العدد الثالث
التربية والتطرف
صلة الأرحام
الآيات المحكمات والآيات المتشابهات
حكم الدين
صيدلية القارئ.. الصعتر
التربية والتطرف
ليس بعيداً عن الواقع القولُ إن التربية السيئة تُنتج تصرفات سيئة، وإن وجود خلل في المنهج سينعكس في الممارسة والتطبيق. وهذا أمر يثبته واقع الحال في كثير من المواطن والمواقع، وتثبته الوقائع والمشاهدات اليومية في مختلف المجالات والحقول. فالتربية غير السليمة في البيت سيكون لها انعكاسها السيء على سلوك الولد وتصرفاته مع الأهل أنفسهم، ومع رفاقه وجيرانه وأقربائه.
إن تنشئة الولد على منهج غير حميد، وتعويده على عادات قبيحة مذمومة، أو التغاضي عنه في ذلك، سيجعله يشب على ذلك ويستسهل اقتراف هذه العادات، جهراً وعلانية، بل وأكثر من ذلك سيجعله رفيق سوء يتعلم منه أصحابه الخصال الضارة والعادات القبيحة.
وكذلك الأمر بالنسبة للمدارس والجامعات التي تحمل في طيات برامجها ومقرراتها الدراسية مناهج فاسدة تدعو إلى الإباحية مثلاً، أو تحث على الشك فيما قررته الشريعة الغرَّاء، أو على مخالفة العقيدة الحقة التي يقرها العقل السليم، كل ذلك تحت شعارات مموهة كشعار التجديد والحداثة أو شعار الانفتاح والتقدم. إن تشرب مثل هذا النوع من المناهج في نفوس الطلاب والمتلقفين له سينتج عنه تطبيق واقعي له، ينسجم تمام الانسجام مع أهدافه ومراميه.
من هنا تبرز أهمية معرفة واقع التعليم والتربية في المؤسسات التعليمية، ومعرفة مناهجها وبرامجها، والأساليب والوسائل المتبعة.
فإن حسن المنهج والتربية يعتبر دعامة أساسية للتحصين، وضرورة لا يُستغنى عنها للقضاء على كل “تسربات” الفساد والمجون التي تجتاح بلادنا ومجتمعاتنا، في ظل تآمر إعلامي لا يبرره مطلقاً الطمع في تحقيق خطوات متقدمة في سلم الشهرة والبروز الإعلامي.
وإن من أدلّ الأدلة على دور المنهج في تاريخ الشعوب والأمم ما شهدته الأمة الإسلامية خلال عهودها الذهبية، ولا سيما عهد الخلفاء الراشدين، من تقدم وتفوق وازدهار ونقاء، وإشعاعات حضارية اقتبست أنوارها من منارة المنهج الإسلامي السامي والساطع.
بالنسبة للجماعات المنتظمة وفق برنامج واضح ومنهج محدد، والتي ينضوي تحتها أفرادٌ قلة أو أكثر، وينصاعون لمناهجها ومخططاتها وأوامرها. هذه الجماعات تمارس دوراً لا يقل أهمية في كثير من الأحيان عن دور الأسرة والمدرسة والجامعة، بل إنها تصبح أحياناً المرجع الأول للناشئة والشباب الحالم بالتغيير.
من هنا تكمن خطورة انسياق هذه الجماعات مع الهوى، وسيرها في مسار الانعزال عن المحيط والمجتمع، والانغلاق ضمن نظرة ضيقة لا يستطيع صاحبها النظر أبعد من أنفه، كما تكمن خطورة انتهاج هذه “الجماعات” منهج التطرف ولا سيما إذا كان باسم الدين، وخطورة اتخاذها له دستوراً ونبراساً.
وها هي الأحداث في بعض أرجاء الوطن العربي تكشف لنا أنياب التطرف وشروره وعواقبه التي لن تكون أقل تدميراً مما أحدثه الزلزال الذي ضرب مصر سابقاً.
والغريب العجيب أن بعض المتورطين في أعمال التطرف والإرهاب يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم يقدّمون للإسلام خدمات كبيرة، وانتصارات جليلة، وأنهم إنما يقومون بما تمليه الشريعة، وبما تتطلبه مقتضيات المصلحة الإسلامية. ولا ننسى ولا نغفل أن زعماء هؤلاء المتورطين أناس مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بمخططات استعمارية أو صهيونية يراد منها إشغال الساحة العربية الإسلامية وإلهاؤها، وزيادة حجم الديون الخارجية للدول العربية، وإغراقها في المشاكل الداخلية، وضرب التضامن العربي، وهذا ما يفسّر تصاعد وتيرة الإرهاب واشتداد حدة العنف في بعض الدول العربية.
إن واقعنا العربي والإسلامي يتطلب منا خاصة مع ازدياد التعنت الصهيوني ومحاولات الاستفراد بنا، أن نكون أكثر قرباً وتمسكاً بالمبادئ الإسلامية الراقية، وأكثر محاربة وبُعداً عن التطرف الذي يروق لأهله رؤية الدماء القانية والأشلاء الممزقة في الشارع العربي، تماماً كما يروق ذلك للعدو الصهيوني.
