Search or ask ابحث او اسأل
April 28, 2023

دحض شبه المغالين في وصف سيد المرسلين

دحض شبه المغالين في وصف سيد المرسلين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى لا سيما نبينا المصطفى وعلى ءاله وصحبه أولى الصدق والوفا أما بعد.

يقول الله تعالى :{تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}

ويقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم “ الدين النصيحة” رواه مسلم.

عملاً بهذه الآية الكريمة وهذا الحديث الشريف أجيب على رسالة أرسلها بعض الأشخاص ينتقد ويعترض فيها على مقال لي نشرته مجلة “منار الهدى” العدد 63ــ ذو القعدة 1418هـ بعنوان: “الغلو في الدين علامة الخاسرين” وجُل المقال يتعلق بالرد على الغلاة الذين يعتقدون أن سيدنا محمدًا يعلم كل الغيب والذين يعتقدون أنه عليه الصلاة والسلام أول خلق الله.

وسأذكر كلام المعترض ثم أبين الجواب باختصار على حسب ما قرره علماء أهــل السنــة والجمــاعــة مستـدلاً بكتـــاب الله العزيز وسنة نبيه المصطفى، سائلاً الله تعالى التوفيق والإخلاص بجاه حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام.

يقول المعترض: “ان مشتملات هذا المقال مخالفًا لمعتقدات الصحابة الكرام”.

الرد: إن من طالع المقال يجد أن ما فيه بحمد الله هو اعتقاد الصحابة الكرام، بدليل أن ما استدللت به من الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بنقل عدد من الصحابــة الكـرام رضـي الله عنهم. وحاشا أن يخالف اعتقادهم ما سمعوه من رسول الله ونقلوه لغيره.

يقول المعترض: فلا شك في أنه محمد صلى الله عليه وسلم يعلم جميع ما كان وما يكون من بدء الخلق إلى يوم القيامة ودخول الجنة كما يثبت من الأحاديث الصحيحة.

الرد: اعلم أن هذا غلو لا يحبه الله ولا يحبه رسوله الكريم ففي كتاب الله وفي الأحاديث الصحيحة خلاف ما ادعيت. قال الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} سورة الأنعام/ءاية 59 . وقال سبحانه{ : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} سورة لقمان/ءاية 34.

وروى مسلم أن الرسول عليه السلام قال لما سئل عن الساعة: “ما المسئول عنها بأعلم من السائل” أي كلانا لا يعلم.

وفــي صحيــح مسلــم عن عائشــة رضي الله عنها: “ومن زعم أن محمدًا يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية” والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}.

ويقول الإمام أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 745هـ في تفسيره “النهر الماد من البحر المحيط”: “وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو”: حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى.ا.هـ.

فقولك هذا يشمل أن الرسول يعلم هذه الأمور الخمسة وهذا يعارض القرءان والحديث.

ويقول الله تعالى: {قل ما كنت بدعًا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} سورة الأحقاف/ ءاية 9.

فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بنص هذه الآية لا يعلم جميع تفاصيل ما يفعله الله به وبأمته فكيف يتجرأ متجرئ على قول: إن الرسول يعلم جميع ما كان وما يكون.

وروى البخاري في جامعه حديثًا بمعنى هــذه الآيــة ورد في شــأن عثمـان بن مظعون فإنه لما قتل في المعركة قالت امرأة: هنيئًا له الجنة. فقال لها الرسول: “أو غير ذلك، أنا رسول الله وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم” معنــاه أنــا مــع كونــي رســول الله لكني لا أعلم الغيب فأنا لا أعلم تفاصيل ما يكون لي ولكم في الآخرة؛ وهذا ليس معناه أن الرسول يشك هل يدخل الجنة أم لا.

يقول المعترض: “ولكن الاعتقاد بعلم غيبه صلى الله عليه وسلم بإعطاء الله عز وجل”.

الرد: إن هذا القول أيضًا يخالف القرءان قال الله تعالى: {فقل إنما الغيب لله} سورة يونس/ءاية 20 وقال تعالى: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} سورة الأعراف/ءاية 188. وقال تعالى :{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي} سورة الأنعام/ءاية 50 فهذه الآيات صريحة المراد في أن الرسول عليه السلام لا يعلم الغيب كله فلو كان الله أطلع نبيه وأعطاه علم الغيب ما أمره أن يقول: “ولا أعلم الغيب”.

فالرسول مع علو مقامه لا يعلم إلا ما علمه الله كما ورد في الحديث عنه عليه السلام: “لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي”.

