شروح لأحاديث النبوية كثر الحديث عنها
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. هذا الحديث رواه الترمذي في جامعه؛ هو حديث صحيح متفق عليه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عمر: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكرموا أصحابي وفي لفظ: أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يحدث وهو جالس وأحيانا يحدث وهو قائم هذا الحديث مما حدّث به وهو قائم لتأكيد معناه في نفوس أصحابه لهذا قام تحدث به وهو قائم معناه تأكيد اتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون وأتباع التابعين أهل القرون الثلاثة، هي القرون الثلاثة وإن كانوا في المئات الثلاث الأولى، المائة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة المؤمنون الذين كانوا في هذه العصور الثلاثة أفضل أمة محمد هم أفضل ممن جاء بعدهم لأن الكذب لم يكن كثر إلى ما بلغ إليه بعد هذه القرون الثلاثة ما كان كثر في تلك القرون الثلاثة إلى الحد الذي فشى فيما بعد تلك القرون الثلاثة فهم خير هذه الأمة فأولئك أفضل الأمة من حيث الاعتقاد أي من حيث العقيدة عقيدة الإيمان ومن حيث الأعمال هم أفضل هذه الأمة في الأمرين أي في العقيدة وفي الأحكام ثم الرسول أخبر بمزية الإعتناء بأهل تلك القرون الثلاثة بقوله: فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة أي من أراد أن يكون في وسط الجنة يوم القيامة في الآخرة فلا يفارق الجماعة. من هم الجماعة؟ الجماعة هم الذين كانوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم من حيث الاعتقاد جمهور الأمة جمهور علماء الاسلام لا يفارقون ذلك أي لا يفارقون ما كان يعتقده الصحابة والرسول ومن تبعهم بإحسان لا يخرجون عن ذلك الجمهور لا يخرجون إلى يوم القيامة وإن قصّروا في الأعمال، اليوم إذا نظرنا إلى المسلمين نجد أغلب المسلمين من حيث العمل مقصرين ليس اليوم فقط بل منذ مئات من السنين هذا التقصير في العمل حصل ثم ازداد قرنا بعد قرن الإهمال من حيث العمل أما من حيث المعتقد فأمة محمد الجمهور لا يزالون على تلك العقيدة الاعتقاد الذي كان عليه الرسول والصحابة ما هي تلك العقيدة؟ هو اعتقاد أن الله تعالى موجود لا يستحق أحد أن يتذلل له نهاية التذلل فيعظم نهاية التعظيم إلا هو وانه لا يشبه شيئا من خلقه ليس متصفا بصفات البشر، صفات البشر معلومة التطور والتغير والعجز والضعف واللون والبياض والسواد ونحو ذلك والتنقل أي الحركات والسكنات هذه صفات البشر نعرفها من أنفسنا نحن نتحرك أحيانا وأحيانا نسكن وأحيانا ننفعل وأحيانا نتأثر بشئ فالله تبارك وتعالى لا يتصف بهذه الصفات التي يتصف بها البشر، ومن صفات البشر الجلوس على شئ فالله تبارك وتعالى منزه عن ذلك عن الجلوس على شئ على العرش أو على الكرسي منزه عن هذه الأشياء مما ذكرنا ومما لم نذكر هي صفات يعرفها الإنسان إذا فكر فيها وذلك لأن الله تعالى لو كان يشبه شيئا لو كان يشبه البشر أو الملائكة أو غير ذلك كالجمادات كالشمس والقمر والنجوم والضوء والظلام لو كان يشبه هذه الأشياء ما استطاع أن يخلقها، شبيه الشئ لا يجوز في العقل أن يخلق ذلك الشئ، الواحد منا لا يستطيع أن يخلق إنسانا مثله كذلك الواحد منا عاجز عن أن يخلق غير الانسان من هذه المخلوقات التي نعهدها والتي لا نعهدها التي نعلمها والتي لا نعلمها. وكان من عقيدة الصحابة التي تلقاها أهل القرون الثلاثة أن الله تعالى يغفر الذنوب إلا الكفر بما فيه من الشرك وغيره، الكفر إما إشراك وإما غير إشراك، الإشراك هو أن يعبد الانسان غير الله هذا يقال له إشراك، أما الكفر الذي هو غير إشراك كتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به والاستهزاء بالملائكة والاستهزاء بشعائر الدين كالصلاة والصيام والحج والزكاة حتى بعض أعمال الحج التي هي مشهورة يعرفها المسلمون العلماء وغيرهم كرمي الجمار أي الأماكن الثلاث التي يرمي الحاج سبع حصيات إليها وهي رمز لإحياء سنة إبراهيم، الله أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن يفعل ذلك ويأمر أمته بذلك لإحياء سنة إبراهيم عليه السلام لأن إبراهيم كان ظهر له الشيطان في تلك الأماكن الثلاثة ليصده عن تنفيذ أمر الله الذي أمره فعرفه إبراهيم عرفه أنه إبليس رماه بسبع حصيات إهانة له في الموضع الأول بعدما رماه اختفى ثم ظهر في المكان الثاني لأن طمعَ إبليس وجماعته في إغواء الناس شديد شديد، له شهوة بإغواء الناس، ثم ظهر في المكان الثاني ثم رماه بسبع حصيات ثم اختفى ثم ظهر في المكان الثالث فرماه بسبع حصيات ثم اختفى. إحياءً لتلك السنة التي فعلها إبراهيم أمرنا بالرمي حتى هذا من استخف به واستهزأ يكفر خرج من الإسلام وهناك مسائل في العقيدة كان عليها الرسول والصحابة ثم تبعهم عليها جمهور الأمة إلى يومنا هذا لا يخرجون عن تلك العقيدة، الرسول يحذرنا من أولئك. ثم تلك العقيدة في القرن الثالث الهجري اعتنى بتقريرها وحفظها ورد الشبهات التي يحكيها ضد أهل الحق المبتدعون المحرفون المنحرفون عن تلك العقيدة التي كان عليها الرسول والصحابة فصدّ في أواخر القرن الثالث من الأئمة أحدهما أبو منصور الماتريدي والإمام الثاني أبو الحسن الأشعري عربي أصله يرجع إلى أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله ثلى الله عليه وسلم. وأبو موسى معروف من مشاهير أصحاب رسول الله، هو الذي قال فيه الرسول مدحا لحسن صوته، لقد أوتي عبد الله بن قيس مزمارا من مزامير ءال داود من حسن صوته الرسول قال فيه هذا الحديث أي أن عبد الله بن قيس هو أبو موسى الأشعري أعطي من حسن الصوت مثلما أعطي داود، كان داود حسن الصوت إلى حد كبير. الإمام أبو الحسن الأشعري يقال له علي بن إسماعيل من ذرية أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. أهل السنة أتباع لهذين الإمامين وهما يعدان من السلف لأنهما عاشا عشرات السنين من القرن الثالث الهجري الذي هو أحد القرون الثلاثة الفاضلة ثم تأخرت وفاتهما إلى أوائل القرن الذي يليه. هذان اشتغلا جزاهما الله خيرا عن المسلمين بتحرير عقيدة الصحابة والتابعين وتقريرها بالأدلة العقلية والأدلة السمعية أي الأدلة التي هي من القرءان أو الحديث لأن القرءان فيه أدلة في العقيدة والحديث كذلك فيه أدلة في العقيدة هذان هما إماما أهل السنة. الحنفية أتباع الإمام أبو حنيفة في الماضي كانوا ماتردية أما أتباع الإمام مالك في الفقه وأتباع الشافعي من أتباع أبي الحسن الأشعري. أغلب علماء الإسلام علماء أهل السنة من هذين لا يخرجون. أما الإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه فمن أتباعه من علماء الحديث البيهقي رحمه الله، البيهقي علم من أعلام المحدثين من أعلام حفاظ الحديث يقول بعض الحفاظ من أهل القرن الثامن فهو الإمام الحافظ فقيه شافعي صلاح الدين العلائي يقول: ما جاء بعد البيهقي والدارقطني من يساويهما ولا من يقاربهما في الحديث في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته ما جاء بعدهما مثلهما. البيهقي توفي في القرن الرابع وكذلك الدارقطني هذا الإمام الذي شهد له هذا الحافظ صلاح الدين العلائي قال في الثناء على البيهقي ما جاء بعده وبعد الدارقطني من يساويهما أي في علم الحديث ولا من يقاربهما هذا الذي يقول هذا كان من أكابر الحفاظ من المحدثين في عصره وهذا الإمام الحافظ الذي قال في البيهقي والدارقطني إنه لم يأت بعدهما مثلهما ولا من يقاربهما مشهور بعلم الحديث تخرج به محدثون مثل الحافظ العراقي الذي يقول عنه ابن حجر الذي قيل فيه أمير المؤمنين في الحديث يقول شيخ مشايخنا صلاح الدين العلائي يعني في الحديث. ومن أتباع الإمام أبي الحسن رضي الله عنه الإمام الحافظ الفقيه سهل بن محمد أبو الطيب الصعلوكي هذا أيضا كان ممن كان في القرن الثالث الهجري يقول فيه صاحب المستدرك الحافظ الحاكم أنه هو المجدد الرابع في هذه الأمة . ذكر أن المجدد الأول لرأس القرن الأول هو عمر بن عبد العزيز ثم قال إن المجدد الثاني للقرن الثاني هو الإمام الشافعي رضي الله عنهم وقال إن المجدد الثالث للقرن الثالث، هو المجدد يكون عند تمام القرن على رأس المائة يقال ابن سُريج ثم قال المجدد الرابع هذا الإمام سهل بن محمد الصعلوكي. هذا أيضا كان من الأشاعرة من رؤوس الأشاعرة أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري وهؤلاء من الرؤوس من رؤوس الأشاعرة ومن حفاظ الحديث ولو استقصينا أسماء الذين منهم حفاظ الحديث وأتباع الإمام الأشعري في الاعتقاد لاستغرق وقتا كبيرا، والحاصل أن أكثر علماء الأمة لا يخرجون على هذين الإمامين أبي منصور الماتريدي والإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنهما. فمن يتعرض بالتنقيص للماتريدية فهو زائغ زائغ فاسق ضال والذي يتعرض بالتنقيص والحط من قدر أبي الحسن الأشعري كذلك زائغ ضال تائه. فقد نبغت طائفة منحرفة بالاعتقاد عما كان عليه الصحابة والتابعون وأتباع التابعين تطعن اليومَ بالإمام أبي الحسن الأشعري، يقولون إذا أرادوا ذم شخص: أشعري، فإياكم وإياهم، إذا سمعتم الشخص يطعن في أبي الحسن اعرفوا أنه ضال، كذلك الذي يطعن في أبي منصور الماتريدي، لأن هذين هما المحرران لعقيدة أهل السنة في إيضاح الأدلة النقلية والأدلة العقلية لتوحيد عقيدة أهل السنة التي كان عليها الصحابة والتابعون ودفع الشبه التي توردها المعتزلة والخوارج وغيرهم من المبتدعة في الاعتقاد. وممن عرف بانتسابه للإمام أبي الحسن الأشعري من أكابر المحدثين الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر كان محدث الشام برّ الشام سوريا والأردن وفلسطين ولبنان كان في عصره هو محدث هذه البلاد كان واسع الحفظ للحديث، تلقى علم الحديث بالرواية عن ألف شيخ وثلاثمائة امرأة من المحدثات أغلبهن من أهل دمشق لأنه دمشقي توفي في أواخر المائة الخامسة هذا أشعري ألف كتابا في الدفاع عن أبي الحسن الأشعري لأن هؤلاء الذين يشبهون الله بخلقه يعتقدون فيه الجلوس على العرش والحركة والتنقل الذين يقولون ينزل ربنا بذاته كل ليلة إلى السماء الدنيا يحرفون حديث رسول الله، الرسول ما قال ينزل ربنا بذاته ولا قال نزولا كنزول الخلق بحركة وتنقل إنما هو كما أوحي إليه قال هذا اللفظ مرة وقال لفظا ءاخر يفسر هذا، قال: إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول فيأمر مناديا هل من سائل فيعطى وهل من داع فيستجاب له وهل من مستغفر فيغفر له الرسول هو نفسه بين أن النزول ليس نزولا قائما بذات الله إنما نزول ملك بأمر الله فينادي هذا الملك ينادي بأمر الله ينزل كل ليلة من فوق السماء الدنيا في النصف الثاني من الليل، وهؤلاء الذين يطعنون في الإمام أبي الحسن الأشعري الذي ألف الحافظ ابن عساكر تأليفا في الدفاع عن أبي الحسن الأشعري ردّ على أولئك الذين يدعون السنة ويشبهون الله بخلقه يفسرون النزول إلى السماء الدنيا بنزول الحركة، ومن سخافة بعضهم قال: ينزل إلى السماء الدنيا لكن من غير أن يخلو من العرش، هذا معقول؟!! هذا كلام غير معقول يستخف منه العقلاء تسخر منه العقلاء لأن معتقده أن الله جالس على العرش لذلك يقول ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير أن يخلو منه العرش. لو قيل له فسر كلامك هذا بين ؟ لا يعرف كيف يفسره لأنه كلام سخيف.
فقد رُوّينا في جامع الترمذي رحمه الله من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخاطبا لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله معنى الحديث أن الأولى بأن تسأله هو الله وهذا أمر لا شك فيه لأن الله تبارك وتعالى هو خالق الخير والشر وخالق المنفعة والمضرة فإذا كان كذلك فلا يخفى أن الأولى بأن يُسأل هو الله وأن الأولى بأن يستعان هو الله وبمعنى هذا الحديث حديث رويناه في صحيح ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامَكَ إلا تقي هذا الحديث أيضا يدل على أن الأولى بالمصاحبة هو المؤمن وكذلك الأولى بأن تُطعمَ طعامَكَ المسلم وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم انه لا يجوز أن تصاحب غير المؤمن إنما مراده بيان أن الأولى بالمصاحبة هو المؤمن وكذلك الجزء الثاني من هذا الحديث ولا يأكل طعامَكَ إلا تقي مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم به أن الأولى بأن يَطعَمَ طعامَكَ هو المسلم التقي، من هو التقي؟ التـقي هو من قام بحقوق الله وحقوق العباد أي أدى الواجبات المتعلقة بالعبادات البدنية كالصلاة وصيام رمضان والزكاة والحج إلى غير ذلك والتقوى لـه جزء ثاني وهو تجنب ما حرم الله هذا هو التقي من أدى الواجبات واجتنب المحرمات يُقال له تقي، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث ولا يأكل طَعامَكَ إلا تقي معناه أن الأولى بأن تُطعِمَهُ طعامَكَ هو المسلم التقيُّ أي أن إطعامَ طعامِكَ المسلمَ التقيَّ خيرٌ وأولى وأفضل من أن تُطعِمَ مسلما غيرَ تقيٍّ أو كافراً، وليس معنى الحديث أنه لا يجوز أن تُطعِمَ المسلم الّذي هو من أهل الكبائر من العصاة ولا يعني رسول الله أنه لا يجوز إطعامُ الكافر بل هذا جائزٌ وهذا جائز إذا أطعَمَ المسلمُ المسلمَ العاصي الذي هو من أهل الكبائر جائز وفيه ثواب كذلك إذا أطعَمَ الكافر من الكفار فذلك جائز وفيه ثواب، هل في معنى هذا الحديث خفاء لمن عرَفَه على هذا الوجه؟ ما فيه خفاء. فالمحرفون لشريعةِ اللهِ يوردونَ حديثَ عبد اللهِ بن عباس هذا إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله لتحريم التوسل بالأنبياء والأولياء، أين في هذا الحديث تحريمُ التوسلِ بالأنبياءِ والأولياءِ؟ أين فيه؟ هل قال الرسولُ لا تسأل غيرَ الله ولا تستعن بغيرِ الله؟ ما قال. أليس بين أن يقال لا تسأل غيرَ الله وبين أن يقال إذا سألت فاسأل الله فرق؟ أليس بين هذا وبين هذا فرق؟ لكنَّ هؤلاء الذين دأبهم تحريف شريعة الله والتمويه على الناس وزخرفة الباطل وإيهام الناس الأمر الجائز حراما أو شركا وكفرا. هم حرفوا معنى الحديث، حديث عبد الله بن عباس، هذا دأبهم إذا أرادو أن يحرموا التوسل بالأنبياء والأولياء يذكرون هذا الحديث. هذا الحديث صحيح الإسناد إنما هم يحرفون معناه ليس فيه دِلالة على ما يدَّعون، ليس فيه أدنى دِلالة على تحريم التوسل بالأنبياء والأولياء ليس فيه بالمرة. وكل مؤمن يعلم ويعتقد أن سؤالَ المؤمن ربه أفضل من أن يسأل غيرَهُ كل مؤمن يعلم ذلك يعلم أن سؤال الله تعالى أفضل من سؤال واحد من خلقه كذلك كل مؤمن يعلم أنّ الاستعانة بالله خير وأفضل من الاستعانة بغير الله تعالى، لكنَّ هؤلاء لا يوردون الحديث على هذا المعنى الذي هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يوردونه لتحريم ما أحل الله، التوسل بالأنبياء والأولياء شئ أذن به الشرع، الله تبارك وتعالى أذن لنا أن نتوسل بالأنبياء والأولياء الأحياء والأموات ما حرم علينا وهؤلاء ليس عندهم دليل إلا التمويه. هذا الحديث يوردونه ليوهموا الناس أن سؤال غير الله بمعنى التوسل بالأنبياء والأولياء حرام ويوردونه بمعنى على أن الاستعانة بالأولياء والأنبياء حرام بل هم يعتبرون ذلك كفرا بل إذا ناديت نبيا أو وليا نداءً من غير أن يكون حيَّا حاضراً أمامك يعتبرونه شركا وكفراً وليس عندهم على ذلك دليل إلا التمويه أي إلا أنهم يوهمون الناس بما يوردونه من الشبهات أي من الأمور التي توهم سامعها إن لم يكن من أهل المعرفة والفهم أن الأمر كما يقولون.
ثم هناك أيضا حديث ءاخر يوردونه وهو ضعيف أما حديث عبد الله بن عباس هذا صحيح إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله رواه الترمذي في جامعه وصححه، لكن هناك حديث ضعيف يتشبـثـون به لتحريم الاستغاثة وتكفير المستغيث برسول الله وبسائر الأنبياء والأولياء، ما هو هذا الحديث؟ هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد فيه راو ضعيف عند أهل الحديث يقال لـه ابن لهيعة هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه قال: قوموا بنا إلى رسول الله نستغيث به من هذا المنافق فذهبوا فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله عزَّ وجل هذا الحديث هم يتشبثون به لتكفير من يستغيث بالرسول أو بغيره من الأنبياء أو بولي من أولياء الله أي يُكفرون من يقول يا رسول الله أغثني أو يا عبد القادر الجيلاني أغثني ونحو ذلك من العبارات، يوردون هذا الحديث الضعيف الذي لا يُحتج به لتكفير المستغيث. فإياكم أن تصدقوهم إن أوردوا لكم حديثا فإما أن يكون ذلك الحديث ضعيفا وإما أن يكون الحديث صحيحا لكن هم يحرفون معناه فكونوا على حذر منهم، إياكم أن تتسرعوا لموافقتهم، هذا الحديث ليس له إسناد صحيح ومع هذا هم يوردونه لتكفير المستغيث برسول الله أي الذي يقول يا رسول الله أغثنا أو يا رسول الله أعنا أو يا رسول الله أنقذنا من هذه الشدة ونحو ذلك من العبارات أو يا رسول الله هلكنا فانقذنا وأغثنا، يريدون بإيرادهم لهذا الحديث الضعيف أن يُكفروا المسلم الذي يستغيث برسول الله أو بغيره من أنبياء الله أو بولي من أولياء الله.
هو الاستغاثة والتوسل معناهما واحد إذا إنسان قال: اللهم إني أسألك بنبينا محمد أن تفرج كربتي أو أن تحُل لي مشكلتي هذا يقال له توسل بالرسول ويقال له استغاثة بالرسول، الاستغاثة والتوسل بمعنى واحد كما قال ذلك الحافظ الفقيه المحدث اللغوي النحوي المتكلم الأصولي الشافعي تقي الدين السبكي هذا الإمام تقي الدين السبكي قال، وهو من علماء اللغة والنحو كما أنه محدث حافظ في الحديث وفقيه شافعي من أهل الترجيح في المذهب الشافعي من الطبقة العليا بعد الشافعي على ما قال بعضهم هو مجتهد لكن لم يناد بالاجتهاد ما قال للناس يا ناس أنا صرت مجتهدا فتعالوا خذوا باجتهادي لا، ما فعل ذلك، لأن المجتهد وإن كان مجتهدا ليس من شرطه أن ينادي الناس إلى نفسه ليقلدوه ويتبعوه ليس شرطا لأنه يرى بأن تقليدَهُم لإمام من الأئمة المتبوعين كالشافعي أو مالك أو أحمد بن حنبل أن ذلك يكفي.
وهناك أيضا أثر يتشبث هؤلاء به لتحريم التوسل بالنبي بعد وفاته، عندهم قاعدة ما أنزل الله بها من سلطان وهي قولهم: “لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر” هذا مَن وَضع لهم هذه القاعدة؟ ابن تيمية، ولم يقله عالم مسلم قبل ذلك، ما قال هذه الكلمة قبل ابن تيمية أحد من علماء الإسلام، قال: “لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر”، ماذا يعني بهذا؟ يعني بهذا أنك إن توسلت بنبي أو ولي بعد وفاته حرام بل شرك وكفر وإن توسلت بالنبي أو غيره من الأولياء في غير مجلسه هو في بلد وأنت في بلد أو أنت في بيتك وهو في مكانه فإذا توسلت به في هذه الحال عنده أشركت وكفرت عند ابن تيمية وهؤلاء الذين هم فيما بين الناس اليوم هؤلاء أخذوا بتلك القاعدة التي ما أنزل الله بها من سلطان التي لم يقلها رسول الله ولا صاحب من أصحاب رسول الله ولا إمام مجتهد أبو حنيفة أو مالك أو أحمد بن حنبل أو الشافعي أو غيرهم ما قالها أحد.
هنا مسألة ينبغي الانتباه لها هم يفترون على أبي حنيفة ماذا يقولون؟ أبو حنيفة قال لا يجوز أن يُسأل الله تعالى بحق فلان أن يقال أسألك بحق فلان، أبو حنيفة يحتمل أن يكون قال هذه الكلمة ويحتمل أنه لم يقلها فإن قالها فسرها جماعته بأن مراده بمنعه من هذه العبارة بحق فلان أن هذه الكلمة توهم أن على الله حقا لازما لخلقه لعباده، والله تعالى ليس ملزما لأحد بشئ، الذين يعملون الحسنات المطيعون له من الأنبياء والأولياء فإنما أطاعوه بتمكين الله تبارك وتعالى لهم هو علّمهم خَلَقَ فيهم الإدراك والعلم وهو أعطاهم قوة الكلام وهو أعطاهم قوة المشي كل ما يفعلونه من الحسنات فمن فضل الله تعالى، من أين يكون الله تعالى ملزما لأحد من خلقه! لا للأنبياء ولا للأولياء، الله ليس ملزما، ليس ملزما لأحد أن يعطيه شيئا، إنما هو متكرم متفضل، الثواب الذي يُثيبه للطائعين من عباده الأنبياء والأولياء فضلٌ منه ليس هو ملزما أن يُعطيهم، لماذا؟ لأنه هو خلقهم هو أوجدهم من العدم ثم هو خلق فيهم هذه الحركات والسكنات التي هي من الحسنات، فإذًا لمن الفضل؟ الفضل له عليهم، ليس لهم على الله فضلٌ، الأنبياء والأولياء والملائكة كلهم ليس لهم على الله فضلٌ بل الله تبارك وتعالى هو المتفضل عليهم هو خلقهم وخلق عقولهم وخلق السنتهم التي يذكرونه بها ويسبحونه بها ويقدسونه بها هو خلق فيهم النطق. الإنسان أول ما يولد ينطق؟ لا ينطق، من الذي يخلق فيه بعدما يقضي زمانا قوة النطق؟ الله تعالى هو الذي يخلق فيه قوة النطق ثم من الذي يُلهم الإنسان أن يعمل الخير؟ الله تعالى هو الذي يُلهم الإنسان، فمن هنا يُعلم أن الله تبارك وتعالى ليس ملزما لأحد بواجب من الواجبات بحيث إذا لم يفعله يكون ظالما، حاشا لله، الله تعالى لا يجب عليه شئ على وجه اللزوم لأحد من خلقه لا للأنبياء ولا للأولياء بل هو الذي تكرم عليهم وتفضل عليهم هو الذي الهمهم فعل الخيرات وهو الذي أقدَرَهُم على فعل الخيرات، هذا كلام جماعة أبي حنيفة قالوا الإمام أبو حنيفة إنما منع من قول أسألك بحق فلان لأن هذه الكلمة توهم أن الله تعالى ملزم لخلقه لأن يُعطيهم شيئا، وهو ليس ملزما هذا معلوم أن الله ليس ملزما بأن يُعطي أحدا من خلقه الثواب في الآخرة ليس ملزما إنما هو متفضل على عباده الطائعين من الأنبياء والأولياء، جماعة أبو حنيفة قالوا إنما منع الإمام من قول أسألك بحق فلان لأن كلمة بحق فلان توهم أن الله ملزَم. أحد رؤوس الوهابية في دمشق الشام قبل أكثر من عشرين سنة كنا في مجلس مناظرة معه قال: “أما التوسل فقد كفانا المؤنة أبو حنيفة” يعني أبو حنيفة حرّم التوسل فنحن اكتفينا بذلك. أين حرم أبو حنيفة التوسل؟ إنما منع من هذه الكلمة فقط أسألك بحق فلان من هذه منع ما قال لا يجوز التوسل بالأنبياء والأولياء في غير حضورهم وفي غير حال حياتهم ما قال هذا أبو حنيفة. ثم لو فرضنا أن أبا حنيفة قال هذا فليس في هذا حجة ليس فيه حجة لأنه ورد الحديث الصحيح الذي يثبت لنا جواز أن نقول اللهم إني أسألك بحق فلان ورد حديث حسن الإسناد حسنه حافظان من حفاظ الحديث أحدهما الحافظ ابن حجر والآخر الحافظ أبو الحسن المقدسي وهذا الحديث هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من خرج إلى المسجد فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سُـمـعة…. الحديث وفيه أن الذي قال هذا وهو ذاهب إلى المسجد يستغفر له سبعون ألف ملك هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر حسن كذلك الحافظ الآخر قال عنه حسن، بوجود هذا الحديث لو كان أبو حنيفة قال هذا الشئ بالمعنى الذي هم يتوهمونه أو بالمعنى الذي قاله جماعته ليس فيه دليل على تحريم أن يقول المتوسل في توسله اللهم إني أسألك بحق محمد أو بحق ابراهيم أو بحق أبي بكر أو بحق علي بن أبي طالب ونحو ذلك ما فيه دليل على تحريم ذلك، أنَّى يكون فيه دليل، إذا جاء الخبر ارتفع النظر هكذا قال أهل العلم معناه إذا جاء الحديث عن رسول الله ارتفع النظر يعني القياس والاجتهاد بطل، بطل الاجتهاد والقياس مع وجود حديث رسول الله، مع وجود هذا الحديث نحن نقول ذاك الذي يُروى عن أبي حنيفة ما فيه دليل، هذا الرجل الذي ذكرت لكم أنه من رؤوس الوهابية قال لي في مناظرة في دمشق أما التوسل فقد كفانا أبو حنيفة المؤنة كلام لا طائل تحته بل هو هباء منثورا.
شرح حديث إياكم ومحدثات الأمور ..
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد.
فإن من المهم معرفة تحديد البدعة المذمومة حتى لا تلتبس بالبدعة الحسنة ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المشوشون فإنهم لبَّسوا الأمور على الناس بقولهم عن الأمر الذي لا يعجبهم إنه بدعة ويحملون على ذلك حديث العرباض بن سارية: وإياكم ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة…الخ هذا الحديث الصحيح هؤلاء المشوشون يحملونه على اشياء ليست داخلة تحت هذا الحديث وإنما هي تدخل تحت حديث: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها…الخ الذي رواه مسلم وذاك الحديث رواه أبو داود والترمذي وكلا الحديثين صحيح الإسناد وإن كان حديث مسلم هذا: من سن في الإسلام سنة حسنة أقوى إسنادا من ذلك الحديث والحديثان ليس بينهما تعارض عند من يفهم، من فهم معنى البدعة التي ذمها رسول الله في قوله وكل بدعة ضلالة لا يُطبِّقُ ذلك على السنة الحسنة التي عناها رسول الله بقوله: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها فالقاعدة عند علماء الحديث وعلماء الأصول أنه إذا تعارض في الظاهر حديثان صحيحان يُجمع بينهما يُوفق بينهما يُفسر هذا تفسيرا لائقًا به ويفسر هذا تفسيرا لائـقًا به فيكون كلا الحديثين معمولا بهما وهذا هو طريق أهل الحديث وأهل أصول الفقه، فمن الفهم الفاسد مَن يفهم من حديث: وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة أنه يشمل كل ما لم يفعله رسول الله فمن كان هذا فهمه فقد أفسد على الناس أمور دينهم وزاغ هو في حد نفسه زيغًا كبيرًا. فتعريف البدعة التي عناها رسول الله بقوله: وكل بدعة ضلالة ما أُحدث على خلاف الكتاب والسنة والإجماع ما أُحدث أي ما فعله الناس ولم يفعله رسول الله ولا أمر به وكان مخالفا للقرءان والحديث فهذا هو البدعة التي ذمها رسول الله بقوله: وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة هذا مَحْمِلُ هذا الحديث على هذا يُحمل هذا الحديث حديث: وكل بدعة ضلالة على ما أُحدث مما يُخالف الكتاب والسنة والإجماع ثم هذا أيضا إما محرّم وإما أكثر من مجرد التحريم فإنه قد تصل بعض البدع إلى الكفر ومن البدع ما يصل إلى الكراهة هذا تعريف البدعة المذمومة.
وأما البدعة التي سماها رسول الله: سنة حسن في حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي رواه مسلم فهي ما أحدثه أهل العلم على وفاق القرءان والحديث والاجماع فمن هنا أحدث السلف والخلف أشياء لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت على وفاق القرءآن والحديث فعُدَّت سنة حسنة وتسمى بدعة حسنة وتسمى بدعة مستحبة، العلماء يطلقون عليها العبارات الثلاث بدعة حسنة وبدعة مستحبة وسنة حسنة من هذا نقط المصاحف، القرءان الكريم أملاه رسول الله على من كتب عنه الوحي القرءاني فلم ينقطوه كتبوه بغير نقط كذلك عثمان بن عفان في خلافته لما كتب ست نسخ أو خمس نسخ كانت غير منقوطة هذه المصاحف التي كتبها عثمان بن عفان وَوَجَّه بعضا منها إلى الأمصار كالبصرة ومكة واتخذ لنفسه واحدا منها هذه كانت غير منقوطة بعد ذلك نقط المصاحف رجل من التابعين يقال له يحيى بن يعمر رضي الله عنه وكان من العلماء المحدثين الثقات.
هذا الكتاب يذكر وهو كتاب معتمد معروف عند السلف والخلف اسمه كتاب المصاحف تأليف عبد الله ابن أبي داود هذا أبو داود الذي هو أحد أصحاب الكتب الستة له ابن يسمى عبد الله هو ألفه، هنا باب نقط المصاحف: حدثنا عبد الله قال حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال حدثنا أحمد بن نصر بن مالك قال حدثنا الحسن بن الوليد عن هارون بن موسى قال: أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر أمـا إذا قيل لكم كيف يترك الرسول ما كتب عنه من القرءان غير منقوط؟ يقال لهم في ذلك حكمة وهي أن القرءان أنزل على الرسول بعدة أوجه اللفظ الواحد الرسول قرأه مرة بالتاء ومرة بالياء ومرة بلفظ المفرد ومرة بلفظ الجمع [يعملون] ببعض المواضع الرسول قرأ يعملون بالياء ثم قرأ أيضا بالتاء [تعملون] فلما كتب غير منقوط صار صالحا بأن يُقرأ بالياء وبأن يُقرأ بالتاء ونحو ذلك من الحكم لهذا كتب من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منقوط كذلك عثمان بن عفان كتب تلك المصاحف أي استنسخها بغير تنقيط يُقال نَقَّط ويقال نَقَطَ كِلا الوجهين صحيح، ثم أصحاب رسول الله الذين كانوا عندما نقط يحيى بن يعمر المصاحف ما اعترضوا عليه بل رضوا بذلك وأعجبهم لأن فيه تسهيلا على الناس ثم كان الاعتماد في القراءة عند الصحابة وكذلك التابعون على التلقي الشفوي هذا يتلقى من أصحاب رسول الله في هذه القراءة وءاخر يتلقى القرءان بالقراءة الثانية وهذا يتلقى بالقراءتين من استاذه الذي أقرأه القرءان كان اعتمادهم على التلقي الشفوي كانوا يعتمدون على الحفظ لذلك الذي يعتمد في القراءة على المصحف لا يُسمى مقرئا ولا قارئا يُسمى مُصحفيا فرقا بين الذي تلقى من أهل المعرفة من أهل التجويد كما تُلقيَ من لفظ رسول الله فرقا بينه وبين الذي يقرأ في المصحف بدون تلقي يتلقى الشىء القليل منه خمس سور أو ستة سور من القصار أو نحو ذلك ثم ما سوى ذلك يتخذ المصحف مقرئا له هذا الذي يُسمونه مصحفي لا يسمونه مقرئا كذلك في الحديث الذي يتلقى من أفواه أهل المعرفة ثم يضبطه كتابا على النسخة الأصلية هذا يُسمى محدثا أما الذي يعتمد على المطالعة في المؤلفات في الحديث من غير تلقي من أفواه أهل المعرفة أو القراءة عليهم، كانت عادة علماء الحديث إما أن يسمع الحديث من الذي سمع من رسول الله ثم الآخر يتلقى من الذي سمع مِن مَن سمع من أصحاب رسول الله ثم الذي بعده كذلك يتلقى من هذا الذي تلقى مِن مَن تلقى من أصحاب رسول الله وهكذا، هذا الذي أخذ الحديث بالتلقي سَماعا من لفظ المحدث أو المحدثُ يُعطيه كتابه الذي ضبطه الذي دَوَّنَ فيه أحاديثه التي رواها مِن مَن تلقى عنهم يُعطيه يقرأ في هذا على هذا المحدث يقرأ فإن وجد منه غلطا يرده. وبعضهم كانوا يستنسخون من هذه الأصول التي عند المحدثين ثم يعرضونها على الأصل على النسخة الأصلية فيعتمدون عليها بعد ذلك، فمن كان تلقيه لعلم الحديث على هذه الطريقة يُقال له محدث أما من لم يكن على هذه الطريقة إنما اشترى كُتُبا ثم طالع بنفسه هذا يُقال له الصحفيٌّ لا يُسمى محدثا.
