العدد الحادي عشر
افتتاحية
شهر الصـيام حللت بالأنوار حنَّ المشوقَ لفجرك المعطارِ
وتنسَّمت روحي شذاك فحفَّهاضوعُ الجِنانِ ونفخةُ الأسحارِ
ها قد هلّ هلال رمضان المبارك بكل ما فيه من خيرات وبركات وهو شهر عظيم خصه الله تعالى من بين أشهر السنة كلها بخصائص وفضائل لا تكون في سواه. وخص الله تعالى فيه ليلة هي خير من ألف شهر. شهر رمضان مناسبة عظيمة تستنهض النفوس وتحرك القلوب امتثالاً لله علام الغيوب. شهر رمضان يحرك على البر والإعراض عن الشر ففيه قهر النفس على ترك الشهوات وكظم الغيظ والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة بقلب سليم ونية صافية مع استحضار المراقبة لله تعالى في القلب ومحاسبة النفس بما لها وما عليها بحيث يحفظ المرء من الذوبان في الشر والغرق في المحرمات. وترتقي به إلى الفضائل وتجعله من أهل المكرمات، فيصير قدوة خير ومصباح هدى ومنارة أمان وغرسًا طيبًا. فيكفُ أذاه عن الناس ويصبر على أذاهم ويسعى في إصلاحهم ويترفع عن الجاهلين ويكف عن اللغو واللهو والعبث وما أحوج مجتمعنا اليوم لأمثال هؤلاء الذين يتخرجون من مدرسة رمضان لتنتشر مدارس البر ودعوات الفضيلة في زمن أحوج ما نكون فيه إلى دروس رمضان وعبر رمضان وفضائل رمضان.
اليوم ونحن في خضم الأمواج المتلاطمة والعواصف المدمرة من ألوان الفساد والإفساد والانحلال الخلقي كم هو عظيم أن يخرج أهل الصدق والعلم إلى ميدان العمل وترك الكسل حتى تسد الأبواب على أبواق الفتنة والإفساد فالشهر شهر التضحيات والمكرمات والفضائل وتجنب الرذائل فاغتنموه.
فيا أيها الدعاة إلى الله ادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة وجانبوا الغلظة والفظاظة في النصح والإرشاد فما أحسن أن يكون الداعي ودودًا رحيمًا لينًا رفيقًا بالناس شفوقًا على المؤمنين رحيمًا بهم. يغتنم فرصة إقبال الناس على مدارس رمضان وحلقات العلم في رمضان ليبشر ولا ينفر ييسر ولا يعسر حكيمًا في أحواله كلها.
أخي المسلم، لا تنسى أن من بركات هذا الشهر التصدق على الفقراء وإفطار الصائمين وصلة الأرحام وتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا صيام نهاره وقيام لياليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الإخلاص في العبادة
قال الله تعالى: ﴿وما أُمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصينَ لهُ الدينَ حنفاءَ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاةَ وذلكَ دينُ القيّمة﴾ سورة البيّنة/5 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إنّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه قيل: وما إتقانه يا رسول الله؟ قال يخلصه من الرياء والبدعة.
إنّ الله تبارك وتعالى جعل الإخلاص شرطا لقبول الأعمال الصالحة. والإخلاص هو العمل بالطاعة لله وحده. والمُخلص هو الذي يقوم بأعمال الطاعة من صلاة وصيام وحج وزكاة وصدقة وقراءة للقرءان وغيرها ابتغاء الثواب من الله وليس لأن يمدحه الناس ويذكروه.
فالمصلي يجب أن تكون نيته خالصة لله تعالى وحده فقط فلا يصلي ليقول عنه الناس ” فلان مصل لا يقطع الفرائض ” والصائم يجب أن يكون صيامه لله تعالى وحده فقط وكذلك الأمر بالنسبة للمزكي والمتصدق وقارئ القرءان ولكل من أراد أن يعمل عمل برٍ وإحسان.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله بقوله: “يا رسولَ الله الرجلُ يبتغي الأجرَ والذكرَ مَا لَه؟” قال:” لا شيء له” فسأله الرجل مرة ثانية ” الرجل يبتغي الأجر والذكر ما له؟” قال :” لا شيء له” حتى قال ذلك ثلاث مرات ثم قال :” إنّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتُغي به وجهه” رواه الحاكم. أي أنّ من نوى بعمل الطاعة الأجرَ من الله والذكرَ من الناس فليس له من الثواب شيء.
قال تعالى: ﴿مَثَلُ الذين ينفقون أموالَهم فى سبيلِ اللهِ كمثلِ حبةٍ أنبتَتْ سبعَ سنابلَ فى كلِّ سُنبلةٍ مائةُ حبةٍ واللهُ يضاعفُ لمن يشاءُ والله واسعٌ عليم﴾. سورة البقرة/261
فالدرهم الذي يدفعه المسلم في سبيل الله ووجوه الخير يضاعفه الله إلى سبعمائة ضعف ويزيد الله لمن يشاء. وهذا الحكم وهو مضاعفة الأجر عام للمصلي والصائم والمزكي والمتصدق وقارئ القرآن والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وغيرهم بشرط الإخلاص لله تعالى الذي هو أساس العمل.
