Search or ask ابحث او اسأل

بحث في ضلالات ابن تيمية ورد علماء أهل السنة عليها

ضلالات ابن تيمية والرد عليها
قال تعالى: (أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كان ولا مكان كون الأكوان ودبر الزمان، سبحانه وتعالى ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق هاديًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا، اللهم صل عليه وعلى ءاله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد، قال رسول الله : “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منهم. لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله.” وقال ربنا تبارك وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وروى الإمام أحمد من طريق اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس أنكم تقرءون هذه الآية: (يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وإنّـا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه”.

 
المقالة الأولى
قوله: بحوادث لا أؤّل لها لم تزل مع الله

أي لم يتقدم الله جنس الحوادث، وإانما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فردٍ من أفرادِ الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.

وهذه المسألة من أبشع المسائل الاعتقادية التي خرج بها عن صحيح العقل وصريح النقل وإجماع المسلمين، ذكر هذه العقيدة في سبعة من كتبه: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، ومنهاج السنّة النبوية، وكتاب شرح حديث النزول، وكتاب شرح حديث عمران بن حصين، وكتاب نقد مراتب الإجماع، ومجموعة تفسير من ست سور، وكتابه الفتاوى، وكل هذه الكتب مطبوعة.

أمّا عبارته في الموافقة فهي ما نصّه (1): “وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثا بل قديمًا، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بين دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه “. از.هـ . وقال في موضعءاخر في ردّ قاعدة ما لا يخلو من الحادث حادث لأنه لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليًا بعدما نقل عن الأبهري أنه قال: قلنا لا نسلم وانما يلزم ذلك لو كان شىء من الحركات بعينها لازمًا للجسم، وليس كذلك بل قبل كل حركة حركة لا إلى أول، ما نصه (2): “قلت هذا من نمط الذي قبله فإن الأزلي اللازم هو نوع الحادث لا عين الحادث، قوله لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له، ! قلنا: لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقًا بحوادث لا أول لها”. ا.هـ.

ويقول فيها أيضا ما نصه (3): ”فمن أين في القرءان ما يدل دلالة ظاهرة على أن كل متحرك محدث أو ممكن، وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن، وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وأين في القرءان امتناع حوادث لا أول لها” ا.هـ. فهذا من عجائب ابن تيمية الدالّة على سخافة عقله قوله بقدم العالم القدم النوعي مع حدوث كل فرد معين من أفراد العالم. قال الكوثري (4) في تعليقه على السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ما نصّه (5): “وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس، بخلاف المستقبل، وقال أبو يعلى الحنبلي في “المعتمد”: والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافا للملحدة. ا.هـ. وهو من أئمة الناظم. يعني ابن القيّم. فيكون هو وشيخه من الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا فيكونان أسوَأ حالأ منه في الزيغ، ونسأل الله السلامة”. ا.هـ.

وقال- أي ابن تيمية- في منهاج السنّة النبوية ما نصه (6): “فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالربّ، قلنا لكـم: نعم، وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل. .. “.

وقال فيه ما نصه (7): (ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث، وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدَعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة، وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة) ا.هـ.

وقال في موضعءاخر ما نصّه (8): “وحينئذٍ فيمتنع كون شىء من العالم أزليًا وان جاز أن يكون نوع الحوادث دائمًا لم يزل، فإن الأزل ليس هو عبارة عن شىء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقتءاخر، فلا يلزم من دوام النوع قدم شىء بعينه أ. هـ. ومضمون هذا أمران: أحدهما أنه يقرّ ويعتقد قدم الأفراد من غير تعيين شىء منها.

ثم هذا يتحصل منه مع ما نقل عنه الجلال الدواني (9) في كتاب شرح العضدية بقوله (10): “وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به- أي بالقدم الجنسي- في العرش”، أي أنه كان يعتقد أن جنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث.

وقال في موضعءاخر من المنهاج (11) ما نصه: “ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته- أي أن فعل الله بمشيئته وقدرته- شيئا فشيئا، لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف ا.هـ. فانظروا كيف افترى كعادته هذه المقولة الخبيثة على أئمة الحديث، وهذا شىء انفرد به ووافق به متأخري الفلاسفة، لكنه تقوّل على أئمة الحديث
والفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم وافترى عليهم، ولم يقل أحد منهم ذلك لكن أراد أن يروّج عقيدته المفتراة بين المسلمين على ضعاف الأفهام، ويربأ بنفسه عن أن يقال إنه وافق الفلاسفة في هذه العقيدة.

وقد ردّ على ابن حزم في نقد مراتب الإجماع (12) لنقله الإجماع علىالأجماع أن الله لـم يزل وحده ولا شىء غيره معه، وأن المخالف بذلك كافر باتفاق المسلمين، فقال ابن تيمية بعد كلام ما نصه: “وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شىء غيره معه “. ا.هـ. وعبارته هذه صريحة في اعتقاده أن جنس العالم أزلي لم يتقدمه الله بالوجود.

أما عبارته في شرح حديث عمران بن الحصين (13) فهي: “وإن قدّر أن نوعها- أي الحوادث- لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (سورة النحل/17). وقال: “والخلق لا يزالون معه ” إلى أن قالى،: “لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين “. ا.هـ.

وقال في شرح حديث النزول (14) في الرد على من قال: ما لا يخلو من الحوادث حادث، وعلى من قال: ما لا يسبق الحوادث حادث، ما نصه: “إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين”. اهـ. يريد أن القول بقيام حوادث لا أوّل لها بذات الله لا يقتضي حدوثه.

وقال في كتابه الفتاوى ما نصه (15): “ومن هنا يظهر أيضا أن ما عند المتفلسفة من الأدلة الصحيحة العقلية فإنما يدل على مذهب السلف أيضا، فأن عمدتهم في “قدم العالم ” على أن الرب لم يزل فاعلاً، وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، وأن يصير الفعل ممكنًا له بعد أن لم يكن، وهذا وجميع ما احتجوا به إنما يدل على قدم نوع الفعل ” اهـ. أما عبارته في تفسير سورة الأعلى (16): “الوجه الرابع أن يقال: العرش حادث كائن بعد أن لم يكن، ولم يزل مستويًا عليه بعد وجوده، وأما الخلق فالكلام في نوعه، ودليله على امتناع حوادث لا أول لها قد عُرف ضعفه، والله أعلم ” اهـ.

وقد أثبت هذه العقيدة عن ابن تيمية الحافظ السبكي في رسالته الدرة المضية، والحافظ أبو سعيد العلائي.

فقد ثبت عن السبكي ما نقله عنه تلميذه الصفدي وتلميذ ابن تيمية أيضًا في قصيدته المشهورة حتى عند المنتصرين لابن تيمية وقد تضمنت الردّ على الحليّ ثم ابن تيمية لقوله بأزلية جنس العالم وأنه يرى حوادث لا ابتداء لوجودها كما أن الله لا ابتداء لوجوده قال-أي السبكي- ما نصه:
ولابن تيمية ردُّ عليـه وفـى بمقصد الردّ واستيفاءِ أضْرُبِهِ
ِ لكنه خَلطَ الحق المبين بما يشوبـُهُ كَـدًرٌ فـي صَفوِمشرَبِهِ
يحاوِلُ الحَشوَ أنَّى كان لهُ حثيثُ سيرٍ بشرقٍ او بمغرِبِهِ
يـرى حـوادث لا مبـدَا لأوَّلـهـا في الله سبحـانَهُ عما يظُنُّ بهِ

وقال العلاّمة البياضي الحنفي في كتابه إشارات المرام (17) بعد ذكر الأدلة على حدوث العالم ما نصّه: “فبطل ما ظنه ابن تيمية من قدم العرش كما في شرح العضدية”. اهـ.
هذا وقد نقل المحدّ ث الأصولي بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع (19) اتفاق المسلمين على كفر من يقول بأزلية نوع العالم فقال بعد أن ذكر أن الفلاسفة قالوا: إن العالم قديم بمادته وصورته، وبعضهم قال: قديم المادة محدث الصورة، ما نصه: “وضلَّلهم المسلمون في ذلك وكفروهم “. اهـ. ومثل ذلك قال الحافظ ابن دقيق العيد والقاضي عياض المالكي والحافظ زين الدين العراقي والحافظ ابن حجر في شرح البخاري وغيرهم.

قال القاضي عياض في الشفا (20): “وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالـم أو بقائه أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة وا لد هرية ” اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(21) ما نصه: “قال شيخنا- يعني العراقي- في شرح الترمذي: الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر، ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى القاضي عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم، وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدّعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا: إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترًا عن صاحب الشرع، قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام، لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل ” اهـ.

وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء عند الكلام على تكفير الفلاسفة ما نصه (22) “ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شىء من ذلك”اهـ ، وقال في موضعءاخر منه ما نصه (23): “وقال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث، فإذًا العالم كله حادث، وعلى هذا إجماع المسلمين بل وكل الملل، ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفة الإجماع القطعي” ا.هـ.

فقول ابن تيمية بأزلية نوع العالم مخالف للقرءأن والحديث الصريح وإجماع الأمة وقضية العقل، أمّا القرءان فقرله تعالى: (هؤ الأوَّلُ والأخِرُ)(سورة الحديد/3)، فليس معنى هو الأول إلا أنه هو الأزلي الذي لا أزلي سواه أي أن الأولية المطلقة لله فقط لا تكون لغيره، فأشرك ابن تيمية مع الله غيره في الأولية التي أخبرنا الله بأنها خاصة له، وذلك لأن الأولية النسبية هي في المخلوق، فالماء له أولية نسبية أي أنه أول المخلوقات بالنسبة لغيره من المخلوقات، ثم تلاه العرش ثم حدث ما بعدهما وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ ثم الأرض ثم السموات، ثم ما ذكره الله تعالى بقوله:( والأَرضَ بَعدَ ذَلِكَ دحاها) (سورة النازعات/30).