ثم حصل من أصحاب رسول الله غيرُ هذا مما هو سُنة حسنة ويُقال لـه بدعة مستحبة وبدعة حسنة ما حصل من بعض الصحابة وهو أن أحد أصحاب رسول الله يُقال لـه خبيب وهو من الأنصار من أهل المدينة، الكفار كفار مكة قبل أن يفتح رسول الله مكة لما كان المشركون هم متغلبين على مكة كان لهم ثأر منه لأنه قتل بعض أقرباء هؤلاء الكفار كفار مكة في الجهاد فأسره الكفار قتلوه صبرا أي أسيرا وهو أسير مأسور في أيديهم قتلوه عندما ساقوه للقتل قال لهم أمهلوني حتى أصلي ركعتين فصلى ركعتين، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فكان خبيب أول من سن الصلاة عند القتل معناه قبل خبيب ما أحد فعل هذا الفعل وهو صلاة ركعتين عند القتل ولا قال رسول الله لأصحابه إذا قدمكم الكفار للقتل فصلوا ركعتين لم يقل الرسول ما أخذه من قول رسول الله من نص رسول الله إنما خبيب وجد هذا الأمر موافقا للقرءان والحديث فرضي به، فهذا الفعل الصحابة أٌعجبوا به من غير أن يكون قال الرسول لأصحابه إذا قدمكم المشركون للقتل فصلوا ركعتين من غير أن يكون سبق من رسول الله ذلك من غير أن يكون سبق منه هذا القول هو فعله هذا الصحابي رضي الله عنه هذا من جملة السنة الحسنة والبدعة التي تسمى البدعة الحسنة والبدعة المستحبة.
فمن هذه الحادثة حادثة صلاة خبيب رضي الله عنه ركعتين عندما قُدم للقتل وحادثة تنقيط المصاحف التي أول من فعلها يحيى بن يَعمر يُعْلَمُ بطلان قول هؤلاء لما يُنكرون على الناس أشياء هي من البدع الحسنة هذا ما فعله الرسول، هذا ما فعله الرسول ليشوشوا بذلك على الناس، هؤلاء إذا أردتم أن تُبكـتوهم قولوا لهم هذه المصاحف التي تتخذونها منقوطة أم غير منقوطة؟ فإن قالوا منقوطة هذا التنقيط ما فعله الرسول ما قال للذين كتبوا من لفظه نقطوها ما قال ولا الصحابة فعلوا ذلك فهذا الشئ لم يفعله الرسول ولا أمر به نصا وأنتم لا نراكم تتجنبون هذه المصاحف بل تستعملونها وتتخذونها في بيوتكم فإن كنتم صادقين فابدؤا بكشط المصاحف، إزالة النقط عنها، وأسماء السور أيضا في أوائل السور، أسماء السور ما كانت مكتوبة في مصاحف عثمان ما كتب في أول البقرة سورة البقرة، في أول ءال عمران ما كان مكتوبا في تلك المصاحف التي كتبها الصحابة كل هذا أزيلوه جردوا القرءان من كل هذا من النقط ومن أسماء السور ومن الإعراب كذلك، كانوا أول ما فعلوا بعض الأعمال في المصحف كانوا بين ءاية وءاية ثلاث نقط كانوا يضعون ثم بعد ذلك تحولوا إلى وضع دائرة مع الأرقام، كذلك لم تكن في مصاحف الصحابة كتابة عدد ءايات السورة أما اليوم هذه المصاحف فيها التنقيط فيها ذكر أنها مدنية أو مكية وفيها أشياء أخرى وفيها التعشير أي وضع علامة على كل عشر ءايات، كذلك علامة على كل حزب وعلى كل جزء ورقم الصفحة كل هذا ما كان أيام الرسول ما فعله الرسول ما أمر بفعل ذلك.
الحمد لله الذي جعل التوسل أحد أسباب إجابة الدعاء والصلاة والسلام على من له المقام المحمود سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وبعد:ـ
فقد رُوّينا في معجمِ الطبراني الصغير وفي معجمه الكبير بالإسناد المتصل من حديثِ عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال جاء أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرد علي بصري قال: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك قال: إنه شق علي ذهاب بصري وليس لي قائد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيت الميضأة فتوضأ وصلِّ ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي وتسمي حاجتك لتقضى لي ثم جاء رجل إلى عثمان بن حنيف فشكى له أن عثمان بن عفان ذهب إليه لحاجةٍ له فلم يلتفت إليه فقال لـه عثمان بن حنيف رضي الله عنه: إيتِ الميضأة فتوضأ وصل ركعتين وقل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي وتسمي حاجتك لتُقضى لي فرح إليه حتى أروح معك فذهب الرجل إلى عثمان بن عفان فأخذ البوابُ في يده وأجلسه على طِنفِسَة عثمان فقال لـه عثمان ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة فقضى لـه حاجته وقال ما كان لك من حاجة فأتنا، قال الطبراني رحمه الله والحديث صحيح وذلك بعد أن أوردَ طُرُقَ الحديث أي تعدد أسانيده فقول الطبراني والحديث صحيح يعني به المرفوع والموقوف لأن كلاًّ من المرفوع والموقوف في اصطلاح أهل الحديث يُسمى حديثا، المرفوع يُسمى حديثا والموقوف يُسمى حديثا. هذا الحديث رواه عِدة من المحدثين من أصحاب الكتب المشهورة كالترمذي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم لكنَّ بعض هؤلاء الذين خرّجوا هذا الحديث في تآليفهم اقتصروا على القدر الذي هو مرفوع أي على القصة التي هي مرفوعة أي مجيء الأعمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم اقتصروا على هذا القدر وأما قصة الرجل الذي كانت له حاجة إلى عثمان بن عفان فكان عثمان لا يلتفت إليه أي لشغل باله فهي لم يروها أكثر مَن خرج هذا الحديث وإنما رواها أكثرُ مَن خرّج هذا الحديث وإنما رواها بعضُهم والإسناد واحدٌ إسنادُ المرفوع وإسناد الموقوف أي قِصة الرجل الذي كانت له حاجة إلى عثمان أُوردت مع المرفوعة من طريق واحد.
وفي هذا الحديث دليل على أن النوسل بالنبي في حياته أي قبلَ مماته وبعد مماته جائز لا فرق في الجواز بين ما قَبلَ وفاته وما بعد وفاته لا فرق كِلا الأمرين جائز وفيه ثواب فلما كان أتباع ابن تيمية متمسكين بالقاعدة التي هو أحدثها من دون دليل شرعي بل برأيه الذي استحسـنـته نفسُه من غير أن يَستند إلى دليل لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر هذه قاعدة ابن تيمية التي وضعها وليس لها مستندٌ في دين الله، لما كان أتباع ابن تيمية متشبثين بذلك أي برأي ابن تيمية أنه لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر قال أحد كبارهم وهو ناصر الدين الألباني الصحيح من هذا الحديث الجزء الأول وهو قصة الرجل الأعمى الذي جاء إلى النبي أما قصة الرجل الذي كانت له حاجة إلى عثمان بن عفان فهذه مُنكرة أي غير صحيحة فهذا تَقَوّلٌ بلا دليل كما أن ابن تيمية تَقوّلَ في دين الله برأيه بلا دليل كذلك هذا الذي يتبعه ناصر الدين الألباني تَقَوّلَ في دين الله بغير دليل شرعي بل أراد أن ينتصر لهواه وهوى جماعته الذين تمسكوا بهذه القاعدة الفاسدة لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر فقال ما قال، قال: هذا الحديث الجزء الأول منه أي توسل الأعمى بالرسول بهذا اللفظ اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي وتسمي حاجتك فذهب الرجل ثم دخل علينا فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس وقد أبصر أي فُتحَ نَظرُهُ هذا الحديث فيه دليل على أن هذا الرجل الأعمى ما توسل بحضور رسول الله بل بمكان الوضوء ذهب إلى مكان الوضوء فتوضأ وصلى ركعتين ثم توسل بالرسول فَفُتح نظرُه ثم جاء إلى الرسول والرسول بعدُ ما فارق مجلسه، هذا الصحابي عثمان بن حنيف رضي الله عنه هو يقول: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وكأنه لم يكن به ضُرٌّ قط أي كأنه لم يُصبه عمى دخل وقد صار مُبصرا ارتد بصيرا دخل علينا وقد ارتد بصيرا، هذا القدر المرفوع هذا أيضا هم يُحرفونه يقولون على زعمهم توسل بحضور الرسول بل يقولون الرسول دعا لـه إنما انتفع هذا الأعمى وفُتح نظرُه بدعاء الرسول ليس بالتوسل وإنما سَلكوا هذا المسلك من التحريف لئلا تَـنـتَـقِضَ عليهم القاعدة التي وضعها ابن تيمية أبو العباس أحمد الحراني، إذا قيل ابن تيمية فهما اثنان ابن تيمية أبو العباس أحمد الحراني ويُلقب تقي الدين وجَدُ هذا يقال له مَجدُ الدين عبد السلام هذا جد وذاك حفيد هذا المفتون حفيد أما ذاك الأصل جدٌّ فهو من أكابر الحنابلة في مذهب أحمد بن حنبل له مكانة كبيرة ولا يُعرف عنه شئ من إنكار التوسل والاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بالأولياء لأن المسلمين ما كان قبل ابن تيمية فيهم من يُنكرُ التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفيما بعد مماته ما كانوا يُنكرون حتى الإمام أحمد بن حنبل الذي هم يدعون أنهم على مذهبه أنه إمامهم يقولون إمامنا الإمام المبجل أحمد بن حنبل هكذا يعتزون به، هو هذا الإمام أحمد بن حنبل روى عنه أكبر تلاميذه قدرا أبو بكر بن المروَزي قال: قال أحمد: يَتوسل الداعي أي عند الاستسقاء أي عند طلب المطر من الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، أحمد أثبت جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بل مشروعيته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فأين هؤلاء وأين أحمد هؤلاء يقولون التوسل بالنبي بعد مماته شِرك وفي حياته في غير حضوره شِرك وأحمد بن حنبل يستحسن بل يستحب التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته عند الشدة عند القحط أي عند انقطاع المطر، ثم أيضا أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال في صفوان بن سليم رضي الله عنه وهو إمام تابعي جليل من العباد النساك المشهورين قال أحمد بن حنبل في صفوان بن سُليم رضي الله عنهما يُستنزل المطر بذكره يعني صفوان بن سُليم إذا ذُكر المطر ينزل أي يُنزلُ الله تعالى المطر ببركة صفوان بن سُليم هكذا قال أحمد بن حنبل. أحمد بن حنبل يستحسن التوسل بالأولياء بعد وفاتهم وهؤلاء يُكفرون الذي يتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم في غير حضرته وبالأولى إذا كان التوسل به بعد مماته أنظروا إلى البُعد الشاسع بين هؤلاء وبين أحمد بن حنبل، ومن ابن تيمية في جنب أحمد بن حنبل ، أحمد بن حنبل رضي الله عنه من السلف من السلف الصالح كل طوائف أهل السنة يُثنون عليه الثناء الجميل فتركوا أحمد بن حنبل واتبعوا هذا الرجل المفتون ابن تيمية الذي يقول في دين الله ما ليس منه. ذكر هذه القصة عن أحمد بن حنبل قولَه في صفوان بن سُليم يُستنزل المطر بذكره المحدثان الحافظان الحافظ المزي في تهذيب الكمال والحافظ مرتضى الزبيدي. فالأثر الموقوف على الصحابة يُطلق عليه اسم الحديث مذكور في كتب اصطلاح الحديث وُجد ذلك في عبارة الإمام أحمد بن حنبل وغيره الأثر الذي هو من فعل الصحابة ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يُسمى حديثا عند أهل الحديث كما يُسمى ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره حديثا كِلا ذلك يُسمى حديثا هذا الذي يعرفه علماء الحديث احمد ابن حنبل الذي هو أكثر المحديثن من السلف حِفظا للحديث حفظ من الحديث ما لا يُروى من العدد لغيره. اهـ
شرح حديث النزول ..
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد وعلى سائر النبيين وبعد:
إن قال المجسم الذي يعتقد أن الله ذات يسكن ويتحرك دليلنا على ذلك حديث: ينـزل ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخرُ فيقولُ مَن يدعوني فاستجيبَ ومن يسألُني فأعطيَهُ ومن يستغفرُني فأغفِرَ لـه. قلنا الحديث صحيح، لكن لا يجوز تفسيره بالنزول الحسي من ذات الله تعالى لأنه يلزم على ذلك بشاعة ومحال وذلك لأن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختلاف البلدان فإن قلتم ان الله ينـزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط فمن أين هذا التخصيص ليس عندكم دليل وإن قلتم إنه بالنسبة لكل الدنيا فليل بلد نهار بلد ءاخر ونصف الليل في بلد يكون نصف النهار في بلد ءاخر فيلزم على معتقدكم أن يكون الله نازلا وطالعا كل ساعة من ساعات الليل والنهار وهذا ينافي قولكم إنه مختص بالعرش فبطل عليكم ذلك المعتقد، ثم إن العرش أكبر العوالم بحيث أن الكرسي بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة وأن السموات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وعلى هذا تكون سماء الدنيا بالنسبة للعرش أقل من خردلة ملقاة في فلاة فكيف تسع الله الذي هو في معتقدكم بقدر العرش أو أوسع من العرش، إن قلتم هو ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فهذا محال وإن قلتم أن الله يصير أقل من قدر خردلة حتى تسعه السماء الدنيا فهذا أيضا محال، وإن قلتم أن الكرسي والسموات تكون بقدر العرش أو أوسع منه فمن أين الدليل على ذلك من القرءان أو الحديث، ثم انه صح في الحديث أن السموات السبعة ممتلئة بالملائكة بحيث أنه لا يوجد فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فمن أين يكون في السماء الدنيا متسع لذات الله الذي هو على زعمكم بقدر العرش أو أوسع منه، فعلى كل تقدير يلزمكم أن تكونوا جعلتم الله متغيرا والتغير على الله محال وهذا دليل على سخافة عقولكم ولا يبقى بعد هذا لهذا الحديث معنى صحيح إلا أن يحمل على نزول الملائكة بأمر الله وأنهم يبلغون عن الله بأن يقولوا إن ربكم يقول: هل من داع فاستجيب لـه هل من مستغفر فاغفر لـه وهل من سائل فأعطيه يستمرون على ذلك من الثلث الأخير إلى الفجر فلما كان نزولهم بأمر الله نسب النـزول إلى الله وهذا يدل عليه رواية النسائي: إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول فيأمر مناديا… إلى ءاخره وإسناد هذه الرواية صحيح فتأويل الرواية الأولى على وفق هذه الرواية متعين لأن خير ما يفسر به الحديث الحديث ولهذا التأويل أمثال من ذلك قوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرءانه} لأن ظاهره أن الله يقرأ على محمد كما يقرأ الأستاذ على الطالب وهذا لا يجوز لأن الرسول ما تلقى القرءان إلا من لفظ جبريل فلما كان قرأه جبريل على النبي بأمر الله صح أن يعبر عن ذلك بلفظ: {فإذا قرأناه فاتبع قرءانه}فيكون المعنى فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا.اهـ
شرح حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله …
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد.
فقد روينا في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وفي لفظ: إلا بحقها هذا الحديث من أصح الأحاديث الصحاح رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من أصحابه ورواه عنهم عدد كثير من التابعين وفيه دِلالة على أن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيه كفاية للإيمان والإسلام لأن اللفظ إذا قارنه التصديق القلبي فهذا هو الإيمان والإسلام لكن إذا انفرد التصديق القلبي عن النطق بالشهادتين فذاك لا يكفي بالنسبة لمن لم يكن مولودا بين أبوين مسلمين إنما هو الشخص أراد أن يدخل في الإسلام بالنسبة لهذا الإنسان لا بد للحكم عليه بالإسلام من النطق بالشهادتين أما من كان مولودا بين أبوين مسلمين فيكفيه لصحة إيمانه وإسلامه اعتقاد معنى الشهادتين لو لم ينطق بهما لفظا فمن اعتقد معنى الشهادتين في قلبه ثم لم يستحضر شيئا من اصول الإيمان ولا من الأعمال البدنية كالصلوات الخمس وصوم رمضان لم يستحضر شيئا من ذلك إنما قلبه صدق بهذا المعنى أي معنى الشهادتين وأما ما سوى ذلك من أمور الإيمان والإسلام فلم يستحضر لكنه لم ينكر، ذهنه خال من الاستحضار والإنكار والشك ذهنه خال من الأمور الثلاثة فهذا مسلم مؤمن لا يقال إنه لم يعرف بقية أصول العقيدة ولم يعرف الصلوات الخمس ولا صيام رمضان ولا ما هو في معنى ذلك فبمجرد استحضار معنى الشهادتين أي الاعتقاد بهما أي بمعناهما صح له الإسلام والإيمان، أما من قارن هذا النطق الإنكار أو الشك فذلك لا يصح لـه إيمان ولا إسلام. فليس من شرط صحة الإيمان والإسلام استحضار بقية أمور الإسلام وأمور الإيمان لأن أمور الإسلام أي معظم أمورها، أمور الإسلام هو ما جاء في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أي معظم أمور الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واقام الصلاة أي المداومة عليها وإيتاء الزكاة أي إعطاء الزكاة الواجبة لمستحقيها وصيام رمضان وحج البيت من استطاع اليه سبيلا هذه معظم أمور الإسلام وأما معظم أمور الإيمان فهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه الأمور ليس شرطا استحضارها لصحة الإسلام والإيمان ليس شرطا إنما الشرط في تحقق الإسلام والإيمان في الشخص هو اعتقاد معنى الشهادتين وأما ما سوى ذلك فليس شرطا في حصول أصل الإسلام والإيمان إنما هو من أعظم الأمور التابعة لهما أي للإسلام والإيمان، فإذا فرضنا أن إنسانا ذهنه خال عن كل أمور الدين إلا عن معنى الشهادتين صح أن يحكم عليه بأنه مؤمن ومسلم لكن يشترط لصحة ذلك أن لا يقترن هذا الاعتقاد بما يَنْقُضُهُ وهو الشك في أمر من هذه الأمور الشك في حقيّتها أو الإنكار بالقول فإنه إن اقترن ذلك أي الشك أو الإنكار في هذه الأمور إن اقترن الشك في هذه الأمور أو إنكارها فإن معرفة معنى الشهادتين لا تكون معتبرة عند الله تبارك وتعالى. وقد يتوهم بعض الناس أنه إذا لم يجمع الإنسان تلك الأمور الخمسة كلها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هذا أمر واحد ثم الأمر الثاني إقـام الصلاة ثم الأمر الثالث إيتاء الزكاة ثم الأمر الرابع صوم رمضان ثم الأمر الخامس حج البيت يظن بعض الناس أن من لم يجمع هذه الأمور الخمسة لا يكون له إسلام وهذا غلط، ليس شرطا في حصول أقل مسمى الإيمان والإسلام اجتماع هذه الأمور أي أن يجمع الشخص هذه الأمور كلها، كذلك ليس شرطا في حصول الإيمان الذي فسره الرسول في ستة أشياء وذلك بقوله في حديث جبريل: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره يظن بعض الناس أن هذه الأمور الستة إذا لم تجتمع في الشخص أي إذا لم يستحضر هذه الأمور الستة ليس بمؤمن وهذا أيضا غلط إنما الشرط في حصول أصل الإيمان وأصل الإسلام الشهادتان أي الاعتقاد بمعناهما بشرط أن لا يقترن بذلك شك أو إنكار هذا هو أصل الإيمان والإسلام فمن حصل له هذا أي اعتقاد معنى الشهادتين فهو مسلم مؤمن إنما لا يكون إسلامه وإيمانه كاملين إلا أن يجمع بقية الأمور ويؤدي ما سوى ذلك من الواجبات ويجتنب المحرمات كلها وأعظم المحرمات الكفر ثم أمور أخرى بعضها أشد من بعض، رأس المحرمات وأكبرها وأشدها هو الكفر إن كان شركا وإن كان غير شرك لأن الكفر إما أن يكون بالإشراك بالله تعالى أو بغير الإشراك كتكذيب الرسول وغير ذلك من أنواع الكفر. فبعض الناس يظن أن قول بعض الناس أركان الإسلام خمسة أن الإسلام لا يصح إلا باجتماع الخمسة توهم هذا المعنى من قول الفقهاء أركان الصلاة كذا وكذا لأن معنى أركان الصلاة الأمور التي لا تصح الصلاة إلا باجتماعها يتوهم من هذه العبارة وليس قصد الفقهاء بقولهم ذلك أن ذلك يكون مثل الإيمان والإسلام. فلا يجوز أن يتوهم الإنسان من قول الفقهاء أركان الصلاة كذا أركان الصيام كذا أنه لا يعتد بالإيمان والإسلام إلا إذا اجتمعت هذه الأمور كما أنه لا يعتد بالصلاة إلا إذا اجتمعت أركانها جميعا فإن هذا فهم غلط لا يقاس هذا على هذا. ثم إن الإيمان والإسلام لهما مرتبتان المرتبة العليا والمرتبة الدنيا أي الأقل، المرتبة العليا لا تحصل إلا باعتقاد معنى الشهادتين وأداء جميع ما افترض الله على عباده من الأعمال القلبية والأعمال البدنية وباجتناب ما حرم الله من الأعمال القلبية والأعمال البدنية وهذه هي المرتبة العليا، وأما المرتبة الدنيا أي الأقل فهي اعتقاد معنى الشهادتين وفرق كبير بين هاتين المرتبتين لأن المرتبة التي هي الأقل تضمن لصاحبها إن تجنب الكفر النجاة من الخلود الأبدي في النار ثم دخول الجنة إما بعد عذاب على ذنوبه من تركه لأداء الواجبات أو ارتكابه للكبائر وإما أن يدخل الجنة بلا عذاب يسبق دخوله إيّاها ثم ينال من نعيم الجنة، يكون بعد دخوله إيّاها أربعة أشياء حياة لا موت بعدها وشباب لا هرم بعده وتنعم لا بؤس بعده وصحة لا سقم بعدها هذه الأربعة مضمونة بفضل الله تبارك وتعالى لكل مسلم بعد دخول الجنة. وأما صاحب المرتبة العليا في الإيمان والإسلام فهو أنه عندما يكون في حال مفارقة الدنيا يُبشره ملك الموت الذي وكله الله تعالى بقبض الأرواح المسمى بعزرائيل بقول السلام عليك يا ولي الله، ثم إنه بعد الدفن أي بعد أن يُدفن لا يحصل لـه نكد ولا شئ من المشقات لا تُسلط عليه هامة من هوام الأرض ولا وحشة ولا يتكدر من ظلمة القبر ولا ضيقه لأن الله تبارك وتعالى يُوسع له قبره سبعين ذراعا في سبعين ذراعا ومنهم من يُوسع له مد البصر وأما ظلمة القبر فإنه يكفيه الله تعالى ذلك بأن يُنور لـه قبره بنور كالقمر ليلة البدر أي ليلة أربع عشر من الشهر العربي أي الشهر الهلالي ثم لـه نعيم لم يُطْلِعِ اللهُ تبارك وتعالى عليه بشرا ولا ملكا أخفاه الله تبارك وتعالى للصالحين الذين هم كانوا بتلك الصفة أي أنهم كانوا يؤدون الواجبات كلها القلبية والبدنية ويجتنبون المعاصي هؤلاء يخصهم الله تبارك وتعالى من بين أهل الجنة بنعيم لم ترها عين حتى خُزَّان الجنة من الملائكة لم يروها لم يُطلعهم الله عليها بل ولا خطر على قلب بشر ولا سمعت بها أذن، ثم إنهم في قبورهم يعيشون كهيئة نائم لا يوقظه إلا أحب الناس إليه ثم إن بعضا منهم تبلى أجسادهم أي يأكلها التراب وقسما من هؤلاء الكاملين في الإيمان والإسلام يحفظ الله أجسادهم من البلى أي تبقى وضَّة طريَّة فأما الذين تبلى أجسادهم أي يأكلها التراب فإنهم بعد بلى أجسادهم أرواحهم تصعد إلى الجنة فتعيش هناك إلى أن تقوم القيامة فعندما تقوم القيامة يُعيد الله أرواحهم إلى تلك الأجساد التي أكلها التراب فأنبتها الله تبارك وتعالى ثم بعد ذلك لا تفارق أرواحهم أجسادهم، أما أهل المرتبة الدنيا التي هي أقل فإن لهم بعد دخول الجنة تلك الأمور الأربعة يشاركون غيرهم في نعيم الجنة إلا في تلك الأمور التي أخفاها الله تبارك وتعالى لم يطلع عليها أنبياءه ولا ملائكته حتى خزان الجنة. ثم إن هذا الحديث حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله دليل واضح على أن الإنسان إذا وحدّ الله تبارك وتعالى أي أفرده بالعبادة أي لم يتذلل نهاية التذلل لغير الله فهذا كاف للإيمان والإسلام ولا يشترط ما يدعيه أولئك المشبهة الذين يحرمون التوسل والاستغاثة بالأنبياء والأولياء فإنهم أحدثوا أمرا ابتدعوه هم قالوا لا بد من توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال، وهذا أمر لا يشهد به كتاب ولا سنة فلو كان الأمر كما زعموا لم يقتصر رسول الله في هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغيره الذي أوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لو كان الأمر كما زعم أولئك لم يقتصر رسول الله على هذه الجملة بل لذكر ما ادعاه أولئك ولقال حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أي حتى يوحدوا توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال، هل سمعتم من هؤلاء هذه العبارة؟ مذكور في مؤلفاتهم يقولون لا بد من ثلاثة أمور: “توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال”، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم مما يدل على بطلان قولهم الحديث الثابت في سؤال القبر فإنه ورد بلفظين لفظ الشهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله وبلفظ ءاخر رواه أبو داود وغيره أن الملكين اللذان يسألان المقبورين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهما يسألان هذا السؤال: من ربك وما دينك ومن نبيك ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إنهما يقولان هل وحدت توحيد الألوهية أو وحدت توحيد الربوبية هل وحدت توحيد الأفعال فمن أين افتروا هذه الفرية؟؟ هذا قول لم يسبقهم إليه غيرهم لا من السلف ولا من الخلف إنما هي بدعة ضلالة اختصوا بها انفردوا بها من بين الناس فالحذر الحذر من مطالعة كتبهم إلا لمن كان من أهل التمييز أي صار عنده من المعرفة بعلم الدين ما يميز به الحق من الباطل ولا تَعلَق بقلبه هذه الشبه، الشُّبَه التي هم يوردونها في مؤلفاتهم فإن من كان ضعيف الفهم يُخشى عليه أن تعلق بقلبه شئ من تلك الأقوال الفاسدة، والشأن في الفهم ليس الشأن في كثرة المطالعة وتصفح أوراق مؤلفات كبار متعددة، هم يقصدون بقولهم ـ توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأفعال ـ أن يؤيدوا ما ادعوه بأن من صرف لغير الله الرجاء أو الاستعانة أو الاستغاثة أو نحو ذلك مشرك. أرادوا أن يؤيدوا ذلك القول الفاسد بهذا التقسيم، نحن نأخذ بما جاء به الحديث أن من اعتقد معنى الشهادتين كفاه ذلك فإن ذلك كافل بتوحيد الله تعالى في ذاته وفي صفاته وفي فعله أي أنه لا شريك له في شئ من ذلك هذا الذي جاء عليه المسلمون.اهـ
شرح حديث : لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ..
الحمد لله رب العالمين لـه النعمة وله الفضل وله الثناء االحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين.
أما بعد فقد روي في جامع الترمذيّ بالإسناد الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تزول يوم القيامة قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين أخذه وفيما أنفقه هذا الحديث يخبرنا بأنّ الإنسان لا تزول قدماه عن موقف الحساب يوم القيامة حتى يسال عن أربع: عن عمره فيما أفناه: المعنى يسأل ماذا عملت منذ بلغت أديت ما فرض الله عليك واجتنبت ما حرّم عليك، فإن كان قد فعل نجا وسلم وإن لم يكن فعل ذلك هلك. وعن جسده فيما أبلاه: فإن أبلاه في طاعة الله سعد ونجا مع الناجين وإن أبلى جسده في المعاصي خسر وهلك. وعن علمه ماذا عمل به: يسأل أيضا هل تعلّم علم الدين الذي فرضه الله، لأن علم الدين قسمان:ـ قسم فرض عين فمن تعلّم ذلك القسم الذي هو فرض عين على كلّ مكلف وعمل به سعد ونجا، ومن أهمل العمل تعلّم ولكن لم يعمل هذا خسر وخاب وهلك، وأما من لم يتعلم بلغ وهو على هذه الحال فهذا أيضا هلك وخسر إن مات على هذه الحال. والقسم الثاني من علم الدين هو ما زاد على فرض العين من علم الدين من تعلّمه ونفع به غيره ونفسه صار من ملوك الآخرة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لأن الذي تعلّم فوق ما هو فرض على كلّ مكلف ينفع غيره وينفع نفسه، يستفتيه الجاهل فيعلمه وهذا القسم الثاني ليس فرضا على كل إنسان إنما هو فرض على بعض الأمة فمن قام به صار له ميزة على غيره.
ثمّ إنّ الرسول حثّ حثا بليغا مؤكدا على طلب العلم وفضله قال عليه الصلاة والسلام: من سلك طريقا يطلب به علما سهّل الله به طريقا إلى الجنة وقال في بيان فضل العلم: إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع معنى الحديث أنّ الملائكة يخفضون أجنحتهم إذا رأوْا طالب العلم ولو كشف الله لنا لرأينا.
فليحذر الإنسان من تكذيب دين الله فمن بلغه عن الله أنه قال في كتابه العزيز من فعل كذا فإنه يحصل له كذا فليجزم جزما ولا يقل لا نرى الآن في الحياة الدنيا من ينزّل الله به عقوبة عاجلة فيتهاون بالأمر لأن كل ما جاء به رسول الله حق وصدق وإن كان من حيث العادة وقوعه وحصوله بعيد.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: وعن ماله من أين أخذه وفيما أنفقه فمعنى هذه الجملة من حديث رسول الله أنّ الإنسان يسأل يوم القيامة عن المال الذي في يده في الدنيا حتى إن كان أخذه من طريق غير حرام لا يكون عليه مؤاخذة لكن بشرط أن يكون ما أنفقه فيه مباحا شرعًا.
فالنّاس في أمر المال ثلاثة أصناف: اثنان هالكان وواحد ناج. الاثنان الهالكان: الرجل الذي جمع المال من حرام سواء صرفه في سبيل البر كأن بنى به مسجدا أو تصدّق به أو حجّ به، كذلك الذي جمع المال من حلال ثمّ صرفه في الحرام هذا أيضا هالك كأن ورث مالا من أبيه فصار يبذّر المال تبذيرا في الخمر والمغنيات والزمارين ونحو ذلك أو صار يصرفه للرياء ليمدحه الناس ليس لابتغاء وجه الله فقط. فقد روى البخاري في صحيحه عن خولة الأنصارية أنّ رسول الله قال: إنّ رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة هذا الحديث يحذّر من أخذ المال من طريق حرام كمن يأخذ الزكاة وهو ليس من أهلها أو يأخذ من مال اليتيم أو الوقف وهو ليس من أهله. فإنّ مال الدنيا لا يغني عن الآخرة وهذا قارون الذي من أجل ماله كذّب موسى كانت عاقبته أن خسف الله به الأرض هو وذهبه انشقت الأرض فبلعته هو وداره وذهبه.
شرح حديث : أوصيكم باصحابي ثم الذين يلونهم ..
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد:
فقد روينا بالإسناد المتصلِ في جامع الإمام الترمذي رحمه الله من طريق سليمان بن يسار قال: قام فينا عمرُ بنُ الخطابِ بالجابيةِ خطيبًا فقال: قامَ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوصيكم بأصحابي ثم الذينَ يلونهم ثم الذين يلونهم . الحديثُ صححهُ الترمذي.
هذا الحديثُ لأهميتهِ حدَّثَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَـهُ الذينَ كانَ أحدَهُم عمرُ بنَ الخطابِ قائمًا، حدَّثَهمُ الرسول قائمًا والرسولُ كان يُحدِّثُ أحيانًا قائمًا في غير خطبةِ الجمعةِ وأحيانًا جالسًا وكان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه أرادَ أن يقتديَ برسولِ الله فقام في أرضٍ تُسمى الجابية، هي من بر الشامِ، قام خطيبًا فيمن كان معه من الصحابة من أصحاب رسول الله والتابعين فحدَّثهم بما سمعَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مُخبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُوصيكم بأصحابي ثمَّ الذينَ يلونهم ثم الذينَ يلونهم إنما ذَكرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هؤلاءِ الثلاث لأن هؤلاءِ خيرُ الأمةِ أفضلُ أمةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، القرنُ الأولُ ثم القرنُ الثاني ثم القرنُ الثالثُ، والقرنُ فُسرَّ بعدةِ معانٍ في اللغةِ، علماءُ اللغةِ فسّروا القرنَ بعدةِ معان منها أي من تلك المعانِ مائةُ سنة وهذا هو الذي ذكرهُ الإمامُ محدّثُ الشام الحافظُ ابنُ عساكر رحمه الله فسَّرَ الحديث القرون الثلاثة بالثلاثمائة الأولى، وبعضٍ من المحدثينَ فسّرَ القرونَ الثلاثة بمن كانوا ضمن مائتين وعشرين عامًا على هذا التفسير المراد بالحديث من كان ضمنَ المائتينِ والعشرينَ عامًا وأما على التفسير الأولِ وهو تفسيرُ القرنِ بالمائة مائة سنة فمن كان ضمن الثلاثمائةِ الأولى كلُّهم يُقال لهم السلف.
ثم إن الخيريَّةَ المفهومَةَ من هذا الحديث باعتبار الجملةِ ليس باعتبار الآحادِ، ليس معنى الحديث أنّ كلَّ فردٍ من أفرادِ مَن كانوا في هذه القرون الثلاثة أفضلُ من كلِّ فردٍ من أفراد الأمةِ الذينَ جاؤوا بعد ذلك ليس هذا مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأننا إذا نظرنا إلى الأفراد قد يوجد من هو أفضلُ عند الله تعالى درجةً من بعض من كان في القرنِ الأولِ أو القرنِ الثاني أو القرنِ الثالثِ لأن العبرةَ من حيثُ التفضيلُ هو التمكنِ في تقوى الله تعالى قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}فليس كلُّ من كان في القرن الأول على حد سواء في تقوى الله لكنَّ المقَدَّمين من أهلِ القرنِ الأول أفضلُ مِنْ كل مَنْ جاءَ بعدَ ذلك إلى يوم القيامة وهؤلاء هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وستة يتلونهم هم تتمة العشرة الذين يقال لهم العشرة المبشرون بالجنة ويلتحق بهؤلاء جميع من كان من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، المهاجرون هم هؤلاء العشرة لأنهم من أهل مكة هاجروا لمؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم تركوا وطنهم مكة إلى المدينة ويوجد غير هؤلاء العشرة من المهاجرين الأولين عدد كثير منهم عمار بن ياسر رضي الله عنهما وبلال الحبشي رضي الله عنه وعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه وأبو ذر الغفاريُ رضي الله عنه أما السابقون الأولون من الأنصار فهم كثير عدد كثير أهل البيعة الأولى بيعة العقبة ومن جاء بعد أولئك من أهل المدينة الذين سبقوا إلى الدخول في الإسلام ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء هم الذين يُـعدُ كل فرد منهم أفضل ممن جاء بعدهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أما من ليسوا من هؤلاء فليس لـه تلك الأفضلية فقد يوجد في التابعين من هو أفضل عند الله درجة من كثير ممن رأى الرسول وصحبه مدة من الزمن.
