منه إلا الإِسلام فإن لم يفعل قُتل. اهـ.

وهذا الذي يحصل من بعض الناس مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : “إِنّ العبد ليتكلَّم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا” أي أنَّ الإنسان قد يتكلَّم بكلمة لا يراها ضارَّة له يستوجب بها النزول في قعر جهنَّم وهو مسافة سبعين عامًا وذلك محلّ الكفار لا يصله عصاة المسلمين.

قال المؤلف: والردّةُ ثلاثةُ أقسامٍ [كما قسَّمَها النوويُّ وغيرُه من شافعيّةٍ وحنفيةٍ وغيرِهم]: اعتقاداتٌ وأفعالٌ وأقوالٌ و[كلٌّ] يتشعَّب شعبًا كثيرة.
الشرح: اعلم أنّ من الاعتقادات ما إذا طرأ للإنسان خرج من الإِسلام.

ومِن ذلك الاعتقاد بأنَّ العالَم أزليٌّ بنوعه وتركيبه أو بنوعه فقط، أو اعتقاد ما يوجب الحدوث في الله تعالى كاعتقاد أن مشيئته حادثة تحدث له، أو أنه تحدُث مشيئة شىء بعد أن لم يكن شائيًا له، أو أنَّ علمَهُ حادثٌ أو أنّه يحدث له علم شىء بعد أن لم يكن عالِمًا به، لأَنَّ حدوثَ صفة في الله يستلزم حدوثَ ذاته، والحدوث ينافي الألوهيّة. وكذلك اعتقاد اللون في الله تعالى، وكذلك اعتقاد الحركة والسكون في الله تعالى، لأنه لو كان ساكنًا لكان له أمثال لا تُحْصَى، ولو كان متحركًا لكان له أمثالٌ لا تُحْصى. ومن الأفعال التي تُخْرِج الإِنسان من الإِسلام إلقاء المصحف في القاذورات.

وأما الأقوال التي تخرج صاحبها من الإِسلام فهي أكثر وأكثر، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : “أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه” _ رواه الطبراني بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن مسعود _.

وكل قسم من هؤلاء الثلاثة يخرج من الإِسلام بمفرده من غير أن ينضم إليه قسم ءاخر.

أي أن الأقوال الكفريّة تُخرج من الإسلام من دون أن يقترن بها اعتقاد أو فعل، هذا ما اتفق عليه العلماء واجمعوا عليه فلا التفات إلى ما خالفَ ذلك كما شذّ سيد سابق فإن له كتابًا سماه (فقه السنّة) يقول فيه في كتاب الردّة: إن المسلم لا يعتبر خارجًا عن الإِسلام ولا يحكم عليه بالردّة إلا إذا انشرح صدره بالكفر واطمأن قلبه ودخل فيه بالفعل. ويكفي في الردِّ عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذيّ، وقد مَرَّ ذكر حديث الترمذيِّ ءانفًا وموضع الشاهد فيه قوله صلى الله عليه وسلم : “لا يرى بها بأسًا”، أي لأَنَّه يدل على أَنَّ من الكلام ما يُخْرج الإِنسانَ من الإِسلام من غير فرقٍ بين أن يكون منشرح البال أو أن يكون غير منشرح البال لذلك القول. ويجوز على قولِهِ أن يقول الرَّجل أيَّ قول من أقوال الكفر ويدافع عن نفسه بقوله: أنا ما كنتُ منشرح البال إِنَّما هو باللسان فَيُعْفَى من الاستتابة ثم ترتيب القتل عليه، فيكون ذلك هَدْمًا لبابٍ من أبواب الشرع وهو أحكام المرتدّين من قتلهم بعد الاستتابة إن لم يرجعوا، فإِنَّه يجب على الحاكم ذلك كما قتل أبو بكر امرأةً ارتدَّت، وكما قتل رجلٌ من أصحاب رسول الله أُمَّ ولدٍ له كانت تقع في رسول الله فيزجرها فلا تنزجر، فأُخبِر رسولُ الله بقتلها قال الرجلُ: أنا قتلتُها يا رسول الله فقال الرَّسول: “اشهدوا أَنَّ دَمَهَا هَدرٌ”. رواهما البيهقيّ، وروى الأول الدارقطنيّ، وروى الثاني أيضًا أبو داود، وكذلك انقطاع النكاح بين الزوجين، وانقطاع التوارث إلى غير ذلك. وليس في قول الله تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله} [سورة النحل] دليل على ما ادّعاه سيّد سابق لأنَّ هذا وَرَدَ في المُكرَه على كلمة الكفر فإِنَّه لا يكفر إن كان نطقُه بالكفر بدون انشراح صدر لذلك الكفر، وإِنَّما يكفر هذا المكره إن انشرح صَدرُهُ حالة النطق بالكفر لما قَالَهُ من الكفر، كما جاء عن رسول الله أنه قال لعمّار بن ياسر: “هل كنتَ شارحًا صدرك حين قلتَ ما قلتَ أم لا؟” فقال: لا. رواه الإمام ابن المنذر في كتابه الإِشراف. فحرَّف هذا الرَّجلُ كلام الله تعالى وقال ما لم يقله عالمٌ قط، والضمير في قوله تعالى: {ولكن من شرح} يعود إلى المكرَه الذي انشرح صدره حين النطق فهذا الذي يكفر، فهذا الذي يُشْترط فيه الانشراح أما غير المكره فليس محلَّ هذه الآية. وقد ذكر الفقهاء الحنفيُّون والشافعيُّون وغيرهم ما يشهد لعدم اشتراط انشراح الصدر لكلمة الكفر لغير المكرَه، فقد ذكروا أمثلةً لثبوت الكفر بالقول حين الغضب، من ذلك أن إنسانًا لو ضَرَبَ ابنَه أو غلامَه ـ أي عبده ـ ضربًا شَديدًا، فقال له رجلٌ: أَلَسْتَ مسلمًا؟ فقال: لا متعمدًا، كَفَرَ ذكره النووي في روضة الطالبين في كتاب الردّة، ومعنى قوله: متعمدًا أي بغير سبق لسان. وهذا مثالٌ من كثير من أمثلة تكفير مَن نطق بلفظٍ من ألفاظ الردَّة وهو غضبان غير منشرح البال لما يقوله حيث إنهم كَفَّروه لقوله وهو غاضب: لست مسلمًا.

قال المؤلّف: فمن الأولِ الشكُّ في الله أو في رسولِهِ أو القرءان أو اليوم الآخرِ أو الجنّةِ أو النارِ أو الثوابِ أو العقابِ أو نحو ذلك مما هو مُجمعٌ عليه، [أو اعتقادُ قِدَمِ العالم وأَزليّتِهِ بِجنسِهِ وتركيبِهِ أو بجنسِهِ فقط]، أو [نفيُ] صفةٍ من صفاتِ الله الواجبةِ له إجماعًا [ككونِهِ عالِمًا].
الشرح: يعني أن من طَرَأ له الشكّ في وجود الله كفر، وكذلك من شكّ في رسالة رسول من رُسل الله رسالته معلومة من الدين بالضرورة، أو في نزول القرءان على سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، أو شكّ في اليوم الآخر أو الجنّة أو النار أن هذا هل يكون أم لا، وليس المُراد أن مطلق التردّد هل الجنّة أو النّار موجودتان الآن كفر لأن ذلك ليس معلومًا من الدين بالضرورة، وأهل الحقّ على أنّ الجنّة مخلوقة وأن النار مخلوقة، وشذّت المعتزلة فقالت: إنهما الآن ليستا موجودتين ولكنهما ستوجدان فيما بعد، فلم يكفِّر العلماء من قال ذلك وإنما يفسِّقونهم، والمعتزلة الذين يكفَّرون يكفَّرون لغير ذلك من مقالاتهم. ويؤخذ من ذلك أن أصول الاعتقاد على قسمين:

1 _ قسم منها يكفر من شكّ فيه وهو ما كان معلومًا بين المسلمين علمائهم وجهّالهم علمًا ظاهرًا.

2 _ وقسم منها ليس كذلك كالحوض الذي يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنّة.

فالأوّل يكفر الشّاكّ فيه ومنكره، والثاني لا يكفر الشاك فيه ومنكره إلا أن يكون عنادًا.

ومن الكفر أيضًا اعتقاد قدم العالم وأزليته بجنسه وأفراده كما قالت الفلاسفة أو بجنسه فقط كما قال ابن تيمية، والله مع المسلمون على كفر الفريقين، نقل ذلك الزركشي في تشنيف المسامع كما تقدّم.

وكذلك يكفر من أنكر صفة من صفات الله تعالى الواجبة له إجماعًا ككونه عالِمًا وكونه حيًّا وكونه سميعًا بصيرًا ولا يُعذر بالجهل.

أمّا ما رواه يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي: أنَّ لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردّها ومن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه فقد كفر، وأمّا قبل قيام الحجّة فإنه يُعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرَّويّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {ليس كمثله شىء} [سورة الشورى]، فمراده بذلك أن صفات الله قسمان: قسم يدرك ثبوته لله بالعقل كالصفات الثلاث عشرة: القدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام والحياة والوجود والقِدم والوحدانية والمخالفة للحوادث والقيام بنفسه والبقاء. والقسم الثاني ما لا يدرك بالعقل والرويّة والفكر. فالقسم الأول يكفر جاحده، والقسم الثاني لا يكفر جاحده قبل العلم بالحجّة لأنه يتعلّق بالسمع بدليل قوله: “لا يدرك بالعقل والرويّة والفكر”.

وليس مُراد الشافعيّ بقوله: “يُعذر بالجهل” ما كان من تلك الصفات الثلاث عشرة، فإنه يدرك ثبوته لله بالعقل والسمع، فمن جهل شيئًا منها فنفى فلا عذر له فإنها شرط للأُلوهية، قال ابن الجوزي: “من نفى قدرة الله على كل شىء كافر بالاتفاق” أي بلا خلاف.