وأما الحديث فقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه البخاري (24) في كتاب بدء الخلق وغيرُه: “كان الله ولم يكن شىء غيره” الذي توافقه الرواية الأخرى رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كُلِّ شىء) (25) , ورواية: (كان الله ولم يكن معه شىء).

وأمّا رواية البخاري في أواخر الجامع (26): “كان الله ولم يكن شىء قبله” فترد إلى روايته في كتاب بدء الخلق وذلك متعين، ولا يجوز ترجيح رواية: (كان الله ولم يكن شىء قبله” على رواية: “كان الله ولم يكن شىء غيره ” كما أومأ إلى ذلك ابن تيمية، لأن ظاهر رواية: “كان الله ولم يكن شىء قبله” يوافق ما يزعمه كما أشار لذلك الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (27) عند ذكر حديث: “كان الله ولم يكن شىء قبله ” فقال فيما حاول ابن تيمية من ترجيح هذه الرواية على تلك الرواية توصلاً إلى عقيدته من إثبات حوادث لا أول لها ما نصه: “وهذه من أشنع المسائل المنسوبة له “- يعني ابن تيمية-. اهـ.

أقول: ولا أدري لماذا لم يجزم الحافظ ابن حجر بقول ابن تيمية بهذه المسألة مع أنه ذكر في كتابه لسان الميزان قول الحافظ السبكي في ابن تيمية في تلك الأبيات التي منها: يرى حوادث لا مبدا لأولها في الله، وأنه يقول بتجدد حوادث في ذات الله من كلمات وإرادات بحسب المخلوقات. وهو المراد بقول ابن تيمية نوع العالم أزلي وأفراده حادثة.

وكذلك رواية مسلم (28): “اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء” ترد إلى رواية البخاري: “كان الله ولم يكن شىء غيره ” فإن لم ترد ورجحت رواية مسلم كان ذلك رجوعًا إلى قول الفلاسفة وإلغاء لرواية البخاري.

فخالف ابن تيمية القرءان والحديث وقضية العقل التي لم يخالف فيها إلا الدهرية وأمثالهم، وهذا ليس مشكوكًا في نسبته إلى ابن تيمية فإنه ذكر ذلك في سبعة من كتبه كما مرّ، وعبّر في بعضها بأزلية جنس العالم. ولو لم يكن نصّ ابن تيمية في كتبه السبعة التي هي في متناول من يريد الاطلاع عليها لأنها طبعت، لكفى شهادة الحافظين الإمامين الجليلين المتفق على إمامتهما تقي الدين السبكي وأبي سعيد العلائي، وقد تقدمت ترجمة السبكي في كتاب أعيان العصر لتلميذه الصفدي بتوسع ووصفُهُ له بالثناء البالغ ليُِنرَل بمنزلته لما صح من
حديث رسول الله: (أنزلوا الناس منازلهم ” رواه أبو داود (29) من حديث عائشة.

 

وابن تيمية قد أخذ هذه المسألة أعني قوله بقدم نوع العالم عن متأخري الفلاسفة لأنه اشتغل بالفلسفة كما قال الذهبي وإن كان معروفا بتشديد النكير على إرسطو وغيره لقولهم العالم أزلي بجنسه وتركيبه وصورته على أن قسمًا من الفلاسفة لم يقولوا بهذه المقالة قال ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير (30): “بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم- يعني أنه لا يعتبر- لأنه عن نظر عقلي يزاحمه الوهم فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلاً عن المحققين المجتهدين، على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوث العالم منهم أي الفلاسفة فلا إجماع لهم على ذلك، ومما يدل على ذلك ما حكاه لنا المصنف رحمه الله عند قراءة هذا المحل عليه من كتابة وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه إنباء الرواة على أنباء النحاة ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المعري عمن ذكر أنه قرىء بحضرته يومًا: أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطا إلا على جبل فامتثلوا، وتعسّر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه، فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم، فأعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسًّا فقال: اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسَّه وُضِعَ على حجر أم لا؟ ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابًا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول، فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونًا من الأصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك، وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف قلم اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين، لما أن كان العالم محدَثًا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدِث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين وأشياعهما حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثةءالاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان، فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند بارئه بخير فعل، وا لسلام”. ا هـ.

ونقل ذلك أيضًا الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في كتابه ذخائر القصر قال ما نصّه: “ووجد مكتوب على عتبة على أساس الجامع الأموي بدمشق بالقلم اليوناني وفسر: باسم الحي الأزلي لما كان العالم محدَثًا وجب أن يكون له محدِث ليس هو كهو فأدت الضرورة إلى تعظيمه والخضوع لقربه لا كما قال ذو اللحيين وذو السنين وأشياعهما انتدب لعمارة هذا الهيكل المبارك والإنفاق عليه من ماله محب الخير فإن أمكن الداخل فيه ذكر بانيه عند بارئه بشىء من خير شُكِرَ فعله والسلام وذلك لألفي سنة مضت لأصحاب الأسطوان”. اهـ.

تنبيه: ليعلم أن هذا الرجل يكثر من سب لفلاسفة وهو موافق لمتأخريهم تمويهًا على الناس ليُظن انه يتكلم بلسان أهل الحديث، وهو خالف علماء الحديث والفقهاء قاطبة بمقالته هذه ان جنس العالم أزلي لم يزل مع الله وإنما الحادث هو الأفراد المعينة من المخلوقات، كذّب كلام الله بذلك وجعل يحدث منه كلامًا بعد كلام من غير ابتداء ومن غير انتهاء، وكيف يعقل أن يكون النوع موجودا في غير ضمن الأفراد، وقوله النوع أزلي والأفراد حادثة ينعكس إلى عكس ما يدعيه، وبيان ذلك أن الإنسانية لا تتحقق خارج أفراد الإنسان وإنما تتحقق ضمن الأفراد. وهذا الذي أصابه منشؤه أنه خاض في الفلسفة فعلق بذهنه معتقد أحد فريقيهم وقد ذكر الذهبي انه اشتغل بالفلسفة والكلام أي الكلام المذموم كلام أهل الاهواء وهم الفرق البدعية في الاعتقاد.

فكيف ينسب نفسه إلى السلف وتنسبه أتباعه إلى السلف وهو ناقض السلف، فالسلف كلهم كانوا مجمعين على أن الله هو الأول الأولية المطلقة وأنه لا يشاركه بها غيره، وهو أشرك بالله نوع العالم أي جنسه، فأين هو وأين التوحيد؟.

فائدة

مما يبطل قول ابن تيمية بقيام كلام حادث الأفراد أزلي النوع وإرادة حادثة الأفراد قديمة النوع في ذات الله، ما قاله أبو الفضل التميمي في كتابه اعتقاد الإمام أحمد (31): “وذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أن الله عز وجل يغضب ويرضى وأن له غضبًا ورضا، وقرأ أحمد قوله عز وجـل: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (سورة طه/81)، وأضاف الغضب إلى نفسه وقال عز وجل 🙁 فَلَمَّا آسَفُونَاانتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (سورة الزخرف/55) الآية، قال ابن عباس: يعني أغضبونا. وقوله أيضًا:( فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه)ُ (سورة النساء/93) الآية، ومثل ذلك في القرءان كثير، والغضب والرضا صفتان له من صفات نفسه لم يزل الله تعالى غاضبًا على ما سبق في علمه أنه يكون مما يغضبه ولم يزل راضيًا على ما سبق في العلم أنه يكون مما يرضيه، وأنكر أصحابه على من يقول إن الرضا والغضب مخلوقان، قالوا فمن قال ذلك لزمه أن غضب الله عز وجل على الكافرين يفنى وكذلك رضاه على الأنبياء والمؤمنين حتى لا يكون راضيًا على أوليائه ولا ساخطا على أعدائه، ويسمَّى ما كان عن الصفة باسم الصفة مجازًا في بعض الأشياء، و يسمَّى عذابُ الله تعالى وعقابه غضبًا وسخطًا لأنهما عن الغضب كانا، وقد أجمع المسلمون لا يتناكرون أنهم إذا رأوا الزلازل والأمطار العظيمة أنهم يقولون هذه قدرة الله تعالى، والمعنى أنها عن قدرةِ كانت، وقد يقول الإنسان في دعائه: اللهم اغفر لنا عِلْمَكَ فينا وإنما يريد معلومك الذي علمته، فسموا المعلوم باسم العلم، وكذلك سموا المرتضى باسم الرضى وسموا المغضوب باسم الغضب” أ. هـ .

فما أعظم هذه الفائدة ففيها ردّ لما يحتج به أتباع ابن تيمية لحدوث صفات الله تعالى بحديث الشفاعة المشهور أنءادم وغيره يقول: “إن الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله”، فزعم هؤلاء المشبّهة أن الله يحدث له في ذلك الوقت صفة حادثة في ذاته. وهذه الفائدة تبين فساد فهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى مذهب أحمد وهم على خلافه في الحقيقة.

ويكفي ابن تيمية مناقضة أنه يذكر في غير موضع أننا لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ويقول في الموافقة: “وأين في القرءان امتناع حوادث لا أول لها” اهـ.

