العدد الخامس
الدنيا دار بلاء
الأحوال لا تثبت على حال، والسعيد من لازم التقوى، وإن افتقر أغنته، وإن ابتلي جملته، فلازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، ولا في الفقر إلى الغنى،والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُقدّر الله لا حيلة في تحصيله، والرضا والتوكل يهونان المصائب، والله هو له الأمر والتدبير،وتدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه، وهو أرحم به من الأم بولدها,ومن رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذمومٌ، ومع هذا فلا خروج عما قُدّر عليك.ولقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم،وقسم بينهم معايشهم وأموالهم،وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملاً. والإيمان بقضاء الله وقدره ركن من أركان الإيمان، وما في الأرض من حركة أو سكون إلا بمشيئة الله وإرادته، وما في الكون كائن إلابتقدير الله وإيجاده.
والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارضُ والمحنُ فيها هي كالحر والبرد لا بد للعبد منها، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّـابِرِينَ [البقرة:155]، والمصائب محن يتبين بها الصادق من الكاذب، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:20]، ولا بد من حصول الألم لكل نفس، سواء آمنت أم كفرت، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار،والمرء يتقلب في زمانه في تحول من النعم واستقبال للمحن. فهذا نبي الله آدم عليه السلام يُخرج من الجنة ويبتلى في الأرض ويقتل أحد ولديه الآخر وأي بلاء أشد من هذا.فأذا كان الأنبياء يبتلون فما دونهم أولى. فوطّن نفسك على المصائب قبل وقوعها،ليهن عليك وقعها، ولا تجزع بالمصائب، فللبلايا أمد محدود ولا تسخط بالمقال، فرب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان وأودت بصاحبها إلى سخط الله والوقوع بالكفر.والمؤمن الحازم يثبت للعظائم، يخفف المصاب على نفسه بوعد الأجر وتسهيل الأمر، والصابرون مجزيون بخير الثواب، وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:96] فلا تضيّع زمانك بهمّك بما ضمن لك من الرزق، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا، قال تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، بالابتلاء يعظم أجر الأبرار، يقول سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءٌ؟ قال: ((الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)) رواه البخاري.وطريق الابتلاء معبر شاق، تعب فيه آدم، ورمي في النار الخليل،الدنيا لم تصفُ لأحد، يقول المصطفى : ((من يرد الله به خيراً يصب منه))رواه البخاري.فتشاغل بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل،وتلمّح سرعة زوال بليتك تهن، ولا تقنط فتُخذل، وتذكر كثرة نعم الله عليك، وادفع الحزن بالرضا بمحتوم القضا، فطول الليل وإن تناهى فالصبح له انفلاج، وآخر الهم أول الفرج، والدهر لا يبقى على حال، بل كل أمر بعده أمر، وما من شدة إلا ستهون،ولا تيأس وإن تضايقت الكروب،فلن يغلب عسر يسرين، واضرع إلى الله يزهو نحوك الفرج، وما تجرّع كأس الصبر معتصم بالله إلا أتاه المخرج، يعقوب عليه السلام لما فقد ولداً وطال عليه الأمد، لم ييأس من الفرج، ولما أُخد ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد، بل قال: عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].
وربنا تعالى وحده له الحمد، وإليه المشتكى، فإذا تكالبت عليك الأيام، وأغلقت في وجهك المسالك والدروب، فلا ترجُ إلا الله في رفع مصيبتك ودفع بليتك، وإذا ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء محل البركات ومهبط الرحمات ومسكن الملائكة الكرام، وارفع أكف الضراعة إلى الله الذي يعلم بك ويسمعك وأنت في أي مكان وهو سبحانه موجود بلا مكان لأنه كان قبل المكان والزمان، وناد الكريم أن يفرج كربك، ويسهل أمرك، وإذا قوي الرجاء، وجمع القلب في الدعاء قوي رجاء القبول، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء [النمل:62]، وتوكل على الله القدير، وسلِّم الأمرلله،واسأله الفرج،ولا تستطيل زمن البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء، فإنك مبتلى بالبلاء، متعبَّد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله وإن طال البلاء، فالفرج قريب، وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:107]، وهو الفعال لما يريد اصبر على بلائه وحكمه، واستسلم لأمره. قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
التحذير من الغضب وعواقبه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى ءاله وصحابته الغر الميامين. يقول الله تعالى: ]ولَمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور[ [الشورى/42] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال لا تغضب، رواه البخاري.
أحباب رسول الله.. إن الغضب للنفس صفة مذمومة، وقد يخرج به الإنسان من اعتدال حاله ويتكلم بالباطل ويفعل القبيح، وينوي الحقد والبغضاء وغير ذلك من الصفات المذمومة والقبائح المحرمة، أعاذنا الله وإياكم من الغضب وشروره، فقد جاء في الحديث أن الغضب من الشيطان وجاء أيضاً أن رجلين كانا يستبان وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجده». أجل فإن الشيطان يا أخي المسلم هو الذي يزين للإنسان الغضب وكل ما لا تحمد عاقبته فيغويه ويبعده عن كل ما يرضي الله عز وجل، يقول الله تعالى: ]إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير[.