فإذا عرف هذا علم فساد قول بعض المدّعين للعلم إنّ الشافعيّ نفى الكفر عمّن جهل صفات الله على وجه يشمل الجهل بقدرة الله على كل شىء والعلم بكل شىء وسائر الصفات الثلاث عشرة فإن هذا تخليط وجهل فظيع، فلا يهولنك أيُّها الطالب للحقّ تمويه الجاهل المحرّف، الذي يزعم أن من جحد قدرة الله على كل شىء وعلمه بكل شىء لا يكفر بل يكون معذورًا إن كان جاهلًا، فنص الشافعيّ يردّ ما زعمه فإنّ كلام الشافعي يبيّن أن مراده الأسماء والصفات التي لا يستدل على ثبوتها لله بالعقل إلا بالنقل، فإنّ العقل لو لم يرد نصّ بذلك يدرك ثبوت القدرة الشاملة لله والعلم الشامل والإرادة الشاملة ووجوب السمع والبصر له على ما يليق به وهكذا بقية الصفات الثلاث عشرة. أمّا الوجه واليد والعين ونحوها مما ورد في النصوص إطلاقه على الله صفات لا جوارح فإن ذلك لا يدرك بالعقل ولنضرب لذلك مثالا: شخص سمع إضافة العين واليد إلى الله تعالى فأنكر لأنه لم يسمع بأن النص ورد بذلك فإنه لا يكفر بل يعلّم أنّ هذا مما ورد به النص فإن أنكر بعد علمه بورود النص في ذلك كفر، وكذلك من أنكر أنّ المؤمن من أسماء الله لأنه لم يعلم أن في القرءان تسمية الله بذلك فلا يكفر بل يُقال له هذا ورد شرعًا تسميتهُ به في قوله تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن} [سورة الحشر].

فهل يعتقد ذو فهم في الشافعيّ أنّه لا يُكَفِّرُ من نفى صفة من تلك الصفات الثلاث عشرة التي يدل العقل عليها، وقد كَفَّرَ حفصًا الفَرْدَ لأنه لا يثبت لله الكلام الذاتي الذي هو أحد معنيي القرءان ويطلق القول بمخلوقية القرءان مع ذلك، فقد قال الشافعي رضي الله عنه لحفص بعدما ناظره: “لقد كفرت بالله العظيم”، فكيف ينسب للشافعي بعد هذا أنّه لا يكفر من نفى قدرة الله أو علمه أو سمعه للمسموعات أو بصره للمُبصَرَات أو صفة الوحدانيّة أو صفة القِدم أو نحو ذلك وأنّه يقول إن كان جاهلًا يُعذر على وجه الإطلاق. وقد ردّ ابن الجوزي قول ابن قتيبة: “وقد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك”، يعني بذلك قصة الرجل الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: “كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثمّ ذُرُّوني في الريح فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا” حيث ظنّ ابن قتيبة أنّ هذا الرجل شكّ في قدرة الله عليه، قال ابن الجوزي: جحده صفة القدرة كفر اتفاقًا، وإنما قيل إن معنى قوله “لئن قدر الله عليّ” أي ضيق فهي كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} [سورة الطلاق] أي ضُيِّق، وأمّا قوله: “لَعَلّي أَضَلُّ الله ” فمعناه لعلي أفوته _ أي يعفيني من عذابه _ ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدّة جزعه وخوفه كما غلط أي سبق لسانه ذلك الآخر فقال: أنت عبدي وأنا ربّك، أو يكون قوله: “لئن قدّر علي” بتشديد الدال أي قدر علي العذاب ليعذبني.

قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: “وأظهر الأقوال أنّه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتّى ذهب بعقله” اهـ، وتتمة الحديث المذكور: “فلما مات فُعِل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: الله معي ما فيك منه، فَفَعَلَتْ فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: يا ربّ خَشْيَتُك، فغفر له” والحديث أخرجه البخاري وأخرجه ابن حبّان بلفظ: “توفي رجل كان نباشًا فقال لولده أحرقوني”.

فإذا عُرف هذا عُلم أنه لا يُعذر أحد في الجهل بقدرة الله ونحوها من صفاته مهما بلغ الجهل بصاحبه. وكن على ذُكرٍ واستحضار لِنَقلِ ابن الجوزي الإجماع؛ والشافعيّ يجلّ مقامه عن أن يخرج من الإجماع.

قال المؤلف: أو [نسبةُ ما يجب تنزيهُهُ عنهُ] إجماعًا كالجسمِ.
الشرح: يعني أن من نسب إلى الله الجسمِيّة واعتقد أنّه جسم أو قال ذلك كَفَر، والجسم هو كل شىء له حجم أي طول وعرض وعمق كبر أو صغر كالخردلة، وكذلك ما كان دون الخردلة كالهَباء وهو ما يُرى في ضوء الشمس النافذ من الكُوَّة الموجودة في البيت، فمن اعتقد أن الله جسم أو قال بلسانه: إنه جسم فقد ارتدَّ لأن الله يجب تنزيهه من ذلك، لأنه لو كان جسمًا صغيرًا كالهباء لكان له مثل، ولو كان جسمًا كبيرًا كالعرش لكان مِثلًا له فلم يصلح للألوهيّة، وكذلك ما بينهما.

قال المؤلف: [أو تحليلُ] محرَّمٍ بالإجماعِ معلوم مِنَ الدينِ بالضَّرورة مما لا يخفى عليه كالزِنى واللواطِ والقتلِ والسرقةِ والغصبِ.
الشرح: يعني أنّه يكفر من اعتقد حلّ محرّم بإجماع المسلمين معلوم ظاهر بَيْنَهُم بالضرورة أي من غير تفكير واستدلال فمن أحلّه كفر، هذا إن لم يكن الشخص معذورًا أمّا إن كان الشخص معذورًا كأن كان أسلم من قريب ولم يعلم أن المسلمين يحرّمون الزنى وقال بعدما أسلم إنّ الزنى ليس حرامًا مثلًا فلا نكفِّره بل نعلِّمه.

قال الحافظ أبو زرعة العراقيّ في نكته على التنبيه والمنهاج والحاوي: قول المنهاج أو أحلّ محرمًا بالإجماع وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه، والحاوي: وجحد مجمع، كذا أطلق الرافعي وقيّده النوويّ في الروضة بأن يعلم من دين الإِسلام ضرورة وإن لم يكن فيه نص في الأصح بخلاف ما لو لم يعرفه إلا الخواص، ولو كان فيه نص كاستحقاق بنتِ الابنِ السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدّة فإنه لا يكفر بجحده، ونازعه شيخنا الإِمام البلقيني في التمثيل بنكاح المعتدّة لشهرته.

وقال شيخنا (يعني البلقينيّ سراج الدين) أيضًا: ينبغي أن يقول بلا تأويل ليخرج البغاة والخوارج الذين يستحلّون دماء أهل العدل وأموالهم ويعتقدون تحريم دمائهم على أهل العدل، والذين أنكروا وجوب الزكاة عليهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأويل، فإنّ الصحابة رضي الله عنهم لم يكفّروهم، قال البارِزِيّ: ويشترط أن يكون ممن لا يجوز أن يخفى عليه ذلك الحكم فلو كان قريب العهد بالإِسلام فإنّه لا يكفر، وأجيب عن ذلك: بأن لفظ الجحد في عبارة الحاوي تخرجه فإنه في اللغةِ إنكار شىء سبق الاعتراف به. اهـ.

قال المؤلف: أو [تحريمُ] حلالٍ ظاهرٍ كذلكَ كالبيعِ والنكاحِ.
الشرح: يعني أنّ من حرّم أي جعل موجبًا للعذاب في الآخرة شيئًا هو حلال عند المسلمين معلوم حلُّه بينهم علمًا ظاهرًا يعرف ذلك العالِم والجاهل كالبيعِ والنكاح أي الزواج فإنه كافر، وليس المراد أن يمنع نفسه من شىء مع اعتقاد حلّه كقول الرجل لزوجته: أنتِ حرامٌ عليّ فإنه لا يكفر عندئذٍ.

قال المؤلف: أو [نفيُ] وجوبِ مجمع عليه كذلكَ كالصلواتِ الخمسِ أو سجدةٍ منها والزكاةِ والصومِ والحج والوضوءِ.
الشرح: يعني أنّ ممّا يخرج من الإِسلام نفي وجوب ما أجمع المسلمون على وجوبه بظهور ووضوحٍ يشترك في معرفته العالِم والجاهل كمنكر الصلوات الخمس، ومنكر سجدة منها، ومنكر الزكاة، ومنكر وجوب صوم رمضان، ومنكر وجوب الحج على المستطيع، ومنكر وجوب الغُسل من الجنابة، فهذا ردّة وكفر، أي بالنسبة لغير المتأوِّل وأمّا المتأوِّل فلا يكفر، كالذين أنكروا وجوب الزكاة عليهم في عهد أبي بكر لأنهم أخطأوا في تفسير قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم} [سورة التوبة]؛ وقتال أبي بكر لهم مع المرتدِّين ليس لأجل كفرهم بل لأنهم امتنعوا عن دفع حقّ ولجئوا للقتال وكانوا ذوي شوكة.

قال المؤلف: أو [إيجابُ] ما لم يجبْ إجماعًا كَذَلِكَ.
الشرح: يعني أنَّ مَن أوجب ما لم يجب بإجماع المسلمين وكان أمرًا ظاهرًا بين المسلمين أنّه غيرُ واجب فهو كافر.