فهؤلاء السابقون الأولون ورد في حقهم حديث صحيح مشهور وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدَكم مِثْل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُد أحدِهم ولا نصيفه هذا الحديث لا يُرادُ به جميع أصحاب رسول الله إنما أراد الرسول بهذا الحديث طائفة من أصحابه وهم السابقون الأولون وذلك أن سبب الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه سب عبدَ الرحمنِ بنَ عوف الذي هو أحد السابقين الأولين أحد العشرة المبشرين بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وذلك لأن خالدًا رضي الله عنه مع ما لَهُ من جلالة القدْرِ لم يكن من السابقين الأولين أما عبدَ الرحمن بـنَ عوف فهو من السابقين الأولين.
معنى هذا الحديث أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو له عند الله تبارك وتعالى في علو القدْر وعِظمِ الفضلِ مَنْ إذا تصدقَ أحدهم بمدٍ بمد قمحٍ أو بمدِ شعيرٍ أو نحو ذلك، المد هو الحفنة الواحدة بالكفين فأحدُ أولئكَ إذا تصدقَ بمقدارِ مُدٍ من الطعامِ الشعير أو القمح أو نحو ذلك، الله تبارك وتعالى يجعلُ ثوابَ هذا المد أفضلَ من ثوابِ مَن أنفقَ مِثلَ جبلِ أحدٍ، الذي هو جبلٌ كبيرٌ في المدينة المنورة، ذهبا.
فمن الجهلِ اعتبارُ كلِّ من رأى النبيَّ وصاحَبَهُ سَنَةً أو سَنَتينِ مثلاً بمثابةِ أولئكَ السابقينَ الأولينَ هذا جهلٌ بل جهلٌ بمراتب الصحابةِ ليس الصحابةُ جميعهم في مرتبةٍ واحدةٍ بل بينَ بعضٍ منهم وبعضٍ ءاخرَ هذا الفرقُ العظيمُ وهو أن أحدَ أولئكَ السابقينَ الأولينَ كعبد الرحمن بنِ عوفٍ تصدُقُهُ بمقدار مدٍ من الطعامِ يكون عند الله تعالى أفضلَ من صدقةِ غيرهم بمقدارِ جبلِ أُحدٍ من الذهب.
فخالدُ بنُ الوليد رضي الله عنه مع ما لَهُ من جلالةِ القَدْرِ الذي كان بطلاً كبيرًا من أبطالِ الجهادِ في سبيلِ الله لا يَلحَقُ بأولئك ولا يقرُبُ أن يكون في درجةِ واحدٍ من أولئك، لا يقرُبُ من درجةِ واحد من أولئك السابقين الأولين فضلاً عن أن يُساويَهُ ومعَ هذا أي مع هذا التفاوت العظيم بين بعضٍ وأفرادٍ من الصحابةِ الآخرينَ بالنسبة لرواية الحديثِ عن رسول الله إذا رأينا حديثًا رواه صحابيٌّ عن رسول الله أو عن مَن سمعَ من رسول الله منهم من الصحابة لا نظنُ به إلا أنه صادقٌ فيما يُحدثُ به عن رسول الله، لا نظنُ بأحدٍ من مَن لقيَهُ ولو مِن أقلَّ من قَدْرِ سنةٍ أنه يكذبُ على رسول الله، كلَّهم بالنسبةِ لهذا المعنى عدولٌ كلهم عدولٌ أي رواياتُهم عن رسول اللهِ تُقبلُ ولا يُتهمونَ بالكذبِ على رسول الله .
فهؤلاءِ القرونُ الثلاثة، الصحابةُ والتابعون وأتباعُ التابعينَ أي مَن كانوا في ضمنِ تلكَ الثلاثمائة الأولى يُقالُ لهم سلف وأما تفضيلُ القرنِ الأولِ وهم الصحابةُ على التابعينَ وعلى مَن جاءَ بعدَهم فلأنَّ الصحابةَ لم يختلفوا في العقائدِ كلّهم كانوا في العقيدةِ متفقينَ لم يكن بينهم اختلافٌ في العقيدةِ كلّهم كانوا على عقيدةٍ واحدةٍ كلُّ فردٍ من أفرادهم كان يعتقدُ أن الله موجودٌ من غيرِ أن يُشبَّهَ بشىءٍ، ما أحدٌ منهم قال في تفسير قولِ الله تعالى: [الرحمن على العرشِ استوى] جلسَ، لم يقلْ أحدٌ من الصحابة إن استواءَ الله على عرشه الجلوس إنما كانوا يعتقدونَ في الاستواءِ أي استواءِ الله على عرشه أنه معنى لائقٌ بالله تبارك وتعالى من معاني الاستواء في لغة العرب لأن الاستواءَ في لغة العربِ له معانٍ عديدة، يُطلقُ الاستواءُ بمعنى الجلوس ويطلقُ الاستواء بمعنى الاستقرار ويُطلقُ لفظُ الاستواء بمعنى التَمام ويطلقُ لفظُ الاستواء بمعنى الاعتدال ويُطلقُ الاستواء بمعنى القصد إلى غير ذلك من معاني الاستواء، ويُطلقُ الاستواءُ بمعنى الاستيلاء كالقهر ويُطلقُ الاستواءُ بمعنى العُلُّو علُو القدْرِ.
المعنى الذي يليق من معاني الاستواء هو الاستيلاء والقهر والعُلوُّ علُو القدرِ ليس علو جهةٍ ومكان لأن الشأن في علو القدر ليس في علو المكان، الشأنُ في علو القدر ليس في علو الجهة والمكان أي الحيّزِ فلم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله يُفسرُ استواءَ الله على عرشه بالجلوس أو الاستقرار إنما كانوا يَحملون الاستواءَ على المعنى الذي يَليقُ بالله ولا يحملونه على المعنى الذي هو صفة من صفات البشر كالجلوس لأن الجلوسَ لا يكونُ إلا مِنَ البشر ونحوهم من البهائم والتي لها نِصفانِ نِصفٌ أعلى ونِصفٌ أسفل هذا الذي يَصحُ منه الجلوس أما الله تبارك وتعالى الذي خلقَ البشرَ وصفاتهم وخلقَ الملائكةَ وما هم عليه من الصفات وخلقَ الجن وما هم عليه من الصفاتِ والأحوالِ وخلقَ غيرَ ذلكَ من الأجرامِ فهو لا يجوزُ عقلاً ولا شرعًا أن يتصفَ بالجلوس على العرش أو الكرسيِّ مُحالٌ على الله تبارك وتعالى. فلم يقل أحدٌ من أصحاب رسولِ الله إنَّ استواءَ الله على عرشه المذكور في قوله تعالى: [الرحمن على العرش استوى] إنه بمعنى الجلوس، ولعنة الله على من فسَّرَ استواء الله على عرشه بالجلوس لأنه جعلَهُ مِثلَ البشر، والله تبارك وتعالى نَصَبَ لنا أدلةً عقليةً أنه لا يُشبهُ مخلوقه بوجهٍ من الوجوه، نصَبَ لنا أدلةً عقليةً على استحالةِ الجلوس على الله تبارك وتعالى وأنزل ءاية محكمةً في القرءان الكريم تدل على ذلك أي تدل على تنـزيه الله تبارك وتعالى من الجلوس وغير ذلك من صفات البشر بل كلُّ صفة من صفات المخلوقين وهي قولُه تبارك وتعالى: {ليس كمثله شىء} هذه الجملة مع وَجازة لفظها فمعناها واسع، تُنـزّه الله تبارك وتعالى عن كلِّ صفة من صفات البشر، صفاتُ البشر نعرفها من أنفسنا الجلوس من صفاتنا والتَـنقلُ من أعلى إلى أسفل أو من أسفل إلى أعلى هذا أيضًا من صفاتنا كذلك اتخاذُ حيّزٍ أي مكانٍ يُتحيَّزُ فيه هذه أيضًا من صفاتنا كذلك التغيُّرُ من صفاتنا كذلك التأثرُ من صفاتنا كذلك الانفعالُ فهو من صفاتنا فالله تبارك وتعالى مُنزه عن هذه الصفات كلِّها فمن ادعى أنه من السلف وقال {الرحمن على العرش استوى} بمعنى الجلوس فقد افترى وكذَبَ كذِبًا بيِّنًا ظاهرًا. لأنه لم يقل أحدٌ من السلف إن استوى بمعنى جلَسَ لا يثبتُ عن أحدٍ من أصحابِ رسول الله الذين عُرفوا بتفسير القرءان ذلك، لا يثبتُ عن أحد منهم، أما أن يكذِبَ بعضُ الكذَّابينَ ممن جاءَ بعد الصحابةِ ويَنسُبَ إلى بعضِ الصحابةِ أنه فسَّرَ هذه الآية ءاية الاستواءِ على العرش بالاستقرار أو امتلاء العرش به فهذا لم يرد مِن مَن هو من الثقاتِ الصادقين إنما جاء من طريقٍ يُقالُ لها عند أهل الحديثِ سِلسِلةِ الكذب هذه السلسلة سلسلةُ الكذبِ افترت على ابن عباسٍ رضي الله عنهما فقالت إن ابن عباس قال: {الرحمن على العرش استوى} أي استقر، هذا افتراء على ابن عباس، لا يثبتُ عن أحد من الصحابة تفسير استواء الله على العرش بالجلوس أو الاستقرار، إنما بما أنهم كانوا يفهمون اللغة العربية كما ينبغي كانوا يفهمون من قول الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} معنى يليقُ بالله تعالى من بين معاني الاستواء كعلو القدْر علوُ القدْر هو صفةٌ من صفات الله، الله تعالى وصفَ نفسه بذلك فقال: {وهو العلي العظيم} العليُّ معناه عليُّ القدْر رفيعُ الدرجاتِ ليس معناه إنه مستقرٌ على العرشِ الذي هو من العالم العلويِّ ولا علوا أي استقرارًا على الكرسيِّ الذي هو جِرمٌ عظيمٌ تحتَ العرشِ كلُّ هذا لا يليق بالله تعالى لأن الاستقرارَ والجلوسَ صفةٌ من صفات البشر فكلُّ صفة من صفات البشرِ لا تليق بالله تبارك وتعالى بل قال بعض السلف وهو الإمام أبو جعفرٍ الطحاوي الذي كان من أهل القرن الثالث الهجري ثم أدرك جزءا من القرن الرابع فتوفي فهذا الإمام من السلف قال في عقيدته المشهورة التي هي مُتَداوَلَة بين العلماءِ من ذلك الزمن إلى عصرنا هذا قال رضي الله عنه: ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر هذه الجملةُ إحفظوها وحفِّظوها أهاليكم ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر معاني البشر كثيرة كُلُنا يعرفُ معانيَ البشر أي صفات البشر كُلُنا نعرفُ. الجلوسُ من صفاتنا الجلوس لا يصحُ بلغةِ العربِ إلا لمن له نِصفان نِصفٌ أعلى ونِصفٌ أسفل الانسان هكذا لذلك يُوصفُ بالجلوسِ والكلبُ كذلكَ يوصفُ بالجلوسِ وكثيرٌ من البهائمِ توصفُ بالجلوسِ لأن لها نصفًا أعلى ونِصفًا أسفل ثم الجلوسُ في لغة العربِ عبارةٌ عن التصاقِ المِقعدةِ بالأرضِ أو بالكرسي أو نحو ذلك هذا معنى الجلوس فكيف يوصفُ خالقُ العالمِ الذي خلقَ الإنسان وصفاته وخلقَ سائرَ الأشياءَ وصفاتِها بالجلوس الذي هو تلاصقُ جِسمينِ أحدُهُما له نِصفانِ نِصفٌ أعلى و نِصفٌ أسفل هذا يليق بالله تبارك وتعالى؟!!!!!!.
هؤلاءِ كيف يزعمون أنهم عرفوا الله تبارك وتعالى؟؟؟ يُفسرون على العرش استوى بالجلوس ثم يزعمون أنهم عرفوا الله وأنهم ءامنوا به هيهاتَ هيهات هذا من الكذب البعيد.
ثم هؤلاءِ أنفُسُهم يُحرِّفون ءاياتٍ قرءانية وردت في بيان أحوال المشركين الذين كانوا في الزمنُ الذي كان القرءانُ ينزلُ على رسول الله الذين كان من جملة مقالاتهم هم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى هؤلاء المشركين الذين كانوا في زمن الرسول كانوا مُعادين للرسول مُكذبين له مؤذين له مستهزئين به كانوا يقولون هذه الأوثان التي ينهانا محمد عن عبادتها نحن ما نعبدها إلا لتقربنا إلى الله اعترفوا بأنهم يعبدونها، وما معنى العبادة؟ معنى العبادة نهاية التذلل، كانوا يُعظمونها كتعظيمِ الله تبارك وتعالى كانوا يتذللون لها نهاية التذلل هذا كان عبدتَهم لها لأوثانهم.
هؤلاء المحرفون لدين الله يجعلون أمة محمد الذين هم مؤمنون بالله ورسوله ويعتقدون أنه لا أحد يستحقُ أن يُتذللَ له نهاية التذلل إلا اللهُ تبارك وتعالى ولا يُعظمونَ أحدًا غير الله كتعظيمِ الله لا يُعظمونَ أحدًا سوى الله نهاية التعظيم، عن هؤلاءِ المؤمنينَ يقولون أنتم مثلُ أولئكَ عُبَّادِ الأوثان الذينَ قالوا في التشبث على عبادةِ الأوثانِ التي كانوا يعبدونها ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى يقولون أنتم مِثلُ أولئكَ أحدُكم لما يذهب لزيارة قبر الرسول أو قبر أيُّ نبي أو قبر أيُّ ولي للتبرك فقد أشركتم صرتم مثل أولئك، مع أن التبرك بالرسول وبأثاره كان الصحابة يفعولنه حتى إن الرسول في حجةِ الوداعِ وفي عمرة الجعرانة حلق رأسه بالموسى ثم قسم شعَرَه بين الصحابة وما قسم هذا الشعرَ إلا ليتبركوا به فكانوا يتبركونَ به في حياته وبعد وفاته حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء فيسقونَ هذا الماءَ بعضَ المرضى تبركا بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديثُ في البخاري وغيرِه، كان أحدُهم أخذَ شعرةً والآخر أخذَ شعرتين وخالدُ بنُ الوليد رضي الله عنه كانت لـه قَلَنسُوة وضعَ في طيّها شعرًا من ناصية رسول الله أي من مُقدمِ رأسهِ لما حلقَ في عمرةِ الجِعرانةِ ليس لحجِهِ في الحجِ لا هذا لما حلق رأسَهُ للعمرةِ في أرضٍ يُقالُ لها الجِعرانة بعد مكةَ إلى جهةِ الطائفِ من ذلك الشعر أخذ خالدُ بنُ الوليد شَعرَ الناصيةِ أي مُقدمِ الرأسِ فوضعَهُ في قَلَنسُوَته فكانَ ذاتَ مرةٍ في غزوةٍ من الغزواتِ فقدها فصارَ يبحثُ عنها يُفتشُ عنها تفتيشًا شديدًا حتى وجدها فقيل له لماذا أنت تعتني بهذه القَلَنسوة كلَّ هذا فقال إني وضعتُ فيها من شَعرِ رسول الله من شَعرِ ناصيته فما حضرتُ وَقعةً إلا رُزقتُ النُصرَ أي كلما حضرتُ معركةً انتصرتُ على الكفارِ ببركة هذا الشعر شعر النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابة كان معروفًا عنهم أنهم يتبركون بأثار النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك بعد موته بعضُ الصحابةِ لما وقع مجاعةٌ شديدةٌ في عهد عمرَ بن الخطابِ تسعةَ أشهر انقطعَ المطرُ عنهم صارت مجاعةٌ ، بعضُ أصحابِ رسول الله ذهبَ إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتكَ فإنهم قد هلكوا، هذه يُقالُ لها استغاثة وتوسلٌ فجيء في المنام أُتي هذا الرجلُ الصحابيُ في المنام فقيل له أقرئ عمرَ السلام فأخبره أنهم يُسقونَ فذهب الرجلُ إلى عمرَ فقصَّ عليه رؤياهُ ماذا فعلَ أي أنه ذهب إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فتوسل به ثم سقاهم الله تبارك وتعالى حتى سُميَ ذلك العامُ عامَ الفَتَق من شدة ما ظهر من الأعشاب سمنت المواشي حتى تفتقت من الشحم لذلك سُمي عام الفتق ثم هذا الفعلُ أي التوسلُ بالنبي صلى الله عليه وسلم بالاستغاثة به أما قبره من هذا الصحابي ما عاب عليه عمرُ بنُ الخطابِ ما قال له كيف تطلبُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفَ تستغيث وتتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات ما قال له عمرَ ولا غيرُعمر كلُّ من علمَ بالقصة ما انتقده عليها.
هذا فعلُ السلف وغيرُ هذا من الحادثات التي هي توسلٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم مما حصلَ للصحابة مع كل هذا هؤلاء من فساد قلوبهم يُكفرون المسلمين المتبركين برسول الله صلى الله عليه وسلم والأولياء هذه الآيات التي نزلت في المشركين الذين كانوا يعبدون الأوثان جعلوها على المسلمين المتبركين بالتوسل بالأنبياء والأولياء.
شرح حديث : إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ..
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلى الله على جميع أنبيائه ورسله ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. فقد روّينا في صحيح البخاري رحمه الله تعالى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ
إن الدين يسر المعنى أن هذا الدين أي شرعَ محمد صلى الله عليه وسلم يُسْرٌ أي سهْلٌ وهذا يعرفُه من عرفَ ما كان على الأمم الماضينَ من التشديد،كلُّ شرائع الأنبياء نُسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الشرائعُ التي قبل شرع محمد صلى الله عليه وسلم كلُّ شريعة تنسخُ التي قبلها هكذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: “كلُّ شريعةٍ تنسَخُ الشريعةَ التي قبلها ونسخت شريعةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم سائرَ الشرائع”. فإن قيل إنه كان في شرع بني اسرائيل صلاتان فقط وهذه الشريعةُ المحمدية فيها خمسُ صلوات فما وجه كون هذه الشريعة يُسراً؟ فالجواب: أنه كان في شرائع بني اسرائيل أنَّ الإنسان لا يجوز لـه أن يصلي الصلاة حيثما شاء إلا في المكان المخصوص للصلاة فلو كان بمكان بعيد وحان وقت الصلاة ذهب إلى ذلك المكان البعيد ليؤدي الصلاة فيه حتى تصح صلاته، أما في هذه الشريعة المحمدية فيصحُ أن تصلي الصلاة في السوق وفي الشارع، وإن كانت الصلاة في قارعة الطريق مكروهةً لكن تصح، كذلك يصح للمؤمن الواحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يصليَّ الصلاة في السوق ويصحُّ أن يصلي في دكانه ويصح أن يصلي أيضاً في بيته ويصلي في البرية ويصح أن يصلي في الغابة فهذا اليسر الذي في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للصلاة يمنع أن يقال إن صلاتين في مقابل خمس صلوات ليس يسراً.
ثم إن من يسر هذه الشريعة أن الصلاة يكسب الإنسان ثوابها لو فقد الماء أو وجد الماء لكن كان الماء يضره في شدة برد يُخشى منه الضرر إذا توضأ الشخص فيه وهناك أمثلة أخرى، الحاصل أن هذه الشريعة سمْحَة وهي أيسر من غيرها من الشرائع المتقدمة.
ومن الأمر الذي هو من أشق الشاق في شرع بني اسرائيل أن الشخص إذا أصاب ثَوبَهُ بَولٌ لا يصلي في هذا الثوب إلا أن يقطع بالمقراط ذلك الموضع الذي أصابه البول منه، كان فرضاً عليهم أن يصليَ أحدُهُم في ثوب غير ذلك الثوب الذي أصابه البول أو يقطع موضع البول من ذلك الثوب، وأما في الشرع المحمدي فيكفي غسله بالماء، إن غسله فذهبت أوصاف البول من مرة واحدة طهُرَ وإن زالت أوصافُهُ في غسلتين طهر وإن زالت بثلاث طهُرَ.
ثم إن الشرع سهَّل الأمر على الأخرس، الأخرس إذا أراد أن يدخل في الإسلام وكان على دين من الأديان الكفرية يدخل في الإسلام بالنية بالتصديق بقلبه بمعنى الشهادتين ومن غير نُطُق بها هذا إذا كان أخرس خلقيا ليس خرسه طارئا بعد أن تعلم الكلام فإن كان خرسه طارئا يُحرك شفته هذا إن كان يمكنه تحريك الشفتين من دون صوت يسمع يكفيه ذلك يكون دخل في الإسلام.
ثم الأخرس تصح له العقود، البيع والشراء والهبة وغير ذلك بالإشارة، بالإشارة تصح حتى النكاح إذا أراد أن يتزوج بنتا يقول لـه ولي البنت زوجتك بنتي هذه أو بنتي فلانة فيقبل الأخرس بالإشارة تصير حلالا له صح نكاحه. كذلك الطلاق والخلع يصح من الأخرس فإذا أشار الأخرس إشارة مفهومة بالطلاق طلقت امرأته ولا يُمَكَّنُ من العودة إليها إلا إذا كان الطلاق دون الثلاث فعمل رجعة بالإشارة صحت رجعته. إنما الأخرس لا يصح منه أمران شهادة إذا كان أراد أن يشهد في حق من حقوق الناس عند الحاكم لا تقبل شهادته بالإشارة لا تصح،وكذلك لو أشار وهو في الصلاة مما لو كان نطقا يُفسد الصلاة لا تفسد صلاته، في هذين الأمرين يختلف في إشارة الأخرس عن النطق.اهـ
شرح حديث : أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة …
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين أما بعد:
فقد قال الله تبارك وتعالى: {إن الحسناتِ يُذهِبْنَ السيئات} جاءت أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرح معنى الآية فمن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أيَعْجِزُ أحدُكُم أن يكسبَ في اليوم ألفَ حسنةٍ يُسبحُ الله تعالى مائةَ تسبيحة فيُكْتَبُ له بهن ألفُ حسنة ويُمحى عنه بهن ألفُ خطـيَّة في هذا الحديث بيان أن الحسنة الواحدة تمحو عشرة من السيئات، هذا أقل ما يكون وقد تمحو الحسنة الواحدة أكثر من ذلك من السيئات، بيان ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن المائة تسبيحة يكون ثوابها ألفًا من الحسنات وزيادة على ذلك أخبر بأنه يمحى عن قائل هذه المائة تسبيحة ألف خطيئة أي معصية ولم يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخطيئة بأنها من الصغائر فنقول يجوز أن يمحو الله بالحسنة من الحسنات بعض الكبائر وإن كان ورد في فضل الصلوات الخمس أنه تُمحى عنه وتُكَفَّرُ عنه بها ما سوى الكبائر إن لم يغش الكبائر لكنَّ هذا ليس مطردا فيما سوى الصلوات الخمس فقد ثبت بالإسناد الصحيح أن من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه يُغفر لـه وإن كان قد فر من الزحف الفرار من الزحف من أكبر الكبائر فإذا كان بهذه الكلمة من الاستغفار يمحى من الكبائر ما شاء الله تعالى فلا مانع من أن يمحى بالتسبيح ونحوه بعض الكبائر.
الحديث الثاني حديث: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه يغفر له وإن كان قد فر من الزحف]رواه أبو داود في سننه وهو حديث حسن الإسناد حسنه الحافظ ابن حجر في الأمالي. هذه الرواية التي حُكِمَ لها بالحُسْنِ ليس فيها التقييد بثلاث مرات ولا بأن يكون ذلك عقب صلاة الفجر بل هي مطلقة أيُّ وقت قال هذا الاستغفار: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر لـه ذنوبه وإن كان قد ارتكب بعض الكبائر، ثم اللفظ يقرأ على وجهين يقرأ بالرفع الحيُّ القيومُ ويقرأ بالنصب الحيَّ القيومَ كلا ذلك جائز عند علماء النحو.
ثم إن الحافظ ابن حجر ذكر أن هذا الاستغفار يمحى به من الكبائر ما ليس من تبعات الناس أي من مظالم الناس أي أن المظالم لا تدخل تحت هذا الحديث، ثم كل هذا شرطه أن تكون هناك نية شرعية وهي أن يقصد بهذا التسبيح التقرب إلى الله ليس فيه رياء أي أن يمدحه الناس إنما قصده خالص للتقرب إلى الله وهكذا كل الحسنات، قراءة القرءان والصلاة والصيام والحج والزكاة وبر الوالدين والانفاق على الأهل وصلة الرحم إلى غير ذلك من الحسنات، فأي حسنة لا ثواب فيها إلا بالنية والنية هي أن يقول بقلبه أفعل هذا تقربا إلى الله أو ابتغاء مرضاة الله أو ابتغاء الأجر من الله لكن بشرط أن لا يضم إلى ذلك قصد مدح الناس له وذكرهم له بالثناء الجميل، لا يكون قصده ذلك إنما قصده أنه يتقرب إلى الله بهذه الحسنة بهذا التسبيح أو بهذه القراءة للقرءان أو بهذه الصدقة أو بفرائضه التي يفعلها كالصلاة والحج والزكاة وكل هذه الحسنات إذا اقترنت بها نية صحيحة خالصة لله تعالى لم يقترن بها رياء فلفاعلها هذا الثواب الجزيل أي أن كل حسنة تكتب عشر أمثالها على الأقل وقد يزيد الله من شاء ما شاء من المضاعفات.
ثم هناك شرط لا بد منه وهو صحة العقيدة، صحة العقيدة شرط للثواب على الأعمال فلا ثواب على الأعمال بدون صحة العقيدة ومعنى صحة العقيدة أن يكون عارفا بالله ورسوله كما يجب ليس مجرد التلفظ بكلمة التوحيد بل الأصل الذي هو لا بد منه للنجاة من النار في الآخرة ولحصول الثواب على الأعمال هو هذا معرفة الله كما يجب ومعرفة رسوله ثم بعد ذلك الثبات على الإسلام أي تجنب الكفريات القولية والفعلية والاعتقادية فمن ثبت على هذا إلى الممات كانت كل حسنة يعملها على هذا الوجه فيكون من الفائزين الناجين المفلحين.
ومعنى صحة العقيدة هو أن يكون على ما كان عليه أصحاب رسول الله والتابعون وأتباع التابعين ومن تبعهم على تلك العقيدة التي هي مأخوذة عن الرسول تلقوها عن الرسول ثم تلقاها التابعون من الصحابة ثم تلقاها المسلمون جيلا عن جيل وهذه العقيدة إلى يومنا هذا موجودة وإن انحرف عنها بعض الفئات، هذه العقيدة التي كان عليها الصحابة ومن تبعهم بإحسان هي الأشعرية والماتريدية واليوم أهل السنة إن لم نقل كلهم أغلبهم أشعرية، كان في الماضي الماتريدية في نواحي بلاد بُخارى وسمرقند وطشقند وجُرجان ونيسابور من بلاد فارس، لكنه اليوم كأن الأشعرية عمّت والأشعرية والماتريدية كلتاهما هم أهل السنة والجماعة فعقيدتهم منبثقة من قول الله تعالى: {ليس كمثله شئ} عرفوا معنى هذه الآية كما يجب فنزهوا الله تعالى عن صفات المخلوقين عن التحيز في المكان وعن الحد أي المساحة لأنه لا تصح معرفة الله مع اعتقاد أنه يشبه خلقه ببعض صفاتهم كالتحيز في المكان التحيز في العرش أو غير العرش أو التحيز في جميع الأماكن كل هذا ضد هذه الآية: {ليس كمثله شئ}.
فخلاصة عقيدة أهل الحق أن الله موجود لا كالموجودات أي لا يشبه الموجودات بوجه من الوجوه، السلف الصالحون كانوا على هذه العقيدة أي تنزيه الله عن التحيز في المكان والحد، الدليل على ذلك أن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم كان من أوائل السلف له رسالة تسمى الصحيفة السجادية ذكر فيها عبارات في التنزيه منها هذه الجملة: [سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان] إحفظوها فإنها من كلام السلف الصالح كان زين العابدين رضي الله عنه يقال عنه أفضل قرشي في ذلك الوقت أفضل أهل البيت، وقال أيضا في نفي الحد عن الله: [سبحانك أنت الله الذي لست بمحدود] وذلك أن المحدود يحتاج إلى من حده فالله تبارك وتعالى ليس له مساحة ليس بقدر العرش ولا أوسع منه ولا أصغر من العرش.
من اعتقد أن الله بقدر العرش فهو جاهل بالله ومن اعتقد أنه أوسع منه مساحة فهو جاهل بالله ومن اعتقد أنه أصغر من العرش فهو أشد جهلا وبعدا عن معرفة الله، ثم الإمام أبو جعفر الطحاوي الذي عاش في القرن الثالث الهجري عشرات من السنين ثم توفي في أوائل القرن الرابع عاش في القرن الثالث الهجري عشرات من السنين نحو سبعين سنة ثم أدرك من القرن الذي يليه القرن الرابع الهجري نحو عشرين سنة ونيّفا هذا ألف كتابا سماه بيان عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها أبو حنيفة الذي توفي سنة مائة وخمسين وصاحباه اللذان توفيا بعده بعشرات من السنين في القرن الثاني الهجري أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن الحسن وهم من الأئمة أهل الاجتهاد ومن سواهم، ذكر أن أهل السنة هؤلاء الثلاثة من الأئمة وغيرهم على عقيدة أن الله ليس بمحدود ولا متحيزا في الجهات لا في الجهة العليا ولا في الجهة التحتية ولا في جهة اليمين ولا في جهة اليسار ولا في جهة الخلف ولا في جهة الأمام قال: [تعالى عن الحدود] الله تعالى منزه عن الحدود أي ليس بمحدود، العرش محدود لو كنا نحن لا نعرف حده لكن هو في حد ذاته محدود له حد يعلمه الله، فالله تبارك وتعالى ليس بمحدود لا يجوز أن نقول له حد يعلمه هو ولا يجوز أن يقال له حد يعلمه هو ونعلمه نحن كلا ذلك باطل، الحق أن ينفى عنه الحد وذلك لأن الذي له حد يحتاج إلى من جعله على ذلك الحد، هذه الشمس نحن لنا دليل عقلي غير الدليل القرءاني أنها لا تصلح أن تكون إلها للعالم وذلك لأن لها حدا فلها خالق جعلها على هذا الحد، والله تبارك وتعالى لو كان له حد لاحتاج إلى من جعله على ذلك الحد كما تحتاج الشمس إلى من جعلها على ذلك الحد الذي هي عليه، فقد ظهر لكم أن السلف كانوا ينفون عن الله الحد والجهة أي التحيز في جهة من الجهات الست أو في جميعها وعن سائر أوصاف الخلق. إن الله منزه عن ذلك وكل هذا مما تعطيه هذه الآية: {ليس كمثله شئ}لكن القلوب مختلفة قلوب تفهم من هذه الآية هذه المعاني وقلوب لا تفهم تقرؤها ألسنتها ولا تفهم ما تحويه من التنزيه، هذا ما كان عليه أهل السنة، ليس مذهب أهل السنة تشبيه الله بخلقه بأن يعتقد فيه بأن له أعضاء وأن يعتقد فيه بأنه متحيز على العرش مع أنه منفي عنه ما كان من صفات الخلق من غير ذلك كالنزول من علو إلى سفل ثم الرجوع إلى هناك، بعض الجاهلين بالحقائق يظنون أن قول الله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} يظنون أن هذه الآية معناها أن الله نزل من العرش الذي هو مستقره إلى أسفل إلى تحت فهيأ السموات والأرض ثم صعد بعد ذلك، هذا جهل قبيح بالقرءان، إنما معنى الآية أن الله تبارك وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان مستويا على العرش أي قاهرا للعرش قبل وجود السموات والأرض كان قاهرا مستويا على العرش أي قاهرا على زعمهم كلمة ثم لا تأتي إلا بعد تأخر حصول شئ عن شئ وهذا جهل باللغة، [ثم] تأتي بمعنى الواو، كامة ثم تأتي مرادفة للواو كما تأتي للدلالة على أن ما بعدها وجوده متأخر عن وجود ما قبلها كما تأتي لهذا المعنى معنى التأخر تأتي لمعنى الجمع بين الشيئين بمعنى الإخبار باجتماع شيئين في الوجود من غير دلالة على تأخر ما بعدها عما قبلها هذا أثبته علماء اللغة منهم الفراء قال: ثم تأتي بمعنى الواو ثم على ذلك شاهد من القرءان وشاهد من شعر العرب القدماء الفصحاء الذين كانوا يتكلمون باللغة العربية عن سليقة وطبيعة من غير أن يدرسوا النحو قال أحدهم:
إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جَدُهُ
هل يصح أن تفسر [ثم] هنا أنها تدل على تأخر ما بعدها عما قبلها في الوجود؟ لا تدل، كذلك في هذه الآية: [ثم استوى على العرش] لا تدل [ثم] على أن الله تعالى خلق السموات والأرض ثم بعد أن وجدت السموات والأرض صعد إلى العرش وجلس عليه كما يزعم المشبهة الذين حُرموا من فهم الدلائل العقلية، العقل له اعتبار في الشرع لذلك أمر الله بالتفكر في أكثر من ءاية والتفكر هو النظر العقلي هؤلاء حُرموا من ذلك من معرفة الدلائل العقلية التي يُعرف بها ما يصح وما لا يصح مثال لذلك يبين سخافة هؤلاء الذين يعتقدون في الله التحيز في المكان والحد والمساحةدليل يوضح سخافةعقول هؤلاء وهو أنهم يُفسرون حديث: ينـزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في النصف الأخير وفي لفظ في الثلث الأخير فيقول هل من داع فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه حتى يبفجر الفجر وهو حديث صحيح إسنادا ظاهر هذا الحديث على زعم هؤلاء الذين تمسكوا بظاهر هذا الحديث أن الله يبقى في الثلث الأخير من الليل إلى الفجر وهو يقول هذا الكلام هؤلاء فهمهم هذا دليل على سخافة عقولهم وذلك لأن الليل يختلف باختلاف البلاد فالليل في أرض نهار في أرض أخرى ونصف الليل في أرض أول النهار في أرض إلى غير ذلك من الاختلافات، فعلى قولهم يلزم أن يكون الله تبارك وتعالى في السماء الدنيا طالعا منها إلى العرش كل لحظة من لحظات الليل والنهار، هذه سخافة عقل. أما تفسير أهل السنة الذين ينزهون الله عن المكان والجهة والحد عندهم هذا النـزول ليس نزولا حسيا بل عبارة عن نزول ملائكة الرحمة إلى السماء الدنيا بالنسبة لكل أرض على حسب ليل تلك الأرض هؤلاء ملائكة الرحمة ينزلون فيبلغون عن الله يقولون إن ربكم يقول: هل من داع فيستجاب لـه أو هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه هم يبلغون عن الله بأمره هذا معنى ينـزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول كذا وكذا حتى ينفجر الفجر على هذا المعنى يصح، شئ معقول يقبله العقل، أما على ما يفهمه أولئك من أن الله بذاته ينـزل من علو إلى سفل هذه سخافة عقل لا يقبلها عقل ولا شرع، أما نزول الملائكة بأمر الله ليبلغوا عنه فينادوا بما أمرهم به هذا شئ يوافق العقل والشرع.
