الإيمان بعذاب القبر وسؤاله
قال الله تعالى : ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سورة غافر].
وقال تعالى:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سورة طه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول. فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إلـه إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك لتقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين ذراعًا13 ويُنوَّر له فيه فيقال له: نم، فينام كنوم العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك فإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك».
وقد سُمّي الملكان منكرًا ونكيرًا لأنّ الذي يراهُمَا يفزعُ منهما، وهما اثنانِ أو يكون هناكَ جماعة كلُّ واحدٍ منهم يسمَّى منكرًا وجماعةٌ كلُّ واحدٍ منهم اسمه نكيرٌ فيأتي إلى كلّ ميّتٍ اثنان منهم أحدُهما من هذا الفريقِ والآخرُ من ذاك الفريق، ويحتَمِلُ أن يعطيَ الله لهؤلاءِ أشباحًا فيحضران إلى كلّ ميّتٍ بشبحينِ إمَّا بالشَّبحِ الأصليّ وإمَّا بالشَّبحِ الفرعيّ. قال الحليمي15 : إن الأشبه أن يكون ملائكة السؤال جماعة كثيرة يسمى بعضهم منكرًا وبعضهم نكيرًا فيبعث إلى كل ميت اثنان منهم اهـ، وكذلك عزرائيلُ يحتَمِلُ أنّه يتطوَّرُ إلى أشباحٍ كثيرةٍ ويقبضُ هذه الأرواحَ الكثيرةَ فلو أرادَ أن يقبِضَ مائة ألفِ نفسٍ في ساعة واحدة يستطيعُ أن يحضرَ ويقبضَ هؤلاءِ الأرواحَ، ثم يتناولُ منهُ الملائكةُ إمَّا ملائكةُ الرحمةِ وإمَّا ملائكةُ العذابِ16 ولا يتركونَ الروحَ في يدِ عزرائيلَ بعدما يقبضها طرفةَ عينٍ فيذهبونَ بها إلى السماءِ إن كانت الروحُ مؤمنةً، وإن كانت الروح كافرةً فإلى الأرضِ السّابعةِ بعد أن يرفعوها إلى الجوّ ويمروا بجمع من الملائكة فيجدوا لهذه الروح رائحة خبيثة فيقولون: روح من هذه؟ فيقولون: روح فلان ثم لا يفتح لها باب السماء فتطرح وتؤخذ إلى سجين17 .
وما جاء في الحديث أن منكرًا ونكيرًا يقولان للمقبورِ «ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ محمد» أي في محمّدٍ صلى الله عليه وسلم يسمّيان الرسولَ باسمه من غير أن يكون الرّسولُ شاهدًا حاضرًا للسؤالِ. بعضُ أهلِ الغُلو يدّعونَ أنَّ الرسولَ بذاتِهِ يحضُرُ يكون شاهدًا وهذا لا أساسَ له إنما هي إشارةٌ إلى المعهودِ ذِهنًا، فيقولُ الرّجلُ ما كانَ يقولُهُ قبلَ الموتِ، المسلمُ قبلَ الموتِ كانَ يقولُ «عبدُ الله ورسولُهُ» فيقولُ ذلكَ ويَقرِنُهُ بالشّهادةِ فيقول «أشهدُ أن لا إلـهَ إلا الله وأشهدُ أنّ محمّدًا رسولُ الله»، الله تعالى يلهمهُ ويقدرهُ على الجوابِ، كلُّ مسلمٍ يجيبُ بذلكَ إنّما الذي لا يستطيعُ الجوابَ هو الذي يُنكِرُ ويجزمُ بنفي رسالةِ سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أو مات على الشك فيها، الكافرُ المُعلِنُ والمنافِقُ كلاهما يقولانِ: كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ.
وهذا النعيم للمؤمن التقي وهو الذي يؤدي الفرائض ويجتنب المعاصي وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: «الدنيا سجن المؤمن وسَنَتُهُ فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسَّنةَ» حديث صحيح أخرجه ابن حبان19 ، يعني المؤمن الكامل.
————————————–
1 ) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز: باب عذاب القبر في الغيبة والبول، ومسلم في صحيحه: كتاب الطهارة: باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، وأبو داود في سننه: كتاب الطهارة: باب الاستبراء من البول، والترمذي في سننه: كتاب أبواب الطهارة: باب ما جاء في التشديد في البول، والنسائي في سننه: كتاب الطهارة: باب التنزه عن البول.
2 ) ضعفه الذهبي في السير (1/295) فقال: «هذا منقطع». والحديث رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/329) من رواية أبي معشر عن سعيد المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3 ) أورده ابن حجر في المطالب العالية (4/363) وعزاه لأبي يعلى وقال: «إسناده صحيح».
4 ) سنن الترمذي: كتاب الجنائز: باب ما جاء في عذاب القبر، وصححه ابن حبان انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (5/48).
5 ) توفي يوم الخندق متأثرًا بجرحه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الصلاة: باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم.
6 ) سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد: باب ما جاء في ثواب الشهيد، سنن النسائي: كتاب الجنائز: باب أرواح المؤمنين.
7 ) وهو حديث طويل فيه ويعاد الروح إلى جسده.
8 ) الاستذكار (1/234)، العاقبة (ص/118)، إتحاف السادة المتقين (10/33).
9 ) حياة الأنبياء بعد وفاتهم (ص/27 – 28).
10 ) فتح الباري (6/487).
11 ) وأما غيرهم من الصالحين فقد يحصل لبعضهم لكنه ليس عامًا كما حصل للتابعي الجليل ثابت البناني فقد شوهد في قبره بعد موته وهو يصلي نقل ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه «أهوال القبور» (ص/36) عن أبي نعيم.
12 ) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في عذاب القبر، ومسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.
13 ) أي طوله سبعون وعرضه سبعون وذلك بذراع اليد وهي شبران.
14 ) رواه ابن حبان في صحيحه: كتاب الجنائز: فصل في أحوال الميت في، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (5/47 و48).
15 ) المنهاج في شعب الإيمان (1/489).
16 ) ملائكةُ الرحمةِ منظرُهُم جميلٌ أمّا ملائكةُ العذابِ فمنظرُهُم مخيفٌ.
17 ) مسند أحمد (4/287 – 288).
18 ) دلائل النبوة (6/53).
19 ) رواه ابن حبان في صحيحه: كتاب الرقائق: باب الفقر والزهد والقناعة، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (2/38).
20 ) إتحاف السادة المتقين (10/387).
21 ) أخرجه مالك في الموطإ: كتاب الجنائز: باب جامع الجنائز، والنسائي في سننه: كتاب الجنائز: باب أرواح المؤمنين، وأحمد في مسنده (3/455).
22 ) أخرجه أحمد في مسنده (3/455 و456)، والطبراني في المعجم الكبير (19/64) كلاهما بنحوه.