وإن أخطر ما يقع فيه الإنسان فيه حالة الغضب هو الكفر والعياذ بالله، كهؤلاء الذين لا يتورّعون عند الغضب عن شتم الله وعن شتم القرءان أو النبي أو الملائكة أو دين الإسلام أو غير ذلك من ألفاظ الكفر… لمجرد غيظ نفوسهم واتباع هوى شيطانهم، فيكفرون والعياذ بالله ويخرجون من دين الإسلام وإذا ماتوا على ذلك خسروا الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: ]ومَن يَرتدِد منكم عن دِينه فيَمُت وهو كافر فأولـْئك حبطت أعمالُهم فى الدنيا والآخرة وأولـْئك أصحاب النار هم فيها خالدون[.
وأسوق لحضراتكم اخوة الإيمان والإسلام هذه الحادثة التي حصلت في الجزيرة العربية والتي تبين لنا عواقب الغضب الوخيمة، وما تسببه من دمار وخراب وخسارة وهلاك في الدنيا والآخرة علّنا نأخذ منها الحكم والعبر.
ومرة كان عند زين العابدين علي بن الحسين ضيوف، فطلب سيدنا زين العابدين من عبده وخادمه أن يأتيه بالمشوي من اللحم الذي كان على النار، فأقبل الخادم مسرعاً وسقطت الحديدة التي يشوي عليها اللحم من يده على ابن صغير لعلي بن الحسين زين العابدين فأصابت رأسه فقتلته، فما كان من سيدنا زين العابدين إلا أن كظم غيظه بل زاد على ذلك وقال لعبده “أنت حر” وأخذ في جهاز ابنه.
احفظ لسانك أيها الإنسان ليلدغنـك إنه ثعــبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
جعلنا الله وإياكم من الذين يكظمون غيظهم عند الغضب وجنبنا الكفر والشرور عند الغضب وثبتنا على كامل الإيمان والإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها قبل أن لا يكون دينار ولا درهم».
والله أعلم.
الحمدُ للهِ غافرِ الذنوبِ والآثامِ، المنعِمِ علينا بالإيمانِ والإسلامِ، اللطيفِ الخبيرِ بأحوالِ عبادِهِ منَ الرَّعِيَّةِ والحُكامِ. أحمَدُهُ سبحانَهُ وتعالى حَمْدَ من أمرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ والحرام، وأُصلي واُسلّمُ على سيدِنا وحبيبِنا وعظيمِنا وقرةِ أعينِنا محمدٍ إمامِ المرسلينَ والأئمةِ الأعلام.
أنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقول: ))وإِن تَظاهَرا عليهِ فإنَّ اللهَ هو مولاهُ وجبريلُ وصالِحُ المؤمنين((.
ورد في صحيحِ البخاريِّ أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ ءالَ أبي طالبٍ ليسوا بأولِيائي إِنَّما وليِّي اللهُ وصالِحُ المؤمنين” وقالَ صلى اللهُ عليه وسلم: “إنَّ أولى النّاسِ بِيَ المتقونَ من كانوا وحيثُ كانوا” معنى الحديثِ أنَّ أولى الناسِ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هم المتقونَ، والمتقونَ هم المؤمنونَ الذين يُؤَدُّونَ الواجباتِ ويجتنبونَ المحرَّماتِ. ومن جُمْلةِ الواجباتِ تعلُّمُ علمِ الدينِ الضروريِ، أي ما يَحِلُّ وما يَحْرُمُ من المأْكَلِ والملبَسِ والمشربِ والمالِ، وهذا يُعرفُ بالتَّعَلُّمِ من أهلِ المعرفةِ الذين تعلَّموا مِمَّنْ قبلهم من أهلِ المعرفةِ إلى أن يَتَسَلْسَلَ الاتصالُ والنقلُ إلى الصحابةِ، من تعَلَّمَ القدرَ الضرورِيَّ بهذهِ الطريقةِ وليسَ شرطاً أن يَصيرَ مُفْتِياًّ وعمِلَ بهِ أي أدَّى كلَّ ما تعلَّمَ أنَّهُ فرضٌ واجتنبَ كلَّ ما تعلَّم أنهُ حرامٌ هذا يقالُ له المُتَّقِي ويقالُ للجمعِ المتَّقون، الرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: “إنّ أولى الناسِ بيَ المتقون من كانوا” أي مِنْ أيِّ جِنسٍ كانوا، “وحيث كانوا” أي في أيِّ أَرضٍ كانوا فالذي يكونُ بأقصى الشَّرْقِ أو بأَقْصى الغربِ ويكونُ تَقِياًّ أقربُ إلى الرَّسولِ مِنْ حيثُ المعنى منَ الذي وُلدَ بالمدينةِ المنورةِ وعاشَ فيها إذا لم يكُنْ تَقِياًّ، فالقُرْبُ الحقيقيُّ مِنْ رسولِ اللهِ القربُ النافِعُ الذي تعلو به الدرجاتُ هو تقوى اللهِ ليسَ النسب، فالإنسانُ من أيِّ جنسٍ من أجناسِ الناسِ كانَ إذا تَعَلَّمَ دينَ اللهِ عرَفَ الحلالَ والحرامَ وعَمِلَ بما تعَلَّمَ هذا أقربُ إلى الرَّسولِ وأفضلُ عندَ اللهِ تعالى من ذاكَ الآخرِ الذي نسبُهُ حُسينِيٌّ أو حسنِيٌّ وهو غيرُ مُتَّقٍ للهِ تعالى. ثمَّ إنَّ الإنسانَ تعلو درجَتُهُ عندَ اللهِ بحَسَبِ صبرِهِ، والصبرُ ثلاثةُ أنواعٍ الصبرُ عن المحرماتِ والصبرُ على الطاعاتِ والصبرُ على المكارِه.