نقول: فأين في الكتاب والسنة ذكر جواز حوادث لا أول لها، وهذه عقيدة فاسدة مصادمة لعقيدة الإسلام يبرأ منها المسلمون.

قال الحافظ اللغوي محمَّد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه (32): (وافتقر محدثه إلى محدث ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية وما تسلسل) لا إلى نهاية (لم يتحصل) أي إن تسلسل هكذا لزم عدم حصول حادث منها أصلاً لما سبق أن المحال وهو وجود حوادث لا أول لها يستلزم استحالة وجود الحادث الحاضر، وأيضا فإن التسلسل يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له وذلك لا يُعقل، وإن كان الأمر ينتهي إلى عدد متناه فيلزم الدور وهو محال أيضًا لأنه يلزم عليه تقدم الشىء على نفسه وتأخره عنها، فإذا كان الحدوث يؤدي إلى الدور أو التسلسل المحالين لزم أن يكون محالا” اهـ.

وقال ملا علي القاري في شرح الفقه اكبر ما نصه (33): “ثم اعلم أن المراد بأهل القبلة الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الدين، كحدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الله بالكليات والجزئيات وما أشبه ذلك من المسائل، فمن واظب طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم، أو نفي الشر، أو نفي علمه سبحانه بالجزئيات لا يكون من أهل القبلة” اهـ.

فائدة: فإذا تقرر هذا فتفهموا يرحمكم الله بتوفيقه ما يأتي من البرهان العقلي على حدوث العالم وهو ما سوى الله، وتقريره أن يقال: إن الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر، فما لا يخلو من الحادث حادث، فالأجسام حادثة، وفي هذا البرهان ثلاث قضايا:

الأولى: أن الأجسام لا تخلو من الحركة أو السكون وهي ظاهرة- مُدركة بالبديهة فلا تحتاج إلى تأمل، فإن من عَقِلَ جسما لا ساكنًا ولا متحركًا كان عن نهج العقل ناكبًا وللواقع مكابراً.

الثانية: قولنا: “إنهما حادثان” يدل على ذلك تعاقبهما وذلك مشاهد في جميع الأجسام وما لم يشاهَد، فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته، وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه، فالطارىء منهما حادث بطريانه، والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قِدَمَهُ لاستحال عدمه.

الثالثة: قولنا: “ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث” لأنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها، وما لا أول له من الحوادث لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال، وانقضاء ما لا نهاية له محال لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر ئم انتقلت إلى ما قبله وهلمَّ جرًّا على الترتيب. لم تفض إلى نهاية، ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محال، وإن لم يمكن عدم إفضائك إلى نهاية لكان لتلك الحوادث أوّل وهو خلاف المفروض.

وعندنا دليل عقلي بعبارة أخرى فنقول: لو كان أفراد العالم التي دخلت في الوجود لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن يكون زوجًا وفردًا معًا، أو لا زوجًا ولا فردًا، ومحال أن يكون زوجًا وفردًا جميعًا ولا زوجًا ولا فردًا فإن في ذلك جمعًا بين النفي والإثبات وهما ضدان، إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر، وفي نفي أحدهما إثبات الآخر، ومحال أن يكون زوجًا فقط لأن الزوج يكون فردًا بزيادة واحد فكيف يُعْوِزُ ما لا نهاية له واحد ، ومحال أن يكون فردًا فقط لأن الفرد يكون زوجًا بزيادة واحد عليه فكيف يُعْوِز واحد ما لا نهاية له، فحصل من هذا أن العالم لا يخلو من الحوادث فهو إذا حادث، والا لزم استحالة وجود الحادث الحاضر لأنه لازم وجود حوادث لا أول لها، لكن الحادث الحاضر ثابت فانتفى ملزومه وهو وجود حوادث لا أول لها، فلاِنتفاء وجود حوادث لا أول لها انتفى ملزومه وهو كون مالا يخلو من الحوادث قديمًا، فثبت نقيضُه وهو: “ما لا يخلو من الحوادث حادث”، فتبيّن وجوب انتهاء الحوادث التي دخلت في الوجود إلى أول.

وبهذا الدليل يبطل قول بعض الملحدين بتسلسل الوالدية والولدية في جانب الماضي إلى غير نهاية، ويقال في البذر والزرع ونحو ذلك مثل ذلك، ويقال في إبطال قولهم: “ما من نطفة إلا من إنسان ولا من إنسان إلا من نطفة وهكذا إلى غير بداية”، وقولهم: “ما من زرع إلا من بذر ولا من بذر إلا من زرع وهكذا إلى غير بداية في جانب الماضي ” يلزم منه ذلك المحال وما أدى إلى المحال محال.

وبيان القضية الثالثة بوجه ءاخر أن نقول: لو وجدت حوادث لا أول لها للزم أن يوجد عددان متغايران وليس أحدهما أكثر من الآخر ولا مساويا له، لأنا لو نظرنا عدد الحوادث من الطوفان مثلاً إلى الأزل مع عددها من الآن مثلاً إلى الأزل لكانا عددين متغايرين قطعًا، ويستحيل بينهما المساواة لتحقق الزيادة في أحدهما، والشىء دون زيادة لا يكون فساويًا لنفسه بزيادة، ويستحيل أن يكون أحدهما اكثر من الآخر لعدم تناهي أفراد كل واحد منهما فلا يفرغ أحدهما قبل الآخر بالعدّ، وحقيقة الأقل ما يصير عند العد فانيًا قبل الآخر والأكثر ما يقابله. ونحن لو فرضنا الآن شخصين يعُدُّ أحدهما الحوادث من الطُّوفان إلى الأزل والآخر يعدها من الآن إلى الأزل لاستحال على مذهب الفلاسفة أرسطو وابن سينا أن يفنى أحد العددين بالعدِّ قبل الآخر، فيمتنع أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، فقد اتضح لك أنه يلزم على وجود حوادث لا أول لها أن يوجد عددان ليس بينهما مساواة ولا مفاضلة رذلك بطريق التطبيق وهو جعل شىء على شىء، فالمطبَّق في هذا المثال ما فُرِضَ من عدد الحوادث من الآن إلى الأزل وهو في الحقيقة عين المطبَّق لكن بعد زيادة ما من الطوفان إلى الآن.

وهناك دليلءاخر وهو أن نقول: لو وجدت حوادث لا أول لها للزم إما أسبقية الأزلى علي الأزلي، أو صيرورة ما يتناهى لا يتناهى بزيادة واحد، لكن صيرورة ما يتناهى لا يتناهى باطل، فبطل وجود حوادث لا أول لها.

فائدة جليلة: قال أهل الحق في إبطال القول بحوادث لا أول لها وإثبات صحة حوادث متسلسلة إلى ما لا نهاية له في المستقبل عقلاً ما كفى وشفى، فمثَّلوا الأول بملتزِمٍ قال: لا أعطي فلانًا في اليوم الفلاني درهمًا حتى أعطيه درهمًا قبله، ولا أعطيه درهمًا قبله حتى أعطيه درهمًا قبله وهكذا لا إلى أول، فمن المعلوم ضرورة أن إعطاء الدرهم الموعود به في اليوم الفلاني محال لتوقفه على محال وهو فراغ ما لا نهاية له بالإعطاء شيئًا بعد شىء، ولا ريب أن ما ادَّعوه من حوادث لا أول لها مطابق لهذا المثال، فإن إعطاء الفاعل للفلك مثلاً الحركة في زماننا هذا وفي غيره من الأزمان الماضية متوقف على إعطائه قبله من الحركات شيئا بعد شىء مما لا نهاية له، فالحركة للفلك في الزمان المعين نظير الدرهم الموعود به في الزمن المخصوص، والحركاتُ التي لا تتناهى قبلها نظير الدراهم التي لا تتناهى قبل ذلك الدرهم، فيكون وجود الحركة للفلك في هذا الزمان مثلاً مستحيلا كما استحال وجود الدرهم الموعود به في الزمان المعين للشخص.

ومثال ما ادعيناه في نعيم الجنة كما لو قال الملتزم: لا أعطي فلانًا درهمًا في زمن إلا وأعطيه درهمًا بعده وهكذا لا إلىءاخر فهذا لا ريب لعاقل في جوازه عقلاً إذ حاصله إلتزام الملتزم عدم قطع العطاء بعد أبتدائه، فهذا المثال لا تخفى مطابقته لما ادعيناه في نعيم الجنة للمؤمنين ولا لما ندعيه في عذاب جهنم للفلاسفة القائلين بقدم العالم وأضرابهم من الطبائعيين وسائر الكافرين، وبما قررنا ثبت قطعًا صحة قولنا في الاستدلال على حدوث الأعيان، والأعيان ملازمة للأعراض الحادثة وكل ملازم للحادث فهو حادث.