أهل السنة الله تعالى هداهم للمعاني التي توافق الشرع والعقل، أما أولئك محرومون من هذا يعيشون في السخافة يعيشون وهم يرددون سخف القول حتى إن بعضهم من شدة السخافة قال الحديث الذي ورد أن جهنم يوم القيامة يقال لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد فيضع الجبار قدمه فيها وفي رواية رجله فيها فينـزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط هذا الحديث أيضا هؤلاء يفسرونه بسخف من القول على زعمهم الله تعالى له أعضاء فيضع رجله بمعنى العضو في جهنم فتهدأ جهنم، قال بعضهم وهو من أهل العصر دكتور قال: “هو لما يضع قدمه فيها لا تحترق رجله كما أن ملائكة العذاب لا تحترق أرجلهم” ساوى الله تعالى بخلقه جعل لـه عضوا هو الرجل يضعها في جهنم فيملأ جهنم تكتفي فتقول اكتفيت اكتفيت. أما المعنى الصحيح الذي هو معنى الحديث الذي أراده الرسول بالقدم هو جماعة من الكفار من أهل النار ءاخر فوج يضعهم في جهنم فيملأ جهنم بهم، يقال في لغة العرب: [القدم] لما يقدم من الشئ كذلك يقال في اللغة: [رجل من جراد] يعني فوج من جراد، رواية [رجله] ورواية [قدمه] كلتاهما لهما معنى صحيح لا يخالف العقل ولا الشرع، أما على قولهم فقد كذبوا القرءان وخالفوا قضية العقل، أما القرءان فالله تبارك وتعالى قال: {لو كان هؤلاء ءالهة ما وردوها} عن الأوثان، يوم القيامة الأوثان ترمى في جهنم إهانة للكفار الذين كانوا يعبدونها، الأوثان ترد جهنم يوم القيامة الله تعالى يقول هذه الأوثان لو كانت ءالهة تستحق أن تعبد ما دخلت جهنم، الله الذي أخبر بهذا يصح في العقل أن يرد جهنم أن يدخل جهنم؟! ساووه بالأوثان التي ترمى في جهنم يوم القيامة هؤلاء سخفاء، لا يغرنكم إن قالوا نحن على مذهب السلف، قولوا لهم كذبتم لستم على مذهب السلف إنما تموهون على الناس فتستميلون ضعفاء العقول.
الحاصل إعلموا أن هؤلاء ليسوا على مذهب السلف في العقيدة فيما يتعلق بصفات الله ليسوا على عقيدة السلف كذلك في كثير من الأعمال في تحريمهم التوسل بالأنبياء والأولياء وهذا ليس من عقيدة السلف إنما ابن تيمية افتراه، ابن تيمية رجل ظهر في أواخر القرن السابع الهجري فشق العصا أي شذ عن المسلمين بتحريمه التوسل بالأنبياء والأولياء، وقوله: “لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر” هذا ليس مما يوافقه عليه أحد من أئمة السلف إنما هو رأى هذا الرأي الفاسد فسبب بذلك تكفير المسلمين بغير سبب شرعي، عندهم الذي يقول:”يا رسول الله” مشرك كافر، والذي يقول: يا علي مشرك كافر إلى غير ذلك، ما سبق ابن تيمية وابن عبد الوهاب بهذه الأراء أحد من أئمة المسلمين،أئمة المسلمين والصحابة توسلوا بالرسول والتابعون توسلوا وأتباع التابعين وهلم جرا إلى يومنا هذا، حتى ان من علماء الحديث منهم من قال وهو الحافظ ابن الجزري شيخ القراء كان من حفاظ الحديث قال في كتاب له يسمى:”الحصن الحصين” وفي مختصره أيضا قال: من مواضع إجابة الدعاء قبور الصالحين هذا الحافظ جاء بعد ابن تيمية بنحو مائة سنة، ما أنكر عليه العلماء إلا أن يكون بعض من الشاذين الذين لحقوا بابن تيمية، والسلف كانوا يتبركون بزيارة قبور الصالحين حتى إن الإمام الشافعي رضي الله عنه لما كان ببغداد كان يقصد قبر الإمام أبي حنيفة لأن أبا حنيفة مات سنة ولد الشافعي كان يقصد قبر أبي حنيفة فيدعو الله هناك رجاء الاجابة أي رجاء أن يجيب الله دعوته ببركة هذا العبد الصالح أبي حنيفة.وما كان أحد استنكر هذا من أهل العلم في ذلك الزمن، ما استنكر أحد على الشافعي ولا ببنت شفة في وجهه ولا في خلفه. هو ـ أي ابن تيمية ـ شوش على المسلمين في الوقت الذي ظهر فيه في دمشق ثم العلماء والحكام ما سكتوا له حبس عدة مرات في الشام حبس ثم استدعي إلى القاهرة بأمر الملك الناصر محمد ابن قلاوون فجمع الملك محمد بن قلاوون رؤساء قضاة المذاهب الأربعة رئيس قضاة الحنابلة ورئيس قضاة الشافعية ورئيس قضاة الحنفية ورئيس قضاة المالكية فنظروا في أمر ابن تيمية قالوا هذا الرجل يجب ردعه وزجر الناس عنه وعن أتباعه فعمل الملك مرسوما بالتحذير منه وتهديدهم بأن من لم يرجع عن سيرة ابن تيمية ليس له حظ في الدولة الإسلامية لا للخطابة ولا للإمامة ولا للقضاء ولا لأي وظيفة من وظائف الدولة الإسلامية ومن جملتهم من جملة أولئك القضاة الأربعة كل واحد منهم رئيس قضاة مذهبه بدر الدين ابن جماعة هذا من جملة من حكم على ابن تيمية بالحبس الطويل ثم مات بدر الدين قبل وفاة ابن تيمية بسنة، ابن تيمية ظل في السجن سنتين فمات في السجن، اليوم يسمونه شيخ الإسلام كأنه هو سلطان علماء الإسلام، في الماضي كان يسميه من كان على عقيدته من المجسمة من الحنابلة الذين يعتقدون أن الله جسم تصوروه في أنفسهم ليس له وجود، تصوروا جسما قاعدا على العرش بقدر العرش ملأ العرش، هذا تصور منهم، ما جاء به كتاب ولا سنة، هؤلاء الذين من شدة ما أحبوه لأنه كان قويا في الكلام والجدال ولأنه ينصر عقيدتهم سموه شيخ الإسلام فكونوا منه على حذر وحذروا منه ومن أتباعه وهم اليوم أتباع محمد بن عبد الوهاب لأن محمد بن عبد الوهاب أخذ عقيدة ابن تيمية مع أنه ظهر بعده بنحو ثلاثمائة سنة من كتب ابن تيمية أخذ عقيدته وأضاف إليها زيادات من عنده كتكفير من يعلق الحجاب على عنقه، هذه ابن تيمية ما قالها ابن تيمية لم يقل ان الذي يعلق الحجاب على عنقه كافر إنما هذه من زيادات ابن عبد الوهاب، عندهم إذا رأوا على إنسان حرزا يقولون هذا شرك وإن استطاعوا أن يقطعوها من عنقه بأيديهم فعلوا ذلك إلى غير ذلك من مساوئهم في تكفير المسلم بغير أدنى سبب شرعي، لمجرد قول يا محمد يا رسول الله يا علي يكفرون الناس وفيما علمه الرسول للأعمى الذي جاء إليه ليدعو له حتى يرد الله عليه بصره أن يقول: [يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي] ذهب الأعمى إلى مكان الوضوء كما أمره الرسول فتوضأ وصلى ركعتين وقال هذا التوسل، ليس في وجه الرسول قال: [يا محمد] لا بل في المكان الذي ذهب إليه ثم عاد وقد أبصر فتح نظره عاد إلى مجلس الرسول، الرسول ما فارق ذلك المجلس، وقد فتح نظره عاد، هذا دليل على أن تكفيرهم للناس لقولهم يا محمد يا رسول الله أو يا علي ضلال.
قال الشيخ لطف الله به: الطريقة الرفاعية أُحدثت أثناء القرن السادس الهجري كانت تُعرف في الماضي بالأحمدية نسبة إلى سيدنا أحمد ثم الآن عُرفت بالرفاعية كان رضي الله عنه سيدنا أحمد من أشد الناس تواضعا حتى صار يُضرب به المثل وكان فقيها شافعيا محدثا مفسرا وكان يقول أولياء ذلك العصر هو أجل المشايخ قدرا ثم جماعته ظهرت منهم كرامات أكرمهم الله بها بعد وفاته، منها أنهم لما يقيمون حضرة الذكر يشعلون نارا عظيمة يدخلون فيها فلا يحترقون ولا ثيابهم بل يخرجون سالمين من غير أدنى أذى حتى تنطفئ هذه النار وكانوا أيضا يدخلون الأفران الحامية فينامون فيها، الخباز يخبز في جهة وهم ينامون في الجانب الآخر، وغير هذا من العجائب ظهرت لهم وهذا لا يستنكره منصف يعرف علم الدين أما جماعة ابن تيمية كانت تقول عنهم هذه أحوال شيطانية حسدا وبغيا، وكان من جملة كراماته في حال حياته أنه كان يجتمع عنده ليلة المحيى في السنة أكثر من مائة ألف نفس هو يكفيهم طعامهم وشرابهم رضي الله عنه ونفعنا به وجعلنا سالكين نهجه الشريف وسيرته القويمة.
ثم الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق أهل الله كلها يقال لها سنة حسنة لأن الرسول عليه السلام قال: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده لأن هذه الطرق ليس فيها ما يخالف شرع الله هي استغفار وصلاة على النبي وتهليل.
شرح حديث : إن عيسى ابن مريم نازل فيكم …
الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين ولا سيما سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الميامين وبعد
هو رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إن عيسى ابن مريم نازل فيكم تعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض أي ليس شديد البياض يقطرُ رأسُه كأنه به بلل معناه يلمع رأسه كأنه مبلول بالماء ينـزل في مُنَصَّرَتَينِ أي ثوبين مصبوغتين باللون الأصفر عليها لون الصبغ الأصفر فيقتل الخـنـزير ويكسر الصليب وتهلِكُ الملل في زمانه كلها سوى الإسلام فيمكث حاكما مقسطا أربعين سنة ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون هذا الحديث رواه ابن حبان صحيح الاسناد وغير ابن حبان. وإنما ينـزل لتجديد شريعة محمد، وإنما يفعل ذلك تأكيدا لبطلان ما افتروا عليه من هذا الدين الذي هم أنشاؤوه من عند أنفسهم وذلك لأنه يُظهر الحقيقة ويكشف الكذب الذي نُسبَ إليه أنه من دينه وليس من دينه، هو ما كان أحل قط الخنزير ولا الأنبياء الذين قبله وهذا الصليب لم يكن لما كان على وجه الأرض إنما بعد رفعه إلى السماء افتروا فقالوا صُلب المسيح وقُتل وصدقهم اليهود بما ادعوه فعندما ينزل ينفي هذا الكذب ويُبطله بكسر الصليب وقتل الخنازير. هو قتل الخنازير في شرعنا مستحب سنة ليس واجبا وقال بعض الفقهاء واجب. أما أنه يتزوج فيولد له لم يثبت حديث عن سيدنا رسول الله بإسناد صحيح لكنه قد روي، يحتمل أن يكون هذا الحديث معناه صحيحا ويتحقق وأما مدفنه لما يموت فعند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. كان مكتوبا في التوراة الحقيقية الأصلية أن عيسى صفته كذا وكذا وأنه يُدفن عند محمد صلى الله عليه وسلم. المهدي يُدركه يجتمعان لكن يُسَلِّم الرئاسة للمسيح لأن غير النبي لا يرأس النبي يُسلم له الرئاسة العامة.
فـائدة
وأما نزول المسيح فأخرج حديثه البخاري ومسلم والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينـزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنـزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة خير من الدنيا وما فيها وفيه من طريق ءاخر: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ولفظ مسلم نحو ذلك، ولفظ البيهقي في الأسماء والصفات: ينـزل عيسى ابن مريم من السماء وفي هذه الرواية تكذيب للقاديانية الكافرة في دعواهم أنه لم يرد في حديث نزول المسيح ذِكرُ لفظ “من السماء”. وعند أبي داوود والإمام أحمد بإسناد صحيح: ويدعو الناس إلى الإسلام ويضع الجزية أي أن الله تعالى جعل إقرار الكفار بالجزية مُغَـيَّـاً بنزول المسيح فكان من شرع محمد نسخ الجزية بنـزول المسيح.
وعند ابن حبان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى: {وإنه لَعِلْمٌ للساعة} فقال نزول عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة. وأحاديث نزوله مشهورة قريب من التواتر.
فائدة:
أخرج ابن ماجة والنسائي عن ابن عباس قال: كان عيسى مع اثني عشر من أصحابه في بيت فقال: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن ثم قال: أيكم يُلقى عليه شبهي ويقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة فقام شاب أحدثهم سنا فقال أنا، قال إجلس، ثم عاد فقال إجلس ثم عاد الثالثة فقال أنت هو. فألقي عليه شبهه فأخذ الشاب فصلب بعد أن رفع عيسى من روزنة في البيت وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشاب. وهذا إسناده صحيح بخلاف ما قيل أن المقتول كبير اليهود.
تنبيه:
ليس صحيحا ما يُذكر على بعض الألسنة وفي بعض الكتب أن المسيح توفي بضع ساعات، والآية الكريمة: {إني متوفيك ورافعك إليّ} ليس معناها أنه يُميته ثم يرفعه إلى السماء ليُخلّصَه من اليهود لا، إنما معنى [متوفيك] قابضك من الأرض وأنت حيّ يقظان فأقبضك من الأرض إلى السماء، {إني متوفيك} أي قابضك من الأرض ورافعك إلى السماء ومطهرك من الذين كفروا أي من اليهود الذين أرادوا قتلَكَ هذا معناه ويصح أن يقال: {إني متوفيك} أي مميتك بعد رفعك وإنزالك إلى الأرض، ابن عباس يقول متوفيك مميتك، لكن على أي معنى فسر [متوفيك] بمميتك؟ على معنى أنه بعد الرفع والإنزال ليس قبل أن يرفعه يميته هنا ليس هذا قصد ابن عباس بل قصد ابن عباس يُميته بعد أن يرفعه ويُنـزله هذا يقال له المُقدَّم والمُؤخر، في القرءان له وجود وفي لغة العرب أبضا هذا له وجود التقديم والتأخير، يقال: {إني متوفيك} متوفيك لفظا مقدم لكن معنى الوفاة تكون بعد الرفع والإنزال. {فضحكت فبشرناها} هذا أيضا من المقدم والمؤخر ضحكت مؤخر من حيث المعنى مؤخر فبشرناها مقدم من حيث المعنى أما ضحكت مؤخر، بعدما سمعت التبشير من الملائكة كان ضحكها من فرحها وتعجبها وهكذا {إني متوفيك ورافعك} من هذا الباب، فإن قيل لماذا جعلتموه من باب المقدم والمؤخر؟ يقال لهم لأن الرسول قال: إن عيسى ابن مريم نازل فيكم فاعرفوه رجل ربعة إلى البياض والحمرة يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون. هذا الحديث الصحيح هو خلاّنا نجعل هذه الآية من باب المقدم والمؤخر.
شرح حديث : من يرد الله به خيرا يصب منه …
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد.
الرسول علمنا الأدب الحسن فقال: إذا نظر أحدكم إلى من هو أفضل منه في الخلق والمال لينظر إلى من هو أسفل منه إذا وجد رجلا فأعجبته صحته ونشاطه الجسماني وهو أقل من ذلك فليقل أنا ينبغي من أن أحمد الله على القدر الذي أعطاني من الصحة وكذلك إذا نظر إلى أهل الغنى فليقل أحمد الله على ما رزقني وليكف نفسه عن شغل قلبه بأن يكون مثل أولئك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: من يرد الله به خيرا يصب منه أي يبتليه بالمصائب ولنا في ذلك أسوة حسنة وهو أن ننظر إلى تواريخ الأنبياء فإن كلا منهم في الدنيا أصيبوا بالبلاء الكبير فمنهم من كان ابتلي بالمرض الشديد مع طول المدة ومنهم من كان بلاءه شدة الفقر ومنهم من كان بلاءه بشدة أذى الناس له، وقد ذكر الله تعالى في القرءان أن بني إسرائيل الكفار منهم قتلوا أنبياء وليس هذا لِهوانهم على الله بل هم عند الله كرماء لكن في هذا البلاء لهم زيادة رِفعة عند الله.
هذا أيوب عليه السلام بلاءه كان مرضا لازمه ثمانية عشر عاما وكان أيضا أُصيب ببلاء في ماله وفي أولاده، وماله بعد أن كان له مال كثير وغنا طويل عريض ذهب ماله كله ومات أولاده كلهم ثم عافاه الله تعالى ورد عليه صحته كما كان قبل ثمانية عشر عاما، رأى رجلين يقول أحدهما للآخر ـ قولا كفريا ـ أتظن أن أيوبا ابتلاه الله بهذا البلاء الطويل من ذنب أذنبه فانكسر خاطره عندئذ دعا ربه أن يكشف عنهم الضر الذي أصابه، مسكت زوجته بيده إلى محل قضاء الحاجة ولم يبق معه من يعطف عليه إلا هذه أما من سواها فقد جفاه القريب والبعيد أقرباؤه والبعداء كلهم جفوه ثم دعا الله تعالى، الله تعالى أوحى إليه اغتسل بهذا الماء واشرب منه بعين انبعه الله له فشرب منه واغتسل فرد الله عليه صحته ولما رأته زوجته ما عرفته قالت له هل رأيت نبي الله المبتلى وقد كان أشبه الناس بك حين كان صحيحا فقال لها أنا هو، وقد بلغ به البؤس إلى أن زوجته ذات يوم ما وجدت ما تطعمه فلجأت إلى أن باعت نصف شعر رأسها وكان شعر رأسها جميلا بثمن من بعض بنات الملوك فأحضرت له طعاما فسألها من أين هذا؟ فقالت قصتي كذا وكذا فغضب وحلف ليضربنها مائة ضربة، فبعد هذا الضيق كلِّه عافاه الله، ردَّ عليه صحته ورزقه رزقا كثيرا ورزقه من الأولاد أربعا وعشرين، بعد ذلك رجعت امرأته هذه تسمى رحمة إلى حال الشباب رجعت إلى شبيبتها، ثم هو وفَّى يمينه بأمر أوحى الله إليه، الله تعالى أوحى إليه خذ بيدك دُغساً أي أغصانا من النبات مجموعة هي مائة غصن أو مائة قطعة من النبات من نبات الأرض فاضرب به فإذا فعلت ذلك لا تكون كسرت يمينك، فالله تبارك وتعالى جعل لزوجته هذا المخرج.
ثم نبي الله يحيى عليه السلام الذي هو ابن خالة عيسى كان في زمانه ملك غلبته نفسه الخبيثة فقتله لأجل تنفيذ رغبة امرأة كانت شرطت عليه أن لا تزوجه بنتها إلا أن يقتل يحيى لأن يحيى قال له لا يجوز لك أن تتزوج هذه البنت، حرام عليك لأنها لا تحل له شرعا في شريعة الله،كانت ربيبته هذه البنت، هذه المرأة شرطت على ذلك الملك حتى تزوجه بنتها أن يقتل يحيى قالت له إن قتلت يحيى الذي منعك من زواج البنت تتزوجها فقتل يحيى، فقتله فوضع رأسه في طست أي وعاء ونزل شئ من دمه على الأرض وجعل هذا الدم يفور لا يهدأ من الفوران الغليان، ثم تسلط عليه وجماعته ملك ءاخر جبارٌ فأبادهم فقتل منهم سبعين ألفا فهدأ دمه، لما قُتل من أولئك سبعون ألفا هدأ الدم.
كذلك أبوه زكريا نبي الله قتله الكفار، هو كان ربَّى مريم، تربت تحت إشرافه وكفالته فلما رزق الله تعالى مريم ابنها المسيح حملت به قالوا الكفار قالوا له أنت زنيت بها فر منهم من شدة الأذى فانفلقت له شجرة كبيرة فدخل فيها حتى يختفي منهم وكان يظهر من الشجرة شئ من ثوبه، الشجرة التأمت لكن هذا القدر بقي من ثوبه إلى الخارج فجاء ابليس فقال للناس الذين أرادوا أن يلحقوه قال لهم هو دخل في هذه الشجرة اقطعوها فنشروها بالمنشار، انقطع نصفين زكريا عليه السلام والد يحيى وهكذا جرى لكل نبي بلاء عظيم في الدنيا عظيم.
وهكذا الأنبياء الذين قبل هؤلاء ابتلوا ببلاء كبير في الدنيا وهم عند الله أفضل من الملائكة هم أفضل خلق الله عند الله درجة ومع ذلك في الدنيا كان حظهم من البلاء أكثر، كذلك بعد الأنبياء الأولياء أكثر الناس بلاء لكن أنواع البلاء يختلف منهم من يُبتلى بشدة الفقر ومنهم من يبتلى بكثرة الأمراض والأوجاع ومنهم من يبتلى بكثرة أذى الناس لـه، ثم بعد الأنبياء والأولياء يُبتلى على قدر قوة دينه، على قوة الشخص في دين الله وتمسكه في دين الله وعمله بدين الله يَعْظُمُ عليه البلاء في الدنيا، المؤمنين بعد الأنبياء والأولياء على حسب دينهم يقوى بلاءهم. وقد كان من أولياء الله من ابتلي بالفالج ثم دعا الله تعالى أن يعافيه قدر ما يستطيع أن يتطهر ويصلي قائما ثم بعد أن ينتهي من الصلاة يعود كما كان، يتسلط عليه الفالج، هذا الولي الكبير ممن رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه كرامة، لأن العادة في مرض الفالج أنه يلازم صاحبه الليل والنهار كل ساعات الليل والنهار لكن الله تعالى أكرمه بأن استجاب لـه دعاءه لأن يقوم للطهارة والصلاة كأنه ليس به هذا المرض، وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا وذلك لأن المصيبة في الدين نقصان في العبد عند الله تعالى، الإنسان الّذي يبتلى في دينه يصاب في دينه هذا ينحط عند الله تعالى، تنحط مرتبته، أما الّذي يصاب في دنياه ويَسْلَم له دينه فهو يترفع ويترقى، الواجب على المؤمنين أن يصبروا على البلاء ولا يصرفنه البلاء من فقر ومرض وغير ذلك كفقدان أولاد كفقدان من يعز عليه من أحبابه أقربائه وغيرهم لا يصرفه ذلك عن التمسك بعبادة الله بل يثبت على طاعة الله يؤدي الفرائض لا يهملها ويجتنب المعاصي ولا يرتكبها من أجل أنه أصابته مصيبة.اهـ
بيان معنى حديث: من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه أنه يحمل على ظاهره.
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وبعد.
فإنَّ حديثّ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليه غُفرَ له وإن كان قد فرَّ من الزحفِ هذا الحديثُ يُحملُ على ظاهرهِ ولا يُقالُ فيه كما قال بعضُ العلماءِ إن الذي يقول وأتوبُ إليه ولم يكن تائبًا بالفعلِ يكونُ كاذبًا فهذا غيرُ صحيحٍ لا ينبغي أن يُلتفت إليه فإن الذي يقولُ وأتوبُ إليه إن كان في ذلك الوقتِ بعدُ متلبسا ببعضِ المعاصي لم يتب منها بَعْدُ لا يكونُ بقوله وأتوبُ إليه كاذبًا لأن معنى وأتوبُ إليه أنه في المستقبل يتوبُ وأنه عازمٌ على أن يتوبَ في المستقبلِ فيما بعد هذا الوقتِ فلا يكونُ كاذبًا. فإن رأيتم في بعضِ المؤلفاتِ ككتابِ الأذكارِ للنووي وغيرهِ أن الذي يقولُ وأتوبُ إليه وهو غيرُ تائبٍ يكون كاذبًا فعليه ذنبٌ هذا الكلامُ احذروهُ لا معنى له لأمرينِ: أحدهما: أن الذي قاله رسول الله وإن كان قد فرّ من الزحفِ دليلٌ صريحٌ على أنه يُغفرُ له من الكبائرِ لأنه عليه الصلاة والسلام قال وإن كان قد فرَّ من الزحفِ معناه لو كان وقعت منه هذه المعصيةُ فإن الله تباركَ وتعالى بهذا الاستغفارِ يَغفِرُ له من الكبائرِ لأنه لو كان الأمر كما يقولُ هؤلاءِ العلماءِ أن هذا الاستغفارَ لا ينفعُ إلا الذي قد تابَ بالفعلِ من الكبائرِ وليس معه كبيرةٌ واحدةٌ لم يقل رسول الله وإن كان قد فر من الزحفِ ولا يُقال إن مُرادَ الرسولِ أن يكونَ الشخصُ قد حصلَ منه الفرارُ من الزحف من الموبقات أو غيرُ ذلك من الكبائرِ ثم كان تابَ منه ثم بعدَ ذلك قال هذا الاستغفارَ يُغفرُ له هذا لا يصحُّ أن يكونَ مرادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث لأن الذي تابَ قبل أن يقولَ هذا قد غُفرَ له، الذي تابَ من الكبائرِ التي كان تلبس بها إن كانت تلك الكبيرة الفرارَ من الزحف أي من صَفِ القتالِ قتال الكفارِ وإن كان حصلَ منه غيرُ ذلكَ من الكبائر بتوبته غُفرَ له ولا يحتاجُ إلى هذا الاستغفار إلى أن يقول أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه لا يحتاجُ، قبلَ أن يقولَ هذا توبـتُـه محت كلَّ الكبائر التي كان عملَها ثم تاب منها محتها التوبةُ فلا يحتاجُ إلى هذا الاستغفارِ، لا معنى لأن يُقالَ إن الرسولَ قصدُهُ بهذا الحديثِ أن يكون قد تاب من الفرار من الزحف وغير ذلك من الكبائرِ ثم بعدَ توبته من ذلك قال هذا الاستغفار هذا لا معنى له، لأن الذي تاب من كبيرةٍ إن كانت تلك الكبيرة الفرار من الزحف أو غير ذلك من الكبائر قبل أن يقول هذا اللفظَ إن قال هذا اللفظَ وإن لم يقل هذا الاستغفار إن قال وإن لم يقل غُفرت له تلك الكبائر قبل أن يقولها غُفرت له لأن التوبةَ تهدِمُ الذنوبَ أيُّ ذنبٍ كبيرٍ تابَ منه الإنسانُ، التوبةُ وهي الندمُ بالقلب على المعصيةِ التي فعلها والعزمُ على أنه لا يعودُ إلى تلك المعصيةِ والإقلاعُ منها بهذا تُمحى تلكَ الكبائرِ سواءٌ قال بعد ذلك أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه أو لم يقل فلا معنى لكلامِ هؤلاءِ أي قولِهم إن الذي يقولُ هذا شرطهُ أن يكونَ تائبا قد تاب وإلا ويكون قوله وأتوبُ إليه كذبا لا معنى له.
والأمر الثاني الذي يوجبُ رد هذا الكلام الذي قاله بعضُ العلماءِ أن معنى وأتوبُ إليه أي سأتوبُ إليه فمن أينَ دخلَ عليه الكذب، هذا الشخصُ حينَ يقولُ وأتوبُ إليه قصدهُ فيما بعدَ هذا أُنشئُ التوبةَ ليس معناه وقد تُبتُ، لو كان هو الشخصُ لم يتب من الكبائر ثم قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وقد تُبت منه وهو لم يتب هنا كان يأتي الكذب في هذه الحالة يكون وقع في الكذبِ أما وهو لم يقل ذلك إنما قال وأتوب إليه معناه سأتوب إلى الله فيما بعد هذا، هذا من أين يكون دخل عليه الكذب؟؟ بعض العلماءِ يُشددونَ من غيرِ داعٍ إلى التشديدِ، أيُّ داعٍ إلى هذا التشديد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ وإن كان قد فرَّ من الزحفِ ما قال وإن كان قد فرَّ من الزحفِ ثم تاب لم يقل هذا بل قال وإن كان قد فر من الزحفِ بدون هذا القيدِ فهذا غلطٌ من هؤلاء العلماءِ.
هذا الحديث حديثُ أستغفر الله الذي لا إله إله هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليه أو الحيُّ القيومُ وأتوب إليه روي بعدةِ وجوهٍ منها هذا اللفظُ من قال أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه غُفرَ له وإن كان قد فرَّ من الزحف وروي بوجهٍ ءاخر وهو من قال أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه دُبُرَ الصلاةِ غُفرَ له وإن كان قد فرَّ من الزحفِ وروي بلفظِ من قال أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوبُ إليه ثلاثَ مراتٍ غُفرَ له وإن كان قد فرَّ من الزحفِ فالروايةُ التي إسنادها صحيحٌ هي الروايةُ الأولى ليس فيها ذكرُ ثلاث مراتٍ وليس فيها ذكرُ دُبُرَ الصلواتِ فليُعلم ذلك، إن رأى أحدُكم في كتابٍ ما ذِكرُ رواية الروايتين الأخريين رواية ثلاث مراتٍ ورواية دُبُرَ الصلواتِ فليعلم أن هاتينِ الروايتينِ غيرُ صحيحتي الإسنادِ إسنادهما غير صحيحينِ إلا الروايةُ التي ليس فيها تقييد روايةُ الإطلاقِ هي الصحيحةُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
تمهيد
الحمدُ للهِ الذي لا يشبِهُ ذاتُهُ الذوات، ولا تشبِهُ صفاتُه الصفات، ولا تكتنفُهُ الأراضي ولا السماواتِ، الأول بلا ابتداءٍ، الآخر بلا انتهاءٍ، الذي جلَّ عنِ الصاحبةِ والأبناءِ، كانَ قبلَ الأمكنةِ والأرجاءِ، فكونَ الأكوانَ ودبَّرَ الزمانَ وَحَدَّهُ بلا ريبٍ ولا افتراء، فلا يحتاجُ إلى المكانِ، ولا يتقَيَّدُ بالزمانِ، ولا يشغله شأنٌ عن شأنٍ في المخلوقاتِ جمعاء، والصلاةُ والسلامُ الأتمانِ الأكمَلانِ، على سيدِنا ونبيِّنا وقائِدِنا وقرةِ أعينِنا محمدٍ سيدِ ولدِ عدنان أفصح العرب العرباء، وعلى ءالهِ وصحبهِ، ومنِ اهتدى بهديهِ ما أطلَّ فجرٌ وأضاءَ. أما بعدُ
يقولُ ربُنا تباركَ وتعالى في محكمِ التنـزيلِ:{كنتُم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهون عنِ المنكَرِ} [ سورة ءال عمران /110]
ويقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:” منْ رأى منكُم منكراً فليغيرْهُ بيدِهِ فإنْ لمْ يستطِعْ فبلسانِهِ فإنْ لمْ يستطِعْ فبقلبِهِ وذلكَ أضعف الإيمانِ” رواهُ مسلمٌ.
وقدْ امتدَحَ اللهُ تعالى أمةَ سيدِنا محمدٍ عليه الصلاة والسلام بأنها أمة تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكرِ كما أسلفنا في الآيةِ الكريمةِ والحديثِ الشريفِ، وكذلكَ فإنّ اللهَ تعالى قد ذمَّ الذينَ كفروا منْ بني إسرائيلَ بقولِهِ: {كانوا لا يتناهوْنَ عن منكرٍ فعلوهُ لبِئسَ ما كانوا يَفعلون} [ سورة المائدة /79].
وإن من أعظم ما ابتليت به هذه الأمة أناس دعاة على أبواب جهنم، انزلقت ألسنتهم بالباطل، واندلعت أصواتهم بالضلال، يروجون السلع الرديئة بحجج واهية فاسدة. وما كلامنا عن هؤلاء وأمثالهم إلا من باب البيان الواجب تبيانه للعامة والخاصة، ولا يظن ظان أن هذا من باب الغيبة المحرمة، فمن المعروف في تاريخنا أن السلف الصالح كانوا لا يسكتون عن الباطل، بل كانت ألسنتهم وأقلامهم سيوفا حداداً على أهل البدع والأهواء.
فقد أخرج مسلم في صحيحه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى: “بئس الخطيب أنت” وذلك لأنه جمع بين الله والرسول بضمير واحد فقال له قل: “ومن يعصِ اللهَ ورسولَهُ”.
فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يسكت على هذا الأمر الخفيف الذي ليس كفرا ولا إشراكا فكيف بالذين ينشرون الكفر والضلال باسم الإسلام؟
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حتى متى تَرِعون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس”. رواه البيهقي.
وقد بين النبيّ عليه الصلاة والسلام افتراق أمته من بعده فقال فيما رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثنيتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”. ( عارضة الأحوذي ـ10/109) وإنما عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية بمخالفتهم ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المعتقد، وليس المراد منه الخلاف في الفروع.
وقد ذكر الإمام المفسر النحوي أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى وجوب التحذير من أهل الضلال والفساد حيث قال في تفسيره النهر الماد ( 1/564) ما نصه: (ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهراً، وانتمى إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ….. ثم سرد بعض الأسماء للتحذير منها …. ثم قال: وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحاً لدين الله يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث، وقد أولع جهلة من ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه، والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين). اهـ
عقيدة أهل السنة تنـزيه الله عن المكان
اعلم وفقك الله إلى مرضاته أن عقيدة أهل السنة مبنية على تنـزيه الله عن مشابهة المخلوقات، فالله تبارك وتعالى لا يشبه شيئًا من المخلوقات ولا يشبهه شىء، كان قبل المكان بلا مكان وهو الآن على ما عليه كان، كان ولم يكن أين ولا كيف ولا مكان، فكون الأكوان ودبر الزمان فلا يحتاج إلى المكان ولا يتقيد بالزمان، فكما كان قبل المكان بلا مكان فهو الآن على ما عليه كان، أي موجود بلا مكان. وهذا ما ثبت عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان) كما رواه الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق. هذه هي العقيدة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان كما سنبين . وسترى أن استدلال المجسمة ببعض الآيات والأحاديث على مدّعاهم استدلالٌ فاسد كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، فلنشرع بالمقصود سائلين الله التوفيق فيما هنالك.