قال المؤلف: أو [نَفْيُ] مشروعيةِ مجمعٍ عليهِ كَذَلكَ.
الشرح: يعني أنَّ مِنَ الكفرِ الاعتقادي النفي بالقلب مشروعيّة أمرٍ مجمعٍ عليه ممَّا عرف المسلمون أنّه مشروع في الدين بالضرورة أي معرفة ظاهرة يشترك فيها العالم والجاهل كرواتب الفرائض الخمس والوتر.

قال المؤلف: أو عَزَمَ على الكفرِ في المستقبلِ أو على فعلِ شىءٍ مما ذُكرَ أو تردَّد فيهِ.
الشرح: يعني أنَّ من عزمَ في قلبه على أن يكفر في المستقبل أو على فعلِ شىءٍ من هذه الأمور التي مرَّ ذكرها فإنه يكفر في الحال، كذلك من تردَّد هل يفعل ذلك أم لا فإنه يكفر في الحال كأن يقول: إن فعلتُ كذا فأنا بريء من الإِسلام بقصد التعليق فإنه يكفر في الحال لا إذا قصد أنّه بعيد من ذلك الشىء فإنه لا يكفر ولكنه لا يسلم من المعصية.

قال المؤلف: [لا خطورهُ في البالِ بدونِ إرادةٍ].
الشرح: أي لا من خَطَر له ذلك في باله خطورًا بِلا إرادة فإنه لا يكفر لأَنَّ هذا ليس ممَّا يستطيع الإِنسانُ مَنعَهُ والله لا يكلِّف العبدَ إِلا ما هو في وسعه، وهذا عامٌّ في كل شىء، فمن خطر له خاطرٌ ممَّا ينافي إثبات وجود الله أو الجنّة أو النّار وهو معتقدٌ الحقَّ اعتقادًا جازمًا فلا تأثير لهذا الخطور في قطع إيمانه بل يزداد ثوابًا بكراهيته لهذا الذي يخطرُ له، فالمُراد بالخاطر غير الشكّ والاعتقاد.

قال المؤلف: أو أنكرَ صحبةَ سيدِنا أبي بكرٍ رضي الله عنه.
الشرح: أن من أنكر صحبة سيِّدنا أبي بكرٍ بالقلب أي اعتقد أنَّ أبا بكرٍ ليس صاحبًا لرسول الله فقد كَفَرَ، أمَّا من أَنْكَرَ صحبة عمر أو صحبة عثمان أو صحبة عليّ فلا يُكَفَّر وذلك لأَنَّ الله ما نصَّ في القرءان على صحبة عمر أو عليّ أو عثمان، أمَّا أبو بكر فقد نصَّ الله على صحبته في القرءان فقال تعالى: {إذ يقول لصحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة] فقد أجمعَ المسلمونَ على أَنَّ المرادَ بالصاحبِ هُنا هو أبو بكر، فمنْ شكَّ في ذلك وفسَّر هذا الصاحب بغيره من الصحابة فقد كَفَرَ لأَنَّ ذلك يتضمَّن تخوينَ أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم وتضليلهم وفي ذلك هدمٌ للدين، والقرءان أثْنَى عليهم وذلك بقوله تعالى: {والسبقون الأولون من الهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [سورة التوبة]، وبقوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [سورة الفتح] الآية.

قال المؤلف: أو رسالةَ واحدٍ مِنَ الرُّسلِ المجمعِ على رسالتِهِ.
الشرح: أنَّ من أنكر رسالة واحد من الرُّسل الذين اتفق المسلمون على أنّه من رسل الله فهو مرتد كافر، والمراد بالرسالة هنا ما يعمّ النبوَّة، فمن أنكر نبوة واحد من الأَنبياء الذين أجمع المسلمون على أنِّه من الأَنبياء فقد ارتدَّ وكفر، وهنا تفصيل وهو أَنَّ الرُّسل الذين أجمع المسلمون على رسالتهم منهم من عَرَف جمهور المسلمين أنّهم رسل وهناك قسمٌ كثير لم يشتهر عندهم رسالة واحد منهم، فيُقال: إِنَّ من أنكر رسالة أو نبوّة من أجمع المسلمون عليه فقد كفر إلا إن كان لا يعلم ذلك لأنَّه لم يشتهر عنده فلا نكفِّره بل نعلِّمه.

وأمَّا من اخْتُلِف فيه هل هو نبيٌّ رسول، أم هو نَبيٌّ فقط، أم هو وليٌّ فقط، كالخَضِر عليه السلام فَمَنْ قال بواحد من ذلك فلا حَرَج عَلَيْه.

قال المؤلف: أو جحَدَ حَرْفًا مجمَعًا عليهِ مِنَ القرءانِ، أو زادَ حرفًا فيه مجمعًا على نفيهِ معتقدًا أنّه منهُ [عِنادًا].
الشرح: أَنَّ من أنكر حرفًا اتّفق المسلمون على أنّه من القرءان فقد ارتدَّ، وكذلك من زاد فيه حرفًا أجمع المسلمون على أنَّه ليس من القرءان وكان ذلك الحرف الذي زاده زيادته له عنادًا لا ظنًّا منه أنّه من القرءان فهذا أيضًا يحكم عليه بالردَّة، أمّا مَنْ زاد حرفًا في القراءة من أجل الصوت من غير أن يَعْتَقد أنّه قرءان فإِنَّه لا يكفر.

قال المؤلف: أو كذَّبَ رسولا أو نقَّصَهُ أو صغَّرَ اسمَهُ بقصدِ تحقيرِهِ.
الشرح: يعني أَنَّ مَنْ كذَّب نبيًّا من أنبياء الله فقد ارتدَّ، وكذلك الذي نقَّصَه أي نسَب إليه نقصًا أو صغّر اسْمَه بقصد التحقير وذلك كأن يسمِّي عيسى: عُيَيْسَى أو يقول عن موسى: مُوَيْسى على وجه التحقير، أَمَّا من قال ذلك على وجه إظهار المحبّة له فلا نكفِّره لكن يُقال له: حرامٌ أن تُصَغِّرَ اسم نبيّ من أنبياء الله .

قال المؤلف: أو جَوَّزَ نُبوّةَ أحدٍ بعدَ نبِيّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
الشرح: يعني أن من اعتقد أنّه يجوز أن يأتي نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه وسلم أي أن ينزل وحيٌ بالنبوّة على شخص لم يُنَبَّأ قبل محمّد كَفَرَ، وكذا لو شكَّ بأن قال: يجوز أن يكونَ فلانٌ نَزَلَت عليه النبوَّة. وقد ظهر جماعة يُقال لها: الأَحمدية والقاديانية ءامنوا برجل اسمه غلام أحمد كان بباكستان توفي منذ مائة سنة تقريبًا يعتقدون أنّه نبيٌّ مجدّد، وأحيانًا يقولون هذه نبوة ظليّة أي تحت ظلّ محمّد أي ليس مستقلًّا إِنَّما هو منتسبٌ إلى سيدنا محمّد، وكل هذا كفرٌ، لا يجوز أن يُنَبَّأَ شَخْصٌ بعد محمّد استقلالا ولا تجديدًا لنبوّة محمّد؛ ويموّهون على الناس لترويج دعوتهم هذه بقولهم إِنَّ معنى

{وخاتم النبين} [سورة الأحزاب] زينة النبيين، وينكرون أنَّ معناه ءاخر الأَنبياء، وتفسيرهم هذا فاسد لأَنَّ قولَهم إِنَّ محمدًا زينة النّبِيّين كما أنَّ الخاتَمَ زينةٌ ليد صاحبه ليس فيه مدْحٌ لسيِّدنا محمد، وهذا الوصف أنزله الله في القرءان تعظيمًا لسيدنا محمد ليس لخلاف ذلك؛ ثمّ إِنَّ الحديثَ النبويَّ الصحيح الذي رواه مسلمٌ وغيرُهُ يُبْطِلُ هذا التفسير ويهدمه فإِنَّه صلى الله عليه وسلم قال: “وَخُتِمَ بي النبيّون”، وهذا يزيد معنى {وخاتم النبين} وضوحًا أَنَّه بمعنى ءاخرهم أي بمعنى الآخرِ الذي لا نبيَّ بعده، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضيَ الله عنه عند السفر إلى تبوك: “أما ترضى أن تكون مِنّي بمنزلة هارون من موسى غير أَنَّه لا نبيّ بعدي” رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم : “ذَهَبت النبوّة وبقيت المبشِّرات” قيل: وما المبشِّرات يا رسول الله ؟ قال: “الرؤيا الصالحة” رواه البخاري. وقال بعض هؤلاء: إن معنى قول النبيّ: “لا نبيّ بعدي” لا نبي معي، فلا ينفي نبوّة من يأتي بعده كغلام أحمد، وهذا يُرَد بما مضى من الأدلّة، وبقوله صلى الله عليه وسلم : “لو كان بعدي نبيّ لكان عمر” رواه الترمذي، وبالحديث الذي فيه إخبار النبيّ أنّه سيأتي بعده كذّابون كلّ منهم يزعم أنّه رسول الله ، فغلام أحمد داخل في هؤلاء لأنَّ الرسول ذكر أنّهم ثلاثون ولم يدّعِ في حياة رسول الله النبوة إلا الأسود العنسي ومسيلمة الكذّاب.

