مواعظ وعبر لمن اعتبر
سهرت أعين ونامت عيون في أمور تكون أو لا تكون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفس فحملانك الهموم جنون
ان ربا كفاك بالأمس ما كان سيكفيك في غد ما يكون
قال مالك بن دينار رضي الله عنه:
عجبا لمن يعلم أنّ الموت مصيره والقبر مورده كيف تقرّ بالدنيا عينُه؟ وكيف يطيب فيها عيشه ؟قال:ثمّ يبكي مالك حتى يسقط مغشيا عليه
(3/277 من صفة الصفوة لإبن الجوزي توفي رحمه الله تعالى سنة 130 هجرية
قصَّة فيها عبرة وموعظة
ذكرَ اليافعيُّ عن أحدِ الصالِحينَ مِنْ ذُريةِ الحُسين رضي الله عنه وهو صبِيٌّ دونَ البلوغ؛ عن أحدِ الصَّالحين رضي الله عنه قال: بينما أنا ذاتَ يومٍ في بعضِ شوارِعِ البصرة وإذا بصُبيانٍ يلعبونَ بالجوزِ واللَّوزِ وإذا بصبِيٍّ ينظرُ إليهم ويبكي، قال الرَّاوي: فقلتُ هذا الصبيُّ يتحسَّرُ على ما في أيدي الصُّبيان ولا شىءَ معه فيلعبُ به، فقلتُ له: أي بُنَيَّ ما يُبكيكَ، أشتري لكَ من الجوزِ واللوزِ ما تلعبُ به مع الصبيان؟ فقال الصَّبيُّ وقد رفعَ بصرَهُ إلى السَّماءِ وهو يبكي: يا عمّ ما للّعبِ خُلقنا، فقلتُ: أي بُنيَّ فلماذا إذًا خُلقنا؟ قال: خُلقنا للعِلْمِ والعبادةِ، قلتُ: مِنْ أينَ لكَ هذا باركَ اللهُ فيك؟ قال: مِنْ قولِهِ عزَّ وجل: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾، قلتُ له: أي بُنَيَّ إني أراكَ حكيمًا فعِظنِي وأوجِز، فأنشأَ يقول:
أرى الدُّنيـا تُجهَّزُ بانطـلاقِ … ُشمّرةً على قـدَمٍ و سـاقِ
فـلا الدُّنيـا بباقيـةٍ لِحـيٍّ … و لا حيٌّ على الدُّنيـا ببـاقي
كأنَّ الْموتَ و الْحَدثـانِ فيها … إلَى نفسِ الفتَى فرسا سبـاقِ
فقامَ رضي الله عنه ثم رمَقَ السَّماءَ بعينِهِ وأشارَ إليها بكفِّهِ ودموعُهُ تنحَدِرُ على خدَّيهِ وهو يقول: يا مَنْ إليه المُبتَهل يا مَنْ عليه المُتَّكَل، قال: فلمّا أتمَّ كلامَهُ خرَّ مَغشِيًّا عليه فرفعتُ رأسَهُ إلى حِجري ونفضتُ الترابَ عن وجهِهِ بكُمّي فلمَّا أفاقَ قلتُ له: أي بُنَيَّ ما نزَلَ بك وأنتَ صبِيٌّ صغير لَم يُكتَب عليكَ ذنبٌ؟ قال: إليكَ عنّي إني رأيتُ والدتِي توقِدُ النارَ بالحطَبِ الكبارِ فلا يتَّقِدُ لَها إلا بالصّغارِ وأنا أخشى أن أكونَ مِمَّن أبلُغُ على الحرام وموتِي على الحرام (يخاف على أي حالٍ يبلغ، ليس لأن عليه معصية قبل البلوغ.). فوقعَ الرَّجُلُ على الأرضِ مَغشيًّا عليه وانصَرفَ الصبِيّ، فلما أفقتُ نظرتُ إلى الصُّبيان فلَم أرَهُ معهم فقلتُ لهم: مَنْ يكونُ ذلكَ الغُلام؟ قالوا: ما عرَفتَهُ؟! قلتُ: لا، قالوا: ذلكَ مِنْ أولادِ الحُسينِ بنِ عليّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنهم، فقلتُ: قد عَجِبتُ مِنْ أينَ تكونُ هذهِ الثَّمَرَةُ إلا مِنْ تلكَ الشَّجرة. ا.هـ. نفعنا الله تعالى به وبآبائهِ ونفعنا الله بعبادهِ الصالحين والحمدُ لله ربّ العالمين.