والصبرُ عن المحرماتِ وهو أشدُّ أنواعِ الصبرِ، كفُّ النفسِ عن المحرماتِ على اختلافِ أنواعِها وهذا أفضلُ من كثيرٍ منَ النوافِلِ، مثلا إنسانٌ يصلي في اليومِ والليلةِ مائةَ ركعةٍ تَطُوُّعاً للهِ غيرَ الفرضِ وإنسانٌ ءاخَرُ لا يُصلِّي إلا الفرضَ، لا يصلي شيئاً من السنةِ إلا الفرضَ لكنَّ هذا كفَّ نفسَهُ عنِ ارتكابِ معصيةٍ أو أكثر منْ معصيةٍ. أما ذاكَ الذي يُصلِّي كلَّ يومٍ تطَوُّعاً لهُ معاصٍ يقعُ فيها. فهذا الذي يَكُفُّ نفسَهُ عنِ المعاصي ولا يصلِّي النفلَ إلا الفرضَ أفضلُ عندَ اللهِ من ذاكَ الذي يُصلِّي النَّفْلَ ويرتَكِبُ معصيةً أو معصيتينِ أو ثلاثاً وعلى هذا يقاسُ، تركُ معصيةٍ واحدةٍ أفضلُ عندَ اللهِ من عملِ ألفِ حسنةٍ من النَّوافِلِ، هذا ليسَ بينَهُ وبينَ الولايةِ إلا مرتبةٌ واحدةٌ وهي أن يُكْثِرَ من نوعٍ من أنواعِ النوافِلِ لو من نوعٍ واحدٍ أولياءُ اللهِ يفترقونَ عن غيرِهم منَ المسلمينَ حتى إنَّهم أعلى درجةً عندَ اللهِ منَ الشهيدِ الذي قاتَلَ العدُوَّ في سبيلِ اللهِ تقرُّباً إلى اللهِ بذَلَ نفسَه وخاطَرَ بنفسِه. والنوعُ الثاني من أنواعِ الصبرِ، الصبرُ على الطاعاتِ أي المواظَبَةُ على الطاعاتِ ومن الصبرِ على الطاعاتِ الصبرُ على الصلواتِ بحيثُ لا يشغَلُهُ عن الصَّلاةِ ولدٌ ولا مالٌ ولا صديقٌ، بعضُ الناس ينشغلونَ عنِ الصلاةِ من أجلِ الولدِ من أجلِ الأطفالِ وبعضُهم حتى لغيرِ الأطفالِ، قد تترُكُ المرأةُ الصلاةَ حتى ترضِيَ أولادَها الذين هم بالِغونَ بِتَهْيِئَةِ الطعامِ لهم تُعَطِّلُ صلاةً أو صلاتينِ من أجلِهِم هذهِ ناقِصَةٌ عندَ اللهِ بعيدةٌ منَ اللهِ، كذلكَ بعضُ النساءِ منْ أجلِ إرضاءِ أزواجِهنَّ يُعَطِّلْنَ صلاةً أو أكثرَ، هؤلاءِ ما صَبَرْنَ على الطاعةِ. كذلكَ بعضُ الناسِ يتكاسَلونَ عنِ الصلاةِ وقتَ البَردِ هؤلاءِ أيضا ليسوا من أهلِ الصَّبرِ على الطاعةِ.
ومن هذا النوعِ أيضا الصَّبرُ على الصيامِ في أيامِ الحرِّ التي يشتَدُّ فيها العطشُ والجوعُ، فالذي يحبِسُ نفسَهُ عن الأكلِ والشربِ مع ميلِ نفسِهِ في رمضانَ إلى الأكلِ والشربِ هذا صابِرٌ على الطاعةِ والصبرُ على الطاعةِ بابٌ واسعٌ.والثالثُ من أنواعِ الصَّبرِ الصبرُ على المكارِهِ والشدائِدِ والمصائِبِ كالصبرِ على الأمراضِ أو على شدةِ مرارةِ الفقرِ أو على فُقدانِ من يعُزُّ منَ الأهلِ والأصحابِ والأصدقاءِ فمنِ ابتُلِيَ بأيِّ مصيبةٍ من هذهِ المصائِبِ فصَبَرَ عليها فهو عندَ اللهِ في خيرٍ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “من يرِدِ اللهُ بهِ خيراً يُصِبْ منهُ” وقالَ: “إنَّ عُظْمَ الأجرِ معَ عُظْمِ البلاءِ”.