أما الرياء فهو العمل بالطاعة طلباً لمحمدة الناس. فمن عمِل عَمَل طاعةٍ وكانت نيته أن يمدحه الناس وأن يذكروه بأفعاله فليس له ثواب على عمله هذا بل وعليه معصية كبيرة ألا وهي معصية الرياء.
وقد سمّى الرسول عليه الصلاة والسلام الرياءَ الشركَ الأصغر، شبهه بالشرك الأكبر لعظمه. فالرياء ليس شركاً يخرج فاعله من الإسلام بل هو ذنب من أكبر الكبائر.
أخي المسلم، بادر إلى الطاعات والأعمال الصالحة في هذا الشهر الكريم بإخلاص في النية وثبات في العزيمة وإياك والرياء فإنه يبطل ثواب العمل ويستوجب صاحبه العذاب في النار. تزود من حياتك للمعاد وقم لله واجمع خير زاد ولا تركن إلى الدنيا طويلا فإن المال يجمع للنفاد. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين الذين يفعلون الطاعات ابتغاء مرضاتك واجعلنا من عبادك التوابين المتطهرين.
دخول شهر رمضان
لما كانت النية في العمل الصالح من جملة ما فرضه الله تعالى ليكون العمل صحيحاً مقبولاً عنده، جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يبين ما لها من مكانة فقال: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى”. والنية-كما هو معلوم- مكانها القلب، فمن نوى بقلبه عند الصلاة أن يصلي الظهر مثلاً من غير أن ينطق بلسانه فهذا نوى. وعلى هذا فالنية المقصودة بالحديث الشريف: “إنما الأعمال بالنيات” المراد بها العزم والقصد بالقلب، لا بمجرد النطق دون أن يعزم بقلبه.
ولما كان الصيام إحدى هذه العبادات، كان لا بد من النية فيه لصحته، ويجب في رمضان تبييت النية أي إيقاعه ليلاً قبل الفجر، فلو غربت الشمس على الصائم فنوى قبل أن يتعاطى مُفطراً صوم اليوم التالي عن رمضان، ثم لم يُعِد هذه النية بعد الأكل كفته هذه النية. وقد نص الشافعي رضى الله عنه أن النية تجب لكل يوم من أيام رمضان، والأكمل في النية أن يقول بقلبه: نويت صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة إيماناً واحتساباً لله تعالى” والاحتساب -كما قال العلماء- هو طلب الأجر والثواب.
وأما قول بعض الناس في أول ليلة من رمضان : نصوم غداً إن كا ن رمضان، فإن هذه النية لا تصح لأنها مقرونة بالشك، فلا بد من التحري في ليلة اليوم الأول والتيقن من أن الصيام قد ثبت.
متى يثبت دخول شهر الصيام
وأما كيفية ثبوت الصيام فإنها معلومة من الحديث الشريف الذي رواه البخاري: “لا تَقَدَّموا رمضان بيوم أو يومين، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً” أما الحديث الذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خُزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس، فهو بلفظ: “فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً”.
ولفظ الطيالسي هو: “ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان”. ولأبي داود من حديث عائشة “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، يصوم لرؤية الهلال فإن غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يوماً ثم صام”. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمّ عليكم فاقدُرُا عليه”. متفق عليه.
لقد بينت لنا هذه الأحاديث الشريفة أن رمضان لا يثبت بالحساب وإنما برؤية الهلال أو بإكمال ثلاثين يوماً من شعبان إن حال حائل دون رؤية الهلال. وقد وَضّح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسئلة مزيد توضيح فيما رواه عنه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
“نحن أمة أُمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا”
وليس هذا الحديث نفياً مطلقاً للكتابة والحساب عن أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم، بل المراد منه أن المسلمين ليسوا مكلفين بحساب مواقع النجوم وحركتها لإثبات أوائل الشهور وأواخرها ولا سيما شهر رمضان المبارك. والحاسب أو المُنَجّم هو الذي يعتمد منازل القمر والنجوم لحساب أول الشهر.
ويزيد المسئلة توضيحاً ما نصه فقهاء المذاهب الأربعة على أن وجوب صوم رمضان لا يثبت بقول المنجمين. فقد ذكر ابن عابدين (وهو حنفي المذهب) في كتاب “رد المحتار على الدر المختار” في الجزء الثاني صحيفة مائة (100) ما نصه “قوله ولا عبارة بالمؤقتين، أي في وجوب الصوم على الناس، بل في “المعراج” لا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه”. ثم يقول في نفس الصحيفة: “ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: “نحن أُمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر، هكذا وهكذا”.
وفي كتاب “أسنى المطالب في شرح روض الطالب” للشيخ زكريا الأنصاري (وهو شافعي) يذكر في الجزء الأول الصحيفة أربعمائة وعشرة (410) ما نصه: “ولا عبرة بالمنجم، أي بقوله، فلا يجب به الصوم ولا يجوز. والمراد باللآية: {وبالنجم هم يهتدون} الاهتداء في أدلة القبلة وفي السفر”.