مِنْ كلامِ الإمامِ الرفاعيّ رضي الله عنه:
أي سادة لا تُضيّعوا أوقاتَكُم بِمَا ليسَ لكُم بهِ راحة فمَا مضَى نَفَسٌ إلا وهو مَعدودٌ عليكُم، إحفظوا أوقاتَكُم فإنَّ الوقتَ مِنْ أعزّ الأشياء وكذلكَ القَلب فإذا أهملتُم الوقتَ وضيَّعتُمُ القلبَ فقد ذَهبَت مِنكُم الفوائد، واعلموا أنَّ الذُّنوبَ تُعمِي القلوبَ وتُسَوِّدُهَا وتَسُوؤُها وتُمرِضُها، إذا أحبَّ اللهُ عبدًا بصَّرَهُ بعُيوبِ نفسِهِ وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا جَعَلَ في قلبِهِ الرَّأفَةَ والشّفَقَةَ وعَوَّدَ كفَّهُ السَّخاء وقلبَهُ الرَّأفَة ونفسَهُ السَّماحَة، العارف فرَحهُ قليل وبُكاؤهُ طويل، العارِف إذا أرادَ أنْ يتكلَّمَ بكلامٍ تفَكَّرَ فيه قبلَ أن يُخرِجَهُ مِنْ فِيه، فإنْ رأى فيهِ صلاحًا أخرَجَهُ وإلا ضَمَّ فمَهُ عليه.
أي أخي؛ عليكَ بِمُلازَمَةِ الشَّرعِ بأمرِ الظَّاهِرِ والبَاطِنِ وبِحِفْظِ القَلْبِ مِنْ نِسيَانِ ذِكْرِ الله وبِخِدمَةِ الفُقراءِ والغُرباء وبادِر دائمًا بالسُّرعةِ للعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غيرِ كَسَلٍ ولا مَلَل، سِلّّم في جميعِ أحوالِكِ لله وإيـَّاكَ مِنْ كَسْرِ خواطِرِ الفُقَراء، وصِلِ الرَّحم وأكرِم الأقارِب واعفُ عمَّنْ ظلَمَك وتواضَع لِمَن تكبَّرَ عليك، وأكثِر مِنْ زيارَةِ الفُقراء وزيارةِ القبور، ولَيّن كلامَكَ للخَلْقِ وقُمْ بقضَاءِ حوائجِ اليتَامى وبادِر لِخدمَةِ الأرامِل، واجعَل الإخلاصَ رفيقَكَ في سائِرِ الأقوالِ والأفعال، واجتهِد لِهدايةِ الخلقِ إلى طريقِ الحقّ، وقُمْ بنصيحَةِ الإخوان وألّف بينَ قلوبِهم، وأكثِر مِنْ الصَّلواتِ على الرّسولِ الأكرَم صلى الله عليه وسلم، وإن تَحرَّكت نفسُكَ بالشَّهوَةِ أو بالكِبْر فصُمْ تطوّعًا لله واجلِسْ في بيتِكَ ولا تُكثِرِ الخروجَ للأسواق وأخلِصْ للهِ في السرّ والجهَر، واجعَل عمَلَكَ في الدُّنيا عمَلاً للآخرة، وإيـَّاكَ والاشتِغالَ بِما لا يَعنِيكَ مِنَ الكلامِ والأعمَالِ وغيرِها وارجِع بنَفسِكَ عن طريقِ الغَفلَةِ وادخُل مِنْ بابِ اليقَظَةِ وقِفْ بِمَيدانِ الذلِّ والانكسَار واخرُج مِنْ مقَامِ العَظَمَةِ والاستِكْبَار فإنكَ مِنْ مُضْغَةٍ ابتِداؤك وجيفَةٌ انتهاؤك فقِف بينَ الابتداءِ والانتهاءِ بِما يليقُ لِمَقامِها، وإيـَّاك يا ولَدي مِنَ الحسَد واعلَم بأنَّ الرّزقَ مَقسوم وأنكَ ميّتٌ ومُحاسَب وكمَا أنَّ لكَ عَينًا فلِغيرِكَ عُيون، نظرُكَ فيكَ يكفيك، فحاسِبْ نفسَكَ في كُلّ يومٍ فإنَّ مَنْ لَم يكُن لهُ مِنْ نفسِهِ واعِظ لَمْ تنفعهُ المواعظ
والمرءُ إنْ كان عاقلا ورعا يشغلُه عن عيوبهم ورعُه
كما العليلُ السّقيم يشغله عن وجع الناس كلّهم وجعُه
2/88 من مناقب الشافعي للبيهقي
روى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمه الله أن الشافعي بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مات له ابن فجزع عليه عبد الرحمن جزعًا شديدًا، فبعث إليه الشافعي رحمه الله: يا أخي عزّ نفسك بما تـَعَزّى به غيرُك، واستقبِحُ مِن فِعلِك ما تستقبحُه من فعل غيرك. واعلم أن أمضّ المصائب فقدُ سرورٍ وحِرمانُ أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرًا، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجرًا، وكتب إليه:
فما المُعَزّى بباقٍ بعد ميتهِ ~ ولا المعزي ولو عاشا إلى حينِ