قال المؤلف: والقسمُ الثاني الأفعالُ: كَسُجودٍ لصنمٍ أو شمسٍ أو مخلوقٍ ءاخرَ [على وجهِ العبادةِ لهُ].
الشرح: أن القسم الثاني من الردّةِ الردَّةُ الفعلية، وذلك كسجود لصنم وهو ما اتخِذَ ليُعْبَد من دون الله إن كان من حديد أو جوهر أو خشب أو حجر أو غير ذلك، فمن سجد لصنم اعتقادًا أو بغير اعتقاد فقد كفر، كذلك الذي يسجد للشمس، أو يسجد لأَيّ مخلوقٍ ءاخر لعبادته؛ أَمَّا من يسجد لملِك أو نحوه على وجه التحيّة لا على وجه العبادة له فلا يكفر لكنه حرام في شرع نبيّنا محمد على الإطلاق، وكان جائزًا في شرائع من قبله من الأنبياء السجود للإِنسان على وجه التعظيم، فقد قال كثير من المفسِّرين: إِنَّ سجود إخوة يوسف وأبويه ليوسف كان سجودًا بوضع الجبهة على الأرض لأنَّ ذلك كان جائزًا في شرع يعقوب، وكذلك سجود الملائكة لآدم على أحد التفسيرين كان هذا السجود المعهود؛ ودليل تحريمه في شرع محمّد قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جَبَل رضي الله عنه حين قَدِم من الشام فسجد له قال: “ما هذا؟” قال: يا رسول الله رأيتُ أهلَ الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم وأنتَ أولى بذلك قال: “لا تفعل، لو كنتُ ءامُرُ أحدًا أن يسجد لأَحد لأَمرتُ المرأةَ أن تسجد لزوجها”، هذا الحديثُ رواه ابنُ حِبَّان وابن ماجه وغيرهما. وهذا التفصيل في السجود لغير الله هو في سجود إنسان لإنسان أمّا في سجود الشخص للصنم فإنه لا تفصيل، فمن رأيناه يسجد لصنم كفَّرْنَاه ولا نسأله هل نويت به عبادته أم نويت غير ذلك؟.

هذا وإني لأعجب من هؤلاء الذين يكفّرون المسلمين لمجرد التمسّح بقبر وليّ أو قولهم: يا رسول الله المدد، فإذا كان الرسول لم يكفِّر معاذًا حين سجد له والسجود من أعظم مظاهر التعظيم فكيف يكون ذلك كفرًا عندهم، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وفي شرح الرّملي مع المتن: (كإِلقاء مصحف أو نحوه ممَّا فيه شىء من القرءان أو اسم معظّم أو من الحديث). قال الروياني: أو من عِلْمٍ شرعي بقاذورة أو قذر طاهر كمخاط أو بزاق أو مني لأنَّ فيه استخفافًا بالدين، وقضية إتيانه بالكاف في الإِلقاء أن الإِلقاء ليس بشرط وأن مماسته بشىء من ذلك القذر كفر أيضًا، وفي هذا الإِطلاق وقفة فلو قيل تعتبر قرينة دالّة على الاستهزاء لم يبعد. ثم ذكر الشيخ علي الشَّبرامَلِّسي في حاشيته عدم التكفير لمن بصق على لوح فيه قرءان لِيَمْحُوَهُ نظرًا إلى أنّه ليس فيه قصد استخفاف، وذلك لأنَّ هناك قرينة ظاهرة على عدم قصد الاستخفاف، وذلك لأنَّ المعتاد في كثير من البلدان في الكُتَّاب أن متعلّمي القرءان يكتبون درسًا منه في اللوح ثم يحفظونه ثم يمحون هذا ويكتبون غيره بخرقة يبصقون بها بقصد أن يكتبوا درسًا جديدًا من القرءان، وهذا بعيد من الاستخفاف.

قال المؤلف: والقسمُ الثالثُ الأقوالُ: وهيَ كثيرةٌ جِدًّا لا تنحصرُ منها: أن يقولَ لمسلمٍ يا كافرُ أو يا يهوديُّ أو [يا] نصرانيُّ أو يا عديمَ الدينِ مريدًا بذلك أَنَّ الّذي عليه المخاطَبُ مِنَ الدين كفرٌ أو يهوديةٌ أو نصرانيةٌ أو ليسَ بدِينٍ [لا على قصدِ التشبيهِ].
الشرح: يعني أن الأَلفاظ التي يكفر مَنْ قالها لو لم يكن معتقدًا معاني تلك الألفاظ كثيرة كقول الشخص لمسلم: يا كافر، أو يا نصرانيُّ، أو يا يهوديُّ، أو يا عديمَ الدينِ مريدًا بذلك أنّه ليس على دين الإِسلام، فذلك ردةٌ تُخْرج قائِلَهَا من الدين، وأَمَّا من قال هذه الكلمات الأَربع متأوّلا أي أنك تشبه الكافرَ في خَسَاسة أعمالك أو أنك تشبه اليهود أو النصارى لسوء عملك أو أنّه كلا دين له أي أنّه ليس عاملًا بالدِّين كما ينبغي لأنَّ المسلم الكامل هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده فلا يكفر لكنَّ هذا حرامٌ يَفْسُقُ قائلُهُ.

قال المؤلف: وكالسخريَّةِ باثسمٍ من أسمائِهِ تعالى أو وعدِهِ أو وعيدِهِ ممَّن لا يخفى عليهِ نسبةُ ذلكَ إِليهِ سبحانَهُ.
الشرح: يعني أَنَّ مَن سَخِرَ باثسمٍ من أسماء الله أي استهزأ، أو سَخِرَ بوعد الله تعالى للمؤمنين بالجنّة وما أعدَّ فيها، أو سَخِرَ بوعيد الله للكافرين والعصاة بعذاب الآخرة، وكان ذلك الوعد أو الوعيد الذي سَخِرَ به شيئًا ليس خافيًا على الّذي يسخَر بل هو عالِم بوروده في دين الإِسلام فقد كَفَر، وذلك كقول بعض السفهاء عند ذكر جهنَّم: نتدفَّأُ بها في ذلك اليوم، لأَنَّ هذا يتضمَّن تكذيب الله تعالى فيما أخبر به من شِدَّة نار جهنّم، وأَمَّا مَن أنكر أو سَخِرَ بنوعٍ من الوعيد يجهله ممَّا هو غير ظاهر بحيث يشترك في معرفته العالِمُ والجاهل فلا نكفِّره، كأن أنكر وجود عقارب في جهنَّم؛ وكذلك لا يكفر من كان قريب عهدٍ بإسلام فأنكر جهنّم أي ما كان يسمع بأنَّ المسلمين يعتقدون بوجود جهنّم دينًا لهم، أمَّا الذي كان يسمع بأنَّ المسلمين يعتقدون بوجود جهنم وأنّها نارٌ عظيمَةٌ أعدَّها الله ومع ذلك أنكرها فهذا يكفر.

قال المؤلف: وكأنْ يقولَ لو أمرني الله بكذا لم أفعلْهُ أوْ لو صارتِ القِبْلةُ في جهةِ كذا ما صلّيتُ إليها، أو لوْ أعطاني الله الجنَّةَ ما دخلتُها مستخفًّا أو مُظْهِرًا للعناد في الكلِّ.
الشرح: يعني أنَّ قائلَ هذه الأَلفاظ يكفر إن قالها على وجه الاستخفاف بأمر الله الذي أمر به عبادَه أو على وجه الاستخفاف بالقِبلة أو على وجه الاستخفاف بالجنة أو على وجه العِناد.

قال المؤلف: وكأنْ يقولَ لو ءاخذني الله بتركِ الصلاةِ معَ ما أنا فيهِ مِنَ المرضِ ظَلَمَنِي.
الشرح: أي لو أنَّ شخصًا مريضًا ضَجِرَ من مرضه فقيل له: صلِّ لا تترك الصلاة فإِنَّها فرضٌ عليك، فقال: لو ءاخذني الله على ترك الصلاة وأنا على هذه الحال لكانَ ظالمًا كفر، لأَنَّ في ذلك استخفافًا بالله تعالى.

قال المؤلف: أو قال لفعلٍ حدثَ هذا بغيرِ تقديرِ الله ، أو لو شهدَ عندي الأنبياءُ أو الملائكةُ أو جميعُ المسلمينَ بكذا ما قَبلتُهم، أو قالَ لا أفعلُ كَذا وإنْ كانَ سُنّةً بقصدِ الاستهزاءِ، أو لو كانَ فلانٌ نبيًّا ما ءامنتُ بهِ.
الشرح: يعني أنّه لو قِيل لشخص: حدثَ هذا بتقدير الله ، كل شىء بتقدير الله ، قال: هذا الفعل حدث بغير تقدير الله أنا فعلته ولم يقدِّره الله تعالى فقد كَفَر، وهذا عامٌّ للفعل الذي هو خيرٌ والّذي هو شرٌّ لأنَّ كلَّ ما يعمله العبد بتقدير الله تعالى، وأما تقدير الله له ليس شرًّا إِنَّما الشرُّ فعلُ العبد لِمَا نهاه الله عنه، فالعبدُ يُلامُ وأَمَّا الله تعالى فلا يُلام ولا يُعْتَرَضُ عليه لتقديره لذلك الفعل.

وكذلك من قال: لو شهد عندي الأنبياء أو الملائكة أو جميع المسلمين بكذا ما قبلتهم، هو كافرٌ مرتدٌّ بلا تفصيل، وكذلك من قال: لا أفعل كذا وإن كان سُنَّةً بقصد الاستخفاف بسُنَّة رسول الله ، وأمَّا من لم يقصد الاستخفاف بالسُّنّة بل يقصد أنّه لا يفعل لأجل قول شخص له: افعل كذا أي أنّه لا ينفِّذ أمر هذا الشخص فلا يكفر، كما لو قيل لشخصٍ: لِمَ تترك رواتب الفرائض ولا تصلِّيها وتقتصر على الفرائض؟ قال: لا أصلِّيها وإن كانت سُنّة، ولم يقصد بذلك الاستخفاف بها فلا يكفر.