وفي كتاب حاشية العلامة شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي (المالكي المذهب) على الشرح الكبير لأبي البركات سيدي أحمد الدردير، الجزء الأول (ج:1، ص469) ما نصه: “قوله: لا بالمنجم:، وهو الذي يحسب قوس الهلال هل يظهر في تلك الليلة أو لا. وظاهره أنه لا يثبت بقول المنجم ولو وقع في القلب صدقه”. وفي هامشه: “لا يثبت رمضان بمنجم أي بقوله لا في حق غيره ولا في حق نفسه”. وأما البهوتي (وهو حنبلي المذهب) فيذكر في كتاب “كشاف القناع عن متن الإقناع” الجزء الثاني الصحيفة (302) ما نصه: “وإن نواه أي صوم يوم الثلاثين من شعبان بلا مستند شرعي من رؤية هلاله أو إكمال شعبان أو حيلولة غيم أو قتر (غبار) أو نحوه كأن صامه لحساب ونجوم ولو كثرت إصابتهما لم يجزئه صومه لعدم استناده لما يعول عليه شرعاً”.
بعد هذه الأدلة الشرعية عُلِم أن اعتماد بعض من الناس على حساب المنجمين، محتجين بأن علم الفلك قد تقدم اليوم، فلا عبرة لكلامه هذا لأن الحساب والمنجمين كانوا موجودين في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك منع الشرع من الاعتماد على حساباتهم، بل المستند الشرعي في ذلك أمران: رؤية هلال رمضان، وإلا فإكمال شعبان ثلاثين يوماً.
نسأل الله تعالى أن يُعلمنا ما جهلنا وينفعنا بما علمنا، ويعيد شهر رمضان على المؤمنين في أقطار الأرض بالأمن والبركة والخيرات، إنه سميع قريب مجيب الدعوات. ■
أحكام الصيام
الصيام لغةً الإمساك ومنه قوله تعالى إخباراً إن مريم عليها السلام قالت: {إني نذرت للرحمن صومًا} [مريم 26 أي إمساكاً وسكوتاً عن الكلام؛ والصيام شرعاً إمساك مخصوص في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة بنية.
إن وجوب صوم رمضان ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فمن الكتاب قول تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185] ومن الحديث الصحيح “بُني الإسلام على خمس” وذكر منها صوم رمضان. فمن جحد وجوبه فقد كذب الشريعة ومن لم يصمه بلا عذر كسفر ولم ينكر وجوبه فهو من أهل الكبائر.
على من يجب الصيام
إن وجوب صيام رمضان يتعلق بالمسلم البالغ العاقل القادر المقيم الطاهر من الحيض والنفاس. فأما الكافر فإن كان أصلياً أي ولد من أبوين كافرين وبلغ على الكفر فلا يؤمر به في حال كفره لأنه لا يصح منه وإن مات على كفره عوقب على تركه الدخول في الإسلام وتركه للصيام والصلاة وغيرها من الواجبات لأنه مأمور بالإسلام ثم الصلاة والصيام ونحوهما، وإن أسلم لم يجب عليه القضاء لقول الله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال 38] هذا في الكافر الأصلي. أما المرتد وهو الذي قطع إسلامه بكفر فلا يصح منه الصيام وهو على كفره، فإن عاد إلى الإسلام وجب عليه قضاء ما فاته من الصيام الواجب زمن ردته عند الشافعي.
أما الصبي والمجنون فلا يجب عليهما الصيام لعدم التكليف. لكن الصبي والصبية يؤمران بفعله إذا أتما سبع سنين هجرية إذا قدرا على الصوم، ويضربان على تركه لعشر سنين مع قدرتهما على الصوم وذلك قياساً على الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم : “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر” رواه أبو داود. ولو صام الصبي المميز أي الذي بلغ حداً من العمر بحيث يفهم الخطاب ويرد الجواب صح منه الصوم، بخلاف المجنون فإنه لا يصح صيامه. أما المغمى عليه فيشترط لصحة صومه أن لا يستغرق إغماؤه كل النهار وإلا فسد صومه.
أما النائم فلو استمر نائماً بعدما نوى الصيام قبل الفجر حتى غربت الشمس صح صومه. أما غير القادر على الصيام كعجوز كبير فلا يجب عليه للعجز، قال الله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [سورة البقرة 286]، ويجب عليه الفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم إفطار مداً من غالب قوت البلد ففي لبنان مثلاً غالب قوت البلد هو القمح، والمد هو الحفنة بملء الكفين المعتدلتين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال “رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه” رواه الحاكم والدارقطني وصححاه. وفي معنى العجوز الهرم المريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه منه بحيث لا يقدر على الصيام. ومن لم يقدر على الصوم لمرض غير مزمن إنما يرجو البرء منه لم يجب عليه الصوم ووجب عليه القضاء لقوله عز وجل {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر} [سورة البقرة 185]. فمن أصبح صائماً ثم مرض مرضاً يشق معه الصوم مشقة لا تُحتمل أفطر لعذر المرض ثم قضى أياماً بعدد ما أفطر ولا فدية عليه. وإن خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما الضرر من الصوم أفطرتا للعذر وعليهما القضاء دون الفدية.
أما إن خافتا على الولد أن يجهض أو يقل اللبن جاز لهما الإفطار وعليهما القضاء والفدية معاً عن كل يوم.