واعلم أن الحافظ تاج الدين السبكي نقل في طبقاته ( 9/36) عن العلامة شهاب الدين ابن جهبل أنه قال: مذهب الحشوية في إثبات الجهة مذهبٌ واهٍ ساقطٌ، يظهرُ فسادُهُ من مجرّدِ تصورِهِ، حتى قالت الأئمة: لولا اغترار العامة بهم لما صرِفَ إليهم عنان الفكر، ولا قطر القلم في الرد عليهم.اهـ
وقال الإمام أبو نصر القشيري في التذكرة الشرقية ما نصه: (وقد نبغت نابغة من الرعاع لولا استنـزالهم للعوام بما يقرب من أفهامهم ويُتصورُ في أوهامهم لأجللت هذا الكتاب عن تلطيخه بذكرهم يقولون نحن نأخذ بالظاهر ونجري الآيات الموهمة تشبيها والأخبار المقتضية حدا وعضوا على الظاهر ولا يجوز أن نطرق التأويل إلى شئ من ذلك ويتمسكون ـ على زعمهم ـ بقول الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ}. وهؤلاء والذي أرواحنا بيده أضر على الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان لأن ضلالات الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمين وهؤلاء أَتوا الدينَ والعوامَّ من طريقٍ يغترُّ به المستضعَفون فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلُّوا في قلوبهم وصفَ المعبود سبحانه بالأعضاء والجوارح والركوب والنـزول والاتكاء والاستلقاء والاستواء بالذات والتردد في الجهات فمن أصغى إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيل المحسوسات فاعتقد الفضائحَ فسالَ به السيلُ وهو لا يدري). اهـ. نقلها الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/176 ـ 177).
بعض الآيات الدالة على التنـزيه
أولا نذكر بعض الآيات الدالة على تنـزيه الله عن الجهة والمكان والحد والجسمية.
1ـ قال الله تبارك وتعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ} [ سورة الشورى/11] أي أن الله تعالى لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه، فلو كان في مكان أو جهة لكان مشابها لبعض خلقه، فالله تعالى لا يحتاج إلى مكان يحل فيه ولا إلى جهة يتحيز فيها.
2ـ وقال الله تعالى:{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [ سورة النحل/60] أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره.
3ـ وقال الله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [ سورة الحديد/3] قال الطبري في تفسيره ( 11/670) ما نصه: (وهو الباطن، فلا شىء أقرب إلى شىء منه، كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ سورة ق/16]). اهـ. أي أن الطبري نفى القرب الحسي الذي تقول به المجسمة، أما القرب المعنوي فلا ينفيه، وهذا دليل على تنـزيه الله عن المكان والجهة.
4ـ وقال الله تعالى:{فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ ءال عمران/98] أي أن الله تعالى مستغنٍ عن كل ما سواه، فلو كان في مكان لكان محتاجاً له، فكيف يكون غنياً عن العالمين من يكون محتاجاً للمكان؟
قال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة ( ص/70) ما نصه: (ومنها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [ سورة العنكبوت/6] فأثبت لنفسه الاستغناء عن جميع العالمين، والجهات والأمكنة من أجزاء العالم، فوجب إثبات تعاليه واستغنائه عن العالمين وعن كل وصف من صفات المحدثين). اهـ
5ـ وقال الله تعالى:{وَكُلُّ شَئٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [ سورة الرعد/8] أي أن الله تبارك وتعالى ليس داخل العالم ولا خارجه لأنه لو كان داخل العالم لكان له مقدار ولو كان خارجه لكان له مقدار، فلا مهرب من إثبات المقدار له إلا بنفي التحيز بالكون داخل العالم أو خارج العالم، لأن أفراد العالم كل فرد له مقدار.
قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء: (من جعلَ اللهَ تعالى مُقدرًا بمقدارٍ كفر). اهـ. أي لأنهُ جعلهُ ذا كميةٍ وحجمٍ والحجمُ والكميةُ من موجباتِ الحدوثِ.
قال الإمام أبو منصور التميمي البغدادي في أصول الدين ( ص/73) ما نصه: (لو كان الإله مقدراً بحد ونهاية لم يخلُ من أن يكون مقداره مثل أقل المقادير فيكون كالجزء الذي لا يتجزأ، أو يختص ببعض المقادير فيتعارض فيه المقادير فلا يكون بعضها أولى من بعض إلا بمخصص خصه ببعضها، وإذا بطل هذان الوجهان صح أنه بلا حد ولا نهاية). اهـ
وقال ابن حزم في المحلى ( 1/29) ما نصه: (مسألة: وأنه تعالى لا في مكان ولا في زمان بل هو تعالى خالق الأزمنة والأمكنة قال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَئٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} والزمان والمكان فهما مخلوقان قد كان تعالى دونهما، والمكان إنما هو للأجسام والزمان إنما هو مدة كل ساكن أو متحرك أو محمول في ساكن أو متحرك وكل هذا مبعد عن الله عز وجل). اهـ. علما أنه خالف أهل السنة ببعض المسائل الفاسدة وتصدى له العلماء بالرد. ولكنه منـزِها لله عزّ وجلّّ.
لا نريد الإطالة ففي هذه الآيات كفاية لمن هدى الله قلبه.
بعض الأحاديث الدالة على التنـزيه
وإليك بعض الأحاديث التي تدل على تنـزيه الله عن الجهة والمكان والحد والجسمية.
1ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شىء غيره” رواه البخاري والبيهقي وابن الجارود. ومعنى الحديث: أن الله لم يزل موجودا في الأزل ليس معه غيره، لا زمان ولا مكان، فهو تعالى موجود قبل المكان بلا مكان، وهو خالق المكان فلا يحتاج إليه.
2ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء، وأنت الآخر فليس بعدك شىء، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء، أنت الباطن فليس دونك شىء” رواه مسلم.
قال الإمام الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات (2/144) ما نصه: (واستدل بعض أصحابنا في نفي المكان عنه ـ أي عن الله ـ بقول النبيّ عليه الصلاة والسلام: “أنت الظاهر فليس فوقك شىء، وأنت الباطن فليس دونك شىء” وإذا لم يكن فوقه شىء ولا دونه شىء لم يكن في مكان). اهـ. وهذا الحديث فيه أيضا الرد على القائلين بالجهة في حقه تعالى.
وقال الحافظ ابن العربي في شرح الترمذي (12/184) ما نصه: (والمقصود من الخبر أن نسبة الباري في الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته.
الرابعة: قد جاء تفسير ذلك في الحديث الصحيح أن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء وأنت الآخر فليس بعدك شىء وأنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء”). اهـ
3ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم دليتم رجلا بحبلٍ إلى الأرض السفلى لهبط على الله” رواه الترمذي. اهـ مع ضعف هذا الحديث فقد استدل به العلماء على نفي المكان عن الله تعالى.
قال المحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتاوى قسم الحديث (ص/20) ما نصه: (معناه أن علم الله يشمل جميع الأقطار، فالتقدير لهبط على علم الله، والله سبحانه وتعالى منـزه عن الحلول في الأماكن، فإنه سبحانه وتعالى كان قبل أن يحدث الأماكن). اهـ. ونقله عنه تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه المقاصد الحسنة وأقره عليه (ص/345). وذكره أيضا الحافظ المؤرخ ابن طولون الحنفي في كتاب الشذرة في الأحاديث المشتهرة (2/72) وأقره عليه.
وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/144) بعد ذكر هذه الرواية ما نصه: (والذي روي في ءاخر هذا الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى، وأن العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء، وأنه الظاهر فيصح إدراكه بالأدلة، والباطن فلا يصح إدراكه بالكون في مكان). اهـ
وقال الحافظ أبو بكر ابن العربي المالكي في شرحه على الترمذي (12/184) ما نصه: (والمقصود من الخبر أن نسبة الباري في الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته). اهـ. أي أن الله منـزه عن الجهة والمكان، فالله تعالى لا يحل في شىء ولا يشبه شيئاً. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.
4ـ وقال الإمام أبو المظفر الاسفرايني في التبصير في الدين ( ص/145) ما نصه: (وقد روي في الخبر عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ما تحقق به المعنى الذي بينا على هذه الظواهر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: “كان ملك يجيء من السماء وءاخر من الأرض السابعة فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أين تجيء؟ قال: من عند الله”. ولو كان له حد ونهاية استحال كونه في جهتين مختلفتين. فتقرر به استحالة الحد والنهاية، وأن جملة الملكوت تحت سلطانه وقدرته وعلمه ومعرفته). اهـ
5ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربّه أو إن ربّه بينه وبين القبلة” رواه البخاري في صحيحه. (باب حك البزاق باليد في المسجد).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ( 1/669) ما نصه: (وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان وهو جهل واضح، وفيه ـ أي في حديث : “إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربّه أو إن ربّه بينه وبين القبلة” ـ الرد على من زعم أنه على العرش بذاته). اهـ
قال البيهقي في الأسماء والصفات (2/213) (قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: قوله: “فإن الله تعالى قبل وجهه”. تأويله أن القبلة التي أمره الله تعالى بالتوجه إليها للصلاة قبل وجهه، فليصنها عن النخامة وفيه إضمار وحذف واختصار، كقوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (البقرة/93) أي حب العجل. وكقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ( يوسف/82) يريد أهل القرية، ومثله في الكلام كثير، وإنما أضيف تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة، كما قيل: بيت الله وكعبة الله، في نحو ذلك من الكلام.
وقال في قوله: “ربه بينه وبين القبلة” معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر بأن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه.
وقال أبو الحسن بن مهدي فيما كتب لي أبو نصر بن قتادة من كتابه: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قبل وجهه” أي أن ثواب الله لهذا المصلي ينـزل عليه من قبل وجهه، ومثله قوله: “يجىء القرءان بين يدي صاحبه يوم القيامة” أي يجىء ثواب قراءته القرءان. قال البيهقي: وحديث أبي ذر يؤكد هذا التأويل). انتهى كلام البيهقي.
6ـ ومن الأحاديث الدالة على تنـزيه الله عن الجهة والمكان ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد،فأكثروا الدعاء -فأكثروا من السجود-“. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/167) ما نصه: (قوله صلى الله عليه وسلم:” أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء” معناه أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله). اهـ
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في شرح سنن النسائي ( 2/226ـ227) ما نصه: (قال البدر بن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى).
وقال أيضا عند شرحه الحديث المذكور ما نصه: (قال القرطبي: هذا أقرب بالرتبة والكرامة لا بالمسافة، لأنه منـزه عن المكان والمساحة والزمان). اهـ
وقال الحافظ مرتضى الزبيدي في الإتحاف ( 3/30ـ33) ممزوجا مع أقرب ما يكون العبد إلى الله)قول الغزالي ما نصه: (وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أي حالة سجوده). اهـ(إذا سجد) أي إلى رحمته (تعالى
وقال اللغوي مجد الدين الفيروزأبادي في كتاب بصائر ذوي التمييز (مادة: ق ر ب) ما نصه: (وقرب الله تعالى من العبد هو الإفضال عليه والفيض لا بالمكان). اهـ
وقال اللغوي أبو القاسم المشهور بالراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرءان (مادة: ق ر ب، ص/415) ما نصه: (وقربُ الله تعالى من العبد هو بالإفضال عليه والفيض لا بالمكان). اهـ
وقال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في الإتحاف (2/37) ما نصه: (قال أبو إسحاق الشيرازي ـ صاحب التنبيه والمهذب ـ: فلو كان في جهة فوق لما وصف العبد بالقرب منه إذا سجد). اهـ
وقال القاضي عياض في الشفا ( 1 / 205) ما نصه: (اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، بل كما ذكرنا عن جعفر ابن محمد الصادق: ليس بدنو حد وإنما دنو النبي عليه الصلاة والسلام من ربه وقربه منه إبانة عظيم منـزلته وتشريف رتبته). اهـ
وقال الشيخ محمد بن عبد الهادي السّندي الحنفي في حاشيته على سنن النسائي ( 2/227) عند شرح حديث: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من السجود” ما نصه: (قال القرطبي: هذا أقرب بالرتبة والكرامة لا بالمسافة والمساحة، لأنه تعالى منـزه عن المكان والزمان. وقال البدر بن الصاحب في تذكرته: في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى….. إلى أن قال: على أن المراد القرب مكانة ورتبة وكرامة لا مكاناً).اهـ
وقال الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/37) ما نصه: (وقوله عز وجل [العلق/19] دليل على أن المراد{ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}لنبيه صلى الله عليه وسلم: به قرب المنـزلة لا قرب المكان كما زعمت المجسمة أنه مماس لعرشه إذ لو كان كذلك لازداد بالسجود منه بعداً لا قربًا). اهـ
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه الإفادات والإنشادات (ص/ 93ـ94) ما نصه: (سألني الشيخ الأستاذ الكبير الشهير أبو سعيد فرج بن قاسم بن لُب التغلبي أدام الله أيامه عن قول ابن مالك في (تسهيل الفوائد) في باب اسم الإشارة: (وقد يغني ذو البعد عن ذي القرب لعظمة المشير أو المشار إليه) فقال: إن المؤلف مثل عظمة المشير في الشرح بقوله تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [سورة طه/17] ولم يبين ما وجه ذلك، فما وجهه؟ ففكرت فلم أجد جواباً. فقال: وجهه أن الإشارة بذي القرب هاهنا قد يُتوهم فيها القرب بالمكان، والله تعالى يتقدس عن ذلك، فلما أشار بذي البعد أعطى بمعناه أن المشير مباين للأمكنة، وبعيد عن أن يوصف بالقرب المكاني، فأتى البعد في الإشارة منبهاً على بعد نسبة المكان عن الذات العلي وإنه يبعد أن يحلَّ في مكان أو يدانيه). اهـ
7ـ ومن الأحاديث الدالة على تنـزيه الله عن المكان والجهة قوله عليه الصلاة والسلام: “ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متى” رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ السيوطي في شرح سنن النسائي (1576) ما نصه: (ويدل على ذلك أيضا ـ أي على نفي الجهة ـ ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ عليه الصلاة والسلام: “لا تفضلوني على يونس بن متى”). اهـ
وقال المفسّر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره ( 11333ـ334 و 15 124) ما نصه: (قال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوني على يونس بن متى” المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه وهو في قعر البحر في بطن الحوت، وهذا يدل على أن البارىء سبحانه وتعالى ليس في جهة). اهـ
وقال الشيخ الصوفي الزاهد ابن أبي جمرة في كتابه بهجة النفوس (3/176) ما نصه: (فمحمد عليه السلام فوق السبع الطباق ويونس عليه السلام في قعر البحر، وهما بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه على حد سواء، ولو كان عز وجلّ مقيدا بالمكان أو الزمان لكان النبيّ عليه الصلاة والسلام أقرب إليه، فثبت بهذا نفي الاستقرار والجهة في حقه جلّ جلاله). اهـ
وقال المحدث الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ج2 ص171 ما نصه: (ذكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه (المنتقى في شرف المصطفى) لما تكلم على الجهة وقرر نفيها، قال: ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تفضلوني على يونس بن متى” فقال مالك: إنما خص يونس بالتنبيه على التنـزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولما نهى عن ذلك، ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لأن العرش في الرفيق الأعلى فهو أفضل من السفلى، فالفضل بالمكانة لا بالمكان، هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل). اهـ
وابن زفيل هو ابن قيم الجوزية المبتدع تلميذ المجسم ابن تيمية الذي قال: بأزلية نوع العالم. وهذا كفر بالإجماع كما ذكر العلامة بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع.
أقوال بعض علماء السلف في تنـزيه الله عن المكان والجهة
وزيادة في الفائدة نذكر بعض أقوال علماء السلف والخلف في تنـزيه الله عن المكان والجهة غير ما سبق فنقول وبالله التوفيق.
قال الإمام علي رضي الله عنه: (كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان). اهـ. وقال رضي الله عنه: (إن الله خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته). اهـ رواهما الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفِرَق (256) بعد أن نقل إجماع السلمين على تنـزيه الله عن الجهة والمكان.
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه ما نصه: (أنت الله الذي لا يحويك مكان). اهـ. رواه الحافظ الزبيدي في الإتحاف (4/643) بالسند المسلسل بأهل البيت.
وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: (من زعم أن الله في شىء أو من شىء أو على شىء فقد أشرك. إذ لو كان في شىء لكان محصورا، ولو كان على شىء لكان محمولا، ولو كان من شىء لكان محدثا ـ أي مخلوقا ـ). اهـ. رواه الإمام القشيري في رسالته. والحافظ ابن السبكي في طبقات الشافعية (9/42).
وقال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأبسط ما نصه: (قلت: أرأيت لو قيل: أين الله تعالى؟ فقال ـ أبو حنيفة ـ: يقال له: كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شئ، وهو خالق كل شئ). اهـ. مجموعة رسائل أبي حنيفة ( ص/53).
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (إنه تعالى كان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان، لا يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صفاته). اهـ. ذكرها الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/36).
وقال إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري رحمه الله ما نصه: (كان الله ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه). اهـ نقل ذلك عنه الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ( ص/ 150).
وقال إمام أهل السنة أبو منصور الماتريدي في كتاب التوحيد ( ص/69) ما نصه: (إن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان، وكان على ما عليه الآن، جلّ عن التغير والزوال والاستحالة). اهـ.
ونقل الإمام الطحاوي ـ السلفي المتوفى سنة 322هـ ـ إجماع أهل السنة على أن الله لا جهة له. فقال في عقيدته التي ذكر أنها عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (وتعالى ـ يعني الله ـ عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات). وقال: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر). اهـ.
الدليل العقلي على تنـزيه الله عن المكان
وأما الدليل العقلي على استحالة كون الله في جهة ومكان فهو على النحو التالي:
قال الإمام الرازي في أساس التقديس (ص/ 36ـ37) ما نصه: (البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون متحيّزا هو أنه لو كان متحيّزا لكان متناهيا وكل متناه ممكن وكل ممكن مُحدَث فلو كان متحيّزا لكان مُحْدَثا وهذا محال فذاك محال.
أما المقدمة الأولى: وهي بيان أنه تعالى لو كان متحيّزا لكان متناهيا فالدليل عليه أن كل مقدار فإنه يقبل الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه وهذا يدل على أن كل متحيّز فهو متناه.
وأما المقدمة الثانية: وهي بيان أن كل متناه فهو ممكن فذلك لأن كل ما كان متناهيا، فإن فرض كونه أزيد قدْرا أو أنقص قدْرا أمر ممكن والعلم بثبوت هذا الإمكان ضروري، فثبت أن كل متناه فهو في ذاته ممكن.
وأما المقدمة الثالثة: وهي بيان أن كل ممكن محدث فهو أنه لما كان الزائد والناقص والمساوي متساوية في الإمكان امتنع رجحان بعضها على بعض إلا لمرجح، والافتقار إلى المرجح إما أن يكون حال وجوده أو حال عدمه، فإن كان حال وجوده فإنه يكون إما حال بقائه أو حال حدوثه ويمتنع أن يفتقر إلى المؤثر حال بقائه لأن المؤثر تأثيره بالتكوين، فلو افتقر حال بقائه إلى المؤثر لزم تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وذلك محال فلم يبق إلا أن يحصل الافتقار إما حال حدوثه أو حال عدمه، وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون كل ممكن محدثا فثبت أن الجسم متناه، وكل متناه ممكن وكل ممكن مُحدَث فثبت أن كل جسم محدث والإله يمتنع أن يكون مُحدَثاً وبالله التوفيق).اهـ
وفي كتاب المسامرة للكمال ابن أبي شريف بشرح المسايرة (ص/29) للعلامة الكمال بن الهمام ما نصه: ([الأصل السابع أنه تعالى ليس مختصا بجهة] أي ليس ذاته المقدس في جهة من الجهات الست ولا في مكان من الأمكنة [لأن الجهات] الست [التي هي الفوق والتحت واليمين إلى ءاخرها] أي والشمال والأمام والخلف [حادثة بإحداث الإنسان و نحوه مما يمشي على رجلين] كالطير [فإن معنى الفوق ما يحاذي رأسه من فوقه] أي من جهة العلو وهي جهة السماء [والباقي ظاهر] وهو أن جهة السفل ما يحاذي رجله من جهة الأرض واليمين ما يحاذي أقوى يديه غالبا والشمال مقابلها والأمام ما يحاذي جهة الصدر التي يبصر منها ويتحرك إليها والوراء مقابلها [و] معنى الفوق [فيما يمشي على أربع أو على بطنه] أي بالنسبة إليهما [ما يحاذي ظهره من فوقه] فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت إذ لم يكن ثَمَّ حيوان فلم يكن ثَمَّ رأس ولا رجل ولا ظهر [ثم هي] أي الجهات [اعتبارية] لا حقيقية لا تتبدل [فإن النملة إذا مشت على سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض لأنه المحاذي لظهرها ولو كان كل حادث مستديرا كالكرة لم توجد واحدة من هذه الجهات] لأنه لا رأس ولا رجل ولا يمين و لا شمال ولا ظهر ولا وجه [وقد كان تعالى] موجودا [في الأزل ولم يكن شىء من الموجودات] لأن كل شىء موجود سواه حادث كما مر دليله [فقد كان] تعالى [لا في جهة] لثبوت حدوث الجهة فهذا طريق الاستدلال وقد نبه على طريق ثان بقوله: [ولأن معنى الاختصاص بالجهة اختصاص بحيز هو كذا] أي معين من الأحياز).اهـ
وقال الإمام الزبيدي في شرح الإحياء للإمام الغزالي (2/167) ما نصه: ([الأصل السابع: العلم بأن الله تعالى منـزه الذات عن الاختصاص بالجهات] أي ليس ذاته المقدس في جهة من الجهات الست ولا في مكان من الأمكنة). اهـ
وقال الإمام السبكي فيما نقله الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/169) ما نصه: (وصانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيّزا ولو كان متحيزا لكان مفتقرا إلى حيّزه ومكانه فلا يكون واجب الوجود، وثبت أنه واجب الوجود، وهذا خُلْفٌ، وأيضا فلو كان في جهة فإما في كل الجهات وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصص المنافي للوجوب).
ثم قال الحافظ الزبيدي: تنبيه: وهذا المعتقد لا يخالف فيه بالتحقيق سنيٌّ لا محدث ولا فقيهٌ ولا يجىءُ قَطٌّ في الشرع على لسان نبي التصريح بلفظ الجهة، فالجهة بحسب التفسير المتقدم منفيةٌ معنىً ولفظاً، وكيف لا والحقُ يقول: {ليسَ كمثلهِ شىءٌ}. [الشورى / 11]. ولو كان في جهةٍ بذلك الاعتبار لكان له أمثالٌ فضلاً عن مِثْلٍ واحدٍ.اهـ
وقال العلامة شهاب الدين بن جهبل في أثناء رده على ابن تيمية في إثباته الجهة لله تعالى ما نصه: (وقد نبهت مشايخ الطريق على ما شهد به العقل، ونطق به القرءان، بأسلوب فهمته الخاصة ولم تنفر منه العامة. وبيان ذلك بوجوه:
البرهان الأول: وهو المقتبس من ذي الحسب الزكي والنسب العلي، سيد العلماء ووارث خير الأنبياء، جعفر الصادق رضي الله عنه، قال: ولو كان الله في شىء لكان محصورًا.
وتقرير هذه الدلالة: أنه لو كان في جهة لكان مشارًا إليه بحسب الحس، وهم ـ أي المشبهة ـ يعلمون ذلك ويجوزون الإشارة الحسية إليه.
وإذا كان في جهة مشارا إليه لزم تناهيه، وذلك لأنه إذا كان في هذه الجهة دون غيرها، فقد حصل فيها دون غيرها، ولا معنى لتناهيه إلا ذلك، وكل متناه محدث، لأن تخصيصه بهذا المقدار دون سائر المقادير لا بد له من مخصص.
فقد ظهر بهذا البرهان الذي يَبْدَهُ العقول: أن القول بالجهة يوجب كون الخالق مخلوقاً والرب مربوبًا، وأن ذاته متصرف فيه، ويقبل الزيادة والنقصان، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا.
البرهان الثاني: المستفاد من كلام الشبلي رضي الله عنه، شيخ الطريق وعلم التحقيق، في قوله: الرحمن لم يزل، والعرش محدث، والعرش بالرحمن استوى.
وتقريره: أن الجهة التي يختص الله تعالى بها على قولهم، تعالى الله عنها، وسموها العرش: إما أن تكون معدومة أو موجودة، والقسم الأول محال بالاتفاق.
وأيضا فإنها تقبل الإشارة الحسية، والإشارة الحسية إلى العدم محال، فهي موجودة، وإذا كانت موجودة، فإن كانت قديمة مع الله فقد وجد لنا قديم غير الله وغير صفاته، فحينئذٍ لا يُدرى أيهما الأوّلةُ. وهذا خبث هذه العقيدة.
وإن كانت حادثة فقد حدث التحيز بالله تعالى، فيلزم أن يكون الله قابلاً لصفاتٍ نفسية حادثة، تعالى الله عن ذلك.
البرهان الثالث: المستفاد من لسان الطريقة وعلم الحقيقة وطبيب القلوب والدليل على المحبوب، أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه، قال: متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير بمن له شبيه ونظير؟ هيهات هيهات!! هذا ظن عجيب.
وتقرير هذا البرهان: أنه لو كان في جهة ـ أي الله ـ فإما أن يكون أكبر أو مساويا أو أصغر والحصر ضروري فإن كان أكبر كان القدر المساوي منه للجهة مغايرا للقدر الفاضل منه فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال لأن كل مركب فهو مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره وكل مركب مفتقر إلى الغير وكل مفتقر إلى الغير لا يكون إلها.
وإن كان مساويًا للجهة في المقدار، والجهة منقسمة لإمكان الإشارة الحسية إلى أبعاضها، فالمساوي لها في المقدار منقسم.
وإن كان أصغر منها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فإن كان مساويًا لجوهر فرد، فقد رضوا لأنفسهم بأن إلههم قدر جوهر فرد.
وهذا لا يقوله عاقل، وإن كان مذهبهم لا يقوله عاقل، لكن هذا في بادىء الرأي يضحك منه جهلة الزنج.
وإن كان أكبر منه انقسم، فانظروا إلى هذه النحلة، وما قد لزمها، تعالى الله عنها).اهـ نقلها عنه تاج الدين السبكي في الطبقات (9/85ـ86ـ87).
وقال الإمام سيف الدين الآمدي في غاية المرام في علم الكلام ما نصه: (لو كان في جهة لم يخل إما أن يكون في كلِّ جهةٍ أو في جهةٍ واحدةٍ ، فإن كان في كل جهةٍ فلا جهةَ لنا إلا والرب فيها وهو محال، وإن كان في جهة مخصوصة، فإما أن يستحقها لذاته أو لمخصص، لا جائز أن يستحقها لذاته، إذ نسبةُ سائر الجهات إليه على وتيرةٍ واحدةٍ، فإذاً لا بد من مخصصٍ وإذ ذاك فالمحال لازم من وجهين:ـ
الأول: أن المخصص إما أن يكون قديما أو حادثا، فإن كان قديماً لزمَ منه اجتماع قديمين وهو محال، وإن كان حادثاً استدعى في نفسه مخصصاً ءاخر، وذلك يفضي الى التسلسل وهو ممتنع .
الثاني: هو أن الاختصاصَ بالجهةِ صفةٌ للربّ تعالى قائمةٌ بذاتهِ أي على قولِ معتقدِ الجهة في الله ولو افتقرتْ إلى مخصصٍ لكانت في نفسها ممكنة، لأن كل ما افتقر في وجوده الى غيره فهو باعتبار ذاتهِ ممكن، وذلك يوجب كون البارئ ممكنًا بالنسبة إلى بعضِ جهاتهِ، والواجبُ بذاته يجب أن يكون واجبًا في جميع جهاتهِ). اهـ
وفي شرح العقائد النسفية للشيخ سعد الدين التفتازاني (ص/24) ما نصه: ([ولا يتمكن في مكان ولا يجري عليه زمان] لأن التمكن عبارة عن نفوذ بُعد في بُعد ءاخر متوهم أو متحقق يسمونه المكان والبعد عبارة عن امتداد قائم بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء و الله تعالى منـزه عن الامتداد والمقدار لاستلزامه التجزؤ ….، وأما الدليل على عدم التحيز فهو أنه لو تحيز فإما في الأزل فيلزم قدم الحيز أو لا فيكون محلا للحوادث ـ وكلا ذلك مستحيل ـ و أيضا إما أن يساوي الحيز أو ينقص عنه فيكون متناهيا أو يزيد عليه فيكون متحيزا وإذا لم يكن في مكان لم يكن في جهة لا علو ولا سفل ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء).اهـ
تـنـبـيـه:
قال شيخنا الحافظ العبدري المعروف بالحبشي حفظه الله في شرحه على النسفية (ص/ 48) ما نصه: (ثم الخلاء وهو هذا الفراغ عند أهل الحق يتناهى ليس وراء العالم فراغ لا نهاية له فهو مستحيل، وكذلك القول بأن وراء العالم أجرام متواصلة بلا نهاية مستحيل أيضا. وإن أهل الحق لا يثبتون هذا ولا يثبتون هذا، بل يقولون وراء العالم لا يوجد فراغ لا متناهي ولا أجرام لا متناهية، انتهت الأجسام والأعراض بانتهاء حد العالم، انتهى الخلاء الملاء. والملاء هو الجرم المتواصل). اهـ
وفي كتاب أصول الدين لأبي منصور البغدادي (ص/73) ما نصه: (المسئلة الخامسة من الأصل الثالث في نفي الحد والنهاية عن الصانع، وهذه المسئلة مع فِرَقٍ. منها الهشامية من غلاة الروافض الذين زعموا أن معبودهم سبعة أشبار بشبر نفسه ومنهم من قال إن الجبل أعظم منه كما حكي عن هشام بن الحكم. والخلاف الثاني مع الكرامية الذين زعموا أن له حدا واحدا من جهة السفل ومنها يلاقي العرش. والخلاف الثالث مع من زعم من مشبهة الرافضة أنه على مقدار مساحة العرش لا يفضل من أحدهما عن الآخر شىء. فقلنا لهم لو كان الإله مقدرا بحد ونهاية لم يخل من ان يكون مقداره مثل أقل المقادير فيكون كالجزء الذي لا يتجزأ أو يختص ببعض المقادير فيتعارض فيه المقادير فلا يكون بعضها أولى من بعض إلا بمخصص خصه ببعضها وإذا بطل هذان الوجهان صح انه بلا حد ولا نهاية. وقول من أثبت له حدا من جهة السفل وحدها كقول الثنوية بتناهي النور من الجهة التي يلاقي الظلام منها وكفى بهذا خزيا).اهـ
قال الإمام مرتضى الزبيدي في الإتحاف ( /177) : (وتحقيقه أنه تعالى لو استقر على مكان أو حاذى مكانا لم يخل من أن يكون مثل المكان أو أكبر منه أو أصغر منه، فإن كان مثل المكان فهو إذًا متشكل بأشكال المكان حتى إذا كان المكان مربعا كان هو مربعا وإن كان مثلثا كان هو مثلثا وذلك محال، وإن كان أكبر من المكان فبعضه على المكان ويشعر ذلك بأنه متجزئ وله كلٌّ ينطوي على بعض وكان بحيث ينتسب إليه المكان بأنه ربعه أو خمسه، وإن كان أصغر من ذلك المكان بقدر لم يتميز عن ذلك المكان إلا بتحديد وتتطرق إليه المساحة والتقدير وكل ما يؤدي إلى جواز التقدير على البارئ تعالى فتجوزه في حقه كفر من معتقِدِهِ، وكل من جاز عليه الكون بذاته على محل لم يتميز عن ذلك المحل إلا بكون وقبيح وصف الباري بالكون ومتى جاز عليه موازاة مكان أو مماسته جاز عليه مباينته ومن جاز عليه المباينة والمماسة لم يكن إلا حادثا، وهل علمنا حدوث العالم إلا بجواز المماسة والمباينة على أجزائه).اهـ
وقال إمام الحرمين في لمع الأدلة ما نصه: (والدليل على تقدسه تعالى عن الاختصاص بجهة والاتصاف بالمتحاذيات وأنه لا تحده الأقطار ولا تكتنفه الأقدار ويجل عن قبول الحد والمقدار، إن كل مختص بجهة شاغل لها وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما، وما لا يخلو من الافتراق والاجتماع حادث كالجواهر، فإذا ثبت تقدس البارىء عن التحيز والاختصاص بالجهات فيترتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان وملاقاة أجرام وأجسام، فقد بان لك تنـزيه ذاته سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله وقدوسيته).اهـ نقلها الحافظ الزبيدي في الإتحاف (2/36).
بيان أن رفع الأيدي عند الدعاء إلى السماء لأنها قبلة الدعاء
استدلوا على مدعاهم الفاسد بتحيز الله في السماء بأن الناس يتوجهون إلى السماء عند الدعاء.اهـ
وقد قال مؤلف كتاب أين الله الوهابي ما نصه: (ولذلك من زعم أن السماء قبلة الدعاء فقد خالف أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرج على غير فهم السلف الصالح رضي الله عنهم وشوّه فطرة الله التي فطر الناس عليها).اهـ
الرد: انظر كيف ينسبون أئمة العلم إلى أنهم قد خالفوا أقوال النبي عليه الصلاة والسلام !! واعلم أنهم قوم لا يقيمون وزنا للعلم ولا لأهله. فقد قال أئمة الإسلام وحفاظ الحديث أن السماء هي قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، كما صرح بذلك أهل العلم منهم النووي والقاضي عياض والحافظ البيهقي وأمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر والغزالي والحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي وغيرهم. واليك بعض نصوصهم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 2/296) ما نصه: (قال ابن بطال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء، فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون، لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/170) عند شرح كلام الإمام الغزالي ما نصه:
( فأما رفع الأيدي عند السؤال) والدعاء ( إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء).اهـ
وقال العلامة البياضي في إشارات المرام من عبارات الإمام ص198 ما نصه: (فأشار إلى الجواب: بأن رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء ليس لكونه تعالى فوق السماوات العلى بل لكونها قبلة الدعاء، إذ منها يتوقع الخيرات، ويستنـزل البركات لقوله تعالى:{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [سورة الذاريات/22] مع الإشارة إلى اتصافه تعالى بنعوت الجلال وصفات الكبرياء، وكونه تعالى فوق عباده بالقهر والاستيلاء).اهـ
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه (كتاب صلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ يَرفَعونَ أبصارَهُمْ إلى السَّماء في الصَّلاة، أو لا ترجِعُ إليهم” قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 4/127) ما نصه: (فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك، وقد نقل الإجماع في النهي عن ذلك، وقال القاضي عياض: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه شُرَيْحٌ وءاخرون وجوزه الأكثرون وقالوا: لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ولا ينكر رفع الأبصار إليها كما لا يكره رفع اليد قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [ سورة الذاريات /22]).اهـ
وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (5/22) ما نصه: (لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين). اهـ
قال إمام أهل السنة أبو منصور الماتريدي في كتاب التوحيد ( ص/75ـ76) ما نصه: (وأما رفع الأيدي إلى السماء فعلى العبادة، ولله أن يَتَعَبَّد عباده بما شاء، ويوجههم إلى حيث شاء، وإن ظن من يظن أن رفع الأبصار إلى السماء لأن الله من ذلك الوجه إنما هو كظن من يزعم أنه إلى جهة أسفل الأرض بما يضع عليها وجهه متوجهاً في الصلاة ونحوها، وكظن من يزعم أنه في شرق الأرض وغربها بما يتوجه إلى ذلك في الصلاة، أو نحو مكة لخروجه إلى الحج).اهـ ثم ذكر تنـزيه الله عن الجهة.
