أقوال الأئمة في تكفير المجسمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الله بائنٌ مِن خَلقِه (أي لا يُشبهُهم)
لْيُحْذَر مِن قَولِ بعضِ الشّافِعيّةِ إنّ الذي يَعتقِدُ أنّ اللهَ في جِهةِ فَوقٍ لا يَكفُر فَإنَّ هَذا مخَالِفٌ لما قَالَهُ الإمامُ الشّافِعيّ رضيَ اللهُ عنه وأكَابِرُ أصحَابِه وهوَ قولُ أَبي حَنيفَة وأحمدَ بنِ حَنبلٍ ومَالك بل كُلّ أئِمّةِ أهلِ السُّنّة ،فَقد نَقلَ ابنُ حَجرٍ الهيتَميُّ في كتابِه المنهَاج القَويم عن الأئِمّة تَكفِيرَهُم للمُجَسِّم فقَالَ في ص 144ما نَصُّه:واعلَم أنّ القَرافيَّ وغَيرَه حكَوا عن الشّافِعيّ ومَالكٍ وأحمدَ وأبي حَنيفَة رضيَ اللهُ عَنهُم القَولَ بكُفرِ القَائِلينَ بالجِهةِ والتّجسِيم وهُم حَقِيقُونَ بذَلكَ”اهـ.
وكَذلكَ أَحمدُ بنُ حَنبَل قالَ:مَن قَالَ اللهُ جِسمٌ لا كالأجسَام كفَر”
وقَد نَقَل الحافظُ تقِيّ الدّين السّبكي أنّ الأئِمّةَ الأربعَة قَالُوا بتَكفِيرِ مَن نَسَبَ الجهَةَ إلى اللهِ.
فَلا عِبرَةَ بكَلامِ بعضِ الشّافِعِيّينَ الذينَ قَالُوا لا يَكفُر مُعتَقدُ الجهةِ للهِ ، فإنَّ كَلامَهُم خَالَفَ كَلامَ إمَامِهم ،مِن ذَلكَ كِتابُ القَواعِد المنسُوب لعِزّ الدّينِ بنِ عبد السّلام، وغيره مِن مُتَأخّرِي الشّافِعية لأنّ القَول بأنّ اللهَ في جِهةِ كَذا تجسِيمٌ للهِ، لأنّ الذي يتَحيَّز في جِهةٍ جِسمٌ إما كثيفٌ وإمّا لطِيف، الشّمسُ والقَمر والنّجُوم والعَرشُ متَحيّزَاتٌ في جِهة فوقٍ وهِي أجسَامٌ.وقد قال الطّحاويُّ وهوَ منَ السّلَف (فإنّه وُلد سنة إحدى وثلاثينَ بعدَ المائتَين،وكلّ مَن كان ضِمنَ الثّلاثمائةِ سنةٍ الأولى باعتِبار الهجرة فهوَ منَ السّلَف)قال في كتابه:هَذا ذِكرُ بَيانِ عَقِيدةِ أهلِ السُنّةِ والجمَاعةِ على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان وصاحبيه، ثم قال :ومَن وصَف الله بمعنًى مِن مَعاني البَشر فَقد كفَر”.
فمِن معَاني البشَر التّحيّز في جِهةٍ والحركةُ والسُّكُون والرّاحَة والقَلقُ والانزعَاجُ والتّغيُّر مِن حَالٍ إلى حَالٍ والجلُوسُ، فإنّ الجلُوسَ لا يكونُ إلا مِن جِسمٍ مُركَّبٍ مِنْ نِصْفٍ أَعلَى ونِصْفٍ أسفَلَ، وقَد قَال الشّافعيُّ رضيَ اللهُ عَنه:مَن اعتَقدَ أنّ اللهَ جَالسٌ عَلى العَرشِ كَفَر”حَكاهُ الإمامُ نجمُ الدّينِ بنُ الرِّفعَة في كِتابِه كِفاية النّبِيه في شَرح التّنبِيه نَقلا عن القَاضِي حُسَين.
ومِثلُه نقَلَ ابنُ المُعَلِّم القرشى فَفِي كِتاب نجم المُهتَدِي ورَجْم المعتَدِي لابنِ المعَلِّم القُرَشِيّ ص 551 ما نصُّه:وهَذا مُنتَظِمٌ مَن كُفرُهُ مجمَعٌ عَليهِ ومَن كَفّرنَاهُ مِنْ أَهلِ القِبْلَةِ كالقَائِلينَ بخَلقِ القُرءانِ وبأنّهُ لا يَعلَمُ المَعدُومَاتِ قَبلَ وجُودِهَا ومَنْ لا يؤمِنُ بالقَدرِ وكَذَا مَن يَعتَقِدُ أنّ اللهَ جَالِسٌ عَلى العَرشِ، كَما حَكاهُ القَاضِي حُسَين عن نَصِّ الشّافِعيّ“.
وفي ص588 ما نَصُّه:عن عَليّ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ سَيَرجِعُ قَومٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ عِندَ اقتِرَابِ السّاعَةِ كُفّارًا قَالَ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ المؤمنينَ كُفرُهُم بماذَا أَبِالإحْدَاثِ أَم بِالإنْكَارِ فَقالَ بل بالإنكَارِ يُنْكِرُونَ خَالِقَهُم فيَصِفُونَه بالجِسمِ والأَعضَاء”.