ويجزئ بدل المد إعطاء المسكين مالاً بمقدار ما يغديه ويعشيه عند الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
أما المسافر سفر قصر أي سفراً يبيح له قصر الصلاة الرباعية إلى اثنتين (ومسافة القصر 45كيلومتر تقريباً على قول وهناك أقوال أخرى) فيعذر بعدم الصوم للآية المتقدمة، وعليه القضاء. وشرط السفر الذي يبيح الفطر أن يكون بغير معصية الله وأن يحدث السفر قبل الفجر أي قبل دخول وقت صلاة الفجر، فمن خرج مسافراً بعد الفجر لم يجز له الإفطار في ذلك اليوم هذا عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك، أما عند الإمام أحمد فإنه يجوز الإفطار ولو خرج بعد الظهر إذا فارق العمران أي عمران المدينة التي خرج منها. ولو صام المسافر أجزأه، فإن كان يجد مشقةً في الصيام فالأفضل له الفطر وهذا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليس من البر الصيام في السفر” رواه البخاري. أما من لم يشق عليه الصوم فالأفضل له المثابرة على الصيام في السفر. وينقطع السفر بنية الإقامة في بلد السفر أربعة أيام كوامل أي غير يومي الدخول والخروج فإنه بذلك يصبح مقيماً.
وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم ولا يصح منهما ولا يجوز أي تأثمان بالصيام وعليهما القضاء لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت “كنا نؤمَر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة” أي في الحيض وفي معنى الحيضِ النفاسُ، وإذا طرأ على المرأة حيض أو نفاس ولو قبيل الغروب أفطرت. ولا يجب على الحائض والنفساء تناول مفطرٍ، فإذا أمسكتا عن الطعام بغير نية الصيام جاز لهما ما لم تتضررا. وإن طهرت المرأة ليلاً ونوت الصوم وصامت أو صام الجنب بلا غسل صح الصوم لخبر الصحيحين “كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم” فبهذا دليل على صحة صوم من طلع عليه النهار وهو جنب.
وأخرج مسلم وابن حبان عن عائشة أن رجلاً جاء النبي يستفتيه وهي تسمع من وراء حجاب فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة (أي صلاة الصبح) وأنا جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : “وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم” وقيس بالجنب الحائضُ والنفساءُ فلا يجب على هؤلاء الغسل لصحة الصيام وإنما يجب عليهم الغسل للصلاة.
واجبات الصيام:
1. النية: فلا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات” رواه الشيخان، وتجب النية لكل يومٍ من رمضان لأن صوم كل يوم عبادة مستقلة يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج وقتها بغروب الشمس ويتخلل اليومين ما يناقض الصيام كالأكل، كالصلاتين يتخللهما السلام، أما عند مالك فتكفي النية لكل رمضان إذا نوى في ليلة اليوم الأول صيام ثلاثين يوماً عن شهر رمضان هذه السنة.
ووقت النية للصيام الواجب أي صوم رمضان وصوم النذر والقضاء والكفارة هو الليل أي ما بين المغرب والفجر لحديث “من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له” رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة، فإذا غربت الشمس على الصائم فنوى قبل أن يفطر صومَ يوم غد من رمضان كفته هذه النية وليس عليه إعادتها بعد الإفطار. أما لو نسي أن ينوي في الليل وتذكر بعد الفجر فلا صيام له ويمسك عن المفطرات باقي نهاره ويلزمه قضاء هذا اليوم ولا معصية عليه لنسيانه النية.. أما صيام النفل كصوم تاسوعاء وعاشوراء وصوم ستة من شوال أو نحوها فإن النية تجزئ قبل أن تزول الشمس أي تميل عن وسط السماء نحو جهة المغرب أي قبل دخول وقت صلا ة الظهر، هذا إذا لم يكن قد أكل أو شرب أو جامع بعد الفجر، لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوماً: “هل عندكم من غداء” قالت لا قال :”فإني إذاً أصوم” رواه الدارقطني وصححه، واختص بما قبل الزوال لأن الغداء لغة ما يؤكل قبل الزوال والعشاء اسم لما يؤكل بعده. ومن أحكام الصيام المتعلقة بالنية أنه يجب تعيين الصوم المنوي بالنية كتعيين أنه من رمضان، أو أنه عن نذر، أو أنه عن كفارة، كما أن الصلاة واجب تعيين كونها ظهراً أو عصراً أو غير ذلك. ولو نوى في ليلة الثلاثين من شعبان فقال إن كان الغد من رمضان فأنا صائم عن رمضان وكان من رمضان لم يصح.
قال الله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
ما يفطر الصائم
-الامساك عن المفطرات وهي:
1.الجماع: وهو مفطر، فالإمساك عنه لازم لصحة الصيام فيكف للصائم نفسه عن المباشرة في الفرج قُبلاً كان أو دبراً أنزل أو لم ينزل، ولا يضر الجماع ليلاً، قال تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} والرفث الجماع.
وإنما يفسد الجماع الصيام إن كان ذاكراً كونه صائماً، أما إن كان ناسياً فلا يفطر، ولا يبطل الصوم لو نام فاحتلم.
ويحرم تقبيل الزوجة تقبيلاً محركاً للشهوة في نهار رمضان.
ومن أفسد صوم نهار من رمضان بالجماع فعليه أن يمسك بقية نهاره عن كل المفطرات وعليه القضاء والكفارة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً ستين مداً لكل مسكين مد من غالب قوت البلد. وإنما تجب هذه الكفارة على الرجل ولا تجب على المرأة.
2.الاستمناء: وهو استخراج المني بنحو اليد فإنه مفطر لأنه إنزال بمباشرة، ويوجب القضاء دون الكفارة.
