الشيخ بدر الدين الحسني محدث الديار الشامية الأكبر
الشيخ بدر الدين الحسني محدث الديار الشامية الأكبر – 1
الشيخ بدر الدين الحسني محدث الديار الشامية الأكبر – 2
الشيخ بدر الدين الحسني محدث الديار الشامية الأكبر -3
هو محمد بدر الدين بن يوسف بن بدر الدين بن عبد الرحمان بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المغربي المراكشي السبتي من ذرية الشيخ الجزولي ينتهي نسبه إلى الشيخ الصالح عبد العزيز التباع الذي ينتهي نسبه بدوره إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان رحمه الله تعالى محدث الديار الشامية الأكبر وأستاذ علماء الشام خاصه وشيخهم المعتمد.
ولد الشيخ بدر الدين الحسني في دمشق رضي الله عنه سنة 1267 هجرية في دار والده المجاورة لمدرسة دار الحديث لوالدين تقيين كان أبوه عالمًا شاعرًا، مالكي المذهب قادري الطريقة من سادة المغرب رحل إلى مصر لطلب العلم فأخذ عن أعلامها وعن علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم جاء إلى الشام ليأخذ عن أقطابها، ثم إلى الأستانة ثم إلى فاس وكانت الشام سكناه، وبها درّس وخرّج طلاب العلم الذين برزوا ولمعوا في هذا المجال .
وعكف خلالها على التأليف نهاره وطرفًًا من ليله موليًا علم الحديث اهتمامه، فحفظ الصحيحين مع أسانيدهما، وقيل حفظ كتب الحديث الستة مع المتون الشعرية المختلفة، وكان يعلق على ما يقرأ؛ فترك تعليقات على نحو خمسين كتابًا ورسالة ساعده ذكاءٌ فطري وحافظة عجيبة اهتم بالكتب واقتنائها، ولم يترك علمًا من العلوم المعروفة في الثقافة الإسلامية إلاّ درسه وتوغل فيه.
يلقي دروسًا خاصةً على الطلاب الذين رُبَّما كانوا أكبر منه سنًا
فجمع هنا بين العلم والتعليم.
روى أحد تلامذته قائلا إنه قبل أن يبدأ عزلته
أخذ يُدرس في الجامع الأموي النحو والصرف والبلاغة والفقه وغيرها
وكان قد أُجيز في التدريس ولم يكن نبت في لحييه شعر،
وقد لفتت فصاحته وعلمه أنظار الناس فتركوا حلقات الشيوخ وانصرفوا إليه
فاعتزل خشية إيذاء حلقات العلم وقيل
إنه اعتزل بعد ما منعه أحد الوجهاء عن التدريس لحداثة سنه
وعند انتهاء خلوته سافر إلى حمص سنة 1290 هجرية
فأقبل عليه أهلها إقبالا عظيمًا وقرأ بعضهم عليه ولما عاد إلى دمشق
بدأ دروسه الخاصة المعهودة ثم أخذت هذه الدروس شكلها المنتظم
الذي سارت عليه حتى آخر حياته
وفي زُهاء الخامسة والعشرين من عمره رحل إلى مصر
والتقى بالشيخ الأشمولي رفيق والده،
وقصد الشيخ إبراهيم السقّا وأخذ علم الحديث عنه
واستجازه وفي سنة 1295 هجرية،
تزوّج من السيدة رقية بنت العارف بالله الشيخ محي الدين العاني،
ورزق منها ثمانية أولاد، إبراهيم عصام الدين، الذي جمع العلم والصلاح والذكاء،
والشيخ تاج الدين، وست بنات،
هن أسماء وباهية وعائشة وشفيقة وسلمى وسارة،
نقف هاهنا لنكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله عن صفاته الخلقية والخلقية حتى هذا
الموعد نستودعكم الله تعالى.
بسم الله الرّحمَن الرحيم
. كلامُنا عن الصفاتِ الخَلقيةِ والخُلُقية للعارف بالله
مُحَدِّثِ بلاد الشام الشيخِ بدر الدِّين الحسنيّ رحمَه الله.