 (1) أنظر الموافقة (2/ 75).
(2) أنظر المرافقة (1/ 245).
(3) أنظر الموافقة (1/ 64).
(4) محمد زاهد بن الحسن الكوثري (1296 – 1371 هـ- 1879- 1952 ر) فقيه حنفي، تفقه في جامع الفاتح بالأستانة ودرّس فيه، ثم جاء إلى الإسكندرية عام 1922 ر. ثم استقر في القاهرة موظفا في دار المحفوظات، له تآليف كثيرة منها: الاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار، وله نحو مائة مقالة جمعت في كتاب مقالات، الكوثري.
(5) أنظر السيف الصقيل (ص/ 74).
(6) أنظر المنهاج (1/ 224).
(7) أنظر المنهاج (83/1).
(8) أنظر المنهاج (1/ 109).
(9) الدواني عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي في البدـر الطالع ووثقه.
(10) شرح العضدية (ص/ 13).
(11) أنظر المنهاج (1/ 224).
(12) أنظر نقد مراتب الإجماع (ص/ 168).
(13) أنظر الكتاب (ص/ 193)، ومجمرع الفناوى (18/ 239).
(14) أنظر الكتاب (ص/ 161).
(15) الفتاوى (6/ 300).
(17) مجموعة تفسير (ص/12-13).
(18) أنظر الكتاب (ص/ 197).
(19) أنظر تشنيف المسامع (ص/ 342)، مخطوط.
(20)الشفا (606/2).
(21) فتح الباري (12/ 252).
(22) إتحات السادة المتقين (1/ 184).
(23) إتحاف السادة المتقين (2/ 94).
(24) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده).
(25) فتح الباري (13/ 410).
(26) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب وكان عرشه على الماء.
(27) فتح الباري (13/ 410).
(28) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة: باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(29) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في تنزيل الناس منازلهم.
(30) أنظر الكتاب (3/ 84).
(31) اعتقاد الامام أحمد (ص/ 6- 7)، مخطوط.
(32) إتحاف السادة المتقين (2/ 96).
(33) شرح الفقه الأكبر (ص/ 154- 155).

 
المقالة الثانية
قوله بقيام الحوادث بذات الله تعالى

أما قوله بقيام الحوادث بذات الله تعالى فقد ذكره في كتابه الموافقة فقال ما نصه (1): ” فمن أين في القرءان ما يدل دلالة ظاهرة على أن كل متحرك محدَث أو ممكن، وأن الحركة لا تقوم إلا بحادث أو ممكن، وأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ” اهـ.

وقال في موضع ءاخر منه ما نصه (2): “أما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك لا نفيًا ولا إثباتًا، بل قول القائل: إن الله جسم أو ليس بجسم، أو جوهر أو ليس بجوهر، أو متحيز أو ليس بمتحيز، أو في جهة أو ليس في جهة، أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به ونحو ذلك كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث لم يتكلم السلف والأئمة فيها لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق ا لإثبات ” اهـ.

وقال في المنهاج ما نصه (3): “فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراغى فما الدليل على بطلان قولنا؟ اهـ.

قال أيضا ما نصه (4): “ومن قال: إن الخلق حادث كالهشامية والكرّامية قال: نحن نقول بقيام الحوادث به، ولا دليل على بطلان ذلك، بل العقل والنقل والكتاب والسنة واجماع السلف يدل على تحقيق ذلك، كما قد بسط في موضعه. ولا يمكن القول بأن الله يدير هذا العالم إلا بذلك، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفة إلى الحق كأبي البركات صاحب ” المعتبر” وغيره” اهـ.

وقال ما نصه (5): “بخلاف ما إذا قيل: كان قبل هذا الكلام كلام وقبل هذا الفعل فعل جائز عند أكثر العقلاء أئمة السنة، أئمة الفلاسفة وغيرهم” اهـ.

ثم قال (6): “وأما إذا قيل: قال “كن” وقبل “كن” “كن”، وقبل “كن” “كن”، فهذا ليس بممتنع، فإن هذا تسلسل فيءاحاد التأثير لا في جنسه، كما أنه في المستقبل يقول “كن” بعد “كن”، ويخلق شيئا بعد شىء إلى غير نهاية” اهـ.

وقال في المنهاج ما نصه (7): (فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحرادث بالرب، قلنا لكم: نعم وهذا قولنا الذي دل
عليه الشرع العقل”اهـ.

ثم قال فيه ما نصه (8): (وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما، فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم . السلف الأئمة، ونصوص القرءان والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه، ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة” اهـ.

وقال أيضا ما نصه (9): “وأما قولهم: وجود ما لا يتناهى من الحوادث محال، فهذا بناء على دليلهم الذي استدلوا به على حدوث العالم وحدوث الأجسام، وهو أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وهذا الدليل باطل عقلاً وشرعًا، وهو أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وهو أصل قول الجهمية نفاة الصفات، وقد تبين فساده في مواضع ” اهـ.

ومعنى قوله قيام الحوادث بذات الله فهو أنه يعتقد أن الله تعالى تقوم به الحركة والسكون أي أنه متصف بالحركة والسكون الحادثين وشبه ذلك مما يقوم بذوات المخلوقين، ومن هنا يتضح قول الحافظ تقي الدين السبكي وغيره كما قدمنا أنه- أي ابن تيمية- جعل الحادث قديمًا والقديمُ حادثًا، ولم يوافق في قوله هذا أحدًا من أئمة الحديث إلا المجسمة.

ومن العجب افتراء ابن تيمية هذا معرضا عن حجة إبراهيم المذكورة في القرءان من احتجاجه بقيام الحوادث بالقمر والكوكب والشمس على عدم ألوهيتهم، وبقيام دلاثل الحدوث بهم وهو التحول من حال إلى حال.

وقد اتبع ابن تيمية في عقيدته هذه الكرّامية شبرًا بشبر، وقد ذكر ابن التلمساني شيئًا من معتقداتهم الفاسدة التي تبنّاها ابن تيمية، فقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (10): “وخالف إجماع الأمة طائفة نبغوا من سِجستان لقبوا بالكرامية نسبة إلى محمد بن كرّام، وزعموا أن الحوادث تطرأ يعني تتجدد على ذات الله، تعالى عن قولهم، وهذا المذهب نظير مذهب المجوس. ووجه مضاهاته لمذهب المجوس أن طائفة منهم تقول بقدم النور وحدوث الظلمة، وأن سبب حدوثها أن يَزْدَان فكَّر فكرة فَحَدَثَ منها شخص من أشخاص الظلمة فأبعده وأقصاه وهو هُرمز، وجميع الشر ينسب إليه. وكذلك الكرّامية تزعم أن الله تعالى إذا أراد إحداث محدَث أوجد في ذاته كافًا ونونًا وإرادة حادثة، وعن ذلك تصدر سائر المخلوقات المباينة لذاته ” اهـ.

وقال الإمام أبو المظفر الإسفراييني ما نصه (11): “ومما ابتدعوه- أي الكرَّامية- من الضلالات مما لم يتجاسر على إطلاقه قبلهم واحد من الأمم لعلمهم بافتضاحه هو قولهم: بأن معبودهم محل الحوادث تحدث في ذاته أقواله وإرادته وإدراكه للمسموعات والمبصرات، وسموا ذلك سمعًا وتبصرًا، وكذلك قالوا: تحدث في ذاته ملاقاته للصفحة العليا من العرش، زعموا أن هذه أعراض تحدث في ذاته، تعالى الله عن قولهم ” اهـ.

فتبين مما أوردناه أن ابن تيمية ليس له سلف إلا الكرامية ونحوهم، وليس كما يدعي أنه يتبع السلف الصالح، ومن المصيبة أن يأخذ مثل ابن تيمية بمثل هذه الفضيحة، فمذهبه خليط من مذهب ابن كرّام واليهود والمجسمة، نعوذ بالله من ذلك.

وقد أجاب الإمام الحجة الإسفراييني في دحض هذه الفرية بقوله (12): “هو أن تعلم أن الحوادث لا يجوز حلولها في ذاته وصفاته لأن ما كان محلاً للحوادث لم يخل منها، وإذا لم يخل منها كان محدثًا مثلها، ولهذا قال الخليل عليه الصلاة والسلام:(لاَ أُحِبُّ الآَفِلينَ) (سورة الأنعام/76)، بيَّن به أن من حلّ به من المعاني ما يغيره من حال إلى حال كان محدَثا لا يصح أن يكون إلهًا” اهـ.

فيكون بهذا ما توسع به ابن تيمية في كتبه من تجويز قيام الحوادث به تعالى وحلولها فيه خارجًا عن معتقد أهل السنة والجماعة، أهل الحق.

فائدة: قال سيف الدين الآمدي في كتاب غاية المرام (13) في علم الكلام ما نصه: “فالرأي الحق والسبيل الصدق والأقرب إلى التحقيق أن يقال: لو جاز قيام الحوادث به لم يخل عند اتصافه بها إما أن توجب له نقصًا أو كمالا أو لا نقص ولا كمال، لا جائر أن يقال بكونها غيرَ موجبة للكمال ولا النقصان فان وجود الشىء بالتسبة إلى نفسه أشرف له من عدمه، فما اتصف بوجود الشىء له وهو مما لا يوجب فوات الموصوف ولا فوات كمال له، وبالجملة لا يوجب له نقصًا فلا محالة أن اتصافه بوجود ذلك الوصف له أولى من اتصافه بعدمه لضرورة كون العدم في نفسه مشروفا بالنسبة إلى مقابله من الوجود، والوجود أشرف منه، وما اتصف بأشرف الأمرين من غير أن يوجب له في ذاته نقصًا تكون نسبة الوجود إليه مما يرجع إلى النقص والكمال على نحو نسبة مقابله من العدم، ولا محالة من كانت نسبته إلى ذلك وجود ذلك الوصف أشرف منه بالنسبة إلى عدمه، ولا جائز أن يقال : إنها موجبة لكماله، وإلا لوجب قدمها لضرورة أن لا يكون البارىء ناقصًا محتاجًا إلى ناحية كمال في حال عدمها، فبقي أن يكون اتصافه بها مما يوجب القول بنقصه بالنسبة إلى حاله قبل أن يتصف بها، وبالنسبة إلى ما لم يتصف بها من الموجودات، ومحال أن يكون الخالق مشروفًا أو ناقضا بالنسبة إلى المخلوق، ولا من جهة ما كما مضى” ا.هـ.