ولكن هناك فرق بين هذه “الجماعات” المتطرفة وبين الدُمَى المتحركة، وهو أن ممارسات هذه “الجماعات” تبكي وتدمّر وتدمي… إنه فرق كبير رغم تشابه الصورة وتقارب الأدوار.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد النبي الأميّ وعلى ءاله الطيبين وصحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فها هو يوم عيد الفطر يوم فرحة المسلم الصائم بفطره قد انقضى موعوداً وواعداً بعودة ثانية، ومبشراً بقدوم يوم عيد الأضحى المبارك. ولئن كان يوم عيد الفطر المبارك قد ولّى، وتلاه عيد الأضحى، فإنّ ما يتركه هذان العيدان في النفوس من مشاعر وأمل بإصلاح النفوس وتهذيبها هو شيء كثير، ولا سيما أنهما يحركان فينا الهمم على زيارة الأهل والأقارب وصلة الأرحام وزيارة موتانا المسلمين في صبيحة يوم مبارك. وكم هو جميل أن يجتمع أفراد الأسرة على طاعة الله تعالى يواسي بعضهم بعضاً، ويفرح البعض لفرح الآخرين فتزداد أواصر الأُلفة والمودة بين القلوب العامرة بالإيمان والمحبة لخصال الخير ومحاسن الأخلاق.
وقد روى الإمام البيهقي في كتاب الآدب الذي ألَّفه في بيان مكارم الأخلاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعقبة بن عامر لما سأله: ما النجاة يا رسول الله، قال «تَصِلُ مَن قَطَعَك وتعطي مَن حَرَمك وتعفو عمّن ظلمك».
ففي يوم العيد تتحرك النفوس المؤمنة الصادقة للزيادة في الإحسان إلى الناس والعمل بمقتضى هذا الحديث ونحوه مما فيه بيان الخصال الحَسنة والأوصاف الحميدة والأخلاق الرفيعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه الخصال الثلاث العظيمة كانت من أوصاف الرسول وأخلاقه.
أما الخصلة الأولى في قوله صلى الله عليه وسلم : «تَصِلُ من قَطَعَك» أي أن للرحم حق الصلة، والرَّحِم هم الأقارب من جهة الأم والأب كالخالات والعمات وأولادهن والأخوال والأعمام وأولادهم. فلا يجوز للمرء أن يقطع من تجب عليه صلته من الأقارب بحيث يشعر بالجفاء.
قال تعالى: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يُوصَل) [سورة الرعد/21]
وقال تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) [سورة النساء/1] أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أي صلوهم ولا تقطعوهم، والصلة الكاملة للرحم هو أن يصل المرء من قطعه من الرحم كما يصل من وصله فلا يقول: “هذا رَحِمي لا يزورني فلا أزوره”، إذ لا يجوز أن يقابل القطيعة بالقطيعة، بل يجب عليه أن يقابل القطيعة بالصلة والإحسان. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من وصل رحمه إذا قطعت». رواه مسلم.
فيُعلم من هذا أن زيارة المسلم لأقاربه الذين قطعوه ليست مَهَانةً ومذلَّة، بل خصلة خير وعمل طاعة يحبه الله، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم».
في هذا الحديث الشريف بيان أهمية صله الأرحام ومرتبتها في الدين، لأن ذلك من حُسْن الخُلُق الذي حضَّ عليه الشرع حضاً بالغاً. وممّا ورد في الحثّ على صلة الرحم أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم مُعَلَّقةٌ بالعرش تقول من وَصَلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» رواه البخاري ومسلم.
ولا يخفى أن من أسباب التفكك والتشرذم في بعض المجتمعات قطع الأرحام بحيث ينقطع الكثيرون عن صلة الرحم ويعللون ذلك بقلوبهم: إن لم يَزُرَني فكيف أزوره؟!
وكم نصادف أُناساً تركوا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخُلُق الحسن وتشبَّهوا بغير المسلمين، وظنوا أن الأدب الحسن ما هم عليه من الاقتفاء والاقتداء بأهل المدنيَّة المزيفة الذين يُحَسِّنون القبيح للناس ويزينون لهم المفاسد ويعيبون على غيرهم الخصال الحميدة التي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها، فترى البعض إذا ما أمرته بصلة الرحم والإحسان إلى الناس، قال: من هو عمي حتى أتنازل لزيارته؟
إن هؤلاء الذين اغتروا ببريق بعض العادات الغربية لم يفطنوا إلى فساد تلك الخصلة الذميمة التي بيّنها الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: (فهل عسيتُم إن تولَّيتم أن تفسدوا فى الأرض وتُقَطَّعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم) [سورة محمد/22-23] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة قاطع» رواه البخاري، أي لا يدخلها مع الأولين إن مات بدون توبة من تلك المعصية، بل يستحق العذاب قبل دخول الجنة، هذا إن لم يعفُ الله عنه ويُسامحه.