قال المؤلف: أو أعطاهُ عالِمٌ فَتوى فقالَ: أَيشٍ هذا الشرعُ مريدًا الاستخفافَ [بحكمِ الشرعِ].
الشرح: يعني أَنَّ من قال هذه الكلمة بقصد الاستخفاف بحكم الشرع كفر، أَمَّا مَنْ لم يقصد الاستخفافَ بحكم الشرع إِنَّما قصد الإِنكار على هذا المفتي الذي أفتى فتوى باطلة لأنه أراد أن يَنْسِبَهُ إلى أنَّه غير موافقٍ لشرع الله في فتواه فقال هذه الكلمة بقصد الاستخفاف بكلام هذا المفتي كأنَّه يقول: أيش هذا الذي تزعمه شرعًا وليس بشرعٍ فلا يكفر؛ وباطن كلامه أَنَّ هذا ليس شرعَ الله إِنَّما رأيك يا أيُّها المفتي.

قال المؤلف: أو قالَ لعنةُ الله على كلِّ عالمٍ مريدًا الاستغراقَ الشاملَ.
الشرح: أما من لم يرد الاستغراق الشامل لجميع العلماء مع وجود قرينة تدل على التخصيص بل أراد لعن علماء زمانه فإنه لا يكفر، وإن كان كلامه لا يخلو من المعصية.

قال المؤلف: أو قالَ أنا برىءٌ من الله أو من الملائكةِ أو من النبيِّ أو من الشريعةِ أو من الإِسلامِ.
الشرح: يعني أن قائل هذه الكلمات يكفر ولو كان في حال الغضب لأن الغضب ليس عذرًا كما تقدّم.

قال المؤلف: أو قالَ لا أعرفُ الحكمَ مستهزئًا بحكمِ الله .
الشرح: يعني أَنَّ من قال: لا أعرف الحكم بعدما يحكم عليه قاضٍ شرعي مثلًا بحكم شرعيّ وكان قصده الاستخفاف بالشرع وأن هذا الحكم لا يعتبره فإنه كافر مرتدٌّ.

قال المؤلف: أو قالَ وقدْ ملأَ وعاءً: {وكأساً دهاقاً} [سورة النبإ] أو أفرغَ شرابًا فقال: {فكانت سراباً} [سورة النبإ] أوْ عِنْدَ وزنٍ أو كيلٍ {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [سورة المطففين] أو عندَ رؤيةِ جمعٍ {وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} [سورة الكهف] بقصدِ الاستخفافِ في الكلِّ [بمعنى هذه الآيات]، وكذا كلُّ موضعٍ استعملَ فيه القرءانُ بذلك القصدِ فإن كان بغيرِ ذلك القصدِ فلا يكفرُ لكنْ قَالَ الشيخُ أحمدُ بن حجرٍ: لا تبعُدُ حرمتُهُ.
الشرح: يعني أنّ من أورد هذه الكلمات القرءانية في هذه المواضع كأن كان يملأ وعاءً فقال: {وكأساً دهاقاً} بقصد الاستخفاف بما وعد الله به المؤمنين في الجنّة من الشراب الهنيء فقد كفر، ومعنى {وكأساً دهاقاً} أي كأسًا ممتلئة بالشراب.

يقول ابن حجر: إيرادُ الآيات في هذه المواضع لو لم يكن على وجه الاستخفاف لا يبعُد أن نحكم عليه بالحرمة لأنه إساءة أدب مع القرءان.

قال المؤلف: وكذا يكفرُ من شتمَ نبيًّا أو مَلَكًا أو قال: أكونُ قوّادًا إن صلّيتُ أو ما أصبتُ خيرًا منذ صلّيتُ أو الصلاةُ لا تصلحُ لي بقصدِ الاستهزاء.
الشرح: يعني أَنَّ قائل هذه الكلمات يخرج من الإِسلام ولا فرق في سبّ الملَك بين أن يكون ذلك المَلَك جبريل أو عزرائيل أو غيرهما.

وأمّا الذي يقول: أكون قوّادًا إن صلّيتُ فإنّه استهزأ بالصلاة واستخفّ بها لذلك كفر، وكذلك الذي يقول ما أصبتُ خيرًا منذ صلّيتُ ومثل ذلك قول بعض العوامّ: صم وصلّ تركبك القلّة.

وكذلك الذي يقول: الصّلاة لا تصلح لي بقصد الاستهزاء؛ أمَّا لو قالت امرأةٌ حائضٌ: الصلاة لا تصلح لي، وقصدها أنّه لا تجوز لها الصلاة في أيّام الحيض فإِنَّ ذلك ليس رِدَّةً، وكذلك لو قال ذلك إنسانٌ مُبْتَلى بسلس البول جاهلٌ لا يعرفُ أحكام السّلس، يظن أنّه لا يصلِّي في حكم الشرع حتى يذهب عنه السلس فلا نُكَفِّره.

قال المؤلف: أو قالَ لمسلمٍ: أنا عدُوُّكَ وعدوُّ نبِيّكَ، أو لشريفٍ أنا عدوُّك وعدوُّ جَدِّكَ مريدًا النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو يقولَ شيئًا مِنْ نحوِ هَذِهِ الألفاظِ البشعةِ الشنيعةِ.
الشرح: أن من ألفاظ الكفر المثبتة للردّة أن يقول شخصٌ لمسلم: أنا عدوك وعدو نبيّك، والاستخفاف في هذا ظاهر فلذلك يُكَفَّرُ قائلُهُ، وكذلك يكفر الذي قال لشريف أي لإِنسان حسنيٍّ أو حُسينيّ أي المنسوب إلى الحسن أو الحسين اللذَيْن هما سِبْطا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ابنا بنته فاطمة: أنا عدوّك وعدو جدك، هذا إذا أراد النبيَّ بقوله: جدّك، عندئذٍ يكون كفرًا، أمَّا إذا أراد جدًّا له أدنى ولم يُرد النَّبيّ فلا نكفِّره. وكذلك كُلّ لفظ يدلّ على الاستخفاف بالنَّبيّ أو إلحاق نقصٍ به عليه الصلاة والسلام أو بالله كالألفاظ التي تدلّ على تغيّر مشيئة الله الأزليّة بأن يعتقد أنّه شاء في الأزل حدوث شىءٍ ثم فيما بعد غيّر تلك المشيئة، أو يعتقد بأنَّ الله كان عَلِم أنَّ هذا الأمرَ كذا ثم علمه على خلاف ذلك فهذا كله كفرٌ. ومن الألفاظ الكفريّة قول بعضهم: كان الله يريد أن يخلق فلانة ذكرًا ثم خلقها أُنثى وعكسه، فإِنَّ في ذلك نسبة الجهل إلى الله ونسبة تغيّر المشيئة الأزليّة، والله لا يجوز عليه التغيّر في ذاته أو في صفة من صفاته لأنَّ التغيّر علامة الحدوث والحدوث ينافي الألوهيّة، وما يوهم ظاهره من النُّصوص خلاف ذلك هو متأوَّلٌ لا يُرَاد به ذلك الظاهر، وذلك كقوله تعالى: {الئن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً} [سورة الأنفال] فليس مراد الله به أنَّه لم يكن يعلم في الأَزل أنه سيلحقهم ضَعف إِنَّما حدثَ له بعد ذلك علم ذلك، لأن هذا فيه نسبة الجهل إلى الله إِنَّما قوله: {وعلم أن فيكم ضعفاً} أي لأنه علم بعلمه الأزلي أنَّ فيكم ضعفًا؛ وليس قوله: {وعلم أن فيكم ضعفاً} مرتبطًا بالآن الذي هو الوقت الحاضر. فمعنى الآية أنه نُسِخَ ما كان واجبًا عليهم من مقاومة واحد من المسلمين لأضعافٍ كثيرة من الكفّار بإيجابِ مقاومة واحد اثنين من الكفّار رحمة بهم للضَّعْف الذي فيهم. وهكذا كل ءايةٍ ظاهرها يوهم حدوث صفة لله تعالى لم تكن في الأَزل ليس المُراد بها ظاهرها.

قال المؤلف: وقدْ عدَّ [كثيرٌ مِنَ الفقهاءِ كالفقيهِ الحنفيِّ بدرِ الرشيد]، والقاضي عياضٍ المالكيِّ رحمهما الله أشياءَ كثيرةً فَيَنْبغِي الاطلاعُ عليها فإِنَّ مَنْ لمْ يعرفِ الشرَّ يقعُ فِيهِ.
الشرح: أن بعض الفقهاء من شافعيين ومالكية وغيرهم ذكروا كثيرًا مما هو ردّة وأكثرهم تعدادًا الحنفيّة. أمّا بدرُ الرشيدِ فهو فقيه حنفي من القرن الثامن الهجري ألّف رسالة سمّاها رسالة في ألفاظِ الكفر، وأما القاضي عياض فهو مالكيّ توفي في القرن السادس.

قال المؤلف: [والقاعدةُ] أنَّ كلَّ عقدٍ أو فعلٍ أو قولٍ يدلّ على استخفافٍ بالله أو كتبِهِ أو رُسُلِهِ أو ملائكتِهِ أو شعائرِهِ أو معالِمِ دِينِهِ أو أحكامِهِ أو وعدِهِ أو وعيدِهِ كفرٌ، فَليحذرِ الإِنسانُ من ذَلِكَ جهدَهُ [عَلى أيِّ حالٍ].
الشرح: يعني أنَّ ما كان دالا على الاستخفاف والاستهزاء هو كفرٌ، أمّا ما كان دالا على الاستهانة التي هي دون الاستخفاف أي ما كان فيه إخلال بالتعظيم والأدب فإنّه حرام. هذا المذكور هنا من التفريق بين الاستخفاف والاستهانة لا يتمشّى مع تفسير صاحب القاموس للاستهانة وكذلك شارحه بأنّها الاستخفاف فهما مترادفان على قولهما، لكنه يتمشّى مع قول بعض كالنووي فليُعلم ذلك.

قال الفقهاء: يُستثنى من الكفر القولي:

* حالة سبق اللِّسان أي أن يتكلّم الشخص بشىء من ذلك من غير إرادة بل جرى على لسانه ولم يقصد قوله بالمرّة.

* وحالة غيبوبة العقل أي عدم صحو العقل.