3.الاستقاءة: فمن طلب القيء عامداً بأن أدخل إصبعه مثلاً في فمه فتقيأ أفطر سواء عاد من القيء شيء إلى الجوف أم لا، أما من تقيأ بغير طلب منه أي رغماً عنه لم يفسد صومه إن لم يبتلع شيئاً منه عمداً لحديث “من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء” رواه الدارقطني، وذرعه القيء أي غلبه.
4. الردة: فمن ارتد أي قطع إسلامه بنوع من أنواع الكفر أثناء الصوم بطل صومه وعليه أن يعود إلى الإسلام فوراً بالنطق بالشهادتين، وعليه القضاء.
5. وصول عين إلى الجوف من منفذ مفتوح إلا ريقه الصافي الذي يكون في الفم: مما يفطر الصائم الأكل والشرب ولو قدراً يسيراً، قال عز وجل {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة 187]، هذا إن أكل أو شرب ناسياً فإنه لا يفطر لحديث “من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه” متفق عليه.
ومن صب ماءً أو دواءً في أذنه أو أنفه فوصل إلى الجوف أفطر، ولو دخل ماء المضمضة أو الاستنشاق في الوضوء إلى الجوف فإن كان بالغ بهما أفطر لأن الصائم منهي عن المبالغة بهما، وإن كان لم يبالغ بهما لم يفطر. أما القطرة في العين فلا تفطر وإن أحس بطعمها في الحلق لأن العين ليست بمنفذ مفتوح. وتفطر الحقنة في القبل أو الدبر، ولا تفطر الإبرة في الشريان ولا تشرُّب مسام الجلد الماء وغيره لأن الجلد ليس بمنفذ مفتوح، ولا يفطر ابتلاع الريق الصافي من معدنه وهو الفم إلا إذا تغير هذا الريق بمخالط من الطاهرات فإنه يفطر إذا وصل إلى الجوف، وكذلك الريق النجس. أما ما يسمى بالبلغم فلو أخرجه الصائم من صدره إلى فمه أو جذبه من رأسه ثم ابتلعه أفطر عند الشافعي ولم يفطر عند مالك. ولا يضر الصيام دخول ما ليس بعين إلى الجوف كرائحة بخور وطيب ولا ما يصعب الاحتراز منه كغربلة دقيق أو غبار طريق ولو وصل إلى الجوف. أما السيجارة فيفطر شاربها لأنه تنفصل منها ذرات تصل إلى الجوف.
الأيام التي لا يصح صومها
1. لا يصح ولا يجوز صوم عيد الفطر وعيد الأضحى. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين يوم الفطر ويوم النحر، متفق عليه، ويوم النحر هو اليوم العاشر من ذي الحجة أي يوم العيد.
2. ولا يصح ولا يجوز صوم أيام التشريق الثلاث وهي التي تلي يوم عيد الأضحى، فقد روى أصحاب السنن من حديث عقبة بن عامر والبزار من حديث ابن عمر “أيام التشريق أيام أكل وشرب فلا يصومها أحد”.
3. ولا يصح ولا يجوز صوم النصف الأخير من شعبان تطوعاً لغير سبب لحديث “إذا انتصف شعبان فلا تصوموا” صححه ابن حبان وغيره، أما إذا كان لقضاء أو نذر أو وِرد أو وصله بما قبله فيجوز.
4. لا يصح ولا يجوز صوم يوم الشك من غير سبب وليس من الأسباب الاحتياط لرمضان، لقول عمار بن ياسر رضي الله عنه “من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم” صححه الترمذي وبن حبان والحاكم وغيرهم، ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا تحدث الصبيان أو النساء أو نحوهم برؤية الهلال.
تقبل الله صيامكم وطاعاتكم، والله تعالى أعلم وأحكم.
زكاة الفطر
من جملة الفرائض المتعلقة بشهر رمضان”زكاة الفطر”،وللزكاة عدة مسائل وقواعد لا بد من الأخذ بها لأدائها كما أمر الله.
اعلم يا أخي المسلم وفقنا الله وإياك لطاعته أن الفرائض هي أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل بدليل الحديث القدسي: “وما تقرب إلي عبدي بشىء أحب إلي مما افترضت عليه” رواه البخاري.
ومن جملة هذه الفرائض المتعلقة بشهر رمضان زكاة الفطر وهي واجبة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الناس صاعاً من قمح أو صاعاً من شعير على كل زكر وأنثى حر وعبد من المسلمين”.
وزكاة الفطر تجب بإدراك جزء من رمضان وجزء من شوال بأن كان حياً عند غروب شمس ءاخر يوم من رمضان-وعلى هذا تجب على الولي عن المولود الجديد الذي ولد ءاخر يوم من رمضان وأدرك جزءاً من شوال.
والمسلم يخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن عليه نفقتهم إن كانوا مسلمين، ومن كان له أبوان مسلمان فقيران وجب عليه أداء الزكاة عنهما.
ويجب على الرجل المسلم فطرة زوجته وأولاده الذين هم دون البلوغ. أما الابن والابنة البالغان فلا يجب على الأب دفع زكاة الفطر عنهما وإنما يؤدي الولد البالغ عن نفسه إن استطاع، وإن لم يستطع جاز لأبيه أن يدفع عنه بإذنه. وإنما تجب زكاة الفطر على من عنده مال فاضل عن دينه وكسوته ومسكنه وقوت من عليه نفقتهم يوم العيد وليلته.