 (1) أنظر الكتاب (1/ 64).
(2) أنظر الكتاب (1/ 142).
(3) أنظر الكناب (1/ 210).
(4) مجموعة تفسير (ص/309).
(5) مجموعة تفسير (ص/312-313).
(6) مجموعة تفسير (ص/313- 314).
(7) أنظر الكتاب (1/ 224).
(8) أنظر الكتاب (1/ 224).
(9) مجموع فتاوى (6/ 299).
(10) شرح لمع الأدلة (ص/ 80- 81)، مخطوط.
(11) التبصير في الدين (ص/ 66- 67).
(12) التبصير في الدين (ص/97- 98).
(13) غاية المرام في علم الكلام (ص/ 191- 192).

 

 

المقالة الثالثة: قوله بالجسمية

أما قوله بالجسمية في حق الله تعالى فقد ذكر ذلك في كتابه شرح حديث النزول ونصه (1): “وأما الشرع فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإئبات بدعة في الشرع” اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه (2): “وكذلك قوله (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ) (سورة الشورى/11) , وقوله (هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (سورة مريم/65)، ونحو ذلك فنه لا يدل على نفي الصفات بوجه من الوجوه بل ولا على نفي ما يسميه أهل الاصطلاح جسما بوجه من الوجوه” اهـ.

وقال فيه أيضا ما نصه (3): “وأما ذكر التجسيم وذم المجسمة فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمة كما لا يعرف في كلامهم أيضا القول بأن الله جسم أو ليس بجسم، بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم كما ذكره أحمد في كتاب الرد على الجهمية”، اهـ.

وقال في المنهاج ما نصه (4): “أما ما ذكره من لفظ الجسم وما يتبع ذلك فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله لا كتاب ولا سنة لا نفيًا ولا إثباتًا، ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا أهل البيت ولا غيرهم ” اهـ.

وقال في المنهاج ما نصه (5): “وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يُرى أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم، فن أراد بقوله: ليس بجسم هذا المعنى قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم ئقم دليلأ على نفيه ” اهـ.

وقال في فتاويه ما نصه (6):” ثم لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لا نفيًا ولا إثباتًا، فكيف يحل أن يقال: مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته ” اهـ.

وقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه (7): “وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا، فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهل وضلال ” اهـ.

قلت: ويكفي في تبرئة أئمة الحديث ما نقله أبو الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها عن أحمد قال (8): “وأنكر أحمد على من يقول بالجسم وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طولٍ وعرضٍ وسمكٍ وتركيبٍ وصورةٍ وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجىء في الشريعة ذلك فبطل” أ هـ، ونقله الحافظ البيهقي عنه في مناقب أحمد وغيرُه.

وهذا الذي صرح به أحمد من تنزيهه الله عن هذه الأشياء الستة هو ما قال به الأشاعرة والماتريدية وهم أهل السنة الموافقون لأحمد وغيره من السلف في أصول المعتقد، فليعلم الفاهم أن نفي الجسم عن الله جاء به السلف، فظهر أن ما ادعاه ابن تيمية أن السلف لم يتكلموا في نفي الجسم عن الله غير صحيح، فينبغي استحضار ما قاله أحمد فإنه ينفع في نفي تمويه ابن تيمية وغيره ممن يدعون السلفية والحديث.

وهذا البيهقي من رؤوس أهل الحديث يقول في كتاب الأسماء والصفات (9) في باب ما جاء في العرش والكرسي عقب إيراده حديث: “أتدرون ما هذه التي فوقكم” ما نصه: (والذي روي فيءاخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه الظاهر فيصح إدرأكه بالأدلة والباطن فلا يصح كونه في مكان، واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه بقول النبي: “أنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء”، وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان” اهـ.

وقال الإمام الأشعري في كتاب النوادر: ” من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه، وأنه كافر به” اهـ.

وقال أبو الثناء اللامشي ما نصه (10): “واذا ثبت أنه تعالى ليس بجوهر فلا يُتصور أن يكون جسمًا أيضا لأن الجسم اسم للمتركِّب عن الأجزاء، يقال: “هذا أجسمُ من ذلك ” أي أكثر تركُّبًا منه، وتركب الجسم بدون الجوهرية وهي الأجزاء التي لا تتجزأ لا تتصور، ولأن الجسم لا يُتصور إلا على شكل من الأشكال، ووجوده على جميع الأشكال لا يُتصور أن يكون إذ الفرد لا يُتصور أن يكون مطوَّلا ومدورًا ومثلثًا ومربعًا، ووجوده على واحد من هذه الأشكال مع مساواة غيره إياه في صفات المدح والذم لا يكون إلا بتخصيص مخصص، وذلك من أمارات الحدث، ولأنه لو كان جسمًا لوقعت المشابهة والمماثلة بينه وبين سائر الأجسام في الجسمية، وقد قال الله تعال(لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ )(سورة الشورى/11)، ” اهـ.

ثم قال ما نصه (11): “ثم إنهم ناقضوا في ما قالوا لأن الجسم اسم للمتركِّب لما مر، فإثبات الجسم إثبات التركيب ونفي التركيب نفي الجسم، فصار قولهم: “جسم لا كالأجسام ” كقولهم: “متركب وليس بمتركب”، وهذا تناقض بَيِّنٌ بخلاف قولنا: شىء لا كالأشياء، لأن الشىء ليس باسم للمتركب وليس يُنبىء عن ذلك وإنما يُنبىء عن مطلق الوجود، فلم يكن قولنا: لا كالأشياء، نفيًا لمطلق الوجود بل يكون نفيًا لما وراء الوجود من التركيب وغيره من أمارات الحدث، فلم يكن ذلك متناقضًا ولله الحمد والمنة.

وإذا ثبت أن الله تعالى لا يوصف بالجسم فلا يوصف بالصورة أيضًا لأن الصورة لا وجود لها بدون التركيب ” اهـ.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني ما نصه (12): “فإن قالوا: ولم أنكرتم أن يكون البارىء سبحانه جسمًا لا كالأجسام كما أنه عندكـم شىء لا كالأشياء؟ قيل لهم: لأن قولنا: “شىء” لم يبن لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شىء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلَّف، ولم يكن ذلك نقضًا لمعنى تسميته بأنه شىء، وقولنا: “جسمٌ” موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أن قولنا: “إنسان ” و”محدَث” اسم لما وُجدَ عن عدم ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدَثا لا كالمحدَثات وإنسانًا لا كالناس قياسًا على أنه شىء لا كالأشياء لم يجز أن نُثبته جسمًا لا كالأجسام لأنه نقض لمعنى الكلام وإخراج له عن موضوعه وفائدته.

فإن قالوا: فما أنكرتم من جواز تسميته جسمًا وان لم يكن بحقيقة ما وُضِعَ له هذا الاسم في اللغة؟ قيل لهم: أنكرنا ذلك لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلا شرعًا لأن العقل لا يقتضيها إذ لم يكن القديم سبحانه مؤلفًا، وليس في شىء من دلائل السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وما يُستخرج من ذلك ما يدل على وجوب هذه التسمية ولا على جوازها أيضًا فبطل ما قلتموه” اهـ.

قال سيف الدين الآمدي في كتابه غاية المرام في علم الكلام (13) ما نصه: ” فإن قيل ما نشاهده من الموجودات ليس إلا أجسامًا وأعراضًا، فاثبات قسم ثالث مما لا نعقله, وإذا كانت الموجودات منحصرة فيما ذكرناه فلا جائز أن يكون البارىء عرضًا، لأن العرض مفتقر إلى الجسم والبارىء لا يفتقر إلى شىء، وإلا كان المفتقَر إليه أشرف منه وهو محال، وإذا بطل أن يكون عرضًا بقي أن يكون جسمًا، قلنا: منشأ الخبط ههنا إنما هو من الوهم بإعطاء الغائب حكم الشاهد والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس، وهو كاذب غير صادق فإن الوهم قد يرتمي إلى أنه لا جسم إلا في مكان بناءً على الشاهد، وان شهد العقل بأن العالم لا في مكان لكون البرهان قد دلَّ على نهايته، بل وقد يشتد وهم بعض الناس بحيث يقضي به على العقل، وذلك كمن ينفر عن المبيت في بيت فيه ميت لتوهمه أنه يتحرك أو يقوم وإن كان عقله يقضي بانتفاء ذلك، فإذًا اللبيب من ترك الوهم جانبًا ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحبًا، واذا عرف أن مستند ذلك ليس إلا مجرد الوهم فطريق كشف الخيال إنما هو بالنظر في البرهان، فإنَّا قد بَيّنا أنه لا بد من موجود هو مُبْدِأُ الكائنات، وبيَّنا أنه لا جائز أن يكون له مثل من الموجودات شاهدًا ولا غائبًا، ومع تسليم هاتين القاعدتين يتبيَّن أن ما يقضي به الوهم لا حاصل له؟ ثم لو لزم أن يكون جسمًا كما في الشاهد للزم أن يكون حادثًا كما في الشاهد وهو ممتنع لما سبق ” اهـ.