* وحالة الإكراه فمن نطق بالكفر بلسانه مكرهًا بالقتل ونحوه وقلبه مطمئن بالإِيمان فلا يكفر.

تنبيه: ينبغي أن يُضاف إلى قولهم: مستثنى من الحكم بالتكفير على من نطق بكلمة الردّة حالة الإكراه، وحالة سبق اللسان، وحالة غيبوبة العقل، كلمات وهي:

تستثنى حالةُ الحكاية لكفرِ الغير فلا يكفر الحاكي كفر غيره، وحالة كون الشخص متأوّلا باجتهاده في فهم الشرع فإنّه لا يكفر المتأوّل كتأوّل الذين منعوا الزكاة في عهد أبي بكر بأنّ الزكاة وجبت في عهد الرّسول لأن صلاته كانت عليهم سَكَنًا لهم وطُهْرَةً وأنّ ذلك انقطع بموته، فإنَّ الصحابة لم يكفّروهم لذلك إنما كفّروا الآخرين الذي ارتدُّوا عن الإِسلام لطاعتهم لمسيلمة الكذّاب الذي ادّعى الرسالة، فمقاتلتهم لهؤلاء الذين تأوّلوا منع الزكاة على هذا الوجه كان لأخذ الحقّ الواجب عليهم في أموالهم، وذلك كقتال البغاة فإنهم لا يقاتلون لكفرهم بل يقاتلون لردّهم إلى طاعة الخليفة كالذين قاتلهم سيّدنا علي في الوقائع الثلاث: وقعة الجمل ووقعة صفِّين ووقعة النهروان، على أنّ من الخوارج صنفًا هم كفّار حقيقة فأولئك لهم حكمهم الخاص.

ومستندنا في هذا أي في استثناء مسئلة الحكاية قول الله تعالى: { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} [سورة التوبة] وقوله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} [سورة المائدة].

ثم الحكاية المانِعة لكفر حاكي الكفر إما أن تكون في أوّل الكلمة التي يحكيها عمّن كفر أو بعد ذكره الكلمة عقبها وقد كان ناويًا أن يأتي بأداة الحكاية قبل أن يقول كلمة الكفر، فلو قال: المسيح ابن الله قول النصارى، أو قالته النصارى، فهي حكاية مانعة الكفر عن الحاكي.

قال الحافظ أبو زرعة العراقي في نكته: “وقال شيخنا البلقيني: ينبغي أن يُقال بلا تأويل ليخرج البغاة والخوارج الذين يستحلّون دماء أهل العدل وأموالهم ويعتقدون تحريم دمائهم على أهل العدل، والذين أنكروا وجوب الزكاة عليهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأويل فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكفّروهمذ وهذا شاهد من منقول المذهب لمسئلة التأويل بالاجتهاد. ومما يشهد من المنقول في مسئلة الاجتهاد بالتأويل وحكاية الكفر قول شمس الدين الرملي في شرحه على منهاج الطالبين في أوائل كتاب الردّة في شرح قول النووي: “الردّة قطع الإِسلام بنية أو قول كفر” ما نصّه: “فلا أثر لسبق لسان، أو إكراه، والله تهاد، وحكاية كفر”. ا.هـ.

وقول المحشّي نور الدين علي الشَّبرامَلِّسِيِّ المتوفى سنة ألف وسبع وثمانين عند قول الرملي: “واجتهاد” ما نصّه: “أي لا مطلقًا كما هو ظاهر لما سيأتي من نحو كفر القائلين بقدم العالم مع أنه بالاجتهاد والاستدلال. ا.هـ.

وقال المحشي الآخر على الرملي أحمد بن عبد الرزّاق المعروف بالمغربي الرشيدي المتوفى سنة ألف وست وتسعين: قوله: “واجتهاد” أي فيما لم يقم الدليل القاطع على خلافه بدليل كفر نحو القائلين بقِدم العالَم مع أنّه بالاجتهاد. ا.هـ.

ومن هنا يعلم أنه ليس كل متأوِّل يمنع عنه تأويله التكفير، فليجعل طالب العلم قول الرشيدي المذكور فيما لم يقم دليل قاطع على ذُكرٍ لأنَّ التأوّل مع قيام الدليل القاطع لا يمنع التكفير عن صاحبه. وقولنا في الخوارج باستثناء بعضهم من الذين لم يُكفّروا لثبوت ما يقتضي التكفير في بعضهم كما يؤيّده قول بعض الصحابة الذين رووا أحاديث الخوارج.

وأمّا ما يُروى عن سيِّدنا عليّ من أنّه قال: “إخواننا بغوا علينا” فليس فيه حجة للحكم على جميعهم بالإسلام لأنه لم يثبت إسنادًا عن عليّ، وقد قطع الحافظ المجتهد ابن جرير الطبري بتكفيرهم وغيره، وحُمل ذلك على اختلاف أحوال الخوارج بأن منهم من وصل إلى حدّ الكفر ومنهم من لم يصل.

وهذه المسئلة بعضهم عبّر عنها بالاجتهاد وبعضهم عبّر عنها بالتأويل، فممّن عَبّر بالتأويل الحافظ الفقيه سراج الدين البلقيني الذي قال فيه صاحب القاموس: “صديقنا علّامة الدنيا” وعبّر بعض شُرّاح منهاج الطالبين بالاجتهاد وكلتا العبارتين لا بدّ لهما من قيد ملحوظ، فلا يظن ظانٌّ أن ذلك مطلق لأن الإطلاق في ذلك انحلال ومروق من الدين.

ألا ترى أن كثيرًا من المنتسبين إلى الإِسلام والمشتغلين بالفلسفة مرقوا من الدين باعتقادهم القول بأزليّة العالَم اجتهادًا منهم ومع ذلك أجمع المسلمون على تكفيرهم كما ذكر ذلك المحدِّث الفقيه بدر الدين الزركشي في شرح جمع الجوامع قال بعد أن ذكر الفريقين الفريق القائل بأزليّة العالَم بمادته وصورته والفريق القائل بأزليّة العالَم بمادته أي بجنسه فقط: “اتّفق المسلمون على تضليلهم وتكفيرهم”. وكذلك المرجئة القائلون بأنّه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر حسنة إنما قالوا ذلك الله تهادًا وتأويلاً لبعض النصوص على غير وجهها فلم يعذروا، وكذلك ضلّ فِرَقٌ غيرُهم وهم منتسبون إلى الإِسلام كان زيغهم بطريق الاجتهاد بالتأويل، نسأل الله الثبات على الحقّ.

أحكام المرتد
قال المؤلف: فصلٌ: يجب على مَنْ وقعتْ منهُ ردةٌ العَوْدُ فورًا إلى الإِسلام بالنطقِ بالشهادتينِ والإِقلاعِ عمَّا وقعتْ بِهِ الردَّةُ، ويجبُ عليه الندمُ على ما صَدَرَ منهُ والعزمُ على أَنْ لا يعودَ لمثلِهِ.
الشرح: أنَّ الحكم الشرعيَّ لمن وقع في ردَّة أنّه يجب عليه الرجوعُ إلى الإِسلام بالنطق بالشهادتين مع ترك ما هو سبب الردَّة أي الأَمر الذي حصلت به الردّة، ويجب عليه الندم على ما حصل منه من الردَّة، والعزم على أن لا يعود لمثل ذلك. وليس العزم شرطًا لصحة الدخول في الإِسلام بل إن تشهَّد بنية الخلاص من الكفر صحّ منه، ويجب عليه بعد ذلك العزم على أن لا يعود لمثله من أجل التوبة، والندم. وأمّا معاصيه التي ارتكبها قبل ذلك فتحتاج إلى توبة أيضًا.

قال المؤلف: [فإِنْ لَمْ يرجعْ عَنْ كفرِهِ بالشهادةِ] وجبتِ استتابتُهُ ولا يُقْبَلُ منهُ إِلا الإِسلامُ أو القتلُ [به ينفِّذه عليه الخليفة بعد أنْ يعرضَ عليه الرجوعَ إلى الإِسلامِ ويعتمدُ الخليفةُ في ذلكَ على شهادةِ شاهدينِ عدلينِ أو على اعترافِهِ وذلك لحديث البخاريّ: رمن بدّل دينه فاقتلوهذ].
الشرح: مَن حَصَلَت منه الردَّةُ ولم يُتْبِعْها بالتوبة أي لم يرجع عن ردَّته وجبت استتابته أي أنْ يُطْلَبَ منه الرجوع إلى الإِسلام، فيجب على الإِمام أي الخليفة أو مَنْ يقوم مقامه أن يطلب منه الرجوع إلى الإِسلام، ثم لا يقبل منه الإِمام إلا الإِسلام، فإِنْ أسْلَمَ تركه من القتل وإِلا قتله سواء كان ذكرًا أو أنثى وذلك لقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم : “مَنْ بَدَّلَ دينه فاقتلوه” رواه البخاري، أي من خرج من الإِسلام إلى غيره فاقتلوه إن لم يرجع، ومَنْ قتله دون الاستتابة فعليه ذنب لكنه لا يُقْتَصُّ منه أي لا يُقْتَلُ بهذا المرتدّ. وقد حارب أبو بكر رضي الله عنه المرتدّين الذين ارتدُّوا بعد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، وثبتَ أنَّه قتل امرأةً ارتدَّت.