ثم بعضُ الناسِ الذينَ أرادَ اللهُ تبارك وتعالى بِهِمُ الشَّرَّ قد تمضي عليهم أيامٌ وأزمانٌ يكونونَ فيها مُقْبِلينَ على العبادةِ ثم تصدُمُهُمُ المصائِبُ والبلايا فيرجِعونَ إلى الوراءِ بدل أن يثبُتوا على الصبرِ كأن يقِلَّ رزقُهم بعد أن كانَ واسِعا فيترُكونَ النَّشاطَ في العباداتِ الذي كانوا عليهِ. قالَ تعالى في هؤلاءِ: ))ومِنَ الناسِ من يعبُدُ اللهَ على حرفٍ فإِنْ أصابَهُ خيرٌ اطمأَنَّ بهِ وإن أصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وجهِهِ خسِرَ الدُّنيا والآخرةَ((، فمعنى هذه الآيةِ أنَّ مِنَ النَّاسِ الذينَ أُريدَ بهمُ الشرُّ منْ يدخُلونَ في الإسلامِ فيكونونَ في حالةِ يُسْرٍ ونِعمةٍ فيقولونَ هذا الدينُ حقٌّ لأنا دخلْنا فيهِ ولقِينا رخاءً وسعادةً ثم بعدَ أن تصيبَهُمُ المصائبُ ينقلبونَ يقولونَ هذا الدينُ ما نفَعَنا هذا من شُؤْمِ هذا الدينِ لا خيرَ فيهِ لو كانَ فيهِ خيرٌ ما أصابَتنا هذه البلايا هؤلاءِ ذمَّهُمُ اللهُ تعالى في القرءانِ في هذهِ الآيةِ، فعلى العبدِ أن يثبُتَ على صِفَةِ الصبرِ أي عليهِ أن يؤمِنَ باللهِ ورسولِهِ ويلزمَ طاعةَ اللهِ تعالى في الرَّخاءِ والشِّدَّةِ فلا يتحولُ إلى الفُسوقِ لما يكثُرُ الرزقُ عليهِ لا يرتَكِبُ الفسوقَ والفجورَ ثمّ إن أصابَهُ قِلَّةٌ وفاقَةٌ لا يترُكُ فرائضَ اللهِ بل يثبُتُ في المقامِ الذي هو فيهِ ولا يتركُ مُلازمةَ طاعةِ اللهِ تعالى.
اللّهُمّ صلّ على محمدٍ وعلى ءالِ محمدٍ كما صلّيْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ إنّكَ حميدُ مجيدُ، اللّهُم اغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا اللّهُم نَقِّنَا من الذُّنوبِ والخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبيَضُ مِنَ الدّنَسِ يا ربَّ العالمينَ اللّهُمّ عَلِّمْنَا ما جَهِلْنَا وذَكِّرْنَا ما نَسِينَا واجعَلِ القُرءانَ ربيعَ قُلُوبِنَا ونُوراً لأبْصارِنَا وَجَوَارِحِنَا وَتَوَفَّنَا على هَدْيِهِ وأكْرِمْنَا بِحِفْظِهِ واحْفَظْنَا بِبَرَكَتِهِ وَبَرَكَةِ نَبيِّكَ مُحمدٍ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ واغفِرِ اللّهُمَ للمُؤمنينَ والمؤمناتِ الأحْياءِ مِنهُم والأمواتِ إنّكَ سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدّعواتِ.
ومن هؤلاء:
السيد الجليل والإمام الزاهد أحمد الرفاعي الكبير
رضي الله عنه.
هو الشيخ الزاهد القدوة العارف بالله أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم بن علي بن رفاعة.
وقد ثبتت نسبته من جهة أمه إلى سيدنا الحسين ابن السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصل نسبه بأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه من جهة جده الإمام جعفر الصادق لأن أم الإمام جعفر الصادق هي فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
مولده:
ولد رضي الله عنه سنة (512) هجرية في العراق في قرية حسن بالبطائح، والبطائح عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط والبصرة. وفي السابعة من عمره توفي أبوه في بغداد، فكفله خاله الشيخ الزاهد القدوة منصور البطائحي وقد رباه تربية دينية وأحسن تربيته.
نشأته العلمية ومشايخه:
نشأ الإمام الرفاعي منذ طفولته نشأة علمية وأخذ في الانكباب على العلوم الشرعية، فقد درس القرءان العظيم وترتيله على الشيخ المقرئ والشيخ عبد السميع الحربوني في قريته وله من العمر سبع سنين. وانتقل مع خاله ووالدته وإخوته إلى بلدة “نهر دفلي” من قرى واسط في العراق وأدخله خاله على الإمام الفقيه الشيخ أبي الفضل علي الواسطي رضي الله عنه وكان مقرئاً ومحدثاً وواعظاً عالي الشأن. فتولى هذا الإمام أمره وقام بتربيته وتأديبه وتعليمه، فجد السيد أحمد الرفاعي في الدرس والتحصيل للعلوم الشرعية حتى برع في العلوم النقلية والعقلية. وأحرز قصب السبق على أقرانه وكان الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه يلازم دروس العلم ومجالس العلماء، فقد كان يلازم درس خاله الشيخ أبي بكر سلطان علماء زمانه كما كان يتردد على حلقة خاله الشيخ منصور البطائحي، وتلقى بعض العلوم على الشيخ عبد الملك الحربوني، وحفظ رضي الله عنه “كتاب التنبيه” في الفقه الشافعي للإمام أبي اسحق الشيرازي وقام بشرحه شرحاً عظيماً، وأمضى رضي الله عنه أوقاته في تحصيل العلوم الشرعية على أنواعها وشمر للطاعة وجدّ في العبادة حتى أفاض الله عليه من لدنه علماً خاصاً حتى صار عالماً وفقيهاً شافعياً وعالماً ربانياً رجع مشايخه إليه وتأدب مؤدبوه بين يديه.