وقال الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي (14) ما نصه: “والذي يعبد جسمًا على عرشٍ كبير ويجعل جسمه كقبر أبي قبيس سبعة أشبار بشبره كما حكي عن هشام الرافضي أو كلامًا ءاخر تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم فقد عبد غير الله فهو كافر، وقالى إن قسمًا من القائلين بالتحيز بالجهة أطلقوا الجسمية ومنعوا التأليف والتركيب وقالوا: “عنيت بكونه جسمًا وجوده ” وهؤلاء كفروا. ثم قإل: “قال الإمام أبو سعيد المتولي في كتاب غنية المقبول في علم الأصول: إن قالوا نحن نريد بقولنا جسم أنه موجود ولا نريد التأليف، قلنا: هذة التسمية في اللغة ليس كما ذكرتم وهي مُنبئة عن المستحيل فلِما أطلقتم ذلك من غير ورود سمع، وما الفصل بينكم وبين من يسميه جسدًا ويريد به الوجود وإن كان يخالف مقتضى اللغة. قال أبو سعيد رحمه الله: فإن قيل أليس يسمى نفسًا؟ قلنا: اتبعنا فيه السمع وهو قوله سبحانه: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) (سورة المائدة/116)، ولم يرد السمعُ بالجسم، وكذلك قال الإمام يعني إمام الحرمين “.

 (1) شرح حديث النزول (ص/ 80).
(2) أنظر الكتاب (1/ 62).
(3) أنظر الكتاب (1/ 148).
(4) أنظر الكتاب (1/ 197)، ونحوه (1/ 4 5 2).
(5) أنظر الكتاب (1/ 180).
(6) مجموع فتاوى (4/ 152).
(7) بيان تلبيس الجهمية (1/101).
(8) اعتقاد الإمام أحمد (ص/ 7- 8)، مخطوط.
(9) الأسماء والصفات (ص/ 400).
(10) التمهيد لقواعد التوحيد (ص/ 56).
(11) التمهيد لقواعد التوحيد (ص/ 60).
(12) تمهيد الأوانل (ص/ 222).
(13) غاية المرام في علم الكلام (ص/ 185- 186).
(14) نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/ 544)، مخطوط.

المقالة الرابعة
زعمه أن الله يتكلم بحرفٍ وصوتٍ وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء

ومن جملة افتراءات ابن تيمية على أئمة الحديث وأهل السُّنة والجماعة نقله عنهم أن الله متكلم بصوت نوعه قديم أي يحدث في ذات الله شيئا بعد شىء قال في كتابه رسالة في صفة الكلام (1) ما نصه: “وحينئذٍ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل إنه ينادي ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرءان والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديمًا لم يستلزم أن يكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من الفرق بين النوع والعين” ا هـ.

وقال في موضع (2) ءاخر منه: “وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد ابن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سمّاه الفصول في الأصول: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرءان كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر، والقرءان حمله جبريل عليه السلام مسموعًا من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو الذى نتلوه نحن مقروء بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”ا هـ.

وقال في المنهاج (3) “وسابعها قول من يقول إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسُّنة وبالجملة أهل السُّنة والجماعة أهل الحديث “. اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه (4): “وإذا قال السلف والأئمة إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلمًا، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شىء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات ” اهـ.

ثم قال فيه ما نصه (5): “فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم، قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي، تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله ” اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه (6): “وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنه لم يزل متكلمًا بحروف متعاقبة لا مجتمعة” اهـ.

وقال في فتاويه ما نصه (7): “فعلم أن قدمه عنده أنه لم يزل إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء” اهـ.

وقال فيه ايضا ما نصّه (8): “وفي الصحيح: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان “، فقوله:” إذا تكلم الله بالوحي سمع يدل على أنه “يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئا بعد شىء والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا” اهـ.

وقال أيضًا ما نصه (9): “وجمهور المسلمين يقولون: إن القرءان العربي كلام الله، وقد تكلـم الله به بحرف وصوت، فقالوا: إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف بلا أصوات، وإن الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال كـما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرءان في موضعءاخر” اهـ.

وقال في مجموعة تفسير ما نصه (10): ” وقولهم، “إن المحدَث يفتقر إلى إحداث وهلم جرا” هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل ” اهـ.

أقول: فلا يغتر مطالع كتبه بنسبة هذا (الرأي الفاسد إلى أئمة أهل السنة وذلك دأبه أن ينسب رأيه الذي يراه ويهواه إلى أئمة أهل السُّنة، وليعلم الناظر في مؤلفاته أن هذا تلبيس وتمويه محض يريد أن يروجه على ضعفاء العقول الذين لا يوفقون بين العقل والنقل، وقد قال الموفقون من أهل الحديث وغيرهم إن ما يحيله العقل فلا يصح أن يكون هو شرع الله كما قال ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: إن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول، وبهذا يردّ الخبر الصحيح الإسناد أي إذا لم يقبل التأويل كما قاله علماء المصطلح في بيان ما يعلم به كون الحديث موضوعًا، وأيّدوا ذلك بأن العقل شاهد الشرع فكيف يرد الشرع بما يكذبه شاهده.

فمن قال: إن الله يتكلم بصوت، وقال: إنه صوت أزلي أبدي ليس فيه تعاقب الحروف فلا يُكَفَّر إن كان نيته كما يقول، وإلا فهو كافر كسائر المشبهة. وأما أحاديث الصوت فليس فيها ما يحتج به في العقائد، وقد ورد حديث مختلف في بعض رواته وهو عبد الله بن محمد بن عقيل (11)، روى حديثه البخاري (12) بصيغة التمريض، قال: ويُذكر، وفيه: (فينادى بصوت فيسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، أنا الملك أنا الديّان “، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض من أجل راويه هذا، قال الحافظ ابن حجر (13): “ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأنّ الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف- فيها ولو اعتضدت ” ا. هـ. أي لا يكفي ذلك في مسائل الاعتقاد وإن كان البخاري ذكر أوله في كتاب العلم (14) بصيغة الجزم لأنه ليس- فيه ذكر الصوت، إنما فيه ذكر رحيل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أُتَيْس من المدينة إلى مصر.

والحديث الآخر (15) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): “يقول الله يوم القيامة: ياءادم، فيقول: لبيّك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار”، هذا اللفظ رواه رواة البخاري على وجهين، بعضهم رواه بكسر الدال وبعضهم رواه بفتح الدال.

قال الحافظ ابن حجر (16): “ووقع فينادي مضبوطًا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك ” اهـ. وهذا الحديث رواه البخاري موصولاً مسندًا، لكنه ليس صريحًا في إثبات الصوت صفة لله فلا حجة فيه لذلك للصوتية.

قال الحافظ ابن حجر (17): “قال البيهقي: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره في حديث ابن مسعود (18) وفي حديث أبي هريرة أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًّا في المسألة، وأشار- يعني البيهقي- في موضعءاخر إلى أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بصوت “. انتهى.

قال الكوثري في مقالاته (19) ما نصه: “ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث ” اهـ.

أقول: وكذا قال البيهقي في الأسماء والصفات (20) فليس فيها ما يصح الاحتجاج به لإثبات الصفات لأن حديث الصفات لا يقبل إلا أن يكون رواته كلهم متفقًا على توثيقهم، وهذه الروايات المذكورة في فتح الباري في كتاب التوحيد ليست على هذا الشرط الذي لا بدّ من حصوله لأحاديث الصفات كما ذكره صاحب الفتح في كتاب العلم. لكنه خالف في موضع بما أورده في كتاب التوحيد من قوله: بعد صحة الأحاديث يتعين القول بإثبات الصوت له ويؤول على أنه صوت لا يستلزم المخارج.

ثم قال الكوثري: “وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحراني (21) تبعا لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أن اللفظ حادث شخصًا قديم نوعًا، يعني أن اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثا حتمًا، لكن ما من لفظ إلا وقبله لفظ صدر منه إلى ما لا أول له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قدمه بهذا الاعتبار في نظر هذا المخرف، تعالى الله عن إفك الأفّاكين، ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في الله جل شأنه وأن القول بحوادث لا أوّل لها هذيان، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقا بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالا، ولأنه لا وجود للنوع إلا في ضمن أفراده، فادعاء قدم النوع مع الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان. وقد أجاد الرد عليه العلاّمة قاسم في كلامه على المسايرة”. ا.هـ.

قلت: وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي ابن أبي المكارم المقدسي المالكي ما نصه (22): ” كان صحيح الاعتقاد مخالفا للطائفة التي تزعم أنها أثرية، صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواة أحاديث الأصوات وأوهاهم، وحكى الشيخ تقي الدين شرف الحفاظ عن والده مجد الدين قال بأنه بلغ رتبة المجتهدين” ! اهـ.

فلا يصحُّ حمل ما ورد في النصّ من النداء المضافِ إلى الله تعالى في حديث “يحشر الله العباد فيناديهم بصوت…” على الصوتِ على معنى خروجه من الله، فتمسُّك المشبهة بالظاهر لاعتقاد ذلك تمويه لا يروج إلا عند سُخفاء العقول الذين حُرموا منفعة العقل الذي جعل الشرع له اعتبارًا، وهل عُرِفت المعجزة أنها دليل على صحة نبوة من أتى بها من الأنبياء إلا بالعقل؟

وقال- أي الكوثري- في تعليقه على السيف الصقيل ما نصه (23):”وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول (… فينادى بصوت إن الله يأمرك…” فيكون الإسناد مجازيًا، على أن الناظم يعني ابن زفيل وهو ابن قيم الجوزية. ساق في “حادي الأرواح ” بطريق الدارقطني حديثا فيه: “يبعث الله يوم القيامة مناديًا بصوت….” وهذا نص من النبي (صلّى اللع عليه وسلّم) على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمة”اهـ.