وقال الشيخ ملا علي القاري في كتابه شرح الفقه الأكبر (ص/172) ما نصه: (السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة، وهو مُوجِب دفع أصناف النقمة … وقد ذكر الشيخ أبو المعين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد له من أن المحققين قرّروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبّد محض).اهـ
وقال الحافظ المحدث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري في المنح المطلوبة (ص/61ـ62) ما نصه: (فإن قيل: إذا كان الحق سبحانه ليس في جهة، فما معنى رفع اليدين بالدعاء نحو السماء؟
فالجواب كما نقله في إتحاف السادة المتقين على النحو التالي:
قال الإمام مرتضى الزبيدي في الإتحاف (5/244): فإن قيل إذا كان الحق سبحانه ليس في جهة فما معنى رفع الأيدي بالدعاء نحو السماء؟ فالجواب من وجهين ذكرهما الطُّرطوشي:
أحدهما: أنه مَحَلُ تَعَبُدٍ كاستقبالِ الكعبةِ في الصلاةِ وإلصاقِ الجبهةِ بالأرضِ في السجودِ مع تَنَزُهِهِ سبحانه عن مَحَلِّ البيت ومحلِّ السجودِ، فكان السماء قبلة الدعاء.
وثانيهما: أنها لما كانت مهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة، على معنى أن المطر ينـزل منها إلى الأرض فيخرج نباتا، وهي مسكن الملأ الأعلى، فإذا قضى الله أمراً ألقاه إليهم، فيلقونه إلى أهل الأرض وكذلك الأعمال ترفع وفيها غير واحد من الأنبياء وفيها الجنة التي هي غاية الأمانِيِّ فلما كانت معدنًا لهذه الأمور العظام ومعرفة القضاء والقدر تصرفت الهمم إليها وتوفرت الدواعي عليها).اهـ
وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الله الهرري في كتابه إظهار العقيدة السنية (ص/128) ما نصه: (ورفع الأيدي والوجوه إلى السماء تَعَبُّد مَحْضٌ كالتوجّه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قِبلة الدعاء كالبيت الذي هو قِبلة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في الإتحاف ( 2/170) ما نصه: (فأما رفع الأيدي عند السؤال والدعاء إلى جهة السماء فهو لأنها قِبلة الدعاء كما أن البيت قِبلة الصلاة يُستقبَل بالصدر والوجه، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء ـ وهو الله تعالى ـ منـزه عن الحلول بالبيت والسماء، وقد أشار النسفي أيضا فقال: ورفع الأيدي والوجوه عند الدعاء تعبُّد محض كالتوجه إلى الكعبة في الصلاة، فالسماء قبلة الدعاء كالبيت قبلة الصلاة).اهـ
وقال الشيخ أبو المعين النسفي الحنفي في كتابه تبصرة الأدلة (ص/181ـ182) ما نصه: (وتعلقهم بالإجماع برفع الأيدي إلى السماء عند المناجاة والدعاء باطل، لما ليس في ذلك دليل كونه تعالى في تلك الجهة، هذا كما أنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة بعد نزول قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [سورة المؤمنون/ 1ـ2] بعدما كانوا يصلون شاخصة أبصارهم نحو السماء، وليس هو في الأرض، وكذا حالة السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض، وليس هو تعالى تحت الأرض، فكذا هذا. وكذا المتحري يصلي إلى المشرق واليمن والشام، وليس هو تعالى في هذه الجهات. ثم هو يعبد كما في هذه المواضع ويُحتمل أنه تعالى أمر بالتوجه إلى هذه المواضع المختلفة عند اختلاف الأحوال ليندفع وهم تحيزه في جهة ويصير ذلك دليلا لمن عرفه أنه ليس بجهة منا. وقيل إن العرش جعل قبلة للقلوب عند الدعاء كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حالة الصلاة).اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره ( 18/216) ما نصه: (وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنـزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان).اهـ
وقال شيخه أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم (3/335) عند حديث رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه إلى السماء ما نصه: (هذه الإشارة منه صلى الله عليه وسلم إما إلى السماء لأنها قبلة الدعاء وإمّا لعلوّ الله المعنوي لأن الله لا يحويه مكان ولا يختص بجهة وقد بين ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [ الحديد: 4]).اهـ
وقال الشيخ ملا علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر (ص/172ـ173) ما نصه: (ومن الغريب أنه استدل على مذهبه الباطل برفع الأيدي في الدعاء إلى السماء، وهو مردود لأن السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب أنواع النعمة، وهو موجب دفع أصناف النقمة، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل في مدعاه الباطل لوقع التوجه بالوجه إلى السماء، وقد نهانا الشارع عن ذلك حال الدعاء لئلا يتوهم أن يكون المدعو في السماء، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[ البقرة/186] وقوله تعالى:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [ البقرة/115].
وقد ذكر الشيخ أبو المعين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد له من أن المحققين قرروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبد محض، قال الشارح العلامة السغناقي: هذا جواب عما تمسك به غلاة الروافض واليهود والكرامية، وجميع المجسمة في أن الله تعالى على العرش، هذا وقيل: إن العرش جعل قبلة للقلوب عند الدعاء، كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حال الصلاة، وقد سبق أن هذا مما لا وجه له، فإنه مأمور باستقبال القبلة أيضا حال الدعاء وبرفع الأيدي إلى السماء، وبعدم رفع الوجه إلى جهة العلو، فالوجه ما قدمناه مع أن التوجه الحقيقي إنما يكون بالقلب إلى خالق السماء، نعم نكتة رفع الأيدي إلى السماء أنها خزائن أرزاق العباد، كما قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ} [الذاريات/22] الآية. مع أن الإنسان مجبول على الميل إلى التوجه إلى جهة يتوقع منها حصول مقصوده كالسلطان إذا وعد العسكر بالأرزاق فإنهم يميلون إلى التوجه نحو جنوب الخزينة، وإن تيقنوا أن السلطان ليس فيها).اهـ انتهى كلام علي القاري.
والله تعالى يقول:{أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} ومع ذلك ما قال أحد من المسلمين بأن الله ساكن في الكعبة. ولكن المشبهة يستدلون لعقيدتهم الفاسدة بعقيدة إخوانهم من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان. فكيف تستدل لعقيدتك التي تدعيها بعقيدة من تكفره؟ إذا لماذا تكفرهم أنت؟ أليس لفساد عقيدتهم؟ فالنصارى يقولون: أبانا الذي في السماء. واليهود يقولون: إن الله خلق السماوات والأرض ثم تعب فاستلقى على قفاه على العرش. والله تعالى رد عليهم جميعا فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}. فانظر بمن استدللت.
أما نحن فبحمد الله نقلب الأمر عليهم فنقول ماذا تقولون فيما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه ( كتاب صلاة الاستسقاء: باب رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء) أن النبي عليه الصلاة والسلام: “استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء”.
وروى أبوا داود وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء قائماً يدعو يستسقي رافعاً كفيه قبل وجهه لا يجاوز بهما رأسه.اهـ
فماذا يقول في فعل رسول الله؟ فأين استدلاله برفع الأيدي إلى السماء والنبيّ عليه الصلاة والسلام فعله وفعل خلافه؟
ومما نقلنا لك من أقوال العلماء تعلم فساد قول مؤلف الكتاب المسمى بـ ( أين الله) الوهابي حيث قال ما نصه: (ولذلك من زعم أن السماء قبلة الدعاء فقد خالف أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ودرج على غير فهم السلف الصالح رضي الله عنهم، وشوه فطرة الله التي فطر الناس عليها).اهـ
وعلى هذا الذي قاله هذا الوهابي ينبغي أن يقال بأن هؤلاء القوم يعتقدون بأن الله ساكن في الكعبة لأن المسلمين يتوجهون إليها في صلاتهم لا إلى السماء!!!
الشروع في الرد على مزاعمه وإبطالها
بعد ذكر هذه المقدمة نشرع في تفنيد مزاعمهم والرد على مفاسدهم والله الموفق.
الرد على استدلالهم ببعض الآيات والأحاديث لإثبات العلو الحسي
أما استدلالهم ببعض الآيات لإثبات ما يسمونه بصفة العلو بالذات لله فنقلب الأمر عليهم فنقول وقد ورد في بعض الآيات خلاف ما قالوا مثلا: قال الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد/ 4] وقال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه/46]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف/4]. وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [سورة القصص/30ـ31]. وقال سيدنا إبراهيم لمّا ءاذاه قومه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات/99] وذهب إلى بلاد الشام. وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. وغير ذلك من الآيات فكما أن هذه الآيات لا تعني أن الله في الأرض بذاته، ولا أنه أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد بذاته، فكذلك تلك لا تعني أن الله في السماء بذاته أو أنه مستقر على العرش بذاته.
وقد يستدلون ببعض الأحاديث دون أن يذكروا سند أو راو أو من ذهب من العلماء إلى ما ذهبوا إليه ولن يجدوا. وأما نحن فنقلب الأمر عليهم أيضا ونقول روى البخاري ومسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:” أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا فإنكم تدعون سميعا قريبا، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم”. فهل تحملون هذا على ظاهره وتقولون بأن الله بذاته بين العبد وبين الدابة وهذا كفر ومنقض لعقيدتكم؟ هذا الحديث أقوى من الأحاديث التي تستدلون بها فقد رواه الشيخان. وهذا مثل قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق/16]. فهل تقولون بأن الله بذاته أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد حاشى لله، فإن أخذتم بظاهر الحديث والآية انتقض مذهبكم للتناقض، وإن قلتم نؤول هذا الحديث ولا نؤول حديث الجارية ونحوه كان هذا تحكما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قِبَلَ وجهه فإن الله قِبَلَ وجهه إذا صلى” رواه البخاري ومسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء” رواه مسلم. فكما أن هذه الأحاديث لا تحمل على ظاهرها باتفاق العلماء، فكذلك الأحاديث التي ورد فيها لفظ “في السماء” لا تحمل على الظاهر باتفاق السلف والخلف.
وفي الحديث الوارد فيه لفظ الجوع والمرض تعليم صريح لنا من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل في مثل هذه الألفاظ، والحديث رواه مسلم وهو حديث قدسي بلفظ: “يا ابن ءادم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربّ العالمين. قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما أنك لو عدته لوجدتني عنده….” الحديث. فهل تزعمون أن لله صفة المرض والعياذ بالله؟ وإنما هو مؤوّل بمرض العبد، لأن حقيقة المرض محال على الله عزّ وجل. وهكذا كل لفظ موهم للنقص ما زال العلماء من السلف والخلف يصرفونه عن ظاهره، فما بال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.
بيان أن العندية المضافة إلى الله تعالى هي للتشريف
أما حديث: “إن الله كتب كتابا ….. إلى قوله: فهو عنده فوق العرش” فمعنى “عنده” المذكور في الحديث للتشريف كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} وقال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
قال الراغب الأصبهاني في كتاب المفردات في غريب القرءان (ص/362) ما نصه: ( {عِندَ} : عند لفظ موضوع للقرب فتارة يستعمل في المكان وتارة في الاعتقاد نحو أن يقال: (عندي كذا) وتارة في الزُلفى والمنـزلة وعلى ذلك قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وقال: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} وعلى هذا النحو قيل الملائكة المقربون عند الله. قال تعالى: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وقوله تعالى: {وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وقوله: {وَمَنْ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ}عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في حكمه. وقوله: الْكَاذِبُونَ} وقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} فمعناه في حكمه). اهـ
وقال الحافظ المحدث ولي الدين أبو زرعة العراقي في كتابه طرح التثريب (ج 8/84) ما نصه: (وقوله ـ أي النبيّ عليه الصلاة والسلام ـ “فهو عنده فوق العرش” لا بد من تأويل ظاهر لفظة “عنده” لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منـزه عن الاستقرار والتحيز والجهة، فالعندية ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل معظم عنده). اهـ
وقال في موضع ءاخر من طرح التثريب (8/248) ما نصه: (وقال أبو العباس القرطبي هذه العندية عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان لأنه تعالى منـزه عن المكان والزمان، وإنما هي كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [سورة القمر/ 54ـ55] أي في محل التشريف والإكرام والاختصاص). اهـ
قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 17/150) عند قوله تعالى: {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [سورة القمر/55] و{عِندَ} هاهنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنـزلة). اهـ
وقال أيضا في موضع ءاخر من تفسيره عند قوله تعالى: ({رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم/11] {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ} [الأعراف/206] ونحو ذلك، كل ذلك عائد على الرتبة والمنـزلة والحظوة والدرجة الرفيعة لا إلى المكان). اهـ
وقال شهاب الدين القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (15/427) عند قوله صلى الله عليه وسلم: (“فهو عنده على العرش” قوله:”عنده” أي علم ذلك عنده “على العرش” مكنونا عن سائر الخلق مرفوعا عن حيز الإدراك والله تعالى منـزه عن الحلول في المكان لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق به تعالى) .اهـ
وقال العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: (والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى الكمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/475) عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (“عنده” فقال ابن بطال: “عند” في اللغة للمكان والله منـزه عن الحلول في المواضع لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث والحادث لا يليق بالله، فعلى هذا قيل معناه أنه سبق علمه بإثابة من يعمل بطاعته وعقوبة من يعمل بمعصيته ويؤيده قوله في الحديث الذي بعده “أنا عند ظن عبدي بي” ولا مكان هناك قطعا). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/508) في كتاب التوحيد عند شرحه على هذا الحديث ما نصه: (الحديث الرابع: حديث أبي هريرة: “إن الله تعالى لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي غلبت غضبي” وقد تقدم في باب {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} ويأتي بعض الكلام عليه في باب قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه كقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى ذلك، قال: ويكون معنى قوله:” فوق العرش” أي عنده علم ذلك فهو لا ينساه ولا يبدله، كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}. وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق وبيان أمورهم وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم، ويكون معنى: “فهو عنده فوق العرش” أي ذكره وعلمه وكل ذلك جائز في التخريج، على أن العرش خلق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن يماسوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله، وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف إذ ليس كمثله شئ وبالله التوفيق). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره (6/399 ) ما نصه: (ومعنى {فَوْقَ عِبَادِهِ}ْ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان كما تقول السلطان فوق رعيته أي بالمنـزلة والرفعة). اهـ
وقال الحافظ المفسر الإمام القرطبي في تفسيره ج18 ص216 ما نصه: (ووصفه ـ تعالى ـ بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام، ولأنه ـ تعالى ـ خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في الأزل قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان). اهـ
وقال في موضع ءاخر (12/91) عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ} [سورة الحج/62] ما نصه: (أي العالي على كل شيء بقدرته، والعالي عن الأشباه والأنداد، المقدس عما يقول الظالمون من الصفات التي لا تليق بجلاله. {الكبير} أي الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن. وقيل: الكبير ذو الكبرياء. والكبرياء عبارة عن كمال الذات؛ أي له الوجود المطلق أبدا وأزلا، فهو الأول القديم، والآخر الباقي بعد فناء خلقه). اهـ
وقال القرطبي في تفسيره أيضاً (3/278) ما نصه: (و{الْعَلِيُّ} يراد به علو القدر والمنـزلة لا علو المكان، لأن الله منـزه عن التحيز. وحكى الطبري عن قوم ـ من المجسمة ـ أنهم قالوا هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلةٍ مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبد الرحمن بن قُرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العُلى: سبحان الله العلي الأعلى سبحانه وتعالى. والعلي والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم=== تركناهم صرعى لنسرٍ وكاسرٍ). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ج6 ص168 ما نصه: (ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس). اهـ
وقال الشيخ ملا علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر (ص/171) ما نصه: (وأما علوه تعالى على خلقه المستفاد من نحو قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام/18ـ61] فعلو مكانةٍ ومرتبةٍ لا علو مكان كما هو مقرر عند أهل السنة والجماعة). اهـ
وقال الزجاج أحد مشاهير اللغويين في تفسير أسماء الله الحسنى (ص/48) ما نصه: (العلي: هو فَعيل في معنى فاعل، فالله تعالى عالٍ على خلقه وهو عليٌّ عليهم بقدرته، ولا يجب أن يُذهب بالعلو ارتفاع مكانٍ، إذ قد بيَّنا أن ذلك لا يجوز في صفاته تقدست، ولا يجوز أن يكون على أن يُتصور بذهن أو يتجلى لطرف، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا). اهـ
وقال أيضًا (ص/40) ما نصه: (والله تعالى عالٍ على كلّ شىء، وليس المراد بالعلو: ارتفاع المحلِّ، لأن الله تعالى يجلُّ عن المحلِّ والمكان، وإنما العلو علوُّ الشأن وارتفاع السلطان). اهـ
وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد لإمام الحرمين وهو مخطوط ما نصه: (فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية: أجمع المسلمون على أن الله تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم، ومعنى العظمة والعلو والعزة والرفعة والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت الجلال وصفات التعالي على وصف الكمال وذلك تقدسه عن مشابهة المخلوقين، وتنـزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص، واتصافه بصفات الإلهية كالقدرة الشاملة للمقدورات، والإرادة النافذة في المرادات، والعلم المحيط بجميع المعلومات، والجود البسيط، والرحمة الواسعة، والنعمة السابغة، والسمع والبصر والقول القديم، والطَّوْل العميم والوجه واليد والبقاء والمجد). اهـ
بيان معنى حديث الجارية
وأما حديث الجارية مع اضطرابه باختلاف الروايات فقد قال بعض العلماء: إن الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك عـن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: “أتشهدين أن لا إله إلا الله” قالت: نعم، قال: “أتشهدين أني رسول الله” قالت: نعم، أخرجها أحمد ومالك. أما أحمد فأخرج عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة فاعتقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتشهدين أن لا إله إلا الله” قالت: نعم، قال: “أتشهدين أني رسول الله” قالت: نعم، قال: “أتؤمنين بالبعث بعد الموت” قالت: نعم، قال: “أعتقها” ورجاله رجال الصحيح.
قال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعليقه على السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل عند ذكر حديث الجارية (ص/107) ما نصه: (وراوي هذا الحديث عن ابن الحكم هو عطاء ابن يسار وقد اختلفت ألفاظه فيه، ففي لفظ له: “فمد النبيّ عليه الصلاة والسلام يده إليها وأشار إليها مستفهما مَن في السماء” … الحديث، فتكون المحادثة بالإشارة على أن اللفظ يكون ضائعا مع الخرساء الصماء، فيكون اللفظ الذي أشار إليه الناظم والمؤلف لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم ومثل هذا الحديث يصح الأخذ به فيما يتعلق بالعمل دون الاعتقاد، ولذا أخرجه مسلم في باب تحريم الكلام في الصلاة دون كتاب الإيمان حيث اشتمل على تشميت العاطس في الصلاة ومنع النبيّ عليه الصلاة والسلام عن ذلك ولم يخرجه البخاري في صحيحه وأخرج في جزء خلق الأفعال ما يتعلق بتشميت العاطس من هذا الحديث مقتصرا عليه دون ما يتعلق بكون الله في السماء بدون أي إشارة إلى أنه اختصر الحديث). اهـ
وقال الحافظ البيهقي في كتابه الأسماء والصفات ( /164) بعد أن ذكر الحديث بلفظ: “أين الله”؟ (وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث). اهـ
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعليقه على الأسماء والصفات (ص/422) ما نصه: (وقصة الجارية مذكورة فيما بأيدينا من نسخ مسلم لعلها زيدت فيما بعد إتماما للحديث، أو كانت نسخة المصنف ناقصة، وقد أشار المصنف ـ أي البيهقي ـ إلى اضطراب الحديث بقوله: (وقد ذكرت في كتاب الظهار مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث) وقد ذكر في السنن الكبرى اختلاف الرواة في لفظ الحديث مع أسانيد كل لفظ من ألفاظهم وهي: “أين الله” فقالت: في السماء. مع لفظ: “فإنها مؤمنه” وبدونه. “وأين الله” فأشارت إلى السماء بإصبعها و “من ربك” قالت: الله ربي. و “تشهدين أن لا إله إلا الله” قالت: نعم. و “من ربك” قالت: الله. وقد توسعنا في شرح الحديث وبيان مبلغ اضطرابه سندا ومتنًا فيما كتبناه على نونية ابن القيم (ص/106)). اهـ
وقد قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ج5 ص22 : في شرح حديث الجارية ما نصه : (كان المراد امتحانها هل هي مؤمنة موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده، وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء كما إذا صلى المصلي استقبل الكعبة وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصرا في جهة الكعبة بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين. أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان التي بين أيديهم فلما قالت: في السماء علم أنها موحدة وليست عابدة للأوثان. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم). اهـ.
وقد ترجم للقاضي عياض الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ ص470 فقال: (وكان إمام أهل الحديث في وقته وأعلم الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم). اهـ
وقد ترجمه النووي في تهذيب الأسماء واللغات ( 2/43) فقال ما نصه: (وهو إمام بارع متفنن متمكن في علم الحديث والأصولين والفقه والعربية وله مصنفات في كل نوع من العلوم المهمة، وكان من أصحاب الأفهام الثاقبة). اهـ
فانظر إلى هذين الإمامين الذين ينقلان إجماع المسلمين على أن هذه الآيات ليست على ظاهرها بل هي مأولة عند جميع المسلمين.
وكذلك قال الحافظ جلال الدين السيوطي في شرحه على سنن النسائي ( 3/18) عندما
تكلم على شرح حديث الجارية وبيان معناه حيث نقل كلام الإمام النووي السابق وكلام القاضي عياض رحمهما الله وأقرهما على ذلك.
وكذلك قال الحافظ أبو العباس القرطبي شيخ الأمام القرطبي المفسر في الفهم شرح صحيح مسلم ( 2/144ـ145) ما نصه: (تنبيه: ثم اعلم أنه لا خلاف بين المسلمين قاطبة، محدثهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونظارهم، أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [الملك/16] ليست على ظاهرها، وأنها متأولة عند جميعهم)….. إلى أن قال: (ويكون العلو بمعنى الغلبة، وأما من يعتقد نفي الجهة في حق الله تعالى فهو أحق بإزالة ذلك الظاهر، وإجلال الله تعالى في)عنه، وأولى الفرق بالتأويل. وقد حصل من هذا الأصل المحقق: أن قول الجارية: ليس على ظاهره باتفاق المسلمين، فيتعين أن يعتقد فيه أنه معرض لتأويل(السماء المتأولين، وأن من حمله على ظاهره فهو ضال من الضالين). اهـ
وقال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه (ص/59) عند كلامه على قوله تعالى: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ما نصه: (قلت: وقد ثبت قطعا أنها ليست على ظاهرها، لأن لفظة: {فِي} للظرفية والحق غير مظروف، وإذا امتنع الحس أن يتصرف في مثل هذا، بقي وصف التعظيم بما هو عظيم عند الخلق). اهـ
وقال الحافظ أبو بكر بن العربي في العارضة (1/273) ما نصه: (المراد بالسؤال بأين عنه تعالى المكانة، فإن المكان يستحيل عليه تعالى). اهـ
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأبسط (ص/53) ما نصه: (قلت أرأيتَ لو قيل: أين الله تعالى؟ فقال ـ أي أبو حنيفة ـ: يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خَلق ولا شىء، وهو خالق كل شىء). اهـ
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري في تعليقه على السيف الصقيل للسبكي (ص/107) ما نصه: (وأما عدم صحة الاحتجاج بحديث الجارية في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنـزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات، قال الله تعالى:{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ} [الأنعام:12] وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى، وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام/13] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى، فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنـزيه الله سبحانه عن المكان والزمان. كما في أساس التقديس للفخر الرازي). اهـ
وقال العلامة البياضي الحنفي في إشارات المرام (ص/197ـ 198) ما نصه: (السادس: ما أشار إليه بقوله فيه: (وأنه تعالى يدعى من أعلى) للإشارة إلى ما هو وصف للمدعوّ تعالى من نعوت الجلال، وصفات الكبرياء والألوهية والاستغناء (لا من أسفل، لأن الأسفل) أي الإشارة إليه (ليس من وصف الربوبية والألوهية) والكبرياء والفوقية بالاستيلاء (في شىء) فأشار إلى الجواب بأن رفع الأيدي عند الدعاء إلى جهة السماء ليس لكونه تعالى فوق السماوات العلى بل لكونها قبلة الدعاء، إذ منها يتوقع الخيرات، ويستنـزل البركات لقوله تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [سورة الذاريات/22] مع الإشارة إلى اتصافه تعالى بنعوت الجلال وصفات الكبرياء، وكونه تعالى فوق عباده بالقهر والاستيلاء وإلى الجواب بمنع حمل ما ورد في الآيات والأحاديث على الاستقرار والتمكن، ومنع رفع الأيدي لاعتقاده بل كل ذلك بالمعنى الذي ذكرنا هاهنا، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء كما أشار إليه بقوله فيه: (وعليه) أي يخرَّج على أنه يدعى من أعلى، ويوصف بنعوت الجلال وصفات الكبرياء (ما روي في الحديث أن رجلا) وهو عمرو بن الشريد كما رواه أبو هريرة، وعبد الله ابن رواحة كما بينه الإمام في مسنده بتخريج أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام بأمة سوداء)الحارثي وطلحة والبلخي والخوارزمي قال: إن أمي هلكت وأمرت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة،(فقال: وجب علي عتق رقبة مؤمنة ولا أملك إلا هذه وهي جارية سوداء أعجمية لا تدري ما الصلاة أفتجزيني هذه؟ عما لزم بالوصية كما في مصنف الحافظ عبد الرزاق، وليس في الروايات الصحيحة أنها كانت خرساء فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: “أمؤمنة أنت”؟ قالت نعم، فقال النبي)كما قيل عليه الصلاة والسلام: “أين الله”؟ سائلا عن المنـزلة والعلو على العباد علو القهر والغلبة، ومشيرا أنه إذا دعاه العباد استقبلوا السماء دون ظاهره من الجهة، لكن لما كان التنـزيه عن الجهة مما يقصر عنه عقول العامة فضلا عن النساء حتى يكاد يجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأقرب إلى إصلاحهم، والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا فأشارت إلى السماء) إشارة إلى أعلى المنازل كما يقال)في الجهة كما في شرح المقاصد فقال: “أعتقها فإنها)فلان في السماء أي رفيع القدر جداً كما في التقديس للرازي اهـ(مؤمنة”
وقال الإمام أبو عبد الله القرطبي المفسر في كتاب التذكار في أفضل الأذكار: (لأن كل من في السموات والأرض وما فيهما خلق الله تعالى وملك له، وإذا كان كذلك يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شىء لكان محصورا أو محدودا ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق، وعلى هذه القاعدة قوله تعالى: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} وقوله عليه السلام للجارية: “أين الله”؟ قالت: في السماء، ولم يُنكر عليها وما كان مثله ليس على ظاهره بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم). اهـ
وقال الإمام أبو الوليد الباجي في المنتقى ( /274) ما نصه: (فيقال: مكان فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه). اهـ
وقال قاضي القضاة الحافظ بدر الدين بن جماعة في إيضاح الدليل (ص/172) ما نصه: (يجوز أن يراد بـ (أين) المنـزلة والرتبة في صدرها، كما يقال: أين فلان من فلان؟ وأين زيد منك؟ توسعا في الكلام، ولا يراد بذلك إلا الرتبة والمنـزلة. ويقول الإنسان لصاحبه: أين محلي منك؟ فيقول: في السماء. يريد أغلى محل). اهـ
وقال الحافظ أبو بكر بن فورك في مشكل الحديث في الرتبة والمنـزلة والدرجة وفي(أين)وبيانه (ص/158ـ159) بعد أن ذكر استعمالات التقريب والتبعيد والإكرام والإهانة ما نصه: فإذا كان ذلك مشهورا في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “أين الله” استعلام لمنـزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل: إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منـزلة فلان في السماء. أي هو رفيع الشأن عظيم المقدار). اهـ
وكذلك قال الحافظ أبو العباس القرطبي شيخ الأمام القرطبي المفسر في الفهم شرح صحيح مسلم ( /142ـ143) ما نصه: (وقوله عليه الصلاة والسلام للجارية: “أين الله”؟ هذا السؤال من النبيّ عليه الصلاة والسلام تنـزل مع الجارية على قدر فهمها، إذ أراد أن يظهر منها ما يدل على أنها ليست ممن يعبد الأصنام ولا الحجارة التي في الأرض، فأجابت بذلك، وكأنها قالت: إن الله ليس من جنس ما يكون في الأرض. و “أين” ظرفٌ يسأل به عن المكان، كما أن: متى، ظرف يسأل به عن الزمان، وهو مبني لما تضمّنه من حرف الاستفهام، وحرّك لالتقاء الساكنين، وخص بالفتح تخفيفًا، وهو خبر المبتدأ الواقع بعده، وهو لا يصح إطلاقه على الله تعالى بالحقيقة، إذ الله تعالى منـزه عن المكان. كما هو منـزه عن الزمان، بل هو خالق الزمان والمكان، ولم يزل موجوداً ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان. ولو كان قابلا للمكان لكان مختصا به، ويحتاج إلى مخصص، ولكان فيه إما متحركا وإما ساكنا، وهما أمران حادثان، وما يتصف بالحوادث حادث، على ما يبسط القول فيه في علم الكلام، ولما صدق قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ} [الشورى/11] إذ كانت تماثله الكائنات في أحكامها، والممكنات في إمكانها، وإذا ثبت ذلك ثبت أن النبيّ عليه الصلاة والسلام إنما أطلقه على الله بالتوسع والمجاز، لضرورة إفهام المخاطبة القاصرة الفهم، الناشئة مع قوم معبوداتهم في بيوتهم). اهـ
ثم قال في الصفحة التالية من نفس الكتاب ما نصه: (وقيل في تأويل هذا الحديث: أن النبيّ عليه الصلاة والسلام إنها سألها بأين عن الرتبة المعنوية، التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها بايَنَ كل من نسبت إليه الإلهية، وهذا كما يقال: أين الثريا من الثرى؟ والبصر من العمى؟ أي بَعُدَ ما بينهما. واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة. على هذا يكون قولها: في السماء، أي: في غاية العلو والرفعة، وهذا كما يقال: فلان في السماء، ومناط الثريا، وهذا كما قال:
إن بني عوفٍ كما قد عَلِمْتُم==مناط الثريا قد تعالت نجوهما). اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه دفع شبه التشبيه (ص/94) ما نصه: (قلت: قد ثبت عند العلماء أن الله تعالى لا يحويه السماء والأرض ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق عندها). اهـ
قال الإمام القرطبي في تفسيره (6/390) عند قوله تعالى: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام/ 3] ما نصه: (يقال: ما عامل الإعراب في الظرف من {فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} ؟ ففيه أجوبة:
أحدها: أي وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض، كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب، أي حكمه. ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، كما تقول: هو في حاجات الناس وفي الصلاة، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر ويكون المعنى: وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض. وقيل: المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شىء، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه. وقال محمد بن جرير: وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فيعلم مقدَّم في الوجهين، والأول أسلم وأبعد من الإشكال. وقيل غير هذا. والقاعدة: تنـزيهه ـ جل وعز ـ عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة. {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي من خير وشر). اهـ
وقد قال شيخنا العبدري الهرري حفظه الله ما نصه: (ثم إن رواية مسلم فيها مخالفة للأصول، فإنه لا يحكم بالإيمان والإسلام لشخص يريد الدخول في الإسلام إلا بالشهادتين كما نص على ذلك علماء الإسلام. فالقول بأن الرسول كما في رواية مسلم حكم بمجرد الإشارة إلى السماء بالإسلام مخالف للأصول، لأن القول الله في السماء يشترك فيه اليهود وغيرهم من الكفار، فكيف يجوز للرسول أن يحكم بمجرد الإشارة لهذه الجارية بالإيمان والإسلام؟ ومن لم يضعف رواية مسلم هذه من المحدثين فمن كان من أهل التنـزيه أوّل كلمة: “أين الله” بما تعظيمك لله، والإشارة إلى السماء معناه رفيع القدر جدا، وعلة الاضطراب فيه تكفي لعدم ثبوته لأن هناك رواية: “أين ربك” (أشارت إلى السماء) ). اهـ)). وفي رواية: ((في السماء)فقالت:
وقد أشار الحافظ ابن حجر أيضا في كتابه التلخيص الحبير (3/250) بعد أن ذكر روايات الحديث إلى اضطرابه بقوله: (وفي اللفظ مخالفة كثيرة). اهـ
وكذلك أشار الإمام البزار إلى اضطراب الحديث أيضا في مسنده فقال بعد أن روى الحديث: (وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة). اهـ
وقد قال المحدث عبد الله بن صديق الغماري في تعليقه على كتاب التمهيد لابن عبد البر عن لفظ: “أين الله” ما نصه: (رواه مسلم وأبو داود والنسائي وقد تصرف الرواة في ألفاظه فروي بهذا اللفظ كما هنا وبلفظ: “من ربك”؟ قالت: الله ربي، وبلفظ: “أتشهدين أن لا إله إلا الله”؟ قالت: نعم، وقد استوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي). اهـ
وقد قال المحدث الكوثري في تعليقه على الأسماء والصفات (ص/422) ما نصه: (وقد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما تراه من الاضطراب). اهـ
بيان أن لفظ (في السماء) الوارد بحق الله لا يحمل على ظاهره
أما استدلالهم على اعتقادهم الفاسد بحديث زينب وأنها كانت تفخر على نساء النبيّ عليه الصلاة والسلام الذي رواه البخاري بروايتين، إلى ءاخره.