وكان الشيخ الجليل أبو الفضل علي محدث واسط وشيخها قد أجاز الإمام أحمد الرفاعي وهو في العشرين من عمره إجازة عامة بجميع علوم الشريعة والطريقة وأعظم شأنه ولقبه “بأبي العلمين”، أي الظاهر والباطن، لما أفاض الله عليه من علوم كثيرة حتى انعقد الإجماع في حياة مشايخه واتفقت كلمتهم على عظيم شأنه ورفعة قدره.
وفي الثامن والعشرين من عمر الإمام أحمد الرفاعي الكبير عهد إليه خاله الشيخ منصور بمشيخة الشيوخ ومشيخة الأروقة المنسوبة إليه وأمره بالإقامة في أم عبيدة برواق جده لأمه الشيخ يحي النجاري والد الشيخ منصور الذي تولى كفالته وتعليمه منذ طفولته.
جهاده في تعليم الناس أمور دينهم:
دأب الإمام أحمد الرفاعي كغيره من العلماء العاملين في تعليم الناس أمور دينهم وجدّ في الوعظ والإرشاد وعقد حلق العلم حتى كان نبراساً يستضيء به الناس فيما ينفعهم، وكان رضي الله عنه لا يفتر عن تعليم الناس هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأسرار القرءان العظيم.
وفي رسالة “سواد العينين في مناقب الإمام أبي العلمين” للإمام الرافعي قال: أخبرني الفقيه العالم الكبير بغية الصالحين قال: كنت في “أم عبيدة” زائراً عند السيد أحمد الرفاعي في رواقه وحوله من الزائرين أكثر من مائة ألف إنسان منهم الأمراء والعلماء والشيوخ والعامة، وقد احتفل بإطعامهم وحسن البشر لهم كل على حاله، وكان يصعد الكرسي بعد الظهر، فيعظ الناس، والناس حلقاً حلقاً حوله، فصعد الكرسي بعد ظهر خميس وفي مجلسه وعاظ واسط، وجم كثير من علماء العراق، وأكابر القوم، فبادر القوم بأسئلة من التفسير وءاخرون بأسئلة من الحديث، وجماعة من الفقه وجماعة من الخلاف، وجماعة من الأصول، وجماعة من علوم أخرى. فأجاب على مائتي سؤال من علوم شتى ولم يتغير حاله حال الجواب، ولا ظهر عليه أثر الحدة، فأخذتني الحيرة من سائليه، فقمت وقلت: أما كفاكم هذا؟ والله لو سألتموه عن كل علم دُوِن لأجابكم بإذن الله بلا تكلف. فتبسم وقال: “دعهم أبا زكريا فليسألوني قبل أن يفقدوني، فإن الدنيا زوال، والله محول الأحوال”. فبكى الناس، وتلاطم المجلس بأهله وعلا الضجيج، ومات في المجلس خمس رجال، وأسلم من الصابئين والنصارى واليهود ثمانية ءالاف رجل أو أكثر، وتاب أربعون ألف رجل.
كان يكره أصحاب القول بالحلول والوحدة المطلقة الذين يشبهون الله بخلقه والعياذ بالله
كان الإمام أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه متواضعاً في نفسه خافضاً جناحه لإخوانه غير مترفع وغير متكبر عليهم، وروي عنه أنه قال: “سلكت كل الطرق الموصلة فما رأيت أقرب ولا أسهل ولا أصلح من الافتقار والذل والانكسار” فقيل له: يا سيدي فكيف يكون؟ قال: “تعظم أمر الله، وتشفق على خلق الله وتقتدي بسنة سيدك رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وكان رضي الله عنه يخدم نفسه، ويخصف نعله، ويجمع الحطب بنفسه ويشده بحبل ويحمله إلى بيوت الأرامل والمساكين وأصحاب الحاجات، ويقضي حاجات المحتاجين ويقدم للعميان نعالهم ويقودهم إذا لقي منهم أناساً إلى محل مطلوبهم، وكان رضي الله عنه يمشي إلى المجذومين والزمْنَى ويغسل ثيابهم ويحمل لهم الطعام، ويأكل معهم ويجالسهم ويسألهم الدعاء، وكان يعود المرضى وإذا سمع بمريض في قرية ولو على بعد يمضي إليه ويعوده، وكان شفيقاً على خلق الله يرأف باليتيم، ويبكي لحال الفقراء ويفرح لفرحهم وكان يتواضع كل التواضع للفقراء.
وقد قال مشايخ أهل عصره: “كل ما حصل لابن الرفاعي من المقامات إنما هو من كثرة شفقته على الخلق وذل نفسه رضي الله عنه”. وكان رضي عنه يعظم العلماء والفقهاء ويأمر بتعظيمهم واحترامهم ويقول: “هؤلاء أركان الأمة وقادتها”.