أما الخصلة الثانية في قوله صلى الله عليه وسلم : «وتعفو عمن ظلمك». فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (خُذِ العفوَ وأمُرْ بالمعروفِ وأعرِضْ عنِ الجاهلين) [سورة الأعراف/199].
إن تحمل أذى الغير ومعاملتهم بالخلق الحسن هو إحدى وسائل الترقي ونيل الدرجات العُلى، فلنقتف ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه خالقه عزّ وجلّ في محكم التنـزيل (وإنك لعلى خُلُق عظيم) [سورة القلم/4] فلا أدب أحسن من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنَّا نسألك أن تُحسِنَ أخلاقنا كما حسنت خَلْقَنا واجعلنا ممن يصلون أرحامهم يا أرحم الراحمين.
الهِــجرةُ النَّــبَــــويَّة
نقلة نوعية في حياة الدعوة ا لإسلامية
إن الماضي صفحات والتاريخ عبر وعظات، وفي صفحات الماضي وعِبَر التاريخ المجيد السراجُ الذي يكشف للمستبصر الرؤية ويهديه سواء السبيل، وهجرة الرسول المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات. لقد كانت الهجرة إيذاناً بأن صولة الباطل مهما عظمت، وقوته مهما بلغت، فمصيرها الزوال، ونهايتها إلى الفشل والبوار، وإيذاناً بأن الحق لا بد له من يوم يُحطّم فيه الأغلال، وتعلو فيه رايته وترتفع كلمته، وكيف لا، والله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالنصر المبين، وجعل لهم من الشدة فرجاً، ومن العسر يُسراً، ومن الضيق سعة. قال الله تعالى: (إنّا لننصر رسلَنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) سورة [غافر/51].
الهجرة نقطة تحول
كانت الهجرة النبوية المباركة نقلة نوعية في تاريخ الجزيرة العربية ونقطة تحول في حياة الدعوة الإسلامية إلا أنه سبق تلك الهجرة الجسدية هجرة روحية عظيمة تمثلت بقبول المهتدين للدعوة المحمدية ودخولهم في دين الله وثبوتهم فيه على الرغم من الاضطهاد والتنكيل وكافة المحاولات لصرفهم عن دعوة الحق بعد هذه الهجرة من الضلال إلى الإيمان، ومن ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، وبعد هجرة الأرواح التي تسامت عن التعلق بالدنيا وهجرت كل ما ألفت من عادات بغيضة وتقاليد بالية جاءت هجرة الصحابة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة المنورة لتشكل قمة العطاء والاستعداد للتضحية بكل شيء من مال وأهل وأرض فى سبيل الله. فالرسول عليه الصلاة والسلام لما بعث أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، فكان يدعو إلى الله جهراً ويمر بين العرب المشركين حين يجتمعون في مكة من نواحٍ شتى يقول: «أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» ودعا إلى العدل والإحسان ومكارم الأخلاق ونهى عن المنكر والبغي فآمن به بعض الناس كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وغيرهم، وبقي على الكفر أكثر الناس، وصاروا يؤذونه وأصحابه، فلما أشتد عليهم الأذى هاجر بعض أصحاب النبي إلى الحبشة الهجرة الأولى، وكانوا نحو ثمانين، منهم عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي في الموسم نفراً من أهل يثرب من قبيلتي الأوس والخزرج فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا ثم ازداد عددهم فى العام التالي، فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير يعلمان الناس من أسلم منهم القرءان، ويدعوان من لم يسلم إلى الإسلام، فلما كثر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب أمر الله المسلمين بالهجرة إليها. قال الله تعالى: (إلاَّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) سورة التوبة/40.
وجاءت هجرة الرسول بأمر من ربه عز وجل لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد، وبداية فجر مشرق، وعهد مجيد. ومن هناك من يثرب انبثق نور الدعوة قوياً وضاء فبدد الظلمات وجاز ما اعترضه من عقبات، وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل والركبان وتبشر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان حتى أتم الله على المسلمين النعمة وجاب عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأذّن مؤذن الحق في إباء وعزة: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وزهق الباطل.
الحكمة من الهجرة
لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم هرباً من المشركين ولا يأساً من واقع الحال، ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم حباً في الشهرة والجاه والسلطان، فقد ذهب إليه أشراف مكة وساداتها وقالوا له: “إن كنت تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد مُلكاً ملّكناك إياه” ولكن النبي العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا والجاه والسلطان.
ولم تكن هجرته التماساً للهدوء وطلباً للراحة، فهو يعلم يقيناً أنها دعوة حق ورسالة هدى لا بد أن يؤديها كما أمره الله وهو لهذا يقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن التعرض لقومه وما يعبدون: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله سبحانه وتعالى أو أهلك دونه».