وروى البخاري قصة الخضر مع موسى عليهما السلام وفيها أن الخضر قال لموسى: ما علمي وعلمك يا موسى في جنب علم الله إلا كما نقر هذا العصفور من البحر.

فالله لم يطلع أحدًا من خلقه على جميع الغيب بل امتدح نفسه سبحانه بأنه : عالم الغيب والشهادة.

فكيف يصح أن تقول هذا والله يقول لنبيه محمد: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}.

وصح في الحديث الذي رواه البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام أرسل سبعين من أصحابه إلى بلدة ليعلموا فيها الإسلام فاعترضهم قوم من الكفار فقتلوا السبعين، فهل تقول إن الرسول أرسلهم وهو يعلم أنهم سيقتلون؟

وروى البخاري أن شخصًا كان يقم المسجد أي يكنس وينظف فمات فدفن فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا فعل فلان، قالوا مات ودفناه فقال عليه السلام: “لِمَ لَمْ تؤذِنوني به” فصلى عليه وهو في قبره. فهذا دليل على أن الرسول لا يعلم كل أحوال صحابته فكيف تقول “إنه يعلم جميع ما كان وما يكون”.

فاعلم أيها المعترض أنك ساويت بين الله وبين محمد باعتقادك هذا والعياذ بالله. حتى ولو قلت إن النبي يعلم الغيب كله بإطلاع الله، أي أن الله يطلعه على الغيب كله، فإن هذا القول لا ينقذك من تكذيبك.

وروى البخاري في الجامع الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قــال رســول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكــم محشــورون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وانه سيجاء بأناس من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول هؤلاء أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم فأقول سحقًا سحقًا أقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} إلى قوله {العزيز الحكيم} سورة المائدة/ءاية 117 ــ 118.

وهذا فيه رد أيضًا على الغلاة الذين يقولون إن الرسول ما خرج من الدنيا حتى أطلعه الله على كل شىء.

وردَّ عليهم أيضًا بحديث البخاري في الصعق أن الرسول يقول: “فأرى موسى قائمًا متعلقًا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور”. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه على البخاري ج 11/368 أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُلهَمُ في مقام الشفاعة محامد لا يعرفها أي يُلهَمُ ألفاظ حمد ما كان يعرفها في الدنيا. وفيما ذكرناه كفاية لغير المتعنتين.

وأما استدلالك الوحيد أيها المعترض بالآية الكريمة: {وعلمك ما لم تكن تعلم} فهو في غير محله؛ فالقرءان لا يتعارض ولا يتناقض بل يتوافق ويتعاضد ويصدق بعضه بعضًا، فهذه الآية لا تتعارض مع ما ذكرناه من الآيات البينات والأحاديث الثابتة.

فالآية: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم}، قال ابن عباس ومقاتل: الشرع، وذكر الماوردي: الكتاب والحكمة، ويقول الإمام أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط: وقال القفال: يحتمل وجهين أحدهما أن يراد ما يتعلق بالدين كما قوله تعالى: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وعلى هذا التقدير: وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة وعلى حقائقهما مع أنك ما كنت عالمًا بشىء فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك، الثاني: ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه.ا.هـ. وفيه بعض تلخيص والظاهر العموم فيشمل جميع ما ذكروه. فالمعنى: الأشياء التي لم تكن تعلمها لولا إعلامه إياك إياها، “وكان فضل الله عليك عظيمًا” قيل المنة بالإيمان وقال أبو سليمان: هو ما خصه به تعالى، وقال أبو عبد الله الرازي، هذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلاً ثم إنه سمي ذلك القليل عظيمًا.ا.هـ. من البحر المحيط فبهذا يتبين تعسف المعترض وغلوه.

فعلى المسلم أن يسلم لله وأن يكون معتدلاً تاركًا الافراط والتفريط، فالذي يعلم كل شئ هو الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه لا نبي مقرب ولا ملك مكرم.

يقول المعترض عن سيدنا محمد: هو أول خلق الله الذي خلقه الله من نوره أولاً قبل جميع الموجودات كما ذكر في حديث جابر الذي رواه عبد الرزاق في مصنفه.

الرد: إن الحديث المسمى بحديث جابر والذي فيه: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر خلقه الله من نوره قبل الأشياء” حديث ركيك والركاكة قال علماء الحديث إنها دليل الوضع، لأن الرسول لا يتكلم بكلام ركيك المعنى وذلك لأن في الجملة الأولى: “أول ما خلق الله نور نبيك” جعل نور النبي أول العالم والمخلوقات على الاطلاق، ثم هذه الجملة: “خلقه الله من نوره قبل الأشياء” إن اعتبر أن معنى من نوره

أي نور مخلوق لله على أن الاضافة اضافة الملك إلى المالك ليست إضافة صفة إلى موصوف يكون المعنى أن أول المخلوقات نور خلقه الله ثم خَلَق منه نور محمد، فهذا يناقض الجملة الأولى، لأن الجملة الأولى تقول إن نور محمد أول المخلوقات على الاطلاق والجملة الثانية تقول إن أول المخلوقات نور خلق منه نور محمد فيكون نور محمد ثاني المخلوقات فلا يصح على هذا قول: نور محمد أول المخلوقات على الاطلاق.