الرد: فقد روى البخاري في صحيحه أن زينب رضي الله عنها زوجكنّ أهاليكنّ وزوجني)كانت تفخر على أزواج النبيّ عليه الصلاة والسلام وتقول: وفي رواية من طريق خلاد بن يحيى حدثنا عيسى بن طمهان(الله عز وجل من فوق سبع سموات قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: نزلت ءاية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعمَ عليها يومئذ خبزا ولحما وكانت تفخر على نساء النبيّ عليه الصلاة والسلام وكانت .(إن الله أنكحني في السماء)تقول:
فقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( (في السماء)13/508) ما نصه: (قال الكرماني قوله: ظاهره غير مراد، إذ الله منـزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ الواردة من الفوقية ونحوها، قال الراغب ـ في مفردات ألفاظ القرءان ( ص/401) ـ: (( فوق)) يستعمل في المكان والزمان والجسم والعدد والمنـزلة والقهر، فالأول: باعتبار العلو ويقابله تحت نحو: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، والثاني: باعتبار الصعود والانحدار، نحو: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}، والثالث: في العدد نحو: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}، والرابع: في الكبر والصغر، كقوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، والخامس: يقع تارة باعتبار الفضيلة الدنيوية، نحو: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، أو الأخروية نحو: {وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، والسادس: نحو قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}) انتهى ملخصا.اهـ
وقال قاضي القضاة الحافظ بدر الدين بن جماعة في إيضاح الدليل (ص/108ـ109) ما نصه: (الآية الثانية: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام/61] وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50].
اعلم أن لفظة: (فوق) في كلام العرب تستعمل بمعنى الحيز العالي، وتستعمل بمعنى القدرة، وبمعنى الرتبة العلية. فمن فوقية القدرة: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح/10]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام/61]، فإن قرينة ذكر القهر يدل على ذلك، ومن فوقية الرتبة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف/76] لم يقل أحد إن المراد فوقية المكان، بل فوقية القهر والقدرة والرتبة.
وإذا بطل بما قدمناه ما سنذكر من إبطال الجهة في حق الرب تعالى تعين أن المراد فوقية القهر والقدرة والرتبة، ولذلك قرنه بذكر القهر كما قدمنا.
ويدل على ما قلناه أن فوقية المكان من حيث هي لا تقتضي فضيلة له، فكم من غلام أو عبد كائن فوق مسكن سيده، ولا يقال الغلام فوق السلطان أو السيد على وجه المدح إذا قصد المكان لم يكن فيه مدحه، بل الفوقية الممدوحة فوقية القهر والغلبة والرتبة. لذلك قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} لأنه إنما يخاف الخائف من هو أعلى منه رتبة ومنـزلة وأقدر عليه منه. فمعناه: يخافون ربهم القادر عليهم القاهر لهم). اهـ
وقال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ( ص/56) ما نصه: (واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [سورة فاطر/10] وبقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [ الأنعام/18ـ61] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إنما تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان، ثم إنه كما قال: {فَوْقَ عِبَادِهِ} قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ}. فمن حملها على العلم، حمل خصمه الاستواء على القهر). اهـ
وقال العلامة ابن منظور في لسان العرب ( 10/316. مادة/ فوق) ما نصه: (وقوله تعالى: {لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أراد تعالى لأكلوا من قطر السماء ومن نبات الأرض، وقيل: قد يكون هذا من جهة التوسعة كما تقول: فلان فيه خير من فَرْقِه إلى قدمه). اهـ
وقال القرطبي في تفسيره (6/399) ما نصه: قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} القهر الغلبة، والقاهر الغالب، ….. إلى أن قال: ومعنى: {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنـزلة والرفعة). اهـ
وقال شهاب الدين وكانت تقول)القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري ( 15/451) ما نصه: (قولها: حيث قال تعالى:(في السماء) به صلى الله عليه وسلم ( أنكحني) عز وجل (إن الله {زَوَّجْنَاكَهَا} [ الأحزاب/37] وذات الله تعالى منـزه عن المكان والجهة، فالمراد الإشارة إلى علو الذات والصفات وليس ذلك باعتبار أن محله تعالى(في السماء)بقولها: في السماء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). اهـ
إن الله)وعند النسائي بلفظ: قال الإمام السندي في حاشيته على سنن النسائي ( 6/80) ما(عز وجل أنكحني من السماء أي أنزل منه ذلك ـ أي قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا}).( أنكحني من السماء)نصه: (قولها: اهـ
وهذا يرفع الإشكال فقد قال شيخنا الحافظ العبدري حفظه الله في كتابه الصراط المستقيم (ص/36) ما نصه: (فمعناه أن تزويج النبيّ بها مسجل في اللوح المحفوظ، وهذه كتابة خاصة بزينب ليست الكتابة العامة، الكتابة العامة لكل شخص فكل زواج يحصل إلى نهاية الدنيا مسجلٌ، واللوح فوق السموات السبع). اهـ
قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 5/22) ما نصه: (قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: {ءَ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم). اهـ
وقال الحافظ أبو بكر بن فورك في مشكل الحديث وبيانه (ص/169) ما نصه: {ءَ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} وذلك بمعنى القهر والتدبير والمفارقة له بالنعت والصفة دون التحيز في المكان والمحل والجهة). اهـ
وقال الإمام النسفي في تفسيره ( /276) عند تفسير قوله تعالى: {ءَ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} ما نصه: (أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنـزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه، فكأنه قال ءأمنتم خالق السماء وملكه، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينـزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم ءأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان). اهـ
وقال أبو القاسم الزجاج في كتابه اشتقاق أسماء الله ( ص/147) في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف/84] ما نصه: (والله عزَّ وجلَّ محيط بالأشياء كلها علما لا يعزُب عنه منها شىء، وكل هذا يراد به والله أعلم إحاطة علمه بكل شىء، وكون كل شىء تحت قدرته وسلطانه وحكمه وتصرفه، ولا يراد بذلك قرب المكان والحلول في بعضه دون بعض، جلَّ الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا). اهـ
قواعد نافعة
اعلم رحمك الله تعالى أن المشبهة والمجسمة يستدلون على عقائدهم الفاسدة بأحاديث ضعيفة وأحاديث موضوعة مكذوبة على نبينا عليه الصلاة والسلام – كما فعل أبن تيمية في بعض كتبه وكذلك تلميذه ابن قيم الجوزية وكذلك فعل الذهبي في علوه وقبلهم الهروي في الأربعين في التوحيد بزعمه وغيرهم كثير وتبعهم على هذا الوهابية كما فعل صاحب الكتاب المسمى “أين الله” وصاحبه مؤلف كتاب “خلق ءادم على صورة الرحمن” وغيرهماـ من غير بيان حال هذه الروايات الموضوعة، حتى يوهموا العوام أنهم يقولون بقول رسول الله عليه الصلاة السلام وأنهم على ما كان عليه عليه الصلاة السلام وهم على ضلال وكفر والعياذ بالله تعالى، ولكن هيهات هيهات فقد جعل الله لدينه من يدافع عنه، وقيض له من يحافظ على أصوله، وهم كما روى الحافظ أبو نعيم في “الحلية” عن سيدنا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه قال في وصفهم: (علماء حلماء بررة أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء) وهكذا هم علماء أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وقد قال سيدنا علي رضي الله عنه فيما رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية أيضًا ما نصه: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجه). اهـ
ولذلك كان لا بد من بيان بعض القواعد التي تنفع في هذا الموضوع حتى لا يبقى لاستدلالهم بمثل هذه الروايات حجة ولا يبقى له قيمة واليكم هذه القواعد.
أحدها: ما ذكره الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه “الفقيه والمتفقه” (ص/132) ونصه: (والثانية: لا تثبت الصفة لله بقول صحابي أو تابعي إلاّ بما صح من الأحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها، فلا يحتج بالضعيف ولا بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنادٌ فيه مختَلَف فيه وجاء حديث ءاخر يعضِدُه فلا يُحتجُّ به). اهـ
الثانية: قال فيه أيضا (ص/ 132) ما نصه: (وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متصلَ الإسناد رُدَّ بأُمور: أحدها: أن يُخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوّزات العقول وأما بخلاف العقول فلا. والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ. الثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه). اهـ
الثالثة: ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو النّص القرءاني أو الحديث المتواتر ولم يقبل تأويلا فهو باطلٌ، وذكره الفقهاء والأصوليون في كتب أصول الفقه كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع وغيره.
الرابعة: قال أبو سليمان الخطابي ما نصه: (لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على صحتها، وما بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه). اهـ
بيان حال الدارمي المجسم
أما استدلالهم على اعتقادهم الفاسد بالدارمي المجسم فهو يوضح عقيدتهم يقول الدارمي: (هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله في السماء دون الأرض فليس بمؤمن). اهـ فهل هذه العقيدة التي جاء بها النبيّ عليه الصلاة والسلام؟ فأين في أحاديث النبيّ عليه الصلاة والسلام أن لم يعتقد أن الله في السماء فهو كافر؟ أليس هذا هو عين عقيدة النصارى؟ ألم يقل الله تبارك وتعالى:{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} ألم يقل تبارك وتعالى:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ..” الحديث.
وهو حديث متواتر فقد قال الحافظ السيوطي في الجامع الصغير ( رقم/ 1630) بعد أن ذكر هذا الحديث: (وهو متواتر). اهـ . وزاد المناوي في شرحه ( 2/189) فقال: (وهو متواتر لأنه رواه خمسة عشر صحابيا). اهـ
وقال المحدث الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص/29) ما نصه: (وفي شرح الإحياء ـ للمحدث الزبيدي ـ رواه ستة عشر من الصحابة كما قاله العراقي..) اهـ
فأين العقيدة التي ذكرتها من عقيدة النبيّ ليه الصلاة والسلام !!. فعلى مدعاك لا يكون الشخص مسلما ـ وإن تشهد ـ حتى يعتقد بان الله في السماء بذاته، وقد قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ج13 ص445 ما نصه: (ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمناً). أ.هـ
ومن هو هذا الدارمي الذي يستدلون به؟ هذه نبذة مختصرة عن الدارمي المجسم وهو عثمان ابن سعيد الدارمي أبو سعيد المجسم، وهو غير الدارمي الإمام الشهور صاحب السنن، أما أبو سعيد الدارمي المجسم فلم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة مع كونه متقدما. وله كتاب بالرد على بشر المريسي المبتدع – وقد قالوا – مبتدع رد على مبتدع – يقول فيه ص4 : (وكيف يهتدي بشر للتوحيد وهو لا يعرف مكان واحده). ويقول ص20 (لأن الحي القيوم يتحرك إذا شاء وينـزل ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط إذا شاء ويقوم ويجلس..). ويقول ص29 (ولو لم يكن لله يدان بـها خلق ءادم ومسه مسيساً كما ادعيت لم يجز أن يقال بيدك الخير). ويقول ص74 : (إن كرسيه وسع السماوات والأرض وانه يقعد عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع). وكذبوا على النبيّ عليه الصلاة والسلام ونسبوا هذا الكفر إليه صلى الله عليه وسلم وحاشاه. ويقول الدارمي أيضاً ص85 (ولو شاء لاستقر على ظهر بعوضة) ووافقه ابن تيمية على هذه العقيدة الكفرية فقال في كتابه بيان تلبيس الجهمية ( 1/568) ما نصه: (ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السماوات والأرض).اهـ فأنظر إلى هذا الكفر بالله عليك وكيف يُجوز هؤلاء استقرار الله على ظهر بعوضة، وهل هذا إلى دليل على أنهم رجعوا إلى عقيدة الجاهلية من عبادة الأوثان!!! نعوذ بالله من مثل هذا الكلام فضلا عن اعتقاده. ويقول الدارمي ص100 (من أنبأك أن رأس الجبل ليس بأقرب إلى الله من أسفله) أهـ . فلعلك أخذت من هنا وقلت: بأن كل شئ عالي فهو أعظم من السافل.
فانظروا إلى أقولكم وانظروا إلى قول الله عز وجل: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وإلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد”. وأنتم تقولون: من كان في الطائرة أو على رأس الجبل فهو أقرب إلى الله وأعظم عند الله !!!
بيان حول رفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء
وصعود الكلام الطيب وعروج الملائكة إلى السماء
وأما استدلالهم على الفوقية المزعومة برفع سيدنا عيسى عليه السلام، فهو دليل على عدم فهمهم للآيات والأحاديث كما ينبغي كما سيتضح لك، فمعنى قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} أي إلى مكان كرامتي، فعيسى عليه السلام في السماء الثانية كما هو معلوم، وقد جاء صريحا في معراج النبي عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان، فهل تقول بأن الله بذاته في السماء الثانية؟
وما أغرب استدلالكم هذا على ما تزعمون فقد قال الله تبارك وتعالى عن الظل في سورة الفرقان: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فقوله تعالى:{إِلَيْنَا} لا يعني أن الظل في الليل يذهب عند الله وان الله في مكان، فليتيقظ ألو الألباب.
بيان حول فساد استدلالهم بالمعراج
والعروج والصعود والعلو لإثبات الجهة لله تعالى
أما استدلالهم الفاسد على معتقدهم الفاسد بقصة المعراج ففساده ظاهر لوجوه منها على سبيل المثال: أن الإسراء والمعراج كان لاطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض عجائب المخلوقات ولتشريفه صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تبارك وتعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا} ولم يقل ليصل إلى مكان فيه ذاتنا، فمن أين لكم هذا؟ ولم يأت عن النبيّ عليه الصلاة والسلام ولا عن صحابته الكرام أنه وصل إلى مكان فيه ذات الله فادعاؤكم هذا فاسد. وقد سمع موسى عليه السلام كلام الله وموسى في الأرض كما أخبر تبارك وتعالى: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءانَسْتُ نَارًا لَّعَلِِِّي ءاتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَس أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [سورة طه / 10ـ11ـ12]. فهل تقولون بأن الله عز وجل بذاته في الأرض في المكان الذي كان فيه موسى استدلالا بهذه الآيات فينتقض معتقدكم أنه في السماء بذاته أم ماذا تقولون؟
وقد قال الحافظ في الفتح ( 1/512) ما نصه: (قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله “إلى الله” فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل. وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه مع تنـزيهه عن المكان انتهى). اهـ
وقال الحافظ المفسر النحوي اللغوي أبو حيان في تفسيره البحر المحيط ( 7/290) عند تفسير الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ما نصه: (وصعود الكلام إليه تعالى مجازٌ في الفاعل وفي المسمى إليه لأنه تعالى ليس في جهة، ولأن الكَلِمَ ألفاظ لا توصف بالصعود، لأنّ الصعود من الأجرام يكون، وإنما ذلك كناية عن القبول ووصفه بالكمال، كما يقال: علا كعبُهُ وارتفع شأنه، ومنه ترافعوا إلى الحاكم ورُفعَ الأمرُ إليه، وليس هناكَ علوٌ في الجهة). اهـ
وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرءان ( 18/281) ما نصه: ( {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج/4] أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. {إِلَيْهِ} أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء لأنها محل بِرّه وكرامته وقيل هو كقول إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي إلى الموضع الذي أمرني به). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/512) ما نصه: (وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب الرد على الجهمية المجسمة في تعلقها بهذه الظواهر، وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه فقد كان ولا مكان، وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف، ومعنى الارتفاع إليه اعتلاؤه ـ أي تعاليه ـ مع تنـزيهه عن المكان). اهـ
وقال الحافظ في نهاية الباب (13/515) ما نصه: (قال ابن المنير: جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس فليس فيه إلا قوله: “رب العرش” ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان من أثبت الجهة أخذًا من قوله: {ذِي الْمَعَارِجِ} ففهم أن العلو الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف ـ أي البخاري ـ أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كلٌ منهما مخلوق مربوب محدث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقِدَمه يحيل وصفه بالتحيز فيها والله أعلم). اهـ
وقال الحافظ أبو العباس القرطبي شيخ الإمام المفسر الحافظ القرطبي في كتابه المُفْهِم ( 1/410) ما نصه: (وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [ المعارج/4] أي: مقاماتـهم في حضرته، وإنما احتجنا إلى إبداء هذا التأويل لئلا يتخيل الجاهل أنه مختص بجهة فوق، فيلزمه التجسيم، ويكفيك مما يدل على نفي الجهة في حقه تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد/4] وما في معناه). اهـ
علمًا أن الله تعالى قال عن فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي طغا وتجبر، فالعلو المقصود هنا هو العلو والارتفاع المعنوي لا الحسي، ومنه أيضا قول الله تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال في بني إسرائيل: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} فماذا تسمون هذه الفوقية؟ هل هي فوقية حسية أم فوقية معنوية؟
ومن هنا تعلم فساد قول ابن تيمية في كتابه “التأسيس” ( 1/111) حيث قال ما نصه: (والبارىء سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة). اهـ
ومن أغرب ضلالتهم قولهم بأن موسى علم فرعون أن الله في السماء فأين وجدتم هذا؟ هل أخبركم بهذا فرعون لعنه الله أم هو بوحي تدعونه؟ من أين علمتم هذا؟ وهذا خلاف القرءان الكريم فقد قال تبارك وتعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فلم يقل له موسى عليه السلام هو الذي في السماء كما تدعون، بل قال له: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} فموسى عليه السلام يقول: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وأنتم تقولون بأنه أخبره أن الله في السماء !! فهل تدعون نزول قرءان ءاخر عليكم غير الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهذا الصريح الذي جاءنا به النبيّ عليه الصلاة والسلام.
بيان أن الإمام أبا حنيفة كان على عقيدة التنـزيه
وأما ادعاؤهم على أبي حنيفة رحمه الله بأنه كفّر من أنكر بأن الله في السماء. فلينظروا عمن نقلوا هذا. فإنهم نقلوه عن أبي مطيع البلخي، ومن هو هذا الرجل الذي نقلتم عنه؟
انظروا ماذا قال عنه الذهبي في ميزانه ( 1/574): (قال الإمام أحمد: لا ينبغي أن يروى عنه شئ وعن يحيى بن معين: ليس بشىء). اهـ
وختم الحافظ ابن حجر ترجمته في لسان الميزان ( 2/334) بقوله: (وقد جزم الذهبي بأنه وضع حديثا فينظر من ترجمة عثمان بن عبد الله الأموي). اهـ.
وقال القاري في شرحه على الفقه الأكبر ( ص/172) ما نصه: (مع أن أبا مطيع رجل وضاع عند أهل الحديث كما صرح به غير واحد). اهـ
فكيف يستدلون على عقيدتهم الفاسدة برجل وضاع يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عنه إمامان جليلان عالمان بأحول الرجال، الإمام أحمد والإمام يحي بن معين: ( لا يروى عنه وليس بشىء)؟
وأما تكفير أبو حنيفة رحمه الله لمن يقول: ( من قال لا أعرف ربي في السماء هو أم في الأرض وكذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) فلأن قائل هاتين العبارتين جعل الله تعالى مختصا بجهة وحيز ومكان. وإليك النقل الصحيح.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز في بيان مراد أبي حنيفة ما نصه: ( لان هذا القول يوهم أن للحق مكانا، ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه). نقلها عنه علي القاري في شرحه على الفقه الأكبر ( ص/171ـ172) وأيد كلام ابن عبد السلام بقوله: (ولا شك أن ابن عبد السلام من أجل العلماء وأوثقهم، فيجب الإعتماد على نقله). اهـ
وقال عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات ( 3/22) ما نصه: (قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه). اهـ
ونزيدكم يقينا على أن ما ذهبنا إليه هو الصحيح بنقل بعض النصوص من كتب الإمام أبي حنيفة وهي مطبوعة. قال رحمه الله في الوصية ما نصه: (ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة).اهـ مجموعة رسائل أبي حنيفة ( ص/75).
وقال في الفقه الأبسط ما نصه قلت: (أرأيت لو قيل: أين الله تعالى)؟ فقال ـ أبو حنيفة ـ: يقال له: (كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شئ، وهو خالق كل شئ). اهـ مجموعة رسائل أبي حنيفة ( ص/53).
وقال رحمه الله في الفقه الأكبر ما نصه: (وليس قرب الله تعالى ولا بعده من طريق طول المسافة وقصرها، ولكن على معنى الكرامة والهوان.
والمطيع قريب منه بلا كيف، والعاصي بعيد عنه بلا كيف، والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي. وكذلك جواره في الجنة والوقوف بين يديه بلا كيفية). اهـ مجموعة رسائل أبي حنيفة ( ص/ 63).
وقال رحمه الله في الفقه الأكبر ما نصه: (والله تعالى يرى في الآخرة ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤسهم، بلا تشبيه ولا كيفية، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة). اهـ مجموعة رسائل أبي حنيفة ( ص/61ـ62).
بيان معنى الاستواء الوارد في القرءان
وقول الإمام مالك: (والكيف غير معقول)
واعلم أن ءاية الاستواء هي اعظم ءاية عند المشبهة لإثبات المكان والجهة لله تعالى، لذلك احتجنا لبيان فساد اعتقادهم وعدم دلالة ما يستدلون به إلى تفصيل أقوال العلماء في معنى الاستواء، حتى لا تبقى عندهم شبهة بعد ذلك بحول الله.
فاستواء الله على العرش قد ورد قرءانًا قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في ستة مواضع في سورة الأعراف ويونس والرعد والسجدة والفرقان والحديد وسابعها في سورة طه بقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. فقد تقدم أن القرءان نزل بلغة العرب ومعاني كلامهم وما كانوا يتعقلونه في خطابهم فالاستواء في لغة العرب له خمسة عشر معنى فقد قال الحافظ أبو بكر بن العربي في العارضة ( 2/235ـ236) ما نصه: (وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية ومنها ما لا يجوز على الله بحال وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة فإن شيئا من ذلك لا يجوز على الباري تعالى ولا يضرب له الأمثال به في المخلوقات، وإما أن لا يُفسّر). اهـ
وأما الاستواء الوارد في القرءان في نحو قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه/5].
فقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتاب الوصية ما نصه: (ونُقِر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقرار عليه وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا). اهـ (مجموعة رسائل أبو حنيفة. ص/73)
وقال سيدنا علي رضي الله عنه: (إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته). اهـ نقله الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق (ص/256).
وقال الإمام المجتهد السلفي ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره ( 1/228ـ229) عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ما نصه: (والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} الذي هو بمعنى العلو والارتفاع هرباً عند نفسه من أن يلزمه بزعمه ـ إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك ـ أن يكون إنما على وارتفع بعد أن كان تحتها ـ إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم ينجو مما هرب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} أقبلَ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير،قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال). اهـ
فهذان إمامان سلفيان مجتهدان بينا معنى العلو والاستواء، فهو علو ملك وسلطان، لا علو جهة ومكان، كما ظهر لك، وكن على ذكر من قول الإمام علي رضي الله عنه. علماً أننا سنذكر إن شاء الله في ءاخر هذا الرد بعض التأويلات التي جاءت عن بعض السلف وبعض الخلف حول الاستواء وغيره.
قال البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/152ـ153) ما نصه: (وذهب أبو الحسن علي بن محمد الطبري وجماعة ءاخرين من أهل النظر: والقديم سبحانه عالٍ على عرشه لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش، يريد به مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها والقيام والقعود من أوصاف الأجسام، والله عز وجلّ أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام تبارك وتعالى.
. وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والكون في مكان متمكنا فيه ولكن يريد معنى قول الله عز وجل: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} [سورة تبارك/16] أي من فوقها على معنى نفي الحد عنه، وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قُطرٌ.
قلت: وهو على هذه الطريقة من صفات الذات، وكلمة ثمّ تعلقت بالمستَوَى عليه لا بالاستواء، وهو كقوله: {ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [ سورة يونس/46] يعني ثم يكون عملهم فيشهده، وقد أشار أبو الحسن علي بن إسماعيل إلى هذه الطريقة حكاية فقال: وقال بعض أصحابنا إنه صفة ذات ولا يقال لم يزل مستويا على عرشه، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات، ولا يقال لم يزل عالما بأن قد حدثت ولمّا حدثت بعد، قال: وجوابي هو الأول وهو أن الله مستوٍ على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنه لا تحله ولا يحلها ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلةِ تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا). اهـ
ثم قال في نفس الكتاب ( 2/153) ما نصه: (وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيراً من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات فنبه بالأعلى على الأدنى. قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها). اهـ
وقال الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله في كتاب التوحيد ( ص/70) ما نصه: (ثم القول بالكون على العرش ـ وهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنة ـ لا يعدو من إحاطة ذلك به أو الإستواء به، أو مجاوزته عنه وإحاطته به، فإن كان الأول: فهو إذا محدودٌ به محاطٌ منقوص عن الخلق إذ هو دونه، ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به من الأمكنة لجاز بما يحيط به من الأوقات فيصير متناهيا بذاته مقصرا عن خلقه.
وإن كان على الوجه الثاني: فلو زيد على الخلق لا ينقص أيضاً وفيه ما في الأول.
وإن كان على الوجه الثالث: فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشأ ما لا يفضل عنه، مع ما يُذم ذا من فعل الملوك أن لا يفضل عنهم من المعامد شيئاً. وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض وبعضه يفضل عن ذلك، وذلك كله وصف الخلائق والله يتعالى عن ذلك.
وبعد فإنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء،كمن يعلو السطوح أو الجبال إنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه، مع ما فيها ذكر العظمة والجلال، إذ ذكر في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة يونس/3] فدَلّك على تعظيم العرش). اهـ
وقال الإمام أبو نصر القشيري في التذكرة الشرقية فيما نقله الحافظ الزبيدي: (فإن قيل أليس الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فيجب الأخذ بظاهره؟ قلنا الله يقول أيضا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ويقول تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَئٍ مُّحِيطٌ} فينبغي أيضا أن تأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون على العرش وعندنا ومعنا ومحيطا بالعالم محدقا به بالذات في حالة واحدة. والواحد يستحيل أن يكون بذاته في حالة بكل مكان، قالوا: قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني بالعلم و: {بِكُلِّ شَئٍ مُّحِيطٌ} إحاطة العلم قلنا وقوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قهر وحفظ وأبقى). اهـ أنظر الإتحاف ( 2/175).
وقال الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/173) ما نصه: (قال الصاحب بن عباد في كتابه نهج السبيل: فإن قيل فهو مستول على كل شىء فما وجه اختصاصه العرش بالذكر؟ قيل: كما هو رب كل شىء وقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} فإن قيل: فما معنى قولنا عرش الله إن لم يكن عليه؟ قيل: كما تقول بيت الله، وإن لم يكن فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة كما أن الكعبة في الأرض تطوف بها الناس.اهـ وهو وإن كان يميل إلى رأي الاعتزال غير أنه وافق أهل السنة فيما قاله هنا). انتهى كلام الزبيدي.
وروى الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 2/132) بسنده إلى الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر). اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/500) والزبيدي في الإتحاف (2/131) ما نصه: (وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر، ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش؟ فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى الله الرسالة وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم). اهـ
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/150) والحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/501) والزبيدي في الإتحاف ( 2/131) بسند جيد عن عبد الله بن وهب: (قال كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه). اهـ
وأما قولهم عن الإمام مالك رضي الله عنه بأنه قال: الاستواء معلوم – أي وروده في القرآن – والكيف غير معقول – فما معنى قوله: غير معقول؟ وقد يسرونها بزعمهم الفاسد بقولهم: ( لا ندرك كيف استوى) فأين هذا في كلام مالك؟ فقد قال رحمه الله: والكيف غير معقول. ومعنى غير معقول أي مستحيل، والكيف مستحيل على الله.
فقد ذكر الحافظ الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ج2 ص133 ما نصه: (وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله: (كيف غير معقول) أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله: (والاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، (والإيمان به) على الوجه اللائق به تعالى (واجب) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه، (والسؤال عنه بدعة) أي حادث لأن الصحابة كانوا عالمين بمعناه اللائق بحسب اللغة، فلم يحتاجوا للسؤال عنه، فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم يهديه لصفات ربه شرع يسأل عن ذلك، فكان سؤاله سببا لاشتباهه على الناس وزيغهم عن المراد.اهـ فهذا يوضح معنى قول الإمام مالك رحمه الله، على أنه واضح لا يحتاج إلى شرح لمن هدى الله قلبه للتنـزيه).
وقال العلامة البياضي في كتابه إشارات المرام ص186 ما نصه: (بلا كيف، أي بلا كيفية وجارحة ولا مشابهة للمخلوقات وفيه إشارات: الأولى: نفي الكيفيات، فإن الكيفية في اللغة بمعنى الهيئة والصفة كما في المصباح المنير). اهـ
وقال العلامة القسطلاني في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ( 15/615) ما نصه: (وقد ثبت عن الإمام مالك أنه سئل كيف استوى؟ فقال: كيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فقوله: (كيف غير معقول). أي كيف من صفات الحوادث وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل فيجزم بنفيه عن الله تعالى). اهـ
وقد نفى مالك الكيف عن الله تعالى بقوله أيضا: (ولا يقال كيفٌ، وكيف عنه مرفوع).اهـ. كما رواه البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/150) والحافظ في فتح الباري (13/501).
وقال الحافظ في الفتح أيضا ( 13/501) ما نصه: (وأسند البيهقي من طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: بلا كيف، والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال الترمذي في الجامع في باب فضل الصدقة: قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال كيف، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمَرُّوها بلا كيف، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة). اهـ
وقال الإمام أحمد كما روى الخلال في السنة بسنده عن أحاديث الصفات ما نصه: (نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى).اهـ راجع تكملة الرد على نونية ابن القيم للعلامة الكوثري ( ص/60).
وعلى هذا المعنى جاءت الروايات عن السلف، فقد قال الإمام الترمذي في سننه ما نصه: (والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك ابن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال كيف). اهـ
حتى قال ابن أبي العز ـ وهو من المشبهة المجسمة كما سنبين لك ـ في شرحه على الطحاوية ( ص/ 218ـ219ـ من الطبعة الثامنة) ما نصه: (قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف). اهـ
وقال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 16/97) ما نصه: (وتعالى الله أن يُحَدَّ أو يوصف إلا بما وصف به نفسه أو علّمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}). اهـ
رد قول ابن تيمية بنسبة الحد إلى الله تعالى
ومن هنا تعلم فساد قول ابن تيمية في موافقته ( 2/29) وفي بيان تلبيس الجهمية ( 1/427) حيث قال ما نصه: (فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنـزيل الله تعالى وجحد ءايات الله تعالى…). اهـ
حتى قال ابن تيمية الخبيث في نفس الصحيفة من كتابه بيان تلبيس الجهمية ما نصه: (وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء). اهـ أنظر إلى هذا الكفر، فالمسلم لا يكون عنده مسلما حتى يعتقد أن لله حد والعياذ بالله من الكفر.
ثم يوافق الكفار في عقيدتهم الكفرية بالحد ويزعم أنها عقيدة المسلمين حيث قال في نفس الصحيفة من نفس الكتاب ما نصه: (اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك). اهـ
فالحافظ الذهبي هنا كافر بنظر ابن تيمية المخطئ!!! وكذلك الحافظ الطحاوي السلفي حيث يقول في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه: (وتعالى ـ يعني الله ـ عن الحدود والغايات…). اهـ و قد تلقت الأمة هذا العقيدة بالقبول كما قال الحافظ تاج الدين السبكي في كتابه معيد النعم.
وروى الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ( 1/73) عن أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود). اهـ
وقال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر ما نصه: (وهو شىء لا كالأشياء، ومعنى الشىء إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض، ولا حد له ولا ضد له ولا ندّ له ولا مثل له). اهـ مجموعة رسائل أبو حنيفة ( ص/59).
وذكر الحافظ تاج الدين السبكي في ترجمة الحافظ ابن حبان من طبقات الشافعية ( 3/132ـ133) عن بعض المجسمة أنه قال: (سألت يحيى بن عمار عن ابن حبان، قلت: رأيته؟ قال: وكيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان، كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا فأنكر الحد لله، فأخرجناه من سجستان.
قال السبكي: انظر ما أجهل هذا الجارح! وليت شعري من المجروح؟ مثبت الحد لله أو نافيه! وقد رأيت للحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله، على هذا كلاما جيدا أحببت نقله بعبارته، قال رحمه الله ومن خطه نقلت: يا لله العجب! من أحق بالإخراج والتبديع وقلة الدين؟). اهـ
قال الحافظ ابن حبان صاحب الصحيح المشهور بصحيح ابن حبان في كتابه الثقات ( 1/1) ما نصه: (الحمد لله الذي ليس له حد محدود فيحتوى، ولا له أجل معدود فيفنى، ولا يحيط به جوامع المكان، ولا يشتمل عليه تواتر الزمان). اهـ
وقد نقل الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق الإجماع على نفي الحد عن الله تعالى، حيث قال (ص/256) ما نصه: (وقالوا ـ أي أهل السنة أعزهم الله تعالى ـ بنفي النهاية والحد عن صانع العالم). اهـ
وقال في كتابه أصول الدين (ص/337) ما نصه: (وأما جسمية خراسان من الكرّامية فتكفيرهم واجب لقولهم: بأن الله له حد ونهاية من جهة السفل ومنها يماس عرشه، ولقولهم بأن الله محل الحوادث). اهـ
وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/157) ما نصه: (وما تفرد به الكلبي وأمثاله يوجب الحد، والحد يوجب الحدث لحاجة الحد إلى حاد خصه به، والبارىء قديم لم يزل). اهـ
وقد نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد نفي الحد عن الله، حيث قال في كتابة بيان تلبيس الجهمية ( 1/433) ما نصه: (فهذا الكلام من الإمام أحمد يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يقدرون ذلك بقدر، أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك، وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره). اهـ
فتأمّل بالله عليك هذا الكلام وكيف أنه أثبت الحد والإمام أحمد ينفيه عن الله تعالى.
وقال التابعي الجليل الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ما نصه: (أنت الله الذي لا يحويك مكان). اهـ وقال رضي الله عنه: (أنت الله الذي لا تحد فتكون محدودًا).اهـ رواه الحافظ الزبيدي في الإتحاف ( 4/644) بالسند المسلسل بأهل البيت.