فائدة أخرى: قال الحافظ أبو زرعة في نكته على الكتب الثلاثة: التنبيه والحاوي والمنهاج ناقلًا عن التنبيه: فإن أقام (يعني المرتدّ) على الردّة وجب قتله، مقتضاه أنّه لو قال: لي شبهة فأزيلوها لم يلتفت لكلامه وهو الأصح عند الغزالي وعليه مشى الحاوي وقال: بلا مناظرة بل يسلم وتحلّ شبهته، وحكى الرُوياني عن النص مناظرته كذا في الرافعي وعكسه في الروضة وجعل الأصح عند الغزالي المناظرة والمحكي عن النص عدمها واختار السبكي المناظرة ما لم يظهر منه التسويف والمماطلة. ثم نقل عن التنبيه فإن كان (يعني المرتدّ) مقِرًّا لم يقتله إلا الإِمام وكذا نائبه في ذلك، نعم إن قاتل في مَنَعَة قال الماورديّ: جاز أن يقتله كل من قدر عليه كالحربي وإن قتله غيره بغير إذنه عزّر، ومحله ما إذا لم يكافئه فإن قتله مثلُه (أي في الردّة) فالمذهب وجوب القصاص. قال: وإن قتله إنسان ثم قامت البيّنة أنَّه قد كان رجع إلى الإِسلام ففيه قولان:

أحدهما أنّه يجب عليه القَوَد.

والثاني لا تجب عليه إلا الدِّيَة، والأظهر الأوّل.

ثم قال: قوله (يعني التنبيه): وإن كان عبدًا فقد قيل: يجوز للسيد قتله، وقيل: لا يجوز، والأصح الأول.

ثم قال: قول المنهاج “فإن أسلم صحّ وترك” كان ينبغي أن يقول: فإن أسلم عزّر، نصّ عليه الشافعيّ رحمه الله وقال: إلا أني أرى إذا فعل هذا مرّة بعد أخرى أن يعزّر ومقتضاه أنّه لا يعزّر بفعله مرة واحدة وقد حكى ابن يونس الإجماع عليه فلا يغتر بمن يفعله من القضاة.

ثم قال: قول الحاوي في قاذف النبيّ “فلا شىء إن أسلم” قاله أبو إسحاق ورجحه في الوجيز وأقرّه في التعليقة قال: حتى لو كان القذف بما يوجب الحدّ لا يجب، قال الفارسيّ: يقتل حدًّا، قال الصيدلاني: يُجلد ثمانين، ولو عرَّض بالقذف فهو كالصريح قاله الإِمام وغيره. ا.هـ.

قال المؤلف: ويبطلُ بها صومُهُ وتيمُّمُهُ ونكاحُهُ قبلَ الدخولِ وكذا بعدَهُ إن لمْ يعد إلى الإِسلامِ في العدةِ ولا يصحُّ عقدُ نكاحِهِ على مسلمةٍ [وغيرها]، وتحرمُ ذبيحتُهُ ولا يرثُ ولا يُورَثُ ولا يُصلَّى عليه ولا يُغسَّلُ ولا يُكَفَّنُ ولا يُدفَنُ [في مقابِرِ المسلمينَ]، ومالُهُ فَىءٌ.
الشرح: هذه المذكورات بعض ما يتعلَّق بالمرتد من الأحكام.

فمن ذلك أنَّ نكاحَهُ الذي كان حاصلًا قبل الدخول بها بَطَلَ بمجرّد الردَّة من أحد الزوجين، فالردَّة قبل الدخول تقطع النكاح ولا تَحلّ له ولو عاد إلى الإِسلام أو عادت هي إلى الإِسلام إِلا بنكاح جديد، وأَمَّا إذا كانت الردَّة بعد الدخول بها فإن عاد إلى الإِسلام قبل انتهاء العدّة عاد النكاح بلا تجديد وإن انتهت العدَّة قبل عَودِ أحدهما إلى الإِسلام أي قبل عَوْدِ الذي ارتدَّ مِنْهُمَا إلى الإِسلام لا يعود النكاح إِلا بعقد جديد. ومنها أنّه لا يصح عقد النكاح لمرتد لا على مرتدّة مثلِه ولا على مسلمة أو يهودية أو نصرانيّة أو وثنية، ومن هنا يُعْلَمُ أَنَّ هؤلاء الشباب الذين هم من أبناء المسلمين الذين يرتدُّون بتغيُّر العقيدة أو بإطلاق الألفاظ التي هي ردّة أو بالفعل الذي هو ردّة لا يصح لهم الزواج ما لم يتخلَّوا عن ردّتهم، ولا يكفيهم الانتسابُ اللفظي إلى الإِسلام.

ومِنْ ذلك أَنَّ ذبيحة المرتدّ لا تحل.

ومنها أنَّه لا يرث أي لا يرث قريبَه المسلم إذا مات، ولا يورَث أي لا يرثه قريبُه المسلم إذا مات هذا المرتدّ.

ومنها أنّه لا يصلَّى عليه أي لا تجوز الصلاة عليه إن مات، ولا يُغَسَّل أي لا يجب غسلُه فلو غُسلَ لم يكن في ذلك إثمٌ. ولا يُكَفَّنُ، ولا يُدفن في مقابر المسلمين أي لا يجوز ذلك فمَن دفنه في مقابر المسلمين أَثِم.

ومنها أن ماله فىء أي أنَّ مالَ المرتدّ بعد موته بقتل أو غيره فَىءٌ يكون لمصالح المسلمين.

قال أبو زُرعة العراقي في نكته:

قول التنبيه: وإن ارتدّ وله مال فقد قيل فيه قولان:

أحدهما: أنه باق على ملكه.

والثاني: أنَّه موقوف فإن رجع إلى الإِسلام حكم بأنّه له فإن لم يرجع حكم بأنّه قد زال بالردّة.

وقيل فيه قول ثالث: إنّه يزول بنفس الردّة. الأصحّ طريقة إثبات الأقوال الثلاثة وعليه مشى المنهاج ، وأصحّها الوقف وعليه مشى المنهاج تبعًا للمحرَّر وصحّحه النووي في أصل الروضة والتصحيح، مع أنّ الرافعي في شرحَيْه لم ينقل تصحيحه إلا عن البغوي فقط.

وقال في كتاب التدبير: إن بعضهم روى عن الشافعي أنّه قال: أشبه الأقوال بالصحّة زوال الملك بنفس الردّة، وبه أقول. وفي الشرح الصغير للرافعي في الكتابة أنّ الأشبه على الجملة بطلانها، قال شيخنا الإِمام البلقيني: وهذا فيه ترجيح الزوال، وهو الذي صحّحناه وهو الذي قال الشافعيّ: إنه أشبه الأقوال بأن يكون صحيحًا وأنّه به يقول وعليه ينطبق كلام الشيخ أبي حامد في التدبير وصحّحه في المهذب؛ وصحّح المُزَني والماوردي بقاء ملكه. قال شيخنا: والذي تلخّص لنا من مجموع متفرّقات كلام الشافعي رضي الله عنه أنّ على قول زوال الملك يبقى له فيه حقّ وعُلَق وتجب الزكاة إن رجع إلى الإِسلام، ويستوي مع قول الوقف في هذا وأن على قول بقائه تصرفاته نافذة ما لم يحجر عليه الحاكم، وتجب الزكاة وإن لم يعد للإِسلام، وإن شئت قلت يعطى في النفقات والغرامات حكم الباقي قطعًا، وفي منع التصرّف بعد الحجر حكم الزائل قطعًا، وفي بقاء الملك مجردًا عما ذكر ثلاثة أقوال، وفي الزكاة قولان أحدهما تجب، والثاني إن عاد للإِسلام وجب على قول زوال الملك والوقف وإن لم يعد لم تجب لأنه ليس زوالا إلى ءادميّ معيّن، ولهذا لم ينصّ الشافعيّ على أنّ الزكاة لا تجب مطلقًا قال: ولم أرَ مَنْ جوَّز هذا على ما حرّرته. ا.هـ.

وتثبت الردّة إمَّا بالاعتراف أو بالبيِّنة أي شهادة رجلين عدلين، أمَّا إذا شهد واحد فقط فلا تجرى عليه أحكام المرتدّ.

فائدة: قال أبو زرعة العراقيّ في نكته:

وإن علِقت كافرة بولد في حال الردّة فهو كافر.

الرافعي عن البغوي أنَّه صحّح أنّه مسلم وأطلق تصحيحه في المحرَّر وعليه مشى الحاوي وصحّحه في أصل الروضة ثمَّ قال من زيادته كذا صحّحه البغوي فتابعه الرافعي والصحيح أنّه كافر وبه قطع جمع من العراقيين، ونقل القاضي أبو الطيب أنّه لا خلاف فيه إنما الخلاف في أنّه أصليّ أم مرتدّ والأظهر أنّه مرتد. انتهى. ويردّ عليه أن الرَّافعي لم يصحّحه من عند نفسه وإنما حكاه عن البغوي فهو كما قال في المهمَّات يختصر ويَتَصرّف ثم ينسى فَيَسْتَدرِك وعبارة المنهاج الأظهر مرتد. ونقل العراقيُّون الاتفاق على كفره هو مخالف لما في الروضة فإن الذي فيها كما تقدّم أن ناقل الاتفاق أبو الطيّب وأمّا غيره فقاطعٌ به وقال شيخنا الإمام البلقيني: ما قال إنّه الأظهر ليس بمعتمد لأن الولد إذا انعقد من الكافرين الأصليين وله جدّ مسلم يجعل مسلمًا تبعًا لجدّه، فلأن يتبَعَ حالة أبويه في الإِسلام التي كانت قبل الردّة أولى، وتبعية الأبوين في غير الإِسلام إنما يكون في كفر أصلي، والتبعيّة في الردّة ضعيفة أو مخالفة، وقد حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّ كل مولود يولد على الفطرة لم يخرج من ذلك إلا مولودَ الأبوين الكافرين الأصليين، فيبقى ولد المرتدين على الفطرة فوجب أن يكون مسلمًا؛ قال ونصوص الشافعيّ رضي الله عنه قاضية بذلك ثم بسطه ثم قال فوجب القول على مذهب الشافعي بأنّه مسلم وبطل القول بأنّه كافر أصلي لنصّه في جميع كتبه على أنّه لا يُسبى، والذين أثبتوا هذا القول بأنّه مرتد. انتهى. واعلم أنّ التنبيه فَرَضَ المسئلة فيما إذا كانت الأمّ ذميّة، والمنهاج فيما إذا كانت مرتدّة أيضًا وقد يفهم منه أنها لو كانت أصليّة لا يكون الحكم كذلك، وقد سوى في البيان بينهما، وقال البغوي: لو كان أحدهما مرتدًّا والآخر أصليًّا فإن قلنا في المرتدَّيْن انه مسلم فكذا هنا مرتد أو أصلي فهو هنا أصلي يُقَرّ بالجزية إن كان الأصل يُقَرُّ بها. قول التنبيه: وفي استرقاق هذا الولد قولان، هما مبنيان على صفة كفره فإن قلنا أصلي جاز استرقاقه وإن قلنا مرتد لم يسترق ولا يقتل حتى يبلغ فيُستتاب فإن أصرّ قتل، والأصح أنّه مرتدّ كما تقدّم، وأنكر شيخنا البلقيني القول بأنّه كافر أصلي كما تقدّم. اهـ.