ومن المعلوم أن كلام الرسول لا ينقض بعضه بعضًا، وهذا الحديث الجملة الثانية منه تنقض الأولى، فالرسول منزه عن أن ينطلق بمثله.

وأما إن اعتبرت الإضافة التي في “نوره” إضافة الصفة إلى الموصوف فالبلية أشد وأكبر؛ لأنه يكون المعنى أن سيدنا محمدًا جزء من صفة الله وهذا إثبات البعضية لله، والله منزه عن البعضية والتركيب والتجزئ وذلك كفر إجماعًا فيكون على التقدير الثاني إثبات التبعض لله وذلك ينافي التوحيد، لأن الله واحدٌ ذاتًا وصفات لم ينحل منه شىء ولا ينحل هو من شىء غيره فلا تكون صفاته صفة لغيره، ولا تكون أصلاً لغيرها كما قرر علماء التوحيد في مؤلفاتهم.

ثم إن بعد هذه الجملة من هذا الحديث المكذوب ركاكات بشعة يردها الذوق السليم ولا يقبلها، مع اختلاف كبير في الألفاظ بين الذين رووه وهذه علة أخرى تقدح في الحديث وهي الاضطراب. فبهذا يسقط الاحتجاج بهذا الحديث على دعوى أن أول المخلوقات على الاطلاق نور سيدنا محمد.

وأما قولك أيها المعترض: رواه عبد الرزاق في مصنفه فالجواب عن ذلك أن الحافظ عبد الرزاق لا رواه ولا صححه ولم يذكره لا في مصنفه ولا في جامعه ولا في تفسيره بل قال في تفسيره خلاف ما نسبت إليه، قال في تفسير قول الله تعالى: {وكان عرشه على الماء} هما بدء الخلق.

وهذا يُبعد أن يكون عبد الرزاق ذكر في المصنف هذا الحديث الركيك ولو وُجد في مصنفه ــ وهو غير موجود ــ فهو غير ثابت لأن مجرد الرواية ليست دليلاً؛ فهذا الإمام أحمد بن حنبل رضــي الله عنه شيخ الحفاظ ذكر في مسنده ءالافًا من الأحاديث الثابتة الصحيحة وءالافًا من الضعاف بل تكلم الحافظ زين الدين العراقي على أربعة عشر حديثًا مما في المسند أنه موضوع، فهل مجرد الرواية تكون إثباتًا تصحيحًا أو تحسينًا؟!

وأما قولك: ذكره البيهقي في دلائل النبوة.

فالجواب: أن هذا غير صحيح، لا يوجد في دلائل النبوة للبيهقي بل ذكر الحافظ البيهقي في دلائل النبوة حديث توسل ءادم عليه السلام بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وفيه أن الله تعالى قال لسيدنا آدم لما توسل بسيدنا محمد: كيف عرفت محمدًا ولم أخلقه”. فهذا دليل على أن سيدنا محمدًا لم يكن مخلوقًا في ذلك الوقت لما توسل به ءادم عليه السلام، فكيف يصح أن تقول إن محمدًا هو أول خلق الله! سبحانك هذا بهتان عظيم. واعلم أن الحافظ البيهقي نص في كتابه الأسماء والصفات على أن الماء أول المخلوقات. فعبارته هناك في باب بدء الخلق: قوله صلى الله عليه وسلم “كان الله عز وجل ولم يكن شىء غيره” يدل على أنه لم يكن شىء غيره لا الماء ولا العرش ولا غيرها فجميع ذلك غير الله، وقوله: “وكان عرشه على الماء” يعني ثم خلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شىء.

ثم نقل البيهقي ءاثارًا عن بعض الصحابة والتابعين أن بدء الخلق الماء والعرش، وأن الله لم يخلق شيئًا قبل الماء، ثم روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قــال: قلــت يــا رســول الله إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شىء، قال صلى الله عليه وسلم: “كل شىء خلق من الماء”.

ثم أوضح البيهقي وبيّن أن الله خلق الماء أولاً وجعله أصلاً لما خلقه بعده، فلماذا هذا التقول عليه؟!!

