الالتزام بالجماعة وتوحيد الصف ونبذ الفرقة
الحمد لله مؤلفِ القلوب. والصلاة والسلام على سيدنا محمد طبيب القلوبِ، وعلى ءاله وصحبه وتابعيه مصابيحِ الدروب. الحمد لله رب العالمين. الحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة. ما أنعم الله تعالى على عباده بنعمة أعظم من نعمة الإسلام. ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله الطيبين الطاهرين. أما بعد، عبادَ الله، اتقوا الله.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّـِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مّـِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّـِنُ اللهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ (ءال عمران ١٠٣).
لمَّا قدِم سيدُنا عمرُ بن الخطاب من المدينة إلى بلاد الشام لأجل أن يصالح نصارَى بيت المقدس على أن يكونوا تحت سلطته مع دفع الجزية، ووصل إلى أرض يقال لها الجابية قرب دمشق قام فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قام فينا خطيبًا كقيامى فيكم فقال: “أُوصيكم بأصحابى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ثم يفشو الكذب. ألا لا يَخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثَهما الشيطانُ. عليكم بالجماعة. وإياكم والفُرقةَ، فإن الشيطانَ مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. فمن أراد بُحبوحةَ الجنة فليلزم الجماعة.” رواه الترمذىّ وغيرُه بالأسانيد الصحيحة.
فى الحديث حكم التحذير من خلوة الرجل الواحد بالمرأة الواحدة. وفى هذا حكمة كبيرة لأن الشيطان كما أشار الرسول إذا اختلى رجل بامرأة يكون تأثيره فى إيقاعهما فى المعصية فى الفاحشة أشدَّ مما إذا لم يكونا منفردين. إذا كانا مع غيرهما تأثيره ضعيف. أما إذا كانا منفردين فتأثيره يقوى. ومن الشواهد على ذلك: كان مسلم من الأمم الماضية أراد أن يتجرد للعبادة فاعتزل الناس. وصار له شهرة بين الناس فلان العابدُ. وأراد الشيطان أن يفتنه فضرب بنتًا فمرضت. ثم تكلم هو بأن يأخذوها إلى هذا العابد المعتزل الذى اعتزل الناس للعبادة. فأخذوها ووضعوها عنده. فمكثت مدة عنده والأهل مطمئنون على أنها لا تصاب من قِبَلِه بسوء. وفى طول مكثها عنده مُختَلِيَيْنِ، الشيطان أثَّر على العابد، فتحركت شهوته. فوقع عليها ثم حملت منه. ثم لما ظهر الحمْلُ ظهر له الشيطان وقال له : الآن إن علم أهلها بها يقتلونك. فقال له: ما الحيلة؟ قال: تسجد لى. ففعل. ثم ما وَفَى بقوله. ثم علموا أهلها بالأمر فعذَّبوه. هذا العابد سبب وقوعه وتغلُّب الشهوة عليه خَلْوَتُه بهذه البنت هذه المدةَ الواسعة. الشرع لا ينهى عن شىء إلا لحكمة ولا يأمر بشىء إلا لحكمة، لكن أكثرُ الناس لا يفهمون هذه الحكمة.
وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة التى جاءت فى الحث على لزوم عقيدة جمهور المسلمين. وقوله عليه الصلاة والسلام: “أُوصيكم بأصحابى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.” معناه أن أفضلَ أمَّتِى أهلُ هذه القرون الثلاثة أى المائةِ الأولَى ثم المائةِ الثانية ثم المائةِ الثالثة. فالرسول صلى الله عليه وسلّم يُبيّـِن أهميةَ اتّباع الصحابة لأنهم هم الذين نقلوا الدين إلى مَن بعدَهم. لولاهم ما عرفنا ما هو دين الله عز وجلّ. وهم الذين نقلوا إلينا القرءانَ. وهم الذين شهدوا الوحىَ والتنزيلَ أى كانوا حاضرين لما كان الوحىُ ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهم الذين نقلوا إلينا أفعالَه وأقوالَه. فهم أعرف وأدرَى بمعانى كتاب الله وبمعانى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأخبر صلى الله عليه وسلّم أنه يفشو الكذبُ بعد ذلك، الكذبُ فى أمور الدنيا وفى أمور الدين أيضا. لذلك ظهرت فِرَقٌ باسم الدين انحرفت عما كان عليه الصحابة ومن تبِع الصحابة. منهم هؤلاء الذين يشبهون اللهَ بخلقه. قسم كانوا يقولون: الله نور يتلألأ، وهم يدَّعون الإسلامَ ويرون أنفسَهم أحسنَ المؤمنين. وقسم منهم كانوا يقولون الله جسد قائم على العرش. ثم هؤلاء أيضا بعضهم قالوا ملأ العرش لا يزيد ولا ينقص، وبعضهم قالوا يزيد على العرش. هذه الفرقة ظهرت فى أواخر هذه القرون الثلاثة فى نحو منتصف القرن الثالث أى المائة الثالثة. وفرقة أخرى تكفّـِر المؤمنَ لمجرد عمل المعصية.