كان رحِمَه الله رَبعةً نحيلا أشقرَ الشعر قليلَ شعرِ الوجه
خفيفَ العارضين مستديرَ الوجه، في جَبهتِه ارتفاعٌ من أثرِ السجود،
أزرقَ العينين فيهما حِدّة، وفي وجهه نور وعليه سِمَاءُ المهابةِ والنّجابة،
أبيضَ البشرة ليِّنَها حتى قيلَ في يديه إنّهُما كالحرير لينًا والفِضّةِ بياضا،
حادَّ الذكاء متوقِّدَ الذِّهن قويّ الذاكرة يتذكرُ بسهولة جميع ما مرَّ عليه
من حوادث ومن رأى من الناس على كثرتِهم،
كأنّ ذلك صُقِّرَ في ذاكرتِه وظلَّ كذلك حتى وافاه الأجل،
قويّ البنية لم يَشْكُ مرضًا سوى مرةٍ واحدةٍ في شبابِه أصابَهُ فيها اليرقان،
ومرةًً أخرى قُبيلَ وفاته، ولم يستعملْ نظارة وبقي جهورِيَّ الصوت خفيفَ المِشية،
لم يستعملْ في مشيِه عصا إذا التفت التفتَ جميعا،
يلبسُ من الثيابِ الجيِّدَ النظيف، ولا يلبسُ الزِّيَّ الذي يُميِّزه عن غيره،
يلبس ثوبًا قطنيًّا أبيض مشقوقَ الوسط معلَّمًا بخطوطٍ زُرقٍ
من النوع الذي يسميه الدِمشقيون (الصايا) أو (الديما)،
يتركه مفتوحًا لا يزرُّه عند الرّقبة يضعُ فيها مِنديلا،
ويشدُّ في وسطِهِ نِطاقًا عريضًا من الشال الخفيف العادي
وعلى الثوب جُبَّةٌ من الجوخِ الأسودِ الجيّد
وكلاهما لا يتجاوزُ نِصفَ ساقِه إتباعًا للسُّـنَّةِ الشريفة
ويتعمّمُ بعِمامةٍ كبيرةٍ صفراء مطرّزةٍ تُعرَف في الشام
بالأغباني يكوِّرُها فوق طربوشٍ بدونِ تكلُّف،
ويلبسُ جوربين سميكين أبيضين وبابوجًا أصفر تزينُهُ نظافةٌ واضحة.
وكان ورِعًا شديد الورع،
لا يفتي أحدًا بحكمٍ فقهيٍّ في المعاملات الخاصة إلا في ما ندر،
بل يحيلُ سائلَهُ إلى تلميذٍ من تلامِذتِه، وكان ينهى من يمتدحُه بحضرتِه،
يؤنِسُ الفقراء والمساكين ويزورهم أحيانا
ويسأل عن أحوالِهم ويقفُ لهم ويطلبُ منهم الدعاء،
يزورُ مدارسَ الصغار ويمسحُ رؤوسَ الأيتام ويسألُهم ومعلِّميهم الدعاء
ويكرمُهم في الأعيادِ والمناسبات ويؤنسهم،
ويزور السجون وينصحُ السجناء ويعِظُهُم بالحسنى ويدعو المظلومَ منهم للصبر.
ولتواضِعِه لم يُصلِّ إمامًا قط ويأتَمُّ بأصغرِ تلاميذِه،
يمحو اسمَه عمّا خلَّفَ من كتبٍ وشُروحٍٍ إذا نُشِرَت لينتفعَ بِها الناس،
لا يُحبُّ أن يتصدَّرَ المجالس بل يجلسُ قربَ بابِ الغرفة.
كان رحمَه الله عاليَ الهمة لا يُمَكِّنُ من خدمتِه أحدا
ولم يستعِنْ في حياتِه بأحد ولا بالعصا، يأخذُ نفسَه بالعزائم.
وكان زاهدًا أقبلت عليه الدنيا فنفرَ منها،
تركَ له والدُه ثروةًً حسنة وابتعَدَ عن الوظائفِ والمناصبِ والجاه،
فزهِدَ في زيارةِ إمبراطور روسيا الأخير القيصر نيقولا
واعتذرَ عن دعوةِ السلطان عبد الحميد والسلطان رشاد
فكان لا يزورُ الحكّام بل يزورونَه وكان يتحرَّجُ من قَبول الهدية،
وكان كريمًا يبالغُ في إكرامِ ضيوفِه ويتباسطُ في الكلام معَ البسطاء،
وكانت أسرتُهُ كبارُها وصغارُها تحبُّه وتعظِّمُه وتُطيعُ أوامرَه،
ويصلُ الأرحام لا ينسى أصدقاءَه ولا معارفَه القدامى ورُبّما زارَ غيرَ المسلمين،
ويُكثِرُ التودُّدَ للناس كافة ويُدخِلُ السرورَ إلى قلوبِهم،
ويهتمُّ بأمورِهِم.