أما مقدار الزكاة التي يجب إخراجها عن كل واحد فهو صاع من غالب قوت البلد، كالقمح في بلادنا، والصاع أربعة أمداد، والمد ملء الكفين المعتدلين. وعند بعض الأئمة من شاء قوّم الصاع وأخرج مالاً بقيمته.
ولا بد من النية لقوله صلى الله عليه وسلم “إنما الأعمال بالنيات”. أي أن الأعمال الصالحة لا تكون معتبرة إلا بالنية. وتعطى زكاة الفطر لأي صنف من الأصناف الثمانية المذكورة في القرءان الكريم المستحقين للزكاة. قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاميلن عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [سورة التولة/61] ويجب أداؤها قبل غروب شمس يوم العيد ويحرم تأخيرها عنه بلا عذر. ويجوز دفعها في أول رمضان وفي أي يوم منه. ومن أهمل أداءها فقد عصى ولا تسقط عنه إلا بإتيانها، والسنة إخراجها يوم عيد الفطر قبل صلاة العيد. ولا يجوز دفع الزكاة إلى غير هؤلاء الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في القرءان وهم:
1. الفقراء: جمع فقير وهو من لا نفقة له واجبة ولا مال ولا كسب حلال يقع موقعاً من كفايته، كالذي يحتاج لعشرة ولا يجد إلا أربعة فأقل.
2. المساكين: المسكين هو الذي له ما يسد مسداً من حاجته، لكنه لا يكفيه كفاية لائقة بحاله كمن يحتاج لعشرة، فلا يجد إلا ثمانية فيعطى كفايته.
3. العاملون عليها: فهم الذين نصبهم الخليفة أو السلطان لأخذ الزكوات من أصحاب الأموال، ولم يجعل لهم أجرة من بيت المال.
4. المؤلفة قلوبهم: كالذي كان ضعيف النية بأن دخل في الإسلام حديثاً، وفي نفسه وحشة من المسلمين، أي لم يتآلف مع المسلمين فيعطى من الزكاة حتى تقوى نيته بالإسلام، أو يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه.
5. وفي الرقاب: هم المكاتَبون كتابة صحيحة، أي العبيد الذين تشارطوا مع أسيادهم الذين يملكونهم على أن يدفعوا كذا من المال فإذا دفعوا ذلك المبلغ يكونون أحراراً. فالله تعالى جعل لهم حقاً في الزكاة إذا لم يكن معهم ما يفي بالمال الذي اشترط عليهم لتحررهم.
6. والغارمون: هم المدينون العاجزون عن الوفاء.
7. في سبيل الله: المراد الغزاة المتطوعون بالجهاد بأن لم يكن لهم سهم في ديوان المرتزقة من الفيء فيعطون ما يحتاجونه للجهاد. المرتزقة في عرف أهل الفقه الإسلامي هم الغزاة الذين يصل إليهم عطاء أي راتب من الخليفة أو السلطان.
8. ابن السبيل: المراد به المسافر سفراً مباحاً ليس فيه معصية ولم يبق معه من المال ما يكفيه لرجوعه إلى بلده فيعطى من مال الزكاة قدر كفايته ولو كان في بلده غنياً.
مسائل في زكاة الفطر
*يجوز للأب أن يدفع الزكاة للابنة البالغة الفقيرة عند الشافعي ولابنه الفقير البالغ، وكذلك يجوز للأم ذلك.
*والزوجة تستأذن من زوجها لدفع زكاة الفطر عن نفسها.
*والخادمة في البيت تدفع عن نفسها إلا إذا وكلت صاحب البيت ليدفع عنها.
*لا يدفع مال الزكاة لكافر ولا مرتد ولا لمسلم غني ولا لمسلم قوي قادر على العمل متقاعس عنه، ولا لمكتف عنده كفايته ومدخوله يسد حاجاته الضرورية. ولا يدفع المزكي لمن تجب عليه نفقتهم، كالجد والجدة والأم والأب الفقراء وزوجته وأبنائه الذين هم دون البلوغ.
إنما يجب عليه النفقة هنا. ولا تدفع الزكاة لمن كان شريفاً من حيث النسب، وذلك بأن يكون هاشمياً أو مطلبياً ، ومنهم الحسنيون والحسينيون كآل الرفاعي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صدقة تؤخذ من أغنيائهم (المسلمين) وترد على فقرائهم”(أي المسلمين) وقال أيضاً عن الزكاة: “إنه لا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب” أي لا يجوز دفع الزكاة لهذين الصنفين.
*يجوز لصاحب المال الذي وجبت عليه الزكاة أن يوكل مسلماً ثقة بدفع زكاته عنه أو يدفعها بنفسه، ولا تدفع كتبرع للمساجد أو للجمعيات أو لدار الأيتام، لأنه لا بد أن تعطى لواحد من الأصناف الثمانية المذكورين في القرءان.
*والوكيل بتوزيع الزكاة لا يجوز له أن يأخذ لنفسه شيئاً منها إن كان فقيراً إلا بإذن صاحبها.
وفقنا الله وإياكم لأداء فريضة زكاة الفطر وفريضة صوم رمضان والحمد لله رب العالمين.