وفى الحديث أمر منه صلى الله عليه وسلّم لأمته بالتمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة، العقيدةِ التى علَّمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه ثم هم علَّموها مَن بعدَهم ثم أولئك مَن بعدَهم حتى وصلت بهذا الطريق إلى عصرنا هذا. ولا يزال هذا الاعتقاد الذى كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو ما عليه جمهورُ الأمة أى أغلب الأمة. الرسول صلى الله عليه وسلّم أوصى أمته أن لا يشذوا عن هذا المعتقد. وهذه العقيدة هى إثبات وجود الله تبارك وتعالى الذى لم يسبقه عدم وأن كل شىء سوى الله كان معدوما ثم وُجد. فى الأزل لم يكن سوى الله، لم يكن نور ولا ظلام ،ولا مكان ولا زمان. الزمان والمكان حادثان لم يكونا فى الأزل، وكذلك النور والظلام والهواء. هذا من جملة عقيدة أهل السنة والجماعة، أصل من أصول عقيدتهم. ومن عقيدتهم أن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئا من الأشياء لأنه لو كان يشبه شيئا من العالم لم يكن خالقا للعالم ولكان محتاجا إلى من خلقه، إلى خالق أوجده والله منزه عن ذلك. لذلك عقيدة أهل السنة والجماعة تنزيهُ الله عن مشابهة المخلوقين، تنزيه الله عن المكان وعن الجهة، وعن كل صفات العالم الحركةِ والسكون وغيرِ ذلك.
وقوله عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة. وإياكم والفُرقةَ، فإن الشيطانَ مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. فمن أراد بُحبوحةَ الجنة فليلزم الجماعة” متوافق مع قول الله تبارك وتعالى: ﴿ واعتصِمُوا بحبل الله جميعًا ولا تَفَرَّقُوا ﴾. حبلُ الله هو شريعة الرسول بما احتوت عليه من عقيدة وأحكام. فالله تعالى أمرنا أن نجتمع عليها، على شريعة رسوله فى العقيدة والأحكام، ولا نختلف فى ذلك. وليس الاجتماعُ الذى أمر الله به الاجتماعَ على الضلال. ليس معنى الاجتماعِ أن يداهنَ بعض المسلمين بعضًا على ما يكون فيه أحد الجانبين من الضلال، أى بترك التحذير من ضلالِه. بل هذا ليس مما يوافق دينَ الله تعالى. إنما توحيد الصف هو الاجتماعُ على ما يوافق شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وذلك بالأمر بالمعروف بأن نتآمرَ فيما بيننا بالمعروف ونتناهى عن المنكر. ليس معنى توحيد الصفّ صفّ المسلمين أن يسكتَ بعضُنا لبعضٍ على الباطل ولا نحذّر منه. بل هذا مداهنة وليس من توحيد الصفّ.
مثال على الفرق الضالة الوهابية المشبهة الذين ينسبون إلى الله ما لا يليق به من أوصاف البشر من جسم وأعضاء كرِجل وأذن ومن حركة وسكون. هؤلاء منهجهم وتعاليمهم تكفير المؤمنين. فالوهابىُّ يكفّـِر المسلم لمجرد قوله يا محمد يُعتبر عابدًا لشخص محمد. والصحابةُ رِضوان الله عليهم كانوا يفعلونه وكذلك من جاء بعدهم إلى يومنا هذا. ما كان المسلمون يرونه منكرا. زعيمهم أحمد ابن تيمية الذى يعتبرونه شيخَ الإسلام فى كتابه المسمَّى الكلم الطيب أى أن هذا الكتابَ كلُّ ما فيه شىء حسن يقول: عبد الله بن عمر رضى الله عنهما خدِرت رجلُه أى أصابه شللٌ فى رجله. فقال له بعض الناس: اذكُرْ أحبَّ الناس إليكَ. فقال: يا محمد. فقام فى الحال. صحَّت رجله فى الحال. وعلماء المسلمين قبل ابن تيمية وبعده ذكروه فى مؤلَّفاتهم ومنهم الإمام البخارىّ. فزعيمهم الذى يعتمدونه لأشياءَ فاسدةٍ يقول إن القولَ يا محمد لمن خدِرت رِجلُه شىء مستحسن. لكنَّ الوهابيةَ خالفوه فى هذه القضية التى هى حق، واتَّبعوه فى الباطل. فقولُ يا محمد شىء حسن إن كان قصدُ الشخص التبرُّكَ والاستغاثةَ عند الوقوع فى الضّـِيق والمشاكل وفى غير ذلك لإظهار المحبة والشوق إليه صلى الله عليه وسلّم. وعبد الله بن عمر كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يحبه، وشهد له بأنه صالح أى ولِىٌّ. ومن ذلك ما روى الشيخان قوله صلى الله عليه وسلّم: “نِعمَ الرَّجلُ عبدُ الله”. ومع هذا الوهابيةُ تعتبر من قال يا محمد كافرًا مباحَ الدم.
كيف يكون توحيد الصف مع هؤلاء وهم يستحلُّون دَمَنا؟ كيف نتفق معهم ونسكت لهم على باطلهم ولا نحذر الناسَ منهم؟ هؤلاء كيف يُوَحَّد الصفُّ معهم وهم يعتقدون أن المسلم الذى لا يوافقهم فى تشبيههم وانحرافهم مباحُ الدم؟ السكوت عليهم مداهنة مُهلكة، لا خير فيها فى الدنيا ولا فى الدين.