سخاؤه وزهده وسلامة طويته:
كان رضي الله عنه متجرداً من الدنيا، ولم يدخر أموالها، بل كان لا يجمع بين لبس قميص وقميص لا في صيف ولا في شتاء، مع أن ريع أملاكه كان أكثر من ريع أملاك الأمراء، وكان كل ما يحصل منها ينفقه في سبيل الله على الفقراء والمساكين والواردين إليه. وكان يقول: “الزهد أساس الأحوال المرضية والمراتب السنية”. وكان رضي الله عنه مقتدياً بأخلاقه بجده الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لا يجازي قط السيئة بالسيئة بل يعفو ويصفح ويصبر على المكاره.
وكان رضي الله عنه يقول: “طريقي دين بلا بدعة، وعمل بلا كسل، ونية بلا فساد وصدق بلا كذب، وحال بلا رياء.
وكان غالب الأقطاب المشهورين في الأقطار الإسلامية ينتهون إليه من طريق الخرقة على الغالب لذلك لُقب الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه بشيخ الطرائق وأستاذ الجماعة والشيخ الكبير إلى ءاخر ما هنالك من الألقاب.
ومن الذين ينتمون إليه: الشيخ الحافظ عز الدين الفاروقي، والشيخ أحمد البدوي، والعارف بالله أبو الحسن الشاذلي، والشيخ نجم الدين الأصفهاني شيخ الإمام الدسوقي، والشيخ أحمد علوان اليماني، والحافظ جلال الدين السيوطي، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ علي الخواص، وغيرهم كثيرون من الأقطاب والعلماء ومشايخ الطرق.
من أشهر كراماته وأعلاها شأناً تقبيله يد جـــده سيدنا محــــــمد صلى الله عليه وسلم
من كرامات السيد الرفاعي رضي الله عنه:
الكرامة هي أمر خارق للعادة تظهر على يد المؤمن المستقيم بطاعة الله وبذلك تفترق الكرامة عن السحر والشعوذة. وتفترق الكرامة عن المعجزة بأن المعجزة تكون لإثبات النبوة، وأما الكرامة فتكون للدلالة على صدق اتباع صاحبها لنبيه.
وكل ما صح أن يكون معجزة لنبي صح أن يكون كرامة لولي، ويجب الإيمان بوجود الأولياء وكراماتهم، والولي هو المؤمن المستقيم بطاعة الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات والإكثار من نوافل العبادات، لذلك لا ينكر الكرامات التي حصلت وتحصل من أولياء الله الصالحين إلا الجاهل بأمور الدين، لأن الله سبحانه نص في كتابه الكريم على كرامات أوليائه المتقين.
وهذه دولة الأشباح قد حضرت … فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فمدَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة النورانية من قبره الأزهر الكريم فقبلها والناس ينظرون. وقد كان في الحرم الشريف الألوف حين خروج اليد الطاهرة المحمدية. وكان من أكابر العصر فيمن حضر الشيخ حياة بن قيس الحراني، والشيخ عدي بن مسافر، والشيخ عقيل المنبجي، وهؤلاء لبسوا خرقة السيد أحمد رضي الله عنه وعنهم في ذلك اليوم واندرجوا بسلك أتباعه، وكان فيمن حضر الشيخ أحمد الزاهر الأنصاري، والشيخ شرف الدين بن عبد السميع الهاشمي العباسي، وخلائق كلهم تبركوا وتشرفوا برؤيا اليد المحمدية ببركته رضي الله عنه، وبايعوه هم ومن حضر على المشيخة عليهم وعلى أتباعهم رحمهم الله”.
اعلم أرشدنا الله وإياك أن الله سبحانه وتعالى خالق العالم بأسره العلوي والسفلي والعرش والكرسي، وهو الأول أي الأزلي الذي لا بداية لوجوده، كان في الأزل وحده ولم يكن شيء من العوالم الكثيفة كالعرش والشمس والقمر والإنسان ولا من العوالم اللطيفة كالنور والظلام والأرواح فهو موجود لا كالموجودات ليس كخلقه حجماً لطيفاً ولا حجماً كثيفاً لقوله تعالى: ]ليس كمثله شىءٌ[ [سورة الشورى ءاية 11] وذلك لأنه لو كان جسماً كثيفاً لكان له أمثال ولو كان جسماً لطيفاً لكان له أمثال وقد دلت هذه الآية على ذلك وعلى أنه لا يتصف بصفات العالمين كالحركة والسكون والتحول من حال إلى حال والتحيز في جهة أو مكان والجلوس والاستقرار في جهة وذلك لأن الجلوس صفة مشتركة بين الإنسان والملائكة والجن والطيور، فهو سبحانه وتعالى الموجود الأزلي الذي لا ابتداء لوجوده، وما سواه حادث مخلوق خلقه الله بقدرته فأبرزه من العدم إلى الوجود، قال الله تبارك وتعالى: ]الله خالق كل شىءٍ وهو على كل شىءٍ وكيل[ [سورة الزمر]، وقال تعالى: ]وخلق كل شىءٍ فقدره تقديراً[[سورة الفرقان]، وقال تعالى: ]الحمد لله الذي خلق السمْوات والأرض وجعل الظُلمات والنور[ [سورة الأنعام]، فإن الله سبحانه أخبر في هذه الآية بأنه لم يكن في الأزل نور ولا ظلام فوجب الإيمان بأنه مضى وقت لم يكن فيه نور ولا ظلام فيجب الإيمان بذلك مع أن وهم الإنسان لا يستطيع أن يتصوره فكيف يستطيع أن يتصور الخالق فهو كما قال أئمة الهدى: “مهما تصورت ببالك فالله بخلا ف ذلك”، قال ذلك الإمام أحمد بن حنبل والإمام ذو النون المصري والشافعي وغيرهم.