صِلة الأرحام وزيارة الأهل
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد النبي الأميّ وعلى ءاله الطيبين وصحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيوم عيد الفطر يوم فرحة المسلم الصائم بفطره صار موعوداً وواعداً بعودة ثانية، ومبشراً بقدوم يوم عيد الأضحى المبارك. ولئن كان يوم عيد الفطر المبارك قد سيولّى، وتلاه عيد الأضحى، فإنّ ما يتركه هذان العيدان في النفوس من مشاعر وأمل بإصلاح النفوس وتهذيبها هو شيء كثير، ولا سيما أنهما يحركان فينا الهمم على زيارة الأهل والأقارب وصلة الأرحام وزيارة موتانا المسلمين في صبيحة يوم مبارك. وكم هو جميل أن يجتمع أفراد الأسرة على طاعة الله تعالى يواسي بعضهم بعضاً، ويفرح البعض لفرح الآخرين فتزداد أواصر الأُلفة والمودة بين القلوب العامرة بالإيمان والمحبة لخصال الخير ومحاسن الأخلاق.
وقد روى الإمام البيهقي في كتاب الآدب الذي ألَّفه في بيان مكارم الأخلاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعقبة بن عامر لما سأله: ما النجاة يا رسول الله، قال «تَصِلُ مَن قَطَعَك وتعطي مَن حَرَمك وتعفو عمّن ظلمك».
ففي يوم العيد تتحرك النفوس المؤمنة الصادقة للزيادة في الإحسان إلى الناس والعمل بمقتضى هذا الحديث ونحوه مما فيه بيان الخصال الحَسنة والأوصاف الحميدة والأخلاق الرفيعة التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه الخصال الثلاث العظيمة كانت من أوصاف الرسول وأخلاقه.
أما الخصلة الأولى في قوله صلى الله عليه وسلم: «تَصِلُ من قَطَعَك» أي أن للرحم حق الصلة، والرَّحِم هم الأقارب من جهة الأم والأب كالخالات والعمات وأولادهن والأخوال والأعمام وأولادهم. فلا يجوز للمرء أن يقطع من تجب عليه صلته من الأقارب بحيث يشعر بالجفاء.
قال تعالى تبارك وتعالى:
(والذين يَصِلون ما أمر الله به أن يُوصَل)
وقال تعالى: (واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام) [سورة النساء/1] أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أي صلوهم ولا تقطعوهم، والصلة الكاملة للرحم هو أن يصل المرء من قطعه من الرحم كما يصل من وصله فلا يقول: “هذا رَحِمي لا يزورني فلا أزوره”، إذ لا يجوز أن يقابل القطيعة بالقطيعة، بل يجب عليه أن يقابل القطيعة بالصلة والإحسان. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من وصل رحمه إذا قطعت». رواه مسلم.
فيُعلم من هذا أن زيارة المسلم لأقاربه الذين قطعوه ليست مَهَانةً ومذلَّة، بل خصلة خير وعمل طاعة يحبه الله، فقد روى الشيخان البخاري ومسلم في الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم».
في هذا الحديث الشريف بيان أهمية صله الأرحام ومرتبتها في الدين، لأن ذلك من حُسْن الخُلُق الذي حضَّ عليه الشرع حضاً بالغاً. وممّا ورد في الحثّ على صلة الرحم أيضاً ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم مُعَلَّقةٌ بالعرش تقول من وَصَلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» رواه البخاري ومسلم.
ولا يخفى أن من أسباب التفكك والتشرذم في بعض المجتمعات قطع الأرحام بحيث ينقطع الكثيرون عن صلة الرحم ويعللون ذلك بقلوبهم: إن لم يَزُرَني فكيف أزوره؟!
وكم نصادف أُناساً تركوا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخُلُق الحسن وتشبَّهوا بغير المسلمين، وظنوا أن الأدب الحسن ما هم عليه من الاقتفاء والاقتداء بأهل المدنيَّة المزيفة الذين يُحَسِّنون القبيح للناس ويزينون لهم المفاسد ويعيبون على غيرهم الخصال الحميدة التي ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها، فترى البعض إذا ما أمرته بصلة الرحم والإحسان إلى الناس، قال: من هو عمي حتى أتنازل لزيارته؟.. إن هؤلاء الذين اغتروا ببريق بعض العادات الغربية لم يفطنوا إلى فساد تلك الخصلة الذميمة التي بيّنها الله تعالى في قوله عزّ وجلّ: (فهل عسيتُم إن تولَّيتم أن تفسدوا فى الأرض وتُقَطِّعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم) [سورة محمد/22-23] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة قاطع» رواه البخاري، أي لا يدخلها مع الأولين إن مات بدون توبة من تلك المعصية، بل يستحق العذاب قبل دخول الجنة، هذا إن لم يعفُ الله عنه ويُسامحه.
أما الخصلة الثانية في قوله صلى الله عليه وسلم : «وتعفو عمن ظلمك».
قال الله تعالى r :
( خُذِ العفوَ وأمُرْ بالمعروفِ وأعرِضْ عنِ الجاهلين)
إن تحمل أذى الغير ومعاملتهم بالخلق الحسن هو إحدى وسائل الترقي ونيل الدرجات العُلى، فلنقتف ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه خالقه عزّ وجلّ في محكم التنـزيل (وإنك لعلى خُلُق عظيم) [سورة القلم/4] فلا أدب أحسن من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنَّا نسألك أن تُحسِنَ أخلاقنا كما حسنت خَلْقَنا واجعلنا ممن يصلون أرحامهم يا أرحم الراحمين.