وقال الإمام أبو المظفر الاسفرايني في التبصير في الدين في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة ( ص/144) ما نصه: (وأن تعلم أن خالق العالم لا يجوز عليه الحد والنهاية، لأن الشىء لا يكون مخصوصا بحد إلا أن يخصه بذلك الحد ويقرره على تلك النهاية بجواز غيره من الحدود عليه، والصانع لا يكون مصنوعا ولا محدودا ولا مخصصا). اهـ
وقال المحدث الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ج2 ص171 ما نصه: (ذكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه “المنتقى في شرف المصطفى” لما تكلم على الجهة وقرر نفيها، قال: ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفضلوني على يونس بن متى)) فقال مالك: إنما خص يونس بالتنبيه على التنـزيه لأنه صلى الله عليه وسلم رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة، ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفضل ولما نهى عن ذلك. ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لأن العرش في الرفيق الأعلى فهو أفضل من السفلى، فالفضل بالمكانة لا بالمكان. هكذا نقله السبكي في رسالة الرد على ابن زفيل). اهـ
وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات ( 2/21) ما نصه: (قال الإمام أبو سليمان الخطابي: إن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي عن الله وعن صفاته منفية). اهـ
الرد على نسبتهم الصورة إلى الله تعالى
ومن هنا تعلم فساد اعتقاد المشبهة الذين يزعمون بأن الله على صورة ءادمي وقد كتب بعضهم وهو حمود التويجري الوهابي كتابا أسماه (عقيدة أهل الإيمان في خلق ءادم على صورة الرحمن) فإنه يقول فيه (ص/76) من الطبعة الثانية التي قرظها زعيمهم ابن باز ما نصه: ((وأيضا فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها: [سنخلق بشرًا على صورتنا يشبهنا])). اهـ انظروا كيف ينقل من التوراة المحرفة التي قال الله في شأنها: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وقد قال التويجري أوّل كتابه المذكور ما نصه: ((الحمد لله الذي خلق ءادم بيديه وخلقه على صورته ونفخ فيه من روحه..الخ)). اهـ فانظروا إلى هذا الكلام وكيف يسعى الكاتب إلى إيهام القارىء بأن لله تعالى صورة وأنه خلق ءادم على هذه الصورة وغير ذلك من تشبيههم لله بخلقه والعياذ بالله.
فهذه عقيدة هؤلاء القوم من أتباع ابن تيمية فتأملوا يا ذوي الأبصار. والله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ} ويقول: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} والنبيّ صلى الله عليه وسلم أقر لمن قال: “يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون” في الحديث الصحيح. وقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} يوجب تنـزيه الله تعالى عن الصور لأنه هو المصوّر.
ولذلك أجمع العلماء على تنـزيه الله عن الصورة فقد قال الإمام أبو منصور البغدادي في الفرق بين الفرق (ص/256) ما نصه: (وأجمعوا على إحالة وصفه بالصورة والأعضاء). اهـ
وقال الحافظ مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/35) ما نصه: (وقد أجمع أهل السنة أن الله تعالى خالق الصور كلها ليس بذي صورة ولا يشبه شيئًا).اهـ
بل نقل القاضي عياض المالكي في كتابه الشفا ( /282ـ283) الإجماع على كفر من يزعم بأن الله تعالى محدثٌ أو مصوَّر، حيث قال ما نصه: (وكذلك من اعترف بإلاهية الله ووحدانيته ولكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم وأنه محدث أو مصوَّر أو ادعى له ولدا أو صاحبة أو والدا أو متَوَلّد من شىء أو كائن عنه أو أن معه في الأزل شيئًا قديمًا غيره أو أن ثم صانعا للعالم سواه أو مدبِّرا غيره فذلك كله كفرٌ بإجماع المسلمين). اهـ
وقال العلامة الكوثري فيما علقه على السيف الصقيل (ص/156) ما نصه: (وقال أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم ( 2/28) فيمن يحمل حديث: ((….. فيأتيهم في صورة ثم يأتيهم في صورة أخرى….)) على التبدل والانتقال والتحول: إنه ليس من أهل القبلة بل حكم بخروجه أصلا وفرعا من الملة. وحمل الصورة على ظاهرها فضيحة ليس فوقها فضيحة، والله الهادي). اهـ
وقال المحدث الشيخ عبد الله الغماري في كتابه فتح المعين (ص/34ـ35) في معرض الرد على مؤلف كتاب الأربعين ما نصه: (وروى حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلق الله ءادم عليه السلام على صورته طوله ستون ذراعا” وهذا حديث مختصر من حديث في الصحيحين، والاستدلال به لإثبات الصورة لله عز وجل غلو في الإثبات مذموم، فإن الضمير في صورته يعود على ءادم لأنه أقرب مذكور، ويؤيد ذلك قوله: “طوله ستون ذراعا”، وقوله في ءاخر الحديث عن أهل الجنة: “على خلق رجل واحد على صورة أبيهم ءادم ستون ذراعا في السماء” فالحديث كما ترى يـبين أن الضمير في صورته يعود على ءادم.
قال الحافظ في الفتح: والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها، ولم ينتقل في النشأة أحوالا، ولا تردد في الأرحام أطوارًا كذريته، بل خلقه الله رجلا كاملا سويًا من أول ما نفخ فيه الروح، ثم عقب ذلك بقوله: “وطوله ستون ذراعًا”، فعاد الضمير أيضًا على ءادم، وقيل معنى قوله: “على صورته” أي لم يشاركه في خلقه أحد إبطالا لقول أهل الطبائع، وخص بالذكر تنبيهًا بالأعلى على الأدنى. اهـ كلام الحافظ
قلت: وعود الضمير في “صورته” على ءادم يشير لإبطال زعم دارون أن الإنسان أصله قرد، فأفاد الحديث أن ءادم خلق من أول مرة إنسانًا لا أصل له غير ذلك، وهذه معجزة عظيمة تؤخذ من الحديث. أما جعل الضمير في صورته يعود على الله فهو خطأ من تصرف بعض الرواة، وقد استنكره كثير من العلماء. وأخذ بظاهره ابن قتيبة فقال: لله صورة لا كسائر الصور، وهذا خطأ أيضًا، لأن الصورة تتوقف على مصوِّر، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ(8)}. فوصف الله بالصورة لا يجوز لأنها محدثة والله تعالى لا يوصف بالمحدث، تعالى الله عن ذلك، وتأويل الصورة بالصفة لا يجدي في هذا المقام.
قال البيهقي في الأسماء والصفات (2/17) وذهب بعض أهل النظر إلى أن الصور كلها لله تعالى على معنى الملك والفعل، ثمّ ورد التخصيص في بعضها بالإضافة تشريفًا وتكريما، كما يقال ناقة الله، وبيت الله، ومسجد الله.اهـ وهو كلام حسن). انتهى كلام الغماري.
وأما حديث الصحيحين الذي فيه: “فيأتيهم بغير صورته” ثم فيه: “فيأتيهم بصورته التي يعرفونها” فلا دليل فيه لإثبات الصورة لله عز وجل لأسباب منها: أن من تتبع الحديث في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد وغيرها، وجد أن لفظ الصورة غير مذكور في بعضها، مما يؤكد أن لفظ الصورة من تصرف الرواة، ثم قوله في الحديث: “فيأتيهم بغير صورته” وقوله: “فيأتيهم بصورته التي يعرفونها” ظاهره يفيد أن الله يتشكل بصور مختلفة وذلك باطل قطعا، وهو مردود بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئٌ}.
قال الحافظ في الفتح ( 5/229) ما نصه: (وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد وأحمد من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا: “لا تقولن قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق ءادم على صورته” وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ: “إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق ءادم على صورة وجهه”). اهـ
ويتحقق مما ذكرناه أن هذه الطائفة التي تثبت لله تعالى عن قولهم الصورة ينطبق عليهم ما رواه مسلم في الصحيح عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت عند قوله تعالى: ( {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم”. ورواه والبخاري (انظر الفتح 8/265) وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
قال الحافظ في الفتح ( 8/266) ما نصه: (وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بظهور وإما بالتأويل والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور… وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الأخير هو الصحيح عندنا). اهـ
وأما الحديث الذي ذكره فقد رواه مسلم ونصه: “والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها”. فيحمل على الملائكة بدليل الرواية الثانية الصحيحة التي رواها البخاري ( أنظر الفتح 6/386 و 9/366) وابن حبان وغيرهما والتي هي أشهر من هذه الرواية وهي: “لعنتها الملائكة حتى تصبح”.
بيان معنى حديث النـزول
وأما حديث النـزول الذي يستدلون به، والذي فيه “ينـزل ربنا” فتأويله بالرواية الصحيحة الأخرى التي صححها الحافظ عبد الحق بلفظ: “إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا ينادي …” الخ. أي هو مؤوّل بنـزول الملك. وهذا الحديث قد رواه النسائي بسند صحيح في عمل اليوم والليلة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.
وهذه الرواية الصحيحة المفسرة للرواية الأخرى والتي فيها: “ينـزل ربنا” لمّا كانت تخالف مشرب الألباني العكر ضعفها في سلسته الضعيفة برقم (3897) كما في تحقيق شعيب لكتاب الكرمي ( أقاويل الثقات ص205) بدعوى أنها رواية شاذة منكرة تفرّد بها حفص بن غياث وأن حفصا قد اختلط. أهـ
نقول للألباني: إن حفصا ثقة من رجال الستة، وورد الحديث بألفاظ متقاربة من لفظ حفص من غير طريقه بأسانيد صحيحة عند أحمد ( 422ـ 217ـ 312) كما في مجمع الزوائد ( 10153) والبزار والطبراني ( 951) ومنه يتبين خطأ الألباني ووهمه، أما كلامه بأن حفص بن غياث تغير حفظه كثيرا بآخرة كما في التقريب فتلاعب، وذلك لأن هذا الحديث الذي ادعى الألباني بأن حفصًا انفرد به هو من روايته عن الأعمش، وروايته عن الأعمش ما أثر فيها تغير واختلاط حفص لو كان، وذلك لأنها كانت في كتاب عند ابنه عمر بن حفص كما في ترجمته في تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب.
قال الإمام الحافظ المتمكن الحجة عبد الله الهرري رضي الله عنه في المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد ابن تيمية (ص/115ـ116) ما نصه: (وقوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ}. ( سور الأعراف/22) فيه دليل على صحة رواية النسائي: “إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا…” فكما أن الله تعالى نسب نداء المَلَكِ لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره فكذلك صح إسنادُ نزول الملك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: “هل من داع فيستجيبَ الله له وهل من سائل فيعطى وهل من مستغفر فيغفر له” إلى الله. وفي الآية أيضا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يُسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوت يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ رد اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النـزول حيث إنه قال إن هذه الرواية تستلزم حصول قول الملك: “هل من مستغفر فأغفر له وهل من داع فأستجيب له”. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} كذلك يُحمل حديث النـزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنـزول إلى السماء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيبَ له ومن يسألني فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه، وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفر له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه. ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيهعليه الصلاة والسلام: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} ( سورة القيامة/16/17/18) فقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} معناه فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرءان على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقرأ المعلم على التلميذ فبهذا ينحل الإشكال الذي يخطر لبعض الناس. اهـ
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (6/33) ما نصه: (والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما: تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تـنـزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني: أنه على الاستعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف). اهـ
وقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الإمام أحمد رضي الله عنه أنه تأول قول الله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ} (الفجر/22) (بمجيء ثوابه). انتهى ثم قال البيهقي: (وهذا إسناد لا غبار عليه). اهـ ونقل ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (10/361).
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 3/37ـ38) ما نصه: (استدل به من أثبت الجهة) وقال: (هي جهة العلو وأنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك، وقد اختلف في معنى النـزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم). انتهى
أنظر من الذي حمل الحديث على ظاهره، هم المشبهة الذين يصورون صنما في السماء يسمونه الله والعياذ بالله من الكفر، أما أهل السنة والجماعة فعقيدتهم نظيفة والحمد لله على نعمة التـنـزيه.
ثم أكمل الحافظ قائلا: (وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه بضم أوله على حذف المفعول أي يـُنـزِل ملكًا، ويقويه ما رواه النسائي من طريق الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد بلفظ: “إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيـُـستجاب له” الحديث، وفي حديث عثمان بن أبي العاص: “ينادي مناد هل من داع يُـستجاب له …” الحديث. انتهى
قال الإمام القرطبي في تفسيره ( 4/38ـ39) عند قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (وخص السحَر بالذِّكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء ـ إلى أن قال ـ قلت أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: “ينـزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر” وفي رواية: “حتى ينفجر الصبح” لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى” صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال وأن الأول من باب حذف المضاف أي ينـزل ملك ربنا فيقول. وقد روي: “يُنْزِل” بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى). اهـ
وقال الإمام الحافظ الحجة أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي رحمهما الله في كتابه مشكل الحديث وبيانه (ص/204) ما نصه: (وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبيّ عليه الصلاة والسلام بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الياء من ينـزل وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين وإذا كان ذلك محفوظا مضبوطا كما قال فوجهه ظاهر). اهـ
وقال شهاب الدين بن جهبل فيما نقله الحافظ السبكي في طبقاته (9/81) ما نصه: (أما التقديس فهو أن يعتقدَ في كل ءاية أو خبر معنى يليق بجلال الله تعالى، مثال ذلك إذا سمع قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله ينـزل كل ليلة إلى سماء الدنيا” وكان النـزول يُطلقُ على ما يفتقر إلى جسم عال وجسم سافل وجسم منتقل من العالي إلى السافل، والنـزول: انتقال جسم من علو إلى سفل، ويطلق على معنى ءاخر لا يفتقر إلى انتقال ولا حركة جسم، كما قال تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} مع أن النَّعم لم تنـزل من السماء بل هي مخلوقة في الأرحام قطعا فالنـزول له معنى غير حركة الجسم لا محالة. وفُهم ذلك من قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: دخلت مِصر فلم يفهموا كلامي فنـزلت ثم نزلت ثم نزلت ولم يُرد حينئذ الانتقال من علو إلى سفل. فليتحقق السامع أن النـزول ليس بالمعنى الأول في حق الله تعالى فإن الجسم على الله محال. ومن كان لا يَفهم من النـزول إلا الانتقال فيقال له: مَن عجزَ عن فهم نُزول البعير فهو عن فهم نزول الله عز وجل أعجز. فاعلم أن لهذا معنى يليق بجلاله). اهـ
وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي ركن الحنابلة في الباز الأشهب (ص/95ـ96) ما نصه: (روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: “ينـزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعوني فأستجيب له”. قلت: وقد روى حديث النـزول عشرون صحابيا وقد سبق القول أنه يستحيل على الله عز وجل الحركة والنقلة والتغير فيبقى الناس رجلين:ـ
أحدهما: المتأول له بمعنى أنه يقرب رحمته وقد ذكر أشياء بالنـزول فقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وإن كان معدنه بالأرض وقال: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ومن لم يعرف كيف نزول الجَمَل كيف يتكلم في تفصيل هذه الجُمَل.
والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك، روى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا: أمِرّوا هذه الأحاديث بلا كيف. قلت: وواجب على الخلق اعتقاد التنـزيه وامتناع تجويز النقلة وأن النـزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عالي وهو مكان الساكن وجسم سافل وجسم ينتقل من علو إلى أسفل وهذا لا يجوز على الله تعالى قطعا). اهـ
وقال الكرماني في شرح البخاري: (ينـزل في بعضها يتنـزل فإن قلت هو سبحانه وتعالى منـزه عن الحركة والجهة والمكان قلت هو من المتشابهات فإما التفويض وإما التأويل بنـزول ملك الرحمة). اهـ
وفي لسان العرب لابن منظور (11/657) ما نصه: (وفي الحديث: “إن الله تعالى وتقدس ينـزل كل ليلة إلى سماء الدنيا” النـزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام والله عز وجل يتعالى عن ذلك ويتقدس، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من العباد وتخصيصها بالليل وبالثلث الأخير منه لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إلى الله عز وجل وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة). اهـ
وفي كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ( /42) ما نصه: (فيه ـ أي في الحديث ـ “إن الله تعالى يَنـزِل كل ليلة إلى سماء الدنيا” النُّزول والصُّعود والحركة والسكون من صفات الأجسام والله يتعالى عن ذلك ويتقدَّس والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من العباد وتخصيصها بالليل والثلث الأخير منه لأنه وقت التَّهَجُّد وغفلةِ الناس عمّن يتعرَّض لنفحاتِ رحمة الله وعند ذلك تكون النِّية خالصة والرغبة إلى الله وافرة وذلك مَظِنَّة القبول والإجابة). اهـ
وفي كتاب الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان بترتيب الأمير علاء الدين بن بلبان ( 3/ 200/201) ما نصه: (قال أبو حاتم رضي الله عنه ـ أي الحافظ ابن حبان ـ صفات الله جل وعلى لا تكيف ولا تقاس إلى صفات المخلوقين. ـإلى أن قال ـ كذلك ينـزل بلا ءالة ولا تحرك ولا انتقال من مكان إلى مكان). اهـ
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح ( 3/38) عن البيضاوي ما نصه: (ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منـزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النـزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نزول رحمته أي ينتقل من مقتضى صفة الجلال التي تقتضي الغضب والانتقام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة). اهـ
وقال المحدث الشيخ عبد الله الغماري في كتابه فتح المعين بنقد كتاب الأربعين (ص 57) ما نصه: (ولي في الحديث رأي لم يتعرض له أحد، وهو الصواب إن شاء الله. وبيان ذلك: أن الله تعالى قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقال سبحانه: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} فالله قريب من خلقه، ليس بينه وبينهم مسافة يقطعها نزول، والمسافة التي بين السماوات، وبينها وبين الأرض، هي بالنسبة للخلق، أما بالنسبة لله تعالى، فالعالم كله بين يديه، لا يفصله عنهم مسافة لقربه منهم بغير حلول ولا اتحاد، تعالى الله أن يحل في شىء من خلقه، أو يتحد به، فنـزوله كناية عن تنّزله في تجليه على عباده المؤمنين القائمين في ذلك الوقت من الليل، وهو وقت التجلي، ويقال لله المتجلي، ولا يقال له نازل، والتجلي صفة خاصة به سبحانه، لا يوصف بها ملك ولا نبي… ومعنى التنـزل في التجلي أنه يتجلى على المؤمنين، بقدر ما تستطيعه روحانياتهم، لطفا بهم ورحمة لهم والله تعالى أعلم). اهـ
وقال البدر العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري ما نصه: (إذا أضيف المجيء والإتيان والنـزول إلى جسم يجوز عليه الحركة والسكون والنقلة التي هي تفريغ مكان وشغل غيره يحمل على ذلك، وإذا أضيف إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته تعالى، فالنـزول لغة يستعمل لمعان خمسة مختلفة: بمعنى الانتقال كما في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وبمعنى الإعلام نحو قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} أي أعلم به الروح الأمين محمدا عليه الصلاة والسلام وبمعنى القول نحو: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ} أي سأقول مثل ما قال وبمعنى الإقبال على الشئ وبمعنى نزول الحكم وذلك كله متعارف عند أهل اللغة وإذا كانت مشتركة في المعنى وجب حمل ما وصف به الرب جل جلاله من النـزول على ما يليق به من هذه المعاني وهو إقباله على أهل الأرض بالرحمة). اهـ
والجمع بين الأحاديث ما أمكن الجمع واجب لا يجوز العدول عنه كي لا تضرب الأحاديث ببعضها البعض بالتشهي، ثم إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فهل رأيت حديدا نازلا من السماء؟ إنما لها معنى ءاخر ذكره الإمام ابن الجوزي رضي الله عنه على خلاف ما تذهب إليه أنت وشيعتك. وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهذه الأنعام لم تمطر بها السماء، بل معنى أنزل هنا جعل كما في تفسير ابن جرير.
بيان حال ابن أبي العز شارح الطحاوية
ومن هنا يُعلم فساد قول شارح الطحاوية المشبه المتناقض ابن أبي العز المنسوب زورا للمذهب الحنفي، حيث في (ص/ 286) قال ما نصه: ((الثاني عشر: التصريح بنـزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنـزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل، الثالث عشر: الإشارة إليه حسا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم بربه)). اهـ
وله أقوال فاسدة خالف الأمة فيها ووافق ابن تيمية سنذكر لك بعضا منها ونرد على ما لم نرد عليه قبل ذلك عند بيان حال ابن تيمية الحراني، فمنها على سبيل المثال قوله بحوادث لا أول لها، أي بأزلية نوع العالم والعياذ بالله من الضلال والكفر.
فقد قال في شرحه الذكور الذي حرف فيه عقيدة الإمام الطحاوي رحمه الله (ص/ 129) ما نصه: ((فالحاصل أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم:
أضعفها قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.
وثانيها قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل كما يقوله أئمة الحديث)). اهـ
فانظر كيف نسب الكفر الصريح إلى أئمة الحديث وحاشاهم، فقال عنهم أنهم يقولون إن الحوادث وهي المخلوقات يمكن أن تكون دائمة في الماضي، معناه قديمة النوع حادثة الأفراد، وأهل الحديث براء من ذلك.
وقال في نفس الكتاب (ص/ 133) ما نصه: ((والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلا)) .اهـ
نعوذ بالله من هذا الهذيان ما أشنعه، ومن هذا الضلال ما أبشعه، ومن هذا الرجل ما أجرأه، فإنه رد القرءان والسنة والإجماع ومخالف للعقل السليم، وردنا عليه يكون عند ردنا على ابن تيمية.
وقال ابن أبي العز أيضا في نفس الكتاب (ص/219) مثبتًا الحد لله تعالى ما نصه: ((فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن فيه منازعة في الأمر أصلا، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته)). اهـ
فأنظر إلى هذا الهذيان والعياذ بالله تعالى من مثل هذا الاعتقاد. وقد رددنا على المجسمة في إثباتها الحد لله تعالى عن قولهم قبل ذلك فارجع إليه.
وقوله وشيعته لأهل السنة أعزهم الله: إنكم إذا نفيتم الحد ساويتم ربكم بالشئ المعدوم. فقد تكفل الحافظ ابن حجر برده في لسان الميزان (5/114) حيث بين أن قولهم هذا ساقط نازل لا عبرة به، فقال ما نصه: (وقوله: قال له النافي ساويت ربك بالشيء المعدوم إذ المعدوم لا حد له، نازل، فانّا لا نسلم أن القول بعدم الحد يفضي إلى مساواته بالمعدوم بعد تحقق وجوده). اهـ
وأما مسئلة الجهة فابن أبي العز ممن يقاتل من أجل إثبات الجهة لله عز وجل حيث قال في شرحه المذكور (ص/221) ما نصه: ((وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق)). اهـ
فانظر كيف قاس الخالق على المخلوق.
ثم قال في نفس الصحيفة ما نصه: ((وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح)). اهـ
وقد قال في رأس الصحيفة: ((أن الجهات لا نهاية لها)). اهـ
فسبحان قاسم العقول، فإن هذا الرجل يزعم أن الجهات لا حد لها، ينزه الجهات عن الحد، ثم يثبت الحد لله عز وجل، ولا ينزه الله عن الحد. فمن لي بهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا.
ثم قال في شرحه المذكور (ص/282) مثبتا الدنو الحسي من الله تعالى عن قوله، ما نصه: ((فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدّره حق قدره)). اهـ
ويتابع (ص/ 286) قائلا بما نصه: ((الثاني عشر: التصريح بنـزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، والنـزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.
الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه)). اهـ
فانظر كيف يثبت هذا الرجل الدنو الحسي والنـزول الحسي والجهة لله تعالى عن قوله ثم يقول نحن لسنا مشبهة!!! وكأنهم ما عرفوا ولا فهموا ما هو التشبيه، وقد رددنا على هذا جميعه فيما مضى فلا نحتاج إلى إعادته هنا.
علما أنه نقل في بعض المواضع من كتابه تكفير المشبهة، فيكون قد هدم بيته بيده وبأيدي المسلمين.
ونكتفي بما نقلنا عنه من أقوال في هذا المؤلَف. ولكن كتابه يحوي الكثير من الضلال والكفر غير ما نقلنا، فلا بد من التحذير من مثل هذه المؤلفات التي تفسد عقيدة المسلم والعياذ بالله تعالى.
في دفع شبهة
من قال: إن من لوازم الرؤية الجهة
أما استدلالهم على معتقدهم الفاسد لإثبات الجهة لله تعالى بأن المسلمين يرونه وهم في الجنة فهو استدلال فاسد لوجوه منها:
أنه ليس من شرط الرؤية أن يكون الله في جهة، فكما عرفناه تبارك وتعالى موجود لا يشبه الموجودات بلا جهة ولا مكان، كذلك نراه إن شاء الله من غير أن يكون في جهة أو مكان.
وأيضا اتفقت سائر أقوال الأمة على التنـزيه إلا شرذمة من المشبهة والمجسمة، فقاسوا الخالق على المخلوق، وقالوا: كما أن الرائي يكون في جهة فكذلك المرئي لا بد أن يكون في جهة! وهذا ينطبق على جسمين، جسم رائي وءاخر مرئي، وقد بينا أن الله تعالى ليس بجسم فسقط هذا الاستدلال.
وأيضا يدل على فساد ما زعموا أنه لو كان الله في جهة فلا بد أن يكون متصلا بالعالم أو منفصلا عنه! والاتصال والانفصال من صفات الأجسام وليس من صفات مَن ليس كمثله شىء.
وأيضا يدل على فساد ما زعموا أنه لو كان الله في جهة فلا بد أن يكون داخل العالم أو خارج العالم، ولو كان داخل العالم لكان جسما محصورا، ولو كان خارج العلم لكان جسما منفصلا عنه ولكان له أمثال والله عز وجل ليس كمثله شىء. وسنفرد فصلا في هذا الكتاب لإبطال قول المجسمة: بأنه لا يعلم موجود لا داخل العالم ولا خارجا عنه.
ولنقل أقوال بعض العلماء حول هذا الموضوع والله الموفق. وهذه أقوال بعض العلماء حول الرؤية والرد على المشبهة.
قال الإمام الرازي في أساس التقديس: (الشبهة الثالثة للكرامية في إثبات كونه تعالى في الجهة قالوا: ثبت أنه تعالى تجوز رؤيته والرؤية تقتضي مواجهة المرئي أو شيئا هو في حكم مقابلته وذلك يقتضي كونه تعالى مخصوصا بجهة. والجواب: اعلم أن المعتزلة والكرامية توافقتا في أن كل مرئي لا بد وأن يكون في جهة إلا أن المعتزلة قالوا لكنه ليس في الجهة فوجب أن لا يكون مرئيا، والكرامية قالوا لكنه مرئي فوجب أن يكون في الجهة وأصحابنا رحمهم الله نازعوا في هذه المقدمة، وقالوا لا نسلم أن كل مرئي فإنه مختص بالجهة بل لا نزاع في أن الأمر في الشاهد كذلك لكن لم قلتم أن ما كان كذلك في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك؟ وتقريره أن هذه المقدمة إما أن تكون مقدمة بديهية أو استدلالية فإن كانت بديهية لم يكن في إثبات كونه تعالى مختصا بالجهة حاجة إلى هذا الدليل وذلك لأنه ثبت في الشاهد أن كل قائم بالنفس فهو مختص بالجهة وثبت أن البارىء تعالى قائم بالنفس فوجب القطع بأنه مختص بالجهة لأن العلم الضروري حاصل بأن كل ما ثبت في الشاهد وجب أن يكون في الغائب كذلك، فإذا كان هذا الوجه حاصلا في إثبات كونه تعالى في الجهة كان إثبات كونه تعالى في الجهة بكونه مرئيا، ثم إثبات أن كل ما كان مرئيا فهو مختص بالجهة تطويل من غير فائدة ومن غير مزيد شرح وبيان، وأما إن قلنا أن قولنا أن كل مرئي فهو مختص بالجهة ليست مقدمة بديهية بل هي مقدمة استدلالية فحينئذ ما لم يذكروا على صحتها دليلا لا تصير هذه المقدمة يقينية، وأيضا انا كما لا نعقل مرئيا في الشاهد إلا إذا كان مقابلا أو في حكم المقابل للرائي، فكذلك لا نعقل مرئيا إلا إذا كان صغيرا أو كبيرا أو ممتدا في الجهات أو مؤتلفا من الأجزاء وهم يقولون أنه تعالى يرى لا صغيرا ولا كبيرا ولا ممتدا في الجهات والجوانب والأحياز فإذا جاز لكم أن تحكموا بأن الغائب مخالف للشاهد في هذا الباب فلم لا يجوز أيضا أن المرئي في الشاهد وإن وجب كونه مقابلا للرائي إلا أن المرئي في الغائب لا يجوز أن يكون كذلك). اهـ
وفي كتاب إرشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني ( 15/462) باب قول الله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال القسطلاني: ({إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة). اهـ
وكذا قال ( 15/463) عند قوله صلى الله عليه وسلم: “إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون” (وقال البيهقي سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: (لا تضامون) بالضم والتشديد معناه لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضم بعضكم إلى بعض ومعناه بفتح التاء كذلك والأصل لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة وبالتخفيف الضيم ومعناه لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه وأنتم في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي تعالى الله عن ذلك). اهـ
روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبيّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: “جنتانِ من فضةٍ ءانيتُهُما وما فيهما وجنتانِ من ذهبٍ ءانيتُهُما وما فيهما وما بين القومِ وبيَن أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهِه في جنةِ عدنٍ”. قال الإمام النووي في شرحه على الحديث ( 3/15) ما نصه: (ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بدلائله الجلية ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة تعالى عن ذلك بل يراه المؤمنون لا في الجهة كما يعلمونه لا في الجهة. قوله صلى الله عليه وسلم: “وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر في جنة عدن” قال العلماء: كان النبيّ عليه السلام يخاطب العرب بما يفهمونه ويقرب الكلام إلى أفهامهم ويستعمل الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز ليقرب متناولها فعبر صلى الله عليه وسلم عن زوال المانع ورفعه عن الأبصار بإزالة الرداء. قوله صلى الله عليه وسلم: “في جنة عدن” أي الناظرون في جنة عدن فهي ظرف للناظر). اهـ
قال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ما نصه: (الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط به الأمكنة). اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13/523) ما نصه: (ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة والله منـزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده، فهو راء لا من جهة). اهـ
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/531) ما نصه: (قوله: “في جنة عدن” قال ابن بطال: لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من استحالة أن يكون سبحانه جسماً أو حالاً في مكان…. وقال عياض: معناه راجع إلى الناظرين أي وهم في جنة عدن لا إلى الله فإنه لا تحويه الأمكنة سبحانه. وقال القرطبي: يتعلق بمحذوف في موضع الحال من القوم مثل كائنين في جنة عدن) .اهـ
قال الإمام القرطبي فيما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/524) ما نصه: (اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة والمقابلة واتصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم، وأهل السنة لا يشترطون شيئا من ذلك سوى وجود المرئي وأن الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي وتقترن بها أحوال يجوز تبدلها والعلم عند الله). اهـ
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الوصية ما نصه: (ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة). اهـ ( مجموعة رسائل أبي حنيفة ص/75)
وقال رضي الله عنه في الفقه الأكبر ما نصه: (والله تعالى يرى في الآخرة و يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤسهم، بلا تشبيه ولا كيفية ولا جهة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة). اهـ ( مجموعة رسائل أبي حنيفة ص/61ـ62)
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3/15) ما نصه: (ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمونه لا في جهة).اهـ
وقال الشيخ خالد البغدادي في كتابه الإيمان والإسلام: (يجب الاعتقاد برؤية الله تعالى…وهو منـزه عن الجهات الست وليس بعرض ولا جسم ولا جوهر وليس بمركب ولا بمحدود ولا معدود ولا يقاس ولا يحسب ولا يكون فيه تغيير ولا تبديل ولا يتمكن بمكان ولا يجري عليه زمان وليس له تعالى أول ولا ءاخر ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولهذا السبب لا يُدرك الإنسان بأفكاره وعلومه وعقله أي شىء من أفعاله تعالى ولا يحيط كيفية رؤيته أيضًا). اهـ
قال العلامة المحدث أبو حفص نجم الدين عمر بن أحمد النسفي الحنفي الإمام الزاهد في عقيدته النسفية ما نصه: (ورؤية الله تعالى جائزة في العقل واجبة بالنقل وقد ورد الدليل السَّمعي بإيجاب رؤية المؤمنين لله تعالى في دار الآخرة فيُرى لا في مكان ولا على جهة من مُقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى). اهـ
تفسير ثم استوى على العرش
معنى قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ليس معنى كلمة {ثم} أنّ الله بعد خلق السموات ارتقى العرش فجلس عليه.
إنما المعنى: أنّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وقد استوى على العرش أي وهو مستوٍ على عرشه، أي وهو قاهر العرش.
فإن كلمة {ثم} في لغة العرب تأتي أحيانًا بمعنى [الواو]، ولا تفيد دائمًا أنّ ما بعدها حصل متأخرًا عن ما قبلها، ويدل على ذلك قول الشاعر:
إن من سادَ ثمّ سادَ أبوهُ … ثم قد ساد قبل ذلك جدُّهْ
ثم من المعلوم عند ذوي العقول السليمة أن الخالق لا يجوز أن تحدث له صفة، فإنّ خلْقَ الله للعرش لم يُغيّر في صفة الله شيئًا، أمّا على قول المشبّهة فإنّ خلْقَ اللهِ للعرشِ أكسبه وصفًا جديدًا على زعمهم.
ثم إن كلمة استوى في لغة العرب لها خمسة عشر معنى، منها الجلوس، والاستقرار، والنضج، ومنها القصد، ومنها القهر، والحِفظ، فهذه المعاني بعضها لا يليق بالله كالجلوس والاستقرار والنضج، وبعضها يليق به كالقهر والحفظ.
قال الله تعالى: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
وفي صحيح البخاري أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان حين يستيقظ بالليل من نومه لما يتقلّب في فراشه يقول: “لا إله إلا الله الواحد القهّار ربّ السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار”.
فالوصف بالقهار لائق بالله وأما الوصف بالجلوس فهو وصف يشترك فيه الإنس والجن والقرود والخنازير فلا يليق وصف الله به، ثم يوجد في المسلمين من اسمه عبد القهار وعبد الغفار وعبد الحفيظ ولا يوجد فيهم من اسمه عبد الجالس وعبد القاعد، ثم الجهات الستّ بالنسبة إلى ذات الله على حد سواء، فليس العرش قريبًا إلى ذات الله قُربًا يجعل الفرش بعيدًا عن ذاته.
ثم مَنْ قال إنّ جهة العلوّ جهةٌ تشرّف بها الله فقد كفر، لأنه جعل اللهَ تعالى متشرّفًا بشيء من خلقه، ثم من أصرح الدليل على وجود الله بلا مكان قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شيء غيره” رواه البخاري والبيهقي وغيرهما.
هذا الحديث صريح في أن الله وحده كان في الأزل ولم يكن سواه والمكانُ هو غير الله، فإن قال لكم قائل: أنا لا أعقل موجودًا بلا مكان، فيقال له: يوجد في المخلوق ما صدّقت به من غير أن يتصوره عقلك وهو ما يُفهم من قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} معنى ذلك أنه كان وقتٌ لا يوجد فيه ظلماتٌ ولا نور ولا يستطيع إنسان أن يتصور وقتًا ليس فيه ظلام ولا نور ومع ذلك نصدّق بهذا لأن قول الله صدق لا شك فيه، ثم يوجد حديث رواه مسلم والبيهقي، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء” قال الحافظ البيهقي: “ومن لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان”.
وروى الحافظ المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في الصحيفة السجادية أنّ الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم قال: “سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان”.
وروى أبو منصور البغدادي أنّ عليّ بن أبي طالب قال: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان”، وروى عنه أيضًا أنه قال: “إنّ الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتّخذه مكانًا لذاته”.