أما الماء والعرش فهما أول خلق الله، وأولهما وجوداً الماء، فهو أصل لغيره من المخلوقات والله تعالى خلقه بقدرته من غير أصل، فبداية العالم إذاً من غير مادة ولا يحيل العقل السليم ذلك، والدليل الشرعي الذي استند إليه العلماء في أن أصل العالم هو الماء وهو أول المخلوقات خبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق الذي رواه ابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل شىء خلق من الماء»، ولفظ ابن حبان أن أبا هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقَرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء، قال: «إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء»، وفي لفظ: «كل شىء خلق من الماء»، وروى السّدي بأسانيد متعدة عن جماعة من الصحابة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء». فيتبين بذلك أن الماء هو أصل جميع المخلوقات وهو أول الخلق، فمن الماء خلق العالم.
وثاني المخلوقات بعد الماء العرش وهو أكبر الأجرام التي خلقها الله، ثم خلق الله القلم الأعلى، ثم اللوح المحفوظ. والذي يدل على أولية هذه المخلوقات الأربعة ما رواه البخاريُ وابن الجارود والبيهقي من حديث عمران بن الحصين قال: أتى أناسُ من أهل اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين فأنبئنا عن بَدء هذا الأمر ما كان، فقال: «كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كلَّ شىء، ثم خلق السموات والأرض» فهذا الوفد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بدء هذا الأمر أي عن أول العالم فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بالأهم أي بأهم مما سألوا وهو أنه أثبت الأزلية لله وحده، ثم أجابهم عن سؤالهم وهو أول العالم وبدء الخلق، والأمر الأهم هو قوله صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شىء غيره» أي كان الله في الأزل موجوداً وليس غيره معه، فأفادهم عليه الصلاة والسلام أن الأزلية المطلقة ليست إلا لله الخالق، وأن الموجود الذي لا ابتداء لوجوده هو الله سبحانه وتعالى فقط لا يشاركه في هذه الصفة شىء من المخلوقات، لأن الألوهية لا تصح مع إثبات شىء غير الله مع الله تعالى في الأزل، وقد أثبت الله في القرءان الأزلية له وحده ليفهمنا أن هذا العالم كله مخلوق خلقه من العدم إلى الوجود، قال الله تعالى: ]هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شىءٍ عليمُ[ [سورة الحديد] والأول إذا أطلق على الله معناه الذي لا بداية لوجوده. وقد أجمع علماء المسلمين قاطبة على تكفير الذين قالوا بأزلية العالم، وسواء في الكفر الذين قالوا: إن العالم قديم أزلي بجنسه ونوعه، حادث مخلوق بأفراده، والذين قالوا: إن العالم قديم أزلي بمادته وصورته أي تركيبه، فكلا الفريقين كفار، وممن نقل الإجماع على تكفيرهم الإمام الفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في كتابه تشنيف المسامع بشرح جمع الجوامع فقال بعد أن ذكر كلام الفريقين: “وضللهم المسلمون وكفّروهم”، وممن نصّ على تكفيرهم الإمام المجتهد والحافظ اللغوي تقي الدين السبكي الشافعي، والقاضي عياض المالكي، والحافظ ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري وغيرهم.
أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت عن النبي أنه قال: «أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» فالمراد به الأولية النسبية أي هو أول بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، ويعين هذا التأويل حديث مسلم في صحيحه: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمْوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء» فقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير.
وبما تقدم من النقل الصحيح يعلم بطلان قول إن النور المحمدي هو أول خلق الله، والاستدلال لذلك بحديث: “أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر، خلقه من نوره قبل الأشياء” باطل لأنه حديث موضوع على رسول الله كما قال السيوطي في شرح الترمذي وغيره، وهو جَديرٌ بكونه موضوعاً لمخالفته القرءان والحديث ولا يصح نسبته إلى مصنف عبد الرزاق الصنعاني لأنه ذكر في تفسيره أن الماء بدءُ الخلق، وأما حديث: “أول ما خلق الله العقل” فليس بثابت كما ذكر الحافظ العراقي. والله تبارك وتعالى أعلم.
حكم الدين
قراءة القرءان على القبر
ما حكم قراءة القرءان على قبور المسلمين؟
– يجوز قراءة القرءان على قبر المسلم بل يستحب ذلك وهو نافع للقارئ ولمن قرئ على قبره من المسلمين فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أحد الصحابة أن يقرأ على القبر أول البقرة وخاتمتها، وصحح ابن حبان حديث «اقرأوا على موتاكم يس» وقد قال الشافعي أن القراءة على القبر يصل ثوابها للميت، وهذا ما عليه جميع الأئمة. أما إذا لم تكن على القبر فلا تصل إلا إذا قال القارئ: اللهم أوصل ثواب ما قرأت لفلان أو نحو ذلك. وقد ذكر مسئلة مشروعية قراءة القرءان للميت المسلم المرداوي الحنبلي في كتابه الانصاف وكثيرون غيره.