وهناك حديث ءاخر (24): (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا”، ورواه أبو داود (25) بلفظ: “سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان”، وهذا قد يحتج به المشبهة، وليس لهم فيه حجة لأن الصوت خارجٌ من السماء، فالحديث فسر الحديث بأن الصوت للسماء، فتبين أن قول الحافظ ابن حجر في موضع من الشرح: إن إسناد الصوت إلى الله ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة فيه نظر فليُتأمل.

قال الشيباني في شرح الطحاوية (26) ما نصه: “والحرف والصوت مخلوق، خلق الله تعالى ليحصل به التفاهم والتخاطب لحاجة العباد إلى ذلك أي الحروف والأصوات، والبارىء سبحانه وتعالى وكلامه مستغن عن ذلك أي عن الحروف والأصوات، وهو معنى قوله: “ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر” اهـ.

 

 

قول ابن تيمية ان الله يتكلم بحرف وصوت والردّ عليه

فإذا قال قائل إن بعض اللغويين قال: النداء الصوت، قلنا ليس مراد من قال ذلك أن النداء لا يكون في لغة العرب في جميع الموارد إلا بالصوت، وإنما المراد أنه في غالب الاستعمال يكون بالصوت، وقد قال ءاخرون من اللغويين: النداء طلب الإقبالِ، فليعلم المغفلون الآن ما جهلوه من أن قول السلف عند ذكر تلك الآيات وتلك الأحاديث بلا كيف معناه ليس على ما يفهمه الناس من صفات المخلوقين، ولوكان يصح أن يكون قول الله تعالى: (وَجَآءَ رَبُّك ) (سورة الفجر/22)، المجيء المعهود من الخلق ما قال الإمام أحمد في هذه الآية: (وَجَآءَ رَبُّك ) إنما جاءت قدرته.

قال القرطبي في التذكرة ما نصه (27): فصل: قوله في الحديث: “فيناديهم بصوت”: استدل به من قال بالحرف والصوت وأن الله يتكلم بذلك، تعالى عما يقول المجسمون والجاحدون علوًا كبيرًا، إنما يُحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَونُ فِي قَوْمِهِ) (سورة الزخرف/51)، وإنما المراد نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضًا قتل الأمير فلانًا، وضرب فلانًا، وليس المراد توليَه لهذه الأفعال وتصديَهُ لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم.

ومثله ما جاء في حديث النزول مفسرًا فيما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا: قال رسول الله: ” إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا. يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفريغفرله، هل من سائل يعطى صححه أبو محمد عبد الحق، وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه، وأن ذلك من باب حذف المضاف، والدليل على ذلك ما ثبت من قِدَم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتب الديانات.

فإن قال بعض الأغبياء: لا وجه لحمل الحديث على نا ذكرتموه فإن فيه: “أنا الديّان”، وليس يصدر هذا الكلام حقًّا وصدقًا إلا من رب العالمين؟ قيل له: إن الملَكَ إذا كان يقول عن الله تعالى ويُنْبِىءُ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين، والدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى: (إنًّنِي أَنَا الله) (سورة طه/14)، فليس يرجع إلى القارىء وإنما القارىء ذاكر لكلام الله تعالى ودالُّ عليه بأصواته وهذا بَيّنٌ) ” اهـ.

قلت: وهذا له أيضًا دليل قوي في الصحيح (28) في حديث المعراج الذي ذكر فيه تخفيف الخمسين صلاة إلى خمس قوله (صلّى الله عليه وسلّم): ” فلما جاوزت ناداني منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي “، فما أراد رسول الله بقوله: “ناداني” إلا المَلَك. فإذا ثبت هذا النداء من المَلَك مبلغًا عن الله فلا يمتنع أن ينادي المَلَك بتلك الجمل الثلاث: (هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى”، فبطل استنكار أن يكون هذا اللفظ من المَلَك في حديث النزول، فأين تذهب المشبهة.

قال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه (29): “وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني زورت في نفسي كلاما”

الطرف الثالث: إذا أطلق الكلام على المعنى القائم بالنفس وعلى الألفاظ الدالة عليه فهل هو حقيقة فيهما معًا أو حقيقة في اللفظ مجاز في القائم بالنفس أو بالعكس اختلفوا في ذلك، فنقل عن الشيخ أبي الحسن قولان أحدهما: إنه حقيقة في المعنى القائم بالنفس مجاز في العبارات من مجاز إطلاق الدليل على المدلول، والقول الثاني: إنه حقيقة فيهما لاستعماله فيهما جميعًا. والأصل في الإطلاق الحقيقة وصار غيره إلى أنه حقيقة في العبارات لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق وعدم القرائن، ومجاز في المعنى القائم بالنفس لخفائه ولا يبعد أن يكون حقيقة لغوية في المعنى القائم بالنفس، ومجازٍا في الألفاظ ” اهـ.

ثم قال أيضا ما نصه (30): “الفرقة الثانية: وهم الكرّامية زعموا أن البارىء تعالى تقوم به الأقوال المركبة من الحروف والأصوات، قالوا: ولا يكون قابلاً بها وإنما هو قابل للقابلية، وفسروا القابلية بالقدرة على القول، وكذلك أثبتوا له مشيئة قديمةً وإراداتٍ حادثة تقوم به، قالوا: وإذا أراد الله تعالى إحداث محدَثٍ في الوجود خلق بذاته كافًا ونونًا وإرادة يوجِب بها ما هو خارج عن ذاته أخذًا من قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (سورة يس/82)، وما ذكروه من قيام الحوادث بذاته يلزم منه حدوثه، فإن كل ما قبل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث، وأما الآية فهي إشارة إلى سرعة وقوع المراد فعبر عن القصد إلى الإيقاع بالأمر، وعن الوقوع بصورة الامتثال”اهـ.

وتبع ابن تيمية الكرامية في ذلك في قوله إن الله تقوم به كلمات تحدث في ذاته من وقت بعده وقت وهكذا على الاستمرار، يقول: فكلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد كما قالت الكرامية، وينسب هذا المذهب الردىء الذي أخذه من الكرامية إلى أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل الحديث على خلاف ما يدعيه وما يقول، فإن معتقدهم أن ذات الله تعالى لا تحدث فيه صفة تتجدد من وقت إلى وقت، تتجدد في مرور الأوقات، ويكفي في ذلك ما ذكره الحافظ الطحاوي الشهير ناسبًا ذلك إلى معتقد أبي حنيفة وصاحبيه ومن كان في تلك العصور من الأئمة، لأنه ألف عقيدته هذه المشهورة لبيان ما عليه أهل السنة وليس لبيان ما هو معتقده الخاص.

وأما ما احتج به ابن تيمية موهمًا أن أئمة الحديث على ذلك فإنما هو قول بعض المشبهة من الحنابلة وغيرهم، وليس هؤلاء الذين يعتمد عليهم في تلك المنزلة في الحديث لأنه يعتمد على مثل أبي إسماعيل الهروي السجزي وعثمان بن سعيد الدارمي، وأما ما يذكره عن ابن المبارك فهو- غير ثابت إسنادًا، وقد نص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الله تعالى متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا، وكل الحفاظ المنتسبين إلى مذهبه على هذا، وكذا الحفاظ المشاهير المنتسبون إلى الشافعي على هذا، وكذلك حفاظ المالكية ومتقدمو الحنابلة، فكيف يتجرأ ابن تيمية على نسبة هذا إلى أئمة الحديث موهمًا أن هذا مما أجمعوا عليه، وكثيرًا ما ينقل اتفاق العلماء على أشياء انفرد هو بها.

ويكفي أهل السنة دليلأ على أن الله تعالى لا يتكلم بالحرف والصوت ما أنزله إلله في القرءان وهو قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (سورة التكوير/19)، يعني أن القرءان الذي هو اللفظ المنزل مقروء جبريل ليس مقروء الله، والى هذا أشار الطحاوي في عقيدته بقوله: “وأن القرءان كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا”، والمراد بقوله: “بلا كيفية قولا، نفي أن يكون الله تعالى يتكلم بالحرف والصوت كما يتكلم العباد لأنه هو الذي نفاه بقوله “بلا كيفية”، وإلا فلو كان الله قرأ القرءان على جبريل بالحرف والصوت لم يقل “بلا كيفية” لأن الحروف كيفيات، سبحان الله الذي يقفل قلوب من شاء من عباده عن فهم الحق.

وأما قول الطحاوي: “منه بدا”، فليس معناه أن الله أحدثه في ذاته بعد أن لم يكن يتكلم به، إنما معناه منزل من عنده، أي نزل به جبريل بأمر الله.

وأما قول الله تعالى: (مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) (سورة لقمان/27) ، فالجمع ليس لأن كلام الله حروف متعاقبة، إنما ذكر بالجمع في الآية للتعظيم أي لتعظيم كلامه كما قال البيهقي في الأسماء والصفات (31) مع كونه في الخقيقة واحدًا لا تعدد فيه، شامل لكل متعلقاته من الواجب والجائز والمستحيل، لأن الكلام معناه الإخبار والذِّكر، ولا يُقاس صفة من صفات الله بصفات غيره، فمن قاس كلام الله الأزلي الشامل للواجب العقلي والجائز العقلي والمستحيل العقلي على كلام العباد فقد شبهه بخلقه. ومنشأ ضلالة المشبهة أنهم قاسوا ذاته الذي ليس حجمًا وجسمًا بذوات الخلق فأثبتوا له الحيز والشكل، وقاسوا صفاته بصفات خلقه فجعلوها حادثة وهذا يشهد عليهم بأنهم لم يفهموا قول الله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

فائدة جليلة: من الدليل على، أن اللفظ المنزل المتألف من الحروف لا يجوز أن يكون كلام الله الأزلي القائم بذاته ما ثبت أن الله تعالى يكلم كل فرد من أفراد العباد يوم القيامة، فلو كان الله تبارك وتعالى يكلمهم بصوت وحرف لم يكن حسابه لعباده سريعًا، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب.