وأما قولك: ذكره القسطلاني في المواهب اللدنية وابن حجر المكي في أفضل القرى إلى ءاخره.

فالجواب أن إيراد ابن حجر الهيتمي وصاحب المواهب اللدنية وغيرهما ممن ذكرت لهذا الحديث لا يفيد أن هذا الحديث صحيح أو حسن، ومع أن أحدًا منهم لم يقل إن هذا الحديث صحيح أو حسن.

وهؤلاء: صاحب المواهب اللدنية ومن ذُكر معه ليس أحد منهم من الحفاظ، والعبرة في التصحيح والتضعيف أن يكون المصحح والمضعف من الحفاظ أي أن يَنُصَّ حافظ على أن هذا الحديث صحيح أو أن يذكُرَ حافظ في كتابه أنه يقتصر فيه على الصحيح كالحافظ سعيد بن السكن الذي ألّف كتابًا اشترط فيه الاقتصار على الصحيح سماه السنن الصحاح.

وهذه القاعدة ذكرها الحافظ السيوطي في ألفيته في مصطلح الحديث فقال ما نصه:

وخذه حيث حافظ عليه نص أو من مصنف بجمعه يخص

يعني أن هذا الحديث الصحيح يُعرف أنه صحيح بنص حافظ على صحته، أو بأن تجده في كتاب ألفه حافظ واشترط أنه لا يذكر في كتابه هذا إلا الصحيح.

وأما غير الحفاظ فلا عبرة بتصحيحهم ولا بتضعيفهم، فحديث أولية النور المحمدي لم يصححه حافظ من الحفاظ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين ولم يُذكر في كتاب اشترط في مؤلفه الحافظ أن لا يذكر في مؤلفه إلا الصحيح.

بل قال الحافظ السيوطي في الحاوي للفتاوى ج 1/325: “ليس له إسناد يعتمد عليه”ا.هـ.

وقال أيضًا في قوت المغتذي شرح الترمذي: “وأما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت”ا.هـ. فعبارته هذه أوضح في المراد؛ فقد أضاف نفي الثبوت إلى الحديث نفسه ولم يذكر هنا الاسناد، وقال الحافظ أحمد الغماري في مقدمة كتابه “المغير على الجامع الصغير”: إن حديث أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر خلقه الله من نوره قبل الأشياء” موضوع. ا.هـ.

فإذا عُلِمَ هذا فليعلم المعترض أن مجرد ذكر حديث في كتاب مؤلفه حافظ ليس دليلاً على صحته، فماذا يكون مؤلفات من هو دونه؟!

فالذين ذكروا حديث: أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر من المتأخرين كثير لكن كثرتهم لا تفيدهم شيئًا لأنهم لم يبلغوا درجة الحافظ إنما بعضهم محدثون لهم إلمام بالحديث وبعضهم ليسوا من المحدثين بالمرة.

ثم إن هذا الحديث يعارض ثلاثة أحاديث صحيحة.

• أحدها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلـت يـا رسـول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شىء قال: “إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء” وهذا الحديث أخرجه ابن حبان.

• والحديث الآخر حديث جماعة من أبناء الصحابة عن ءابائهم عن رسول الله: “إن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء” أورده الحافظ ابن حجر على أنه صحيح أو حسن عنده وذلك في شرح البخاري في كتاب بدء الخلق.

• والحديث الثالث حديث عمران بن حصين الذي أخرجه البخاري وغيره أن أناسًا من أهل اليمن أتوا إلى رسول الله فقالوا: جئنا نسألك عن هذا الأمر، قال: “كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء”.

فهذه الأحاديث الثلاثة الثابتة تنص على أن أول العالم والمخلوقات على الاطلاق الماء وأن الماء أصل المخلوقات، وهذا يوافق الآية: {وجعلنا من الماء كل شىء حي}.

فكيف تترك الأحاديث الثابتة وتتشبث بحديث لا أصل له لم يثبته أحد من الحفاظ؟!!

والأحاديث الثلاثة لا حاجة إلى تأويلها لأجل حديث غير ثابت، بل هو حديث موضوع لركاكته ولا حاجة لما ذكره بعض من حمل حديث “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر” على الأولية المطلقة بغرض إثبات أولية النور المحمدي.

وهكذا يتبين أن التشبث بقول إن نور محمد أول المخلوقات على الاطلاق نوع من الغلو وقد نهى الله ورسوله عن الغلو.

وأما تأويلك أيها المعترض بأن الماء والعرش والقلم أوليتهم إضافية بالنسبة للنور المحمدي أي خلقوا أولاً بعد نوره صلى الله عليه وسلم.