عمل المولد
يقول بعض الناس متسائلين: لو كان عمل المولد حسناً لسبقنا إليه السلف الصالح؟
– نقول في الجواب عن ذلك أن كثيراً من الأمور الحسنة حدثت بعد رسول الله وبعد السلف وقبلِها كل أهل العلم المنصفين، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» الحديث. لم يقيد ذلك بزمن من الأزمان فيقال لهم هذا من رحمة الله أنتم تريدون أن تقيدوا رحمة الله؟!.
المزاح في الكذب ليس عذراً
بعض الناس إذا كانوا يمزحون يقعون في الكذب، فهل يكون المزاح عذراً لهم؟
– الكذب عند أهل الحق هو الإخبار بالشيء على خلاف الواقع عمداً، أي مع العلم بأن خبره هذا على خلاف الواقع، فإن لم يكن مع العلم بذلك فليس كذباً محرّماً، وهو حرام بالإجماع سواء كان على وجه الجِد أو على وجه المَزح كما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقوفاً على بعض الصحابة: «لا يصلُحُ الكذب في جِدٍ ولا في هزل». وورد في الصحيح: «إيّاك والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً». وما أكثر من هلك باستعمال الكذب في الهزل والمزح، وأشد ما يكون من ذلك إذا كان يتضمن تحليل حرامٍ أو تحريم حلالٍ أو ترويع مسلم يظن أنه صدقٌ.
خلق الله العرش لحكمة
ما الحكمة من خلق العرش ونحن لا نراه؟
– الله تعالى خلق العرش إظهاراً لقدرته كما قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: “إن الله خلق العرش إظهاراً لقدرته ولم يتخذه مكاناً لذاته”. فالملائكة وهم أكثر عباد الله لمَّا يرون العرش العظيم يزدادون علماً بكمال قدرة الله، ونحن بالنسبة إلى الملائكة كنقطة من بحر. والمؤمنون في الآخرة لما يرون العرش يزدادون تعظيماً لله، فالملائكة الآن يرون العرش سواء الحملة وغير الحملة، قال الله تعالى: ]وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم[.
يجب إخراج حروف الفاتحة من مخارجها
كثير من الناس لا سيما هذه الأيام يقرأون الفاتحة في الصلاة بسرعة بحيث لا يخرجون بعض الحروف من مخارجها فما حكمهم؟
– معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فقراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فمن لم يأتِ بها، أو أتى بها على غير وجهها لا تصح صلاته، كهؤلاء الذين لا يأتون بالضاد صحيحة أو بالصاد، وأعجب لمن يعترض على من يخرج الصاد من مخرجها مع الصفير، فقد ذكر العلماء أن حروف الصفير السين والصاد والزاي، وأقواها في ذلك الصاد، ذكر ذلك زكريا الأنصاري في شرحه على الجزرية في التجويد حتى ألّف بعض العلماء رسالة من عدة ورقات سماها: “الاقتصاد في الفرق بين السين والصاد”.
وهاكم نصاً في المسئلة العظيم النفع في صحيفة ثلاث وتسعين وثلاثمائة من كتاب “المجموع شرح المهذب” للنووي، قال ما نصه: “ولو أخرج بعض الحروف من غير مخرجه بأن يقول نستعين تشبه التاء الدال، أو الصاد لا بصاد محضة ولا بسين محضة بل بينهما، فإن كان لا يمكنه التعلم صحت صلاته وإن أمكنه التعلم وجب التعلم. ويلزمه قضاء كل صلاة في زمن التفريط في التعلم”. نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والله تعالى أعلم.
من صنف القرعيات، والأصفر يقال له الشمام ويعرف في دول الخليج بالركي وفي العراق بالجبس والدبشي وفي السعودية الحبحب. ويعتبر البطيخ في مقدمة فواكه الصيف لأنه يحتوي على نسبة كبيرة من وزنه ماء يطفئ العطش ويعمل ترطيب الجسم. ولاحتواء البطيخ على الكبريت والفوسفور والكلور والبوتاس والصودا فهو ذو مفعول مدر. وتبلغ نسبة الماء في البطيخ حوالي 90 بالمائة من وزنه والسكر 6 بالمائة. والبطيخ فقير بفيتامين أ A غني فيتامين ج ـC وفيه كمية قليلة من حامض النيكوتنيك المضاد لمرض البلاغرا.
وتستعمل بذور البطيخ في الهند كملين ومجدد للقوة، كما تحمص هذه البذور للتسلية كسائر النقولات. ولا بد من التنبيه أن الإفراط في تناول البطيخ بعد الطعام يسبب عسراً في الهضم.
يزرع البطيخ في أواخر الشتاء وأوائل الربيع ويحتاج نموه لموسم طويل لا يقل عن أربعة أشهر ولدرجة حرارة عالية وشمس ساطعة. ويُعرف نضج ثمرة البطيخ بكبر حجمها ولون قشرتها وكذلك جفاف عرقها وبصوت مكتوم أجوف إذا قرع عليها بباطن الكف.
ولا تدل هذه العلامات على لون الثمرة إن كان أحمر أو طعمها إن كان حلواً فهذا يتوقف على الصنف وحرارة الهواء وعدم إصابة الثمرة بالفطريات.