ولو كان كلام الله تعالى بحرف وأصوات لكان أبطأ الحاسبين، وهذا ضد الآية التي فيها إن الله أسرع، لحاسبين قال الله تعالى: (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنـعام/62)، فـلا يتحقق معنى أسرع الحاسبين إلا على مذهب أهل السنة أن الله متكلم بكلام أزلي بغير حرف ولا صوت.

وذلك لأن عدد الجن والإنس كثير لا يحصيهم إلا الله، ومن الجن من يعيش ءالافًا من السنين، ومن الإنس من عاش ألفي سنة فأكثر، فقد عاش ذو القرنين في ملكه ألفي عام كما قال الشاعر العربي:

الصّعبُ ذو القرنين أمسى ملكُه ألفيـن عامًـا ثـم صار رميـما

ومن الإنس أيضًا يأجوج ومأجوج كما ورد في الحديث أنهم من ولد ءادم، وورد أنهم أكثر أهل النار كما روى البخاري، وورد أنه لا يموت أحدهم حتى يلد ألفًا لصلبه كما رواه ابن حبان والنسائي (32)، وهؤلاء يحاسبهم الله على أقوالهم مع كثرتهم الكثيرة ويكلم كل فرد منهم تكليمًا بلا ترجمان، ويحاسبهم على عقائدهم ونواياهم وأفعالهم، فلا بد أن يأخذ حسابهم على موجب قول المشبهة الذين يقولون كلام الله حرف وصوت يتكلم من وقت إلى وقت ثم من وقت إلى وقت مدة واسعة جدًّا، فعلى موجب كلامهم يستغرق ذلك جملة مدة القيامة التي هي خمسون ألف سنة، وعلى قولهم هذا لم يكن الله أسرع الحاسبين وهو وصف نفسه بأنه أسرع الحاسبين كما تقدم، فقول المشبهة يؤدي إلى خلاف القرءان وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.

وأما قول أهل السنة إن كلام الله ليس متجزئًا فيفهمون من كلامه الذي ليس بحرف وصوت وغير متجزىء في ساعة واحدة (33)، فيتحقق على ذلك أنه أسرع الحاسبين.

فائدة أخرى: قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي (34) ما نصه:” قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم، فإن القديم لا ابتداء لوجوده وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارىء جلّ جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محال”اهـ.

فالحاصل أنه ليس في إثبات الصوت لثه تعالى حديث مع الصحة المعتبرة في أحاديث الصفات، لأن أمر الصفات يُحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره، ويدل على ذلك رواية البخاري القدر الذي ليس فيه ذكر الصوت من حديث جابر هذا بصيغة الجزم، وروايته للقدر الذي فيه ذكر الصوت بصيغة التمريض، فتحصّلَ أن في أحاديث الصفات مذهبين:

أحدهما: اشتراط أن يكون في درجة المشهور، وهو ما رواه ثلاثة عن ثلاثة فأكثر، وهو ما عليه أبو حنيفة وأتباعه من الماتريدية، وقد احتج أبو حنيفة رضي الله عنه في رسائله التي ألفها في الاعتقاد بنحو أربعين حديثا من قبيل المشهور.

والثاني: ما ذهب إليه أهل التنزيه من المحدثين، وهو اشتراط أن يكون الراوي متففا على ثقته.

فهذان المذهبان لا بأس بكليهما، وأما الثالث وهو ما نزل عن ذلك فلا يحتج به لإثبات الصفات.

وهناك قاعدةُ تناسب هذا المطْلب وهي ما ذكرها الحافظ الخطيب أبو بكر البغدادي قال: “يُردّ الحديث الصحيح الإسناد لأمور: أن يخالف القرءان أو السنة المتواترة، أو العقل ” قال: “لأن الشرع لا يأتي إلا بمُجَوَّزات العقول ” (35)، والخطيب البغدادي (36) أحد حفاظ الحديث السبعة الذين نوه علماء الحديث في كتب المصطلح بهم، وهم أصحاب الكتب الخمسة والبيهقي وهذا الخطيب البغدادي، وهو مذكور في كتاب تدريب الراوي (37) من كتب مصطلح الحديث وغيره. وللذهبي عبارة موافقة للمذهب الثاني من المذاهب الثلاثة، وإن كان يتساهل بإيراد أحاديث غير ثابتة وءاثارٍ من كلام التابعينَ ونحوهم من غير تَبيين لحالها من حيث الإِسناد والمتن في بعض ما يذكره، وذلك في كتابه العلو للعلي الغفار فليحذر فإن ضرره على مطالعه عظيم.

قال الإمام الإسفراييني ذاكرًا عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه (38): “وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليسى بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر، وذلك مستحيل على القديم سبحانه ” اهـ.

وقال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه (39): “ومبتدعة الحنابلة قالوا: كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلاً حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلاً عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للحس للإحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه” اهـ.

وقال أيضا ما نصه(40): “وقد ذكر المشايخ رحمهم الله تعالى أنه يقال: القرءان كلام الله غير مخلوق، ولا يقال القرءان غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه بعض جهلة الحنابلة” اهـ.

فانظر أيها الطالب للحق وتمعن بعد ذلك، كيف يلتفت إلى رجل كذب القرءان والحديث وقال كل تلك المقولات  وتكلم فيه كل هؤلاء العلماء ليبينوا حقيقته للناس ليحذروا منه، فهل يكون بيان الحق شيئا يعترض عليه، سبحانك هذا بهتان عظيم. احذر وحذر من ابن تيمية الحراني الذي حبس ومات في السجن لأنه خرق اجماع المسلمين قاطبة.

 

 (1) أنظر الكتاب (ص/ 51).
(2) أنظر الكتاب (ص/ 54).
(3) أنظر المنهاج (1/ 221).
(4) أنظر الموافقة (2/ 143).
(5) أنظر الموافقة (2/ 151).
(6) أنظر الموافقة (4/ 107).
(7) مجموع فتاوى (6/ 160).
(8) مجموع فتاوى (6/ 234).
(9) مجموع فتاوى (5/ 556- 557).
(10) مجموعة تفسير ست سور (ص/ 311).
(11) راجع ترجمته في: الضعفاء الكبير (2/ 298)، الكامل (4/ 1446)، المجروحين (2/ 3)، سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني (ص/ 88)، أحرال الرّجال (ص/ 138)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 140)، الجرح والتعديل (5/ 153)،0 المغني (1/ 354)، تهذيب التهذيب (6/ 13)، الكاشف (2/113)، ميزان الاعتدال (3/ 484)، التاريخ الكبير (5/ 183).

(12) أخرجه عن ابن عقيل البخاري في الأدب المفرد: باب المعانقة، وأخرجه البخاري بي صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الآية ذكره تعليقًا بغير إسناد.
(13) فتح الباري بثرح صحيح البخاري (1/ 174- 175).
(14) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا: كتاب العلم: باب الخروج في طلب العلم.
(15) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: ” ” الآية.
(16) فتح الباري (13/ 460) .
(17) أنظر فتح الباري (458/13).
(18) يعني به قوله: “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا، فإذا فُزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحقّ، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق”- رواه البخاري- وفي حديث أبي هريرة عن النبي(صلّى الله عليه وسلّم) أنه قال: ” إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملاتكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كانه سلسلة على صفوان، قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ وهو العلي الكبير”- رواه البخاري-.
(19) أنظر المقالات (ص/ 33).
(20) الأسماء والصفات (ص/ 273).
(21) يعني ابن تبمية، نسبة إلى حرّان.
(22) نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/ 249)، مخطوط.
(23) أنظر الكتاب (ص/52).
(24) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى (وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)، الآية.
(25) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرءان.
(26) شرح الطحاوية (ص/ 14)، مخطوط.
(27) التذكرة في أحوال الموتى وأمرر الاخرة (ص/ 338- 339).
(28) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج.
(29) شرح لمع الأدلة (ص/ 71)، مخطوط.
(30) شرح لمع الأدلة (ص/ 64- 65)، مخطوط.
(31) الأسماء والصفات (ص/313).
(32) أنظر الإحسان (1/ 292)، والسنن الكبرى: كتاب التفسير: تفسير سورة الأنبياء.
(33) والمراد بها جزء قليل لا الساعة الزمنية المعتادة في محاورات الناس اليوم.
(34) نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/ 559)، مخطوط.

(35) الفقيه والمتفقه (1/ 133- 133).
(36) هو الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف، ولد سنة 392 هـ. وله رحلات عديدة، ومؤلفات كثيرة، توفي سنة 463 هـ.
(37) تدريب الراوي (1/ 276).
(38) التبصير في الدين (ص/ 102).
(39) شرح الفقه الأكبر (ص/29- 35).
(40) شرح الفقه الأكبر (ص/ 41).

 

Prev Post

من مواعظ الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم

Next Post

The Truth About Adam, the first Human

post-bars