فالجواب: أن هذا التأويل مخالف للحديث الصحيح ومخالف للقاعدة الحديثية أن الضعيف إذا خالف الحديث الثابت فلا حاجة إلى التأويل، بل يُعمل بالثابت ويترك الضعيف وذلك مقرر في كتب المصطلح وفي كتب الأصول وهناك قاعدة أصولية أيضًا تؤيد ما ذكرنا وهي أن النص لا يؤول إلا لدليل سمعي ثابت أو دليل عقلي قاطع، قال علماء الأصول: لا يجوز تأويل النص لغير ذلك وإن ذلك عبث والنصوص تصان عن العبث. ذكر ذلك كثير كصاحب “المحصول” فبعد هذا يبطل تأويل المؤولين لحديث أولية الماء بأن أوليته نسبية لتأييد قولهم الفاسد إن أول ما خلق الله نور محمد.

أما تأويل حديث أولية القلم للتوفيق بينه وبين حديث أولية الماء بأن القلم هو أول ما خلق الله بعد الماء والعرش كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره، فذلك حق وصواب لأن كلا الحديثين ثابت وفي هذا إقناع للمتدبر المنصف.

ثم إن معيار الأفضلية ليس الأسبقية في الوجود بل الأفضلية بتفضيل الله، فالله تعالى يفضل ما شاء، من خلقه على ما شاء فالماء مع ثبوت أوليته لا يقال إنه أفضل المخلوقات، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فهو أفضل المخلوقات من غير أن يكون أول المخلوقات لا جسمه ولا نوره، فالأمر كما قال البوصيري:

فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم

فالله تعالى جعل سيدنا محمدًا أفضل خلقه على الإطلاق وأكثرهم بـركـة صـلى الله عليه صلاة يقضي بها حاجاتنا ويفرج بها كرباتنا ويكفينا بها شر أعدائنا، وسلّم عليه وعلى ءاله سلامًا كثيرًا.

وأما اعتراضك أيها الرجل المنتقد على احتجاجي بالآية: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ} لكون النبي لم يخلق من نور، فمردود إذ الآية من أبين البيان في كونه صلى الله عليه وسلم من البشر، فأي عاقل يشك في كون النبي محمد من البشر، من لحم ودم وعظم وكان يأكل ويشرب، ويدخل الخلاء ويأتي النساء؟!

والعجب ثم العجب كيف تجعل هذه الآية من المتشابهات التي لا يجوز الأخذ بظاهرها لتؤيد هواك؟!!

فالنصيحة أن تلزم الاعتدال من القول؛ فالله لا يحب الغلو فالآية المذكورة مع قوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا} دليل صريح على عدم جواز اعتقاد أن النبي خُلِق من نور والعياذ بالله، فالواجب يحتم على المؤمن الوقوف عند هذه الآيات وعدم مجاوزتها وتحريفها.

وكلمة “مثلكم” في الآية لا تعني كما توهمت أنه صلى الله عليه وسلم مثل البشر في الدرجة، وإلا لما أمر الله نبيه أن يقول: “يوحى إليّ”.

وإنما “مثلكم” في كونه بشرًا وليس ملكًا من الملائكة.

فائدة: وكونه صلى الله عليه وسلم نورًا فهو أمر معنوي مثل تسمية القرءان نورًا ونحو ذلك لأنه نور العقول والقلوب ويهتدى به عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وفي الختام فليعلم القارىء أن ما ذكرناه لا يتعارض بل يتوافق وينسجم مع عقيدتنا الراسخة أن سيدنا محمدًا هو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله. ولو أردنا تتبع ما ورد في فضله وعلو مقامه محمد صلى الله عليه وسلم لضاقت هذه الأوراق، ولكننا نقول كما قال القائل:

أرى كل مَدْحٍ في النبي مقَصّرا وإن بالغ المُثني عليه وأكثرا

إذا الله أثنى في الكتاب المنزلِ عليه فما مقدارُ ما قال الورى

فآمل من هذا الرجل المعترض أن يمر نظره على ما كتبته الآن وما كتبته في مقالي السابق بإمعان نظر منصف مشفق بعيدًا عن العصبية والهوى، عاملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: “لا ترفعوني فوق منزلتي”.

وليكن على ذُكر لما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه: “توالي التأسيس في مناقب ابن ادريس” أن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي” فكم مر أحاديث صحيحة تدل على صحة ما قلناه.

والله أسأل أن يلهمنا السهر على عقيدة أهل الحق وأن يحشرنا تحت لواء نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.

Prev Post

CD Nasheed: ‘Unsul-Layali – أنس الليالي

Next Post

About us

post-bars