وقال فيه أيضًا أي في نكته: قول المنهاج والحاوي: وتقبل شهادة الردّة فيه أمور:

أحدها قال في المُهِمّات: المعروف وجوب التفصيل صرّح به القفّال والماورديّ والغزاليُّ وصاحبا المهذب والبيان والشاشيّ وابن أبي عَصْرون وهو مقتضى كلام القاضي أبي الطيّب، وأجاب الرافعي في تعارض البَيِّنَتَين بنحوه، ويؤيده أن الأصح أن الشهادة على الجَرح لا تقبل إلا مُفَسَّرة، والإخبارَ بتنجّس الماء لا يقبل من غير الفقيه الموافق إلا مع بيان السبب، وأنّ الأكثرين على أنّ الشهادة على الرضاع لا تقبل إلا مع التعرّض للشرائط. انتهى. وصحّحه أيضًا السبكي ومال إليه الشيخ برهان الدين بن الفِرْكاح، وقال شيخنا الإِمام البلقيني: إنّ الخلاف الذي خرَّج عليه الإِمام هذا وهو الخلاف في اشتراط تفصيل الشهادة في البيع ونحوه لا يعرف، قال: فالتخريج غير صحيح والأصل المخرَّج عليه ليس بثابت.

ثانيها: قال شيخنا الإمام البلقيني: محل الخلاف في الشهادة قطعًا، قال: وقد قاتل الصديق رضي الله عنه أهل الردّة وهم ضربان: ضرب ارتدّوا عن الإِيمان، وضرب ارتدُّوا عن أداء الواجب عليهم، وأطلق النّاس على الجميع أهل الردّة، ونصّ الشافعيّ على ذلك وقال: هو لسان عربي.

فالردّة الارتداد عمّا كانوا عليه بالكفر والارتداد بمنع الحقّ، ومن رجع عن شىء جاز أن يُقال: ارتدّ عن كذا.

ثالثها: استثنى شيخنا أيضًا من محل الخلاف ما إذا كان الشاهدان من الخوارج الذين يكفِّرون بارتكاب الكبائر فلا تقبل شهادتهما إلا بتفصيلها قطعًا. اهـ.

قال المؤلف: فصلٌ: يجبُ على كلِّ مكلَّفٍ أداءُ جميعِ ما أوجبَهُ الله عليهِ ويجبُ عليهِ أن يؤدِّيَهُ على ما أمَرَهُ الله بِهِ مِنَ الإِتيانِ بأركانِهِ وشروطِهِ ويجتنبَ مبطلاتِهِ.
الشرح: يجب أداء الفرائض التي فرضها الله على عباده من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك على الوجه الذي أمر الله به أن تُفْعَل هذه الفرائض من تطبيق الأركان والشروط، ولا يكفي مجرَّد القيام بصورِ الأعمال كما هو الشأن اليوم باعتبار أحوال أكثر الناس لأنهم ينظرون إلى صور الأعمال، فأحدهم يذهب إلى الحج من غير أن يتعلّم أحكامَ الحج ويكتفي بأن يقلِّدَ الناس في أعمالهم؛ وهؤلاء يدخلون تحت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “رُبَّ قائم ليس له من قيامِه إِلا السهر، وربَّ صائم ليس له من صيامه إِلا الجوعُ والعطش” رواه ابنُ حبّان.

وقوله: ويجتنبَ مبطلاته يُفهم منه أنه يجب على المرء أن يعرف ما يُبطِلُ هذه الفرائض حتى يجتنبها.

قال المؤلف: ويجبُ عليهِ أمرُ مَنْ رءاهُ تاركَ شىءٍ منها أو يأتي بها على غيرِ وجهِها [بالإتيان بها على وجهِها].
الشرح: يجب على الشخص المكلَّف أن يأمر من رءاه تارك شىء من فرائض الله بأدائها، ويأمرَ من رءاه يأتي بشىء من هذه الفرائض على غير وجهها أن يأتي بها على الوجه الذي تصح به، هذا إن كان يخلُّ بفرض أو يأتي بمبطل مجمع عليه عند الأئمة، أما من رءاه يخلّ بمختلف فيه لا ينكر عليه إلا أن يكون فعل ما يعتقده مخلًّا لصحتها فينكر عليه كما يُنكر على من أتى بمخلّ متّفق عليه بين الأئمة.

قال المؤلف: ويجبُ عليهِ قهره على ذلك إن قدر عليه.
الشرح: من عَلِمَ أَنَّ إنسانًا لا يؤدِّي هذه الفرائض أو يتركها بالمرّة وكان لا يمتثل إِلا بالقهر يجب أن يقهره على ذلك أي أَنْ يرغمَهُ، إن استطاع.

قال المؤلف: وإِلا [وجبَ] عليهِ الإِنكارُ بقلبه إِنْ عَجزَ عن القهرِ والأمر وذلكَ أضعفُ الإِيمان أي أقلُّ ما يلزمُ الإِنسانَ عند العجزِ.
الشرح: أنَّ الذي لا يستطيع أن يقهر الشخصَ الذي يترك بعض الفرائض أو يأتي بها على غير وجهها بأن علم أَنَّه يُصلِّي صلاةً فاسدةً، أو يصوم صيامًا فاسدًا، أو يحج حجًّا فاسدًا، وَجَب عليه الإِنكار بالقلب أي الكراهية لفعل هذا الإِنسان المخالف للشرع بقلبه فإن أنكر بقلبه سَلِمَ من المعصية، وهذا أضعف الإِيمان أي أقلُّه ثمرةً.

ويُفْهَمُ من هذا أنّه يجب على الإِنسان إذا علم بمعصية من إنسان ولو كان غائبًا أن يكره بقلبه فعلَ ذلك الإِنسان لهذه المعصية.

والمراد بالرؤية في حديث: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده” العلم بوجود المنكر لا خصوص الرؤية بالبصر.

أَمَّا إن كان يستطيع الإِنكارَ باليد أو القول فلا يكفيه الإنكارُ بالقلب، فهذه الكراهية لا تخلّصه من معصية الله . فالذي يحضر المعصية ولا ينكرها والذي يعلم بها ولا يحضرها فلا ينكرها بالقلب سواءٌ في الوقوع في المعصية، والسالم مَنْ أنكر إن استطاع بيده فإن عجز فبلسانه فإن عجز فبقلبه.

ومن المنكر الذي يجب إزالته الكفر فلذلك فرض الله على المؤمنين الجهاد، قال الله تعالى: { وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} [سورة البقرة]، وروى البخاري عن المغيرة بن شعبة أنَّه قال لكفّار الفرس: “أَمرنا نبيّنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدُّوا الجزية”.

وزاد المؤلف إيضاحًا لذلك قوله:

ويجبُ تركُ جميعِ المحرّمات ونهيُ مرتكبِها ومنعُهُ قَهْرًا منها إِنْ قَدَرَ عليهِ وإِلا وجب عليه أن ينكر ذلك بقلبه.
الشرح: ذلك فيما إذا كانت المنكرات نحو ءالات الملاهي والصوَر المجسَّمة بتكسيرها لمن استطاع وإن كانت خمورًا فبإِراقتها، وكل ذلك يشترط فيه أن لا يؤدِّي فعلُهُ إلى منكرٍ أعظم من ذلك المنكر وإِلا فلا يجوز لأَنَّه يكون عدولا عن الفساد إلى الأفسد، وهذا معنى قوله: وإِلا وجب عليه أن ينكر ذلك بقلبه.

قال المؤلف: والحرامُ ما توعَّدَ الله مرتكبَه بالعقابِ ووعدَ تاركَهُ بالثوابِ [وعكسُهُ الواجبُ].
الشرح: هذا تفسيرٌ للحرام أي أن الحرامَ الذي فَرَضَ الله على عباده أن يجتنبوه معناه ما في ارتكابه عقابٌ في الآخرة وفي تركه ثوابٌ.

فائدة: قد يطلق الواجب على السُّنّة أي نوافل الطاعات كحديث: “غُسلُ الجمعةِ واجبٌ على كُلِّ مُحْتَلِم”، وقد تطلق السُّنّة على العقيدة التي جاء بها الرسول كحديث: “ستة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب”، ففي ءاخره “والتارك لسنّتي”، فتخصيصُ السُّنّة بما يقابل الفرض عُرفٌ للفقهاء وعلى هذا يجوز أن يُقال للفرض سُنّة أي أنّه من شرع الرسول على وجهٍ سالم من إيهام أنّه ليس واجبًا.

——————————————————————————–
والحمدلله أولاً وءاخراً
وصلى الله على سيدنا محمّدٍ الامين
وءالهِ الطاهرين وصحابته الطيبين.
Prev Post

قصة رضاعة الحبيب وشق صدره

Next Post

أحكام الصيام في الفقه الشافعي

post-bars