كان رحمَه الله طيِّبَ السريرة، حسَنَ الظنِّ بالناس،
يلتمسُ لهم الأعذارَ المختلفة وكان يعاملُ الناسَ كلاًّ بِما يليقُ به ويناسبُه،
حكيمًا في وضعِ الأمورِ في مواضِعِها يُعطي كلَّ مجلسٍ ومُجالِسٍ حقَّه،
وينزِلُهُ مجلسَه، فمع الحكّامِ النصيحةُ والجرأة ومع الفقراءِ التواضعُ والرِّقة،
ومع الوجهاء الحفاوة، ومع الشيوخِ الاحترامُ والإكرام،
ومع الشباب التودُّدُ والتقرُّب،
ومع غير المسلمين اللطفُ وبيانُ محاسنِ الإسلام
وأخلاقِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتِه الكرام.
وكان مُشرقَ الوجهِ دائمًا يبدأ بالتحية ويجاري عاداتِ أهلِ عصرِه ما حَسُنَ منها،
قليلَ المشاركة في الولائمِ والدعوات يعتذرُ عما كان منها للفخرِ،
وكان عارفًا بالله متذَوِّقًا للنفحاتِ الصوفية يغوصُ في مكنوناتِ علم التصوِّفِ بدقّة،
وكان يربِّي مريديهِ بالنظرِ دون الكلام.
عاصرَ الشيخُ بدرُ الدِّين رضيَ الله عنه أواخرَ العهد العثماني والعهدَ الفيصليّ،
وزمَنًا من الانتدابِ الفرنسي،
فكان يسألُ دائمًا عن أحوالِ المواطنين وعن أسعار أقواتِهم وهمومِهم،
وكان العارفُ بالله الشيخُ بدرُ الدِّين الحسنيّ يشجِّعُ العلومَ الحديثة
وهو لهذا يزور المدارس الرسمية ويحضُرُ بعضَ دروسِها في الطبيعيَّات وغيرِها،
ويناقشُ الأساتذةَ ويسألُ الطلاب.
كان رحمَه الله تعالى مرِنًا كلَّ المرونةِ في مناقشاتِه مع الطلاب،
يُصغي لهم ولأرائهِم بإدراكٍ واسع، يكتنفه تحقيقٌ وذهنيةٌ علميةٌ عجيبة،
ومحاكمةٌ منطقيةٌ سديدةٌ متأمِّلة.
درَّسَ رحمَه الله في جامعِ السادات بسوق مدحت باشا،
يفتتحُ الدرسَ بحديثٍ شريفٍ
من صحيحِ البخاريّ ثم يشرحُه ويلمُّ بجوانبِه وبكلِّ ما يتّصلُ به من علوم،
يُلقيهِ بأسلوبٍ عذبٍ جذّاب،
ولما ضاقَ بدرسِه المسجد انتقلَ إلى جامعِ سِنان باشا فكان له درسان مساءَ الأحد
والخميس من كلِّ أسبوعٍ بين العِشاءين،
وفي سنة ألفٍ ومائتين وثمانٍ وتسعين هجرية أوكِلَ
إليه تدريسُ الحديث الشريف في الجامعِ الأموِيّ فأجادَ في هذه الدروس
حتى بلغَ الغاية فملكَ على السامعين نفوسَهم
ولم يتركْ علمًا من العلوم المنقولةِ والمعقولةِ إلا وذكرَ شيئًا منه
غيرَ معتَمِدٍ على كتابٍ ولا ورقة،
ينطِقُ بفصاحةِ لهجة وحسنِ بيان وفي كلام سهلٍ قريبِ المأخذ وصوتٍ جهوريّ،
وكان يخصصُ لطلاب العلم والعلماء دروسًا عامة
يلقيها في دارِه بعدَ المغرب إلى ما بعدَ العشاء بقليل،
يجتمعُ فيها من الحضورِ ما يزيدُ على المائةِ قليلا،
في قاعةٍ أعِدَّت لذلك،
وحينما حجَّ الحجّةَ الأولى سنة ألفٍ وثلاثمائةٍ وثمانية عشرةَ هجرية أخذَ عنه علماءُ
مكّةَ المكرّمة فاجتمعَ عندَه كثيرون وخاصةً من الهنود فدرسوا عليه بعضَ كتبِ الحديث
ولما زارَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حَجّتِه الأخيرة جاءَه الناسُ أفواجا
فلم يبقَ في المدينةِ المنوّرةِ عالِمٌ ولا طالبُ علم إلا أخذَ عنه أو استجازَه.
نقفُ ههنا ونضرِبُ لكم موعدًا جديدًا نتكلّمُ فيه
عن مؤلفاتِ ومأثور أقوالِ الشيخِ بدر الدين الحسنيّ رحمَه الله،
فإلى اللقاء بإذن الله.
لقد تركَ المُحدثُ العارفُ باللهِ الشيخُ بدرُ الدينِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ عددًا من المؤلفات،
عُرِف من أسمائََََََها أربعون كتابًا كانت حصيلة الفترةِ التي اعتزل فيها الناس
وعكف على العبادةِ والعلم ومن كتبه وزياداته وحواشيه:
الأنوارُ الجليلةُ في شرحِ بُردةَِ مديح سيد البرية،
حاشيةٌ على آداب البحثِ والمناظرة حاشيةٌ على أصول محمد نصرِ بنِ الحاجب،
حاشية على تفسير الجلالين، حاشيةٌ على شرحِ الحنفيِ في الوضع،
حاشيةٌ على عقائدِ النسفي، حاشيةٌ على كتابِ عقائدِ العضض،
حاشيةٌ على المطولِ في البلاغة، حاشيةٌ على نخبةِ الفِكَر،
حاشيةٌ على نظمي التلخيص، حاشيةٌ على شرحِ السَنوسيةِ الكُبرى،
رفعُ الأستارِ شرحُ الإظهار، روضُ المعاني لشرحِ عقيدةِ العلامةِ الشيباني،
شرحٌ على الخلاصةِ في الحساب، شرحٌ على رسالةِ الوضع،
شرحٌ على رسالةِ الوليدية، شرحٌ على السُلَّمِ في المنطق،
شرحٌ على السِراجية، شرحٌ على سيرةِ العراقي،
شرحٌ على شذور الذهب، شرحٌ على الشِفا، شرحٌ على الشمائلِِ المحمدية،
شرحٌ على صحيحِ البخاريِ، شرحٌ على الطوالع،
شرحٌ على رسالةِ عصامٍ في البيان، شرحٌ على مُقنِع الأفكار،
شرحٌ على الموافقات للسيوطي، شرحٌ على النُزهة،
شرحٌ على الهياكل، شرحُ القصيدةِ الغراميةِ في المُصطلحات الحديثية،
شرحٌ على لاميةِ الأفعال، شرحٌ على المُلا جامي، شرحٌ على مُغني اللبيب،
الفرائدُ البهية على الفوائدِ الشنشورية،
فيضُ الوهّابِ في موافقاتِ سيدنا عمر ابنِ الخطاب،
غايةُ المرام على شرحِ القطرِ لابنِ هشام، مُعرِب القرءان،
الياقوتةُ الوفية حاشيةٌ على شرحِ الرَحَبية، الدُررُ البهية في شرحِ المنظومةِ البيقونية.
وقد ضاع أكثرُ هذه المُؤَلفات فاحترق بعضُها في الحريقِ الكبيرِ بسوقِ الحميدية
والمناطق المجاورة وبقي بعضُها عند ورثته ومعارفه
وهي مخطوطة لم يُطبعْ منها إلا رسالةٌ واحدة وهي شرحُ العقيدةِ
الغرامية في مُصطلحِ الحديث. توفي رحمه الله تعالى
في الساعةِ التاسعةِ من صباحِ يومِ الجمعة في السابعِ والعشرين من ربيعٍ الأول
سنةَ ألفٍ وثلاثِ مائةٍ وأربعةٍ وخمسين هجرية،
وخرج نعشهُ مُجللاً بغطاءٍ أبيضَ بسيط حسب وصيته،
ومشت دمشقُ وراءه بموكبٍ رسميٍ وشعبي،
فََصُلِّيَ عليه في الجامعِ الأُموي في الساعةِ الرابعةِ والنِصف،
وصُلِّيَ عليه غيرَ مرة ثم قُرِئَت وصيتُه
ولم يصلِ الموكبُ إلى مقبرةِ البابِ الصغير
إلا في الساعةِ السابعةِ مساءٍ لشدةِ الازدِحام.
أما الآن فأوانُ الشروعِ في مأثورِ أقوالِ العارفِ باللهِ الشيخِ بدرِ الدينِ الحسنيِ
باختصار إنّ هذا الزمن ليس زمن ضَحِكٍ أو تَفكُّهٍ بل هو زمنُ جِدٍّ وعمل.
ويقول: أوصيكم بالانكِبابِ على طلبِ العلمِ لصيانتِه من الضياع باحترامِ العلماء.
وقال: التواضعُ أن ترى نفسَكَ دون كلِِّ جليس ومن تواضعه رضي اللهُ عنه أنه
قال: احمَدِ اللهَ تعالى على أنّك لم تكن مثلي. وقال:
إنّ من أقربِ أبواب الوصولِ إلى اللهِ تعالى التواضع.
وقال: إنّ من رأى نفسَه خيرًا من أحد فليس بِِمُتخَلِّصٍ من الكِبر وكلامُه كلُّه عن المؤمنين.
إلى هنا ينتهي برنامجُنا فإلى اللقاء في برامجَ أخرى إن شاء الله.