Search or ask ابحث او اسأل

الفرض العيني من علم الدين

الفرض العيني من علم الدين
بِسمِ اللهِ الَّرحمَنِ الَّرَحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله وصحبه وسلم،

مُقَدِمَةٌ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمَيِنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيّـِدِنا مُحَمَّدٍ وَسَلَّم. أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ نِيَّاتِنَا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ وَأَنْ يُيَسّـِرِ لَنَا سُبُلَ الخَيْرِ ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الفَهْمَ ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الإِخْلاَصِ والنّجَاةِ يَومَ القِيَامَةِ ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا هُدَاةً مَهْدِيِين يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَـنَهُ.

الْكِتَابُ الَّذِى سَنـَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ هُوَ كِتَابُ مُخْتَصَرِ أُلّـِفَ لِغَرَضِ تَعْلِيمِ طَالِبِ الْعِلْمِ الفَرْضَ العَيْنِىَّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ ، لأَنَّ هُنَاكَ قَدْرًا مِنْ عِلْمِ الدِّينِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَتُهُ. وَمَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْهُ لاَ يَضْمَنُ صِحَّةَ صَلاَتِهِ وَلاَ صِحَّةَ طَهَارَتِهِ وَلاَ صِحَّةَ صِيَامِهِ وَلاَ صِحَّةَ زَكَاتِهِ. لاَ يَضْمَنُ أَنَّهُ مُتَجَنّـِبٌ بِيَدِهِ وَرِجْلِهِ وَعَيْنِهِ وَأُذُنِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ الْمَعَاصِىَ الَّتِى نَهَى اللهُ عَنْهَا. الإِنْسَـانُ إِذَا أَرَادَ حَقِيقَةً أَنْ يَتَّبِع رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَ السَّلاَمُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَأَنْ يَعْمَلَ بِه. إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى سَنـتَكَلَّمُ فِى حَلِّ أَلْفَاظِ هَذَا الكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ ، لأَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ شَأْنُهُ أَنْ يَتَأَنَّى فِى تَلَقّـِى الْمَعْلُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. لِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِىُّ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ:[ مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً.] رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقّـِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ كُنْ مُتَأَنّـِياً لَمَّا تَتَلَقَّى الْعِلْمَ حَتَّى يَرْسَخَ فِى قَلْبِكَ ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّكَ الإِكْثَارَ مِنَ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ رُسُوخِ الفَهْمِ. لِذَلِكَ عَادَةُ العُلَمَاءِ أَنْ يَشْرَحُوا أَوَّلاً لِلطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ حَتَّى يَرْسَخَ فِى قَلْبِهِ مَا سَمِع ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا كَثِيراً مِنَ الاسْتِـثْنَاءَاتِ ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا أَحْيَاناً كُلَّ الْقُيُودِ الْمُتَعَلّـِقَةِ بِالْمَسْئَلَةِ ، ثُمَّ فِى مَرَّةٍ ثَانِيَةٍ إِنْ رَأَوْا مِنْهُ الْفَهْمَ يُفَصّـِلُونَ لَهُ أَكْثَرَ ، وَهَكَذَا. الإِمَامُ الْبُخَارِىُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:[ الرَّبَانِيُّونَ قِيلَ هُمُ الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ ثُمَ بِكِبَارِهِ.] إهـ. يَعْنِى أَوَّلاً لاَ يُوَسّـِعُونَ كَثِيراً حَتَّى يَرْسَخَ الْعِلْمُ فِى قَلْبِ الطَّالِبِ ثُمَّ شَيْئاً فَشَيْئاً يَزِيدُونَ لِلطَّالِبِ بِحَسَبِ مَا يَرَونَ مِنْ قَابِلِيَّتـِهِ وَاهْتِمَامِهِ. يَكْفِى فِى ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ خَرَجَ فِى طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِى سَبِيْلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ.] رَوَاهُ التّرْمذِىُّ. وَلِيُعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ العِلْمِ فِيهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ ، يَعْنِى يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ مِثلُ ثَوَابِ المُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللهِ. وَالْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللهِ مَعْلُومٌ ثَوَابُهُ ، فِى الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ أُعِدَّتْ لِلْمُجَاهِدِينَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. فَالَّذِى يَخْرُجُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ يَكُونُ ثَوابُهُ مِثْلَ ثَوَابِ المُجَاهِدِينَ ، لِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ:[ طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ النَّافِلَةِ.] إهـ. رَوَاهُ الخَطِيبُ فِى الفَقِيهِ وَالْمُتَفَقّـِهِ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَبْدَرِىُّ حَفِظَهُ اللهُ:[ نَشْرُ الْعِلْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ تَوْزِيعِ الْمَالِ عَلَيْهِم.] إهـ. ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الدِّينِ هُوَ السّـِلاَحُ الَّذِى يُدَافِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ شَيَاطِينَ الجِنِّ وَشَيَاطِينَ الإِنْسِ وَيُدَافِعُ بِهِ هَوَاهُ. يَسَّرَ اللهُ لَنَا جَمِيعاً الانْتِفَاعَ بِذَلِكَ.
قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَــْنِ الرَّحِيمِ.