التمر وفوائده
لشجرة التمر مكانة مهمة، فقد ذُكِرت في القرءان الكريم في مواضع عديدة كما ورد ذكرها في الأحاديث النبوية، وفوائد التمر الطبية عديدة، فمما قيل عن التمر إنه مليّن للطبع مقوٍ للكبد وينفع خشونه الحلق ويغذي البدن.
وأكله على الريق يقتل الدود، وهو يعد غذاء كاملاً، وله أهمية قصوى في تقوية وتقويم أجسام الأطفال، لأنه يحتوي على الفوسفور الذي يساعد على نمو العظام ويغذي حجيرات الدماغ مما يقويه وينشطه، كما يفيد البلح في حالات الالتهابات في المجاري البولية، ويفيد للسعال المزمن وأوجاع الصدر، والبلغم. والتمر يحتوي على نسبة عالية من السكر. ومن السنة الإفطار يوم الصيام على تمر.
التمر يحفظ بريق العين ورطوبتها ويقوي الرؤية وأعصاب السمع، ويهدئ الأعصاب ويحارب القلق العصبـي وينشّط الغدة الدرقية.
وتُظهر التحاليل المخبرية أن التمر يحتوي على 6،7 بالمائة من الكربوهيدرات 5،2 بالمائة من الدهن، 33 بالمائة من الماء، 23،1 بالمائة أملاح معدنية 10 بالمائة ألياف وفيتامينات أ وب1، وج، وهو غني بالحديد والكبريت والفوسفور والبوطاس والمنغنيز والكلورين والكلسيوم والنحاس.
ويمتنع عن أكله البدنيون والمصابون بالبول السكري، وليقلِّل من أكله من ارتفعت معه السوداء، أو من يعاني من عسر هضم.
سبحان الله العظيم والحمد لله رب العالمين.
فيا عجباً كيف يُعصى الإله … أم كيف يجحده الجاحدُ
وفي كل شىء له آيةٌ … تدلُ على أنّه واحدُ
إنّ الناظر المتأمل في بدائع المخلوقات وعجائب المصنوعات يجد الآيات البينات والدلائل الدالة على وجود الخالقِ الواحد وقدرته ونفوذِ مشيئته وظهورِ عظمته. وإنّ خالق هذا العالم الذي أبرزه من العدم إلى الوجود لا بد أن يكون متصفا بصفات الكمال التي تليق به والتي لا تشبه صفات المخلوقات. إنّ الله سبحانه وتعالى ظاهرٌ بآياته أي ظاهر بدلائل وجوده. قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُروا إلى السماءِ فوقَهم كيفَ بنَيْنَاها وزيَّنَّاهَا وما لَها من فُروج). أيها الإنسان، إنّك إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبنيِّ المعدِّ فيه جميع ما يُحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف والأرضُ ممدودة كالبساط والنجوم منصوبة كالمصابيح. وإنك إذا نظرت إلى ما هو أدنى إليك وهي نفسك رأيت فيها من العجائب والآيات الشىء الكثير. وكذلك إذا نظرت إلى مستقرك وهو الأرض وأطلت النظر باسترسال ذهنك فيما جُعل فيها وعليها من جبال شامخات وما أحيط بها من بحار وما جرى فيها من أنهار.. ثم إذا نظرت إلى سَعتها وسَعة الشمس متذكراً أنّ الشمس والقمر والنجوم قد حَوَتها السماء، فما عساك تقول حين تتأمل وتتفكر في السماء الحاوية لهذا القدر العظيم.
جاء وفد من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له : “يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين فأنْبِئْنا عن بدء هذا الأمر ما كان” فقال عليه الصلاة والسلام “كان الله ولم يكن شىء غيره” رواه البخاري. لقد أجاب الرسول على سؤالهم بأنّ الله لا بداية لوجوده ، أي أزلي ، ولا أزلي سواه. وبعبارة أخرى : ففي الأزل لم يكن إلا الله تعالى ، والله تعالى خلق كل شىء. ومعنى خلق كل شىء :أنّه أخرج جميع المخلوقات من العدم إلى الوجود.
والله سبحانه موجود لا بداية لوجوده، قال تعالى (هو الأول) أي هو الذي لا بداية لوجوده. قال تعالى (وللهِ المثلُ الأعلى) أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره. هذا الذي يجب علينا اعتقاده في حق الله. وهذه هي العقيدة الحقة الصحيحة التي كان عليها السلف الصالح. وكل اعتقاد فيه تشبيه الله بالمخلوق يكون كفراً والعياذ بالله كمن يعتقد أنّ الله جسم أو أنّ الله كتلة نورانية كبيرة وأما معنى قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض) أي هادي أهل السموات وأهل الأرض لنور الإيمان ، كما روى ذلك الإمام البيهقي عن عبد الله بن عباس . فالاعتقاد الصحيح أنّ الله سبحانه هو خالق الاجسام وخالق الضوء وخالق كل شىء ولا يشبه شيئاً من مخلوقاته (ليسَ كمثلهِ شىء).
نسأل الله أن يثبتنا على هذه العقيدة الحقة وأن يثبّتنا على حراستها والدعوة إليها وأن يعيننا على نشر علم التوحيد. ونسأل الله تعا لى أن يرزقنا صيام نهاره وقيام لياليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.