قصة هجرة عمر بن الخطاب
لقد كان لهجرة الفاروق الذي فرّق بين الحق والباطل قصة شأنها شأن كل قصصه وأخباره العظيمة التي تدل على حبه لدين الله، واستبساله في سبيل الله، واستعداده للموت في سبيل نصرة الحق. ذلك أنه عندما جاء دوره قبل هجرة الرسول بسبعة أيام خرج مهاجراً، وخرج معه أربعون من المستضعفين جمعهم عمر في وضح النهار، وامتشق سيفه وجاء “دار الندوة” حيث كانت قريش، قال بصوت جهير: “يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمه أو تترمل امرأته أو يُيَتَّم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب”. فما تجرأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة، لأنهم يعلمون أنه ذو بأس وقوة، وأنه إذا قال فعل.
خروج النبي وأبي بكر الصديق
وكان مشركو قريش قد أجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعوا من كل قبيلة رجلاً واحداً حتى يتفرق دمه في القبائل فلا تستطيع عشيرته محاربة قومهم جميعاً فيرضون بالدية. ولكن الله حذر عبده ورسوله من كيدهم، فأتى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم وأنزل الله تعالى: (وإذ يمكرُ بك الذين كفروا ليثبتوك أو ليقتلوك أو يُخرجوك ويَمكُرون ويَمكُر الله والله خيرُ الماكرين).
أَعْلَم الله نبيَّه بما خطط له المشركون وأذِن له بالهجرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ومعه حفنة تراب، فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه وهو يقرأ (يْس والقرءان الحكيم) إلى قوله (فأغشينْهم فهم لا يبصرون). فلما أصبحوا فإذا هم بعلي بن أبي طالب فسألوه عن النبي فأخبرهم أنه خرج فركبوا في كل وجه يطلبونه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار مع أبي بكر حتى وصلا إلى غار ثور فدخلاه وجاءت العنكبوت فنسجت على بابه وجاءت حمامة فباضت ورقدت، فلما وصل رجال قريش الغار قال أبو بكر: “يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
قال الله تعالى: (إن الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) [سورة الأنفال].
عندما وصل الرسول العظيم مع صاحبه الصديق أبي بكر إلى يثرب (المدينة المنورة) خرج المؤمنون من أهلها مرحبين واستبشروا بقدومهم وقدوم الأصحاب كل خير، وشرب هؤلاء مع إخوانهم المهاجرين أروع الأمثلة في التضحية والأخوة والتحابب والتباذل في الله. لقد ليّن الله قلوبهم حتى صاروا على قلب رجل واحد، لا حسد ولا ضغينة، مثلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
الصبر والثبات في الكفاح
إن المواعظ المستفادة من الهجرة كثيرة، ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافة أنواع الظلم والاستبداد، للأخ المسلم المحتاج، والوقوف إلى جانب الحق في شجاعة وحزم وصرامة وعزم.
والله تعالى أعلم.
الآيات المحكمات والآيات المتشابهات
قال المحدث الحافظ اللغوي الفقيه الحنفي مرتضى الزبيدي في شرحه المسمى “إتحاف السادة المتقين” نقلاً عن كتاب “التذكرة الشرقية” للقشيري ما نصّه:
وأما قول الله عز وجل: (وما يعلمُ تأويلَهُ إلا اللهُ)، إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أيَّان مُرساها ومتى وقوعها، فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عز وجل، ولهذا قال: (هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله)، أي: هل ينظرون إلا قيام الساعة، وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم. أليس الله يقول (بلسان عربيّ مُبين) فإذاً على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال (بلسانٍ عربىٍّ مُبين) إذ لم يكن معلوماً عندهم، وإلا فأين هذا البيان، وإذا كان بلغة العرب فكيف يدّعي أنه مما لا تعلمه العرب لما كان ذلك الشيء عربياً، فما قولٌ في مقال مآله إلى تكذيب الرب سبحانه. ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شيء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى لكان للقوم أن يقولوا بيّن لنا أولاً من تدعونا إليه وما الذي تقول فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غير متأت ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مسكة من العقل أن قول من يقول: “استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها والقِدَم صفة ذاتية لا يعقل معناها” تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل، وقد وضح الحق لذي عينين، وليت شعري هذا الذي ينكر التأويل يُطْرِد هذا الانكار في كل شيء وفي كل ءاية أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى، فإن امتنع من التأويل أصلاً فقد أبطل الشريعة والعلوم. إذ ما من ءاية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام لأن ثمَّ أشياء لا بد من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع بزعمه، وإن قال يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه فهذا مصير منه إلى أن ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يُعلم، وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم، وسرّ الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يٌدَلّسُون.
2-وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره “جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان” ج 3 ص 174 ما نصه/ قال محمد بن جعفر بن الزبير (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) المحكمات: فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهة لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد.
وذكر القرطبي في تفسيره مثل ذلك عنه في ج4 ص11 ثم قال ابن عطية وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية.
3-وذكر الخازن في تفسيره المسمى “لباب التأويل في معاني التنـزيل” ج1 ص319 ما نصه: هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني القرءان منه ءايات محكمات يعني مبينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه سميت محكمة من الإحكام كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها هن أم الكتاب يعني هن أصل الكتاب و أخر متشابهات قيل أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة مثل الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وفناء الدنيا وقيام الساعة جميع هذا مما استأثر الله بعلمه. وقيل إن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما يحمل أوجهاً وروى ذلك عن الشافعي.
(فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي عن الحق وقيل هم اليهود لأنهم طلبوا معرفة مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه بحساب الجُمَّل (أبجد هوز حطي…) من الحروف المقطعة في أوائل السور وقيل هم جميع المبتدعة.
4-وذكر الإمام ابن الجوزي في تفسيره “زاد المسير من علم التفسير” ما نصه: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات) قال الشافعي هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً. و (هن أم الكتاب) هن أصل الكتاب اللواتي يعول عليهن في الأحكام (وأُخر متشابهات) وهو ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل كقيام الساعة روي عن جابر ابن عبد الله وقيل أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات من حيث اللغة. (فأما الذين في قلوبهم زيغ) قيل اليهود طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمّل.
5-وذكر الإمام الرازي في تفسيره ج7 ص 187 ما نصه: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) اعلم أنه تعالى لـمّا بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه، والزيغ الميل عن الحق يقال زاغ زيغاً أي مال ميلاً، واختلفوا في هؤلاء الذين أريدوا بقوله: (في قلوبهم زيغ) فقال الربيع: هم وفد نجران لما حاجّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا “أليس هو كلمة الله وروح منه” قال: “بلى” فقالوا “حسبنا” فأنزل الله هذه الآية ثم أنزل (أن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم) وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقال قتادة والزَجَّاج هم الكفار الذين ينكرون البعث لأنه قال في ءاخر الآية (ما يعلم تأويله إلا الله) وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال المحققون إن هذا يعم جميع المبطلين وكل من احتج لباطله بالمتشابه، لأن اللفظ عام. وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه، ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ائتنا بعذاب الله، ومتى تأتينا الساعة، لو ما تأتينا بالملائكة فموّهوا الأمر على الضعفة، ويدخل من هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى (الرحمْـن على العرش استوى) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيّز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومُحدَث، فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإلـْـه في مكان فيكون قوله (الرحمـْن على العرش استوى) متشابهاً، فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات.
ثم ذكر ما نصه: إن الكلام إنما يتم عند قوله تعالى (والراسخون في العلم) وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين.ا.هـ. بحروفه.
فهذا نقل مختصر في تعريف المحكمات والمتشابهات. وأما السبيل لمعرفة المتشابه من القرءان والحديث: هو أن كل ءاية أو حديث ظاهره يوهم أن لله مكاناً أو جهة أو أنه يتحرك أو أن له أعضاء وأنه يشبه خلقه بوجه من الوجوه فهذا هو المتشابه الذي يجب صرفه عن ظاهره ورده إلى المحكم، فإذا ما قرأت يا أخي المسلم ءاية متشابهة أو حديثاً متشابهاً كقوله تعالى (ءأمنتم من في السماء) أو (إني ذاهب إلى ربِى سيهدين) حكاية عن إبراهيم أو (فأينما تولوا فثم وجه الله) أو حديثاً كحديث الجارية السوداء التي سألها رسول الله بقوله «أين الله» فقالت “في السماء” أو كقول الرسول عن الله: «إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» أو حديث: «ينـزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا»، وما شابه ذلك فليس المراد الظاهر، بل له معنى يليق بالله تعالى، ويوافق المحكم كالآية (ليس كمثله شىء) لأن القرءان لا يتناقض، وكلام رسول الله لا يناقض القرءان.
فيجوز أن تقول في الآية (ءأمنتم من في السماء) الملائكة لأنهم هم سكان السماء، أما الله فهو موجود بلا مكان لأنه كان قبل السماء بلا سماء. وفي قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (إنى ذاهب إلى ربي سيهدين) أي إلى حيث وجهني ربي. وفي الآية (فأينما تولوا فثم وجه الله) أي قِبلة الله.
وأما سؤال رسول الله للجارية «أين الله» فهو سؤال عن المكانة والقدر لا عن المكان فأجابت «في السماء» أي عالي القدر جداً.
وفي حديث رسول الله: «إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» أي بعلمه. وفي حديث النـزول أنه نزول الملك بأمر الله كما دلت عليه رواية النسائي وغيره.
وقد قال العلاّمة المحدث الشيخ عبد الله الهرري حفظه الله: “والله تعالى له حكمة في إنزال هذه الآيات المتشابهة من القرءان وإيحائه إلى سيدنا محمد بتلك الأحاديث التي ظواهرها توهم أن الله له مكان وهيئة وذلك امتحان لعباده لأن العباد منهم من لا يفسر تلك الآيات وتلك الأحاديث على ظواهرها فهؤلاء يكونون من المفلحين عند الله تبارك وتعالى ومنهم من يحملها على ظواهرها فيكونون من الهالكين” ا.هـ.
نعم وذلك لأن تشبيه الله بخلقه كفر وخذلان ويؤدي إلى النيران.
والله تعالى أعلم وأحكم.
عظمة سيد البشر
في فتح حصون خيبر
دأب اليهود على مر التاريخ أن يكونوا رمزاً للتفرقة وعنواناً للخبث والعداء، فقبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانوا يثيرون رياح العداء والبغضاء بين القبائل، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة ظلوا دعاة تشرذم وفرقة، وناصبوا المسلمين العداء وحاولوا إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بمكرهم وخداعهم.
ولقد رأى اليهود لعنهم الله في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب (المدينة المنورة) واستقراره فيها خطراً عليهم وعلى مصالحهم، وقد زاد من مخاوفهم ازدياد عدد المسلمين في شبه الجزيرة العربية وإقبال العرب للدخول في دين الله، وتوسع انتشار الإسلام يوماً بعد يوم. ولم تقبل نفوسهم الخبيثة دعوة النبي العربي صلى الله عليه وسلم ، فهم يعتقدون أن النبوة مقصورة على بني إسرائيل.
وقد وجد اليهود لعنهم الله أن السبيل للمحافظة على أغراضهم في الجزيرة العربية يكون بالخلاص من الرسول والمسلمين، فتهيأوا لذلك وراحوا ينفثون سموم حقدهم ومكرهم ويتربصون بالمسلمين المكائد. وممن كان على رأسهم اليهودي كعب بن الأشرف، وكان من طَيّء وأُمّه من يهود بني النضير، وكان عدواً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
الرسول يَئِدُ فِتَن اليهود
ولما انتصر المسلمون ببدر ساء اليهود ذلك استياءاً شديداً واغتاظوا اغتياظاً مريراً، فخرج كعب بن الأشرف إلى قريش في مكة، وجعل يحرّض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي على قتلى قريش في بدر. فحضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتله، وانتدب لذلك محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة (وكان أخاً لكعب ابن الأشرف من الرضاعة)، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبا عبس بن جبر. فقدِم الخمسة إلى عدو الله كعب بن الأشرف ومكَّنهم الله منه فقتلوه.
وكان رسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى من رئيس غدراً ومقاصد سوء ومحبة لإثارة الحرب، أرسل له من يريح الناس من شره، وقد فعل ذلك مع أبي عفك اليهودي، وكذا مع زعيم يهود خيبر أبي رافع سلام بن أبي الحقيق، وكان المحركَ ليهود خيبر على حرب المسلمين، وكان يُلقب بتاجر أهل الحجاز لما كان له من المهارة في التجارة، وثروة طائلة.
الرسول غازياً إلى خيبر
وفي شهر محرَّم من السنة السابعة للهجرة وبعد أن أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، مرجعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرَّم، خرج في بقيته غازياً إلى خيبر وذلك لغزو يهودها الذين كانوا أكبر مهيج للأحزاب ضده في غزوة الخندق، والذين لا يزالوا مجتهدين في محالفة الأعراب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد استنفر صلى الله عليه وسلم لذلك من حوله من الأعراب الذين كانوا معه بالحديبية، وجاء المخلَّفون عنها ليستأذنوه في الخروج معه إلى خيبر، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تخرجوا معي إلا رغبة في الجهاد، أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئاً». وأمر منادياً ينادي بذلك.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة غازياً إلى خيبر واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي.
ورُوي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوماً لم يغز عليهم حتى يُصبح، فإن سمع أذاناً أمسك وإن لم يسمع أذاناً أغار. ويقول أنس رضي الله عنه: فنزلنا خيبر ليلاً فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أصبح لم يسمع أذاناً فركب وركبنا معه وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستقبلنا عمّال خيبر غادين، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس -أي الجيش- معه. فأدبروا هِراباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أكبر خرجت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين».
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه حتى نزل بواد يقال له الرجيع، فنـزل بين خيبر وغطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا يهود خيبر. وكانت غطفان قد أرادت إمداد يهود خيبر، فجمعوا جموعهم ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر عليه، حتى إذا ساروا مسافة مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حِسَّاً راعهم، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر.
المسلمون يحاصرون حصون خيبر
وكانت حصون خيبر ثلاث مجموعات منفصلة بعضها عن بعض، وهي حصون النطاة وحصون الكثيبة، وحصون الشق. والمجموعة الأولى وهي حصون النطاة تشمل حصون ناعم وحصن صعب وحصن قلة.
والمجموعة الثانية وهي حصون الكثيبة وتشمل حصن أُبيّ وحصن البريّ، والمجموعة الثالثة وهي حصون الشق وتشمل حصن القموص، وحصن الوطيع وحصن السلالم.
فبدأ عليه الصلاة والسلام بحصون النطاة وَعَسْكَر المسلمون شرقيها بعيداً عن مدى النبل، وأمر أن يُقطع نخلُهم ليُرهِبَهم حتى يُسلموا، فقطع المسلمون نحو أربعمائة نخلة. ولما رأى عليه الصلاة والسلام تصميم اليهود على الحرب نهى عن القطع ثم ابتدأ القتال مع حصن ناعم بالمراماة، وفيه قُتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة. وصار عليه الصلاة والسلام يغدو كل يوم مع بعض الجيش للمناوشة ويخلف على العسكر أحد المسلمين، وحتى إذا كانوا في الليلة السابعة ظفر حارس الجيش وهو عمر بن الخطاب بيهودي خارج في جوف الليل فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما أدرك اليهودي الرعب قال: إن أمنتموني أدّلكم على أمر فيه نجاحكم. فقالوا: دلّنا فقد أمنّاك. فقال: إن أهل الحصن أدركهم الملل والتعب وقد تركتهم يبعثون بأولادهم إلى حصن الشق (المجموعة الثالثة من حصون خيبر) وسيخرجون لقتالكم غداً، فإذا فُتح عليكم هذا الحصن غداً فإني أدلّكم على بيت فيه منجنيق ودروع وسيوف يسهل عليكم بها فتح بقية الحصون.
علي بن أبي طالب فاتح خيبر
ثم جاء رجل من الأنصار وهو محمد بن مسلمة إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن اليهود قتلوا أخي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لأدفعن الراية إلى رجل يحبُّ الله ورسولَه ويحبُّه الله ورسوله، فيفتح الله عز وجل عليه فيُمكّنه الله من قاتل أخيك». فبات المهاجرون والأنصار كلهم يتمنونها، حتى قال عمر بن الخطاب: ما تمنيت الإمارة إلا ليلتئذ.
وفي الغد بعث عليه الصلاة والسلام إلى علي رضي الله عنه فعقد له اللواء، فقال عليّ رضي الله عنه: يا رسول الله إني أرمد كما ترى. فتفل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فما رمدت بعد ذلك، ثم مضى رضي الله عنه إلى حصن ناعم وهناك وجد المسلمون اليهود متجهزين، فخرج يهودي يطلب البراز فقتله عليّ، ثم خرج يهودي ءاخر يُدعى مرحب وكان أشجع القوم فألحقه برفيقه، فخرج أخوه ياسر يطلب البراز أيضاً فخرج إليه الزبير بن العوام، ويروى أن أمه صفية بنت عبد المطلب قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يقتل ابني يا رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير فالتقى بياسر اليهودي فقتله الزبير.
ويروى عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: خرجنا مع علي رضي الله حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته إلى خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي رضي الله عنه باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ. ثم يقول أبو رافع: ولقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وقد حمل المسلمون على اليهود حتى كشفوهم عن مواقعهم، وتبعوهم حتى دخلوا حصن ناعم بالقوة، وانهزم أعداء الله إلى الحصن الذي يليه وهو حصن الصعب، ولما فتح الله على عليّ رضي الله عنه أخذ قاتلَ الأنصاري محمود بن مسلمة فدفعه إلى أخيه محمد فقتله. وقد غنم المسلون من حصن ناعم كثيراً من الخبز والتمر.
حُكمُ الدِين
قال الله تعالى (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”رواه ابن ماجه.
“حكم الدين” محطة علمية شرعية نلتقي فيها مع القراء فنجيبهم على استفساراتهم وأسئلتهم حول مختلف الشئون والمسائل والقضايا التي تعرض لهم مبينين الحكم الشرعي المستقى من كتاب الله وسنة نبيهصلى الله عليه وسلم وأقوال الأئمة المجتهدين.
“حكم الدين” واحة خضراء يتعرف فيها القارئ المسلم إلى أمور دينه ويستطلع الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها في شئون معيشته.
ما يترتب على فُقِدَ الزوج
*رجل متزوج فُقِدَ امرأته تسأل ماذا يترتب على ذلك من أحكام الشرع؟
إن الزوج إن غاب عن زوجته ولم يترك لها النفقة الواجبة بل منعها عنها ترفع دعوى عند القاضي لتحصيل نفقتها والنكاح بينهما مستمر ولو غاب سنيناً. أما لو فقدت أخباره: فهنا احتمالان:
الأول: أن يُتيقن موته فتقسم التركة بحسب شرع الله تعالى وتعتد الزوجة عدة المتوفى عنها زوجها.
الثاني: أن لا يُتيقن موته ولا يستطاع معرفة خبره فللعلماء في هذا مسلكان:(1) منهم من قال هذه امرأة ابتليت فتصبر ولا تتزوج رجلاً ءاخر، وهو قول الإمام علي رضي الله عنه، وبه قال الإمام الشافعي. (2) ومنهم من قال إذا أرادت الزواج ترفع أمرها إلى القاضي فيأمرها بالصبر أربع سنوات فإن انقضت هذه السنوات ولم يعد الزوج المفقود يقول لها: اعتدي عدة الوفاة، ثم يفسخ لها العقد، ثم تتزوج إن شاءت، فإذا رجع الزوج الأول بعد ذلك فهو بالخيار وإن شاء يدفع للثاني المهر ويرجعها وإن شاء يتركها له، وهذا قول سيدنا عمر رضي الله عنه، وبه أخذ الإمام مالك.
الكلام أثناء قراءة القرءان
* هل يجوز الكلام أثناء الاستماع إلى قراءة القرءان؟
قال الله تعالى: (وإذا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا له وانصتوا) أي يقصد من سماع القرءان ويسكت عند تلاوته. وعند أبي حنيفة سماع القرءان واجب، ومن لا ينصت أثناء تلاوته أثم.
تحريم جماع الحائض
* ما الحكمة من تحريم جماع الحائض؟
قال الله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض قُل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تَقرَبوهُنَّ حتى يطهرن فإذا تطهّرن فاتوهُنَّ من حيث أمركم الله) [سورة البقرة/222] .
الحكمة من تحريم جماع الحائض هي أنه يزيد المرأة أذى لأن الحيض نفسه أذى، ومن ذلك أنه قد يسبب مرضاً من الأمراض لهما أو لأحدهما. وقد يسبب اختلاف لون الولد عن لون أبويه، قد يسبب ذلك اتهام المرأة بأنها ضاجعت غير زوجها. أما الأمر الأول فقد قال الله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى) وأما الأمر الثاني: فهو معلوم من كلام بعض الأطباء في ذلك.
دين الأنبياء الإسلام
لم ينـزل الله على أنبيائه سوى دين الإسلام، قال تعالى: (قل إني أُمِرْتُ أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأُمرتُ لأن أكون من المسلمين)، [سورة الزمر/11-12]فما هو معنى (أول المسلمين). وقال تعالى: (لكم دينكم ولي دين)، [سورة الكافرون/6]. فما تفسير ذلك؟
إن الدين الذي رضيه الله لعباده وأمرهم باتباعه هو دين الإسلام، ولم ينـزل الله على نبي من الأنبياء ديناً سواه، قال تعال: (إن الدين عند الله الإسلام)[سورة ءال عمران/19] وقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، [سورة ءال عمران/85].
أما قوله تعالى: (وأُمرت لأن أكون أول المسلمين) أي بعد الانقطاع الذي حصل، فإنه حصل انقطاع بين الناس في الأرض عن الإسلام فلم يعد بينهم مسلم سوى سيدنا محمد؛ فلذلك جاء النص بهذا التعبير (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) وإلا فإن الله يقول (هو سَمّاكم المسلمين من قبل) [سورة الحج/78].
وأما قوله تعالى (لكم دينكم ولي دين) فمعناه: أي الكافرون لكم دينكم الفاسد ولي ديني الصحيح فاتركوا الذي أنتم فيه من الفساد وادخلوا في دين الحق دين الإسلام.
الأمر والنهي في الحديث الشريف
* تأتي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة الأمر فهل هذا على وجوب ما أُمر به في الحديث؟
قال العلماء: الأمر أحياناً يكون للوجوب، وأحياناً يكون للاستحباب، وكذلك النهي أحياناً يكون للتحريم، وأحياناً يكون للدلالة على كراهة هذا الأمر، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» فهذا الأمر للدلاة على الأحسن، فمعنى الحديث: الأَولى أن يسأل الله، والأولى أن يُستعان بالله. وليس معنى الحديث أنه لا يجوز سؤال غير الله، أو أنه لا يجوز الاستعانة بغير الله. والدليل على ذلك ما رواه مسلم في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لربيعة بن مالك الأسلمي: «سَلْ». فقال: أسألك مرافقتك في الجنة… الحديث إلى ءاخره دليل على جواز سؤال غير الله بنص من الرسول نفسه.
ومثال النهي الوارد في الحديث للتحريم قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تقولوا للمنافق سَيِّد». ومثال النهي الذي لا يراد منه التحريم بل الدلالة للأحسن، قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلى تقي».
صيدلية القارئ
الصعتر
نبات معدود من الأفاويه ينمو في الهضاب الكلسية المشمسة، ومنه أصناف كثيرة، البرّي والجبلي والبستاني ومنه ما هو طويل الورق، أو مستدير، أو دقيق.
والصعتر البري من التوابل الثمينة، وهو مُشهُ للطعام، ينقي المعدة والأمعاء من البلغم الغليظ، ويساعد على هضم المواد النشوية. ويستعمل مستحلب الصعتر لمعالجة الأمراض المعوية الملتهبة والتهابات الرئة وخراجاتها والتهابات القصبة. وهو يزيل القشع والسعال الديكي.
وهو من الأدوية القلبية، ويقوي المعدة ويسكن ءالامها، كما أنه نافع لطرد الديدان المعوية، ويدر البول والحيض، ويحدّ البصر ويفتح السدد. ومضغه ينفع من وجع الأسنان الذي يكون من البرد والريح.
وهو يحسّن اللون، وينفع من لسعة العقرب أكلاً وضماداً. وينشط الذهن، ويحلل الرياح، وإذا اقترن الصعتر بجميع البقول المضعفة للبصر أذهب ضررها، وله خاصية بطرد السموم شرباً. وليجتنب استعماله لمن يشكو من قرحة المعدة والأمعاء، أو زيادة في الإفرازات الصفراوية التي ينتج عنها حرقة في المعدة وغير ذلك.