والقَاضِي حُسَين مِن كِبَار الشّافِعيّة كَان يُلَقَّبُ حَبْرَ الأُمّةِ كَما كانَ عَبدُ اللهِ بنُ عَبّاس رضيَ اللهُ عَنهُمَا يلقب بذلك،وهوَ مِن الطّبقَةِ التي تَلِي الإمامَ الشّافِعيَّ وهُمُ الذينَ يُقَالُ لهُم أَصحَابُ الوُجُوه .
وفي كتابِ مختَصر الإفاداتِ لمحمّد بنِ بَدر الدّين بنِ بَلْبَان الدِّمَشقِيّ الحَنبَليّ ص489 ما نَصُّه:ويجبُ الجَزمُ بِأنَّهُ سُبحَانَهُ وتَعالى ليسَ بجَوهَرٍ ولا جِسمٍ ولا عَرَضٍ ،لا تحُلُّهُ الحَوادِثُ ولا يحُلُّ في حَادثٍ ولا يَنحَصِرُ فيه،فمَن اعتقَدَ أو قال إنّ اللهَ بذَاتِه في كُلِّ مَكانٍ أو في مَكانٍ فكَافرٌ.
فيَجبُ الجَزمُ بأنّه سُبحَانَه بائنٌ مِن خَلقِه(أي لا يُشبهُهم)،فاللهُ تعالى كانَ ولا مكَانَ ثم خلَقَ المكَان وهوَ كَما كانَ قَبلَ خَلقِ المكَانِ، ولا يُعرَفُ بالحَواسّ ولا يُقَاسُ بالنّاسِ ولا مدخَل في ذاتِه وصِفاتِه للقِياس، لم يتّخِذ صَاحِبةً ولا ولَدًا فهوَ الغَنيُّ عن كلِّ شَىءٍ ولا يَستَغني عَنه شَىءٌ ولا يُشبِهُ شَيئًا ولا يُشبِهُه شَىءٌ فمَن شَبّهَه بشَىءٍ مِن خَلقِه فقَد كفَر كمَن اعتَقدَه جِسمًا أو قالَ إنّه جِسمٌ لا كالأجسام،فلا تَبلُغه سبحانَه الأوهامُ ولا تُدرِكُه الأفهَام (أي لا تُحِيطُ به تَصَوُّراتُ العِباد)ولا تُضرَبُ لهُ الأمثالُ(أى لا يشبّه بخلقه .
وكلُّ مَا يحُلُّ بمَكَانٍ أو جِهَةٍ فَهُوَ جِسْمٌ إمّا كَثِيفٌ وإمّا لَطِيفٌ وكُلُّ ذَلكَ مخلُوقٌ قالَ اللهُ تَعالى: (( الحَمدُ للهِ الذي خَلقَ السّمَواتِ والأرضَ وجَعلَ الظُّلُماتِ والنُّور ))”دَلّتِ الآيةُ على أنّ الجِسمَ الكثيفَ كالسّمواتِ والأرض ومَا في مَعناهُما، والجسمَ اللطيفَ كالظُّلُمَاتِ والنُّور وما في مَعناهُما حَادثٌ مخلُوقٌ ، فمَن جَعلَ اللهَ جِسمًا لطِيفًا أو كَثيفًا فَقد شبّهَهُ بخَلقِهِ فَهُو مُشَبّهٌ،ولا يُعذَر مَن يَعتَقِدُ أن اللهَ في جِهَة فَوق بجَهلِه لأنّه خَالَفَ مُقتَضَى العَقلِ وخَالفَ النّصّ القُرءانيّ: (( ليسَ كمِثلِه شَىء ))”
فلا يُقالُ إنّ العامّيَّ يَصعُب علَيه عِلمٌ بموجُودٍ ليسَ في جِهَةٍ، لأنّ العَقلَ يَدُلُّ على أنَّ اللهَ ليسَ مُتَحيِّزا فَلا عِبرَة بما فى كتابِ القَواعِد المنسُوبِ لابنِ عبدِ السّلام أنّ العامِيّ لا يُكفَّر باعتقادِه أنّ اللهَ في جِهةِ فَوق.
إنّ ابنَ عبدِ السّلام مِنَ الشّافِعيةِ المتَأخِّرينَ ليسَ مِنْ أَصحَابِ الوُجوهِ ولَعلّ هَذا القَولَ مَدسُوسٌ في كتابِه لَيسَ مِنه،ثمّ إنّ المتَحَيِّزَ لهُ مِقدَارٌ وكُلّ شَىءٍ لهُ مِقدَارٌ فَهُوَ مخلُوقٌ قال الله تعالى: (( وكُلُّ شَىءٍ عِندَه بمقدَار ))”اللهُ تَعالى جَعَل لحبّةِ الخَردَل مِقدَارًا كمَا جَعلَ لما فَوقَها بكِبَرِ الحَجْم مَقادِيرَ مختَلِفَة.