الشَّرْحُ: أَىْ أَبْدَأُ بِسْمِ اللهِ أَوِ ابْتِدَائِى بِسْمِ اللهِ. وَلَفْظُ الْجَلاَلَةِ اللهُ عَلَمٌ لِلذِّاتِ الْمُقَدَّسِ الْمَوْصُوفِ بِالإِلَــْــهِيَةِ وَهِىَ الْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِ الأَعْيَانِ. والرَّحْمَــْنِ أى الَّذِى يَرْحَمُ المُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِى الآخِرَةِ. وَالرَّحِيمِ أَىِّ الَّذِى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِى الآخِرَةِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ ابْتَدَأَ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ البَسْمَلَةِ عَمَلاً بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ كُلُّ أَمْرٍ ذِى بَالٍ لاَ يُبْدَأُ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَقْطَعُ.] رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. أَىْ كُلُّ أَمْرٍ لَهُ شَرَفٌ شَرْعاً لاَ يُبْدَأُ بِالْحَمْدِ للهِ فَهُوَ أَقْطَعُ أَىْ نَاقِصٌ من الخير ، وَالْمَعْنَى حَمْدُ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ الْكَثِيرةِ الَّتِى لاَ نُحْصِيهَا. وَرَبِّ الْعَالَمِينَ أَىْ مَالِكُهُمُ الْحَقِيقِىُّ. وَالْعَالَمُونَ هُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ كَمَا فَسَّرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاس ، وَإِنْ كَانَتْ أَيْضاً تَأْتِى بِمَعْنَى جَمْعِ عَالَمٍ وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى.

قَالَ المُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْحَىِّ.

الشَّرْحُ: أَنَّ اللهَ تَعَالى مَوْصُوفٌ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ لاَ تُشْبِهُ حيَاتَنَا ، لَيْسَتْ بِاجْتِمَاعِ رُوحٍ وَلَحْمٍ وَعَظْمٍ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْقَيُّومِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ، مُسْتَغْنٍ عَنْ غَيْرِه ، مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ عَدَاه. وَقِيلَ مَعْنَى الْقَيُّومِ الدَّائِمُ الَّذِى لاَ يَزُولُ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: المُدَبّـِرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ.

الشَّرْحُ: أَنَّ التَّدْبِيرَ الشَّامِلَ لِكُلِّ شَىءٍ إِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِى يَجْعَلُ كُلَّ شَىءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَلِغَيْرِ اللهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ تَدْبِيرٌ لاَئِقٌ بِهِمْ كَالْمَلاَئِكَةِ ، فَإِنَّ اللهَ ذَكَرَهُمْ فِى الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ:{ فَالمُدَبّـِرَاتِ أَمْراً.} سورة النازعات/ ءاية 5. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَلاَئِكَةُ ، لَكِنْ تَدْبِيرُ اللهِ شَامِلٌ ، أَمَّا الْمَلاَئِكَةُ فَتَدْبِيرُهُمْ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الأُمُورِ ، وَتَدْبِيرُهُمْ لاَ يُشْبِهُ تَدْبِيرَ اللهِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَبَعْدُ فَهَذَا مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ لأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِى لاَ يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهُا مِنَ الاعْتِقَادِ وَمَسَائِلَ فِقْهِيَةٍ مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الحَجِّ وَشَىْءٍ مِنْ أَحْكَامِ المُعَامَلاتِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِىِّ ، ثُمَّ بَيَانِ مَعَاصِى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ كَالْلّـِسَانِ وغَيْرِهِ. [كَمَا ذُكِرَ فِى الْكِتَابِ التَوْبَةُ وبَيَانُهَا].

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ. لَكِنْ مَنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّفَاصِيلَ الْمُتَعَلّـِقَةَ بِذَلِكَ وُجُوباً عَيْنِيًّا ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْقَادِرِ عَلَى الْحَجِّ الَّذِى لاَ يُرِيدُ الْحَجَّ ، وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلاتُ الَّتِى لاَ يَحْتَاجُ الشَّخْصُ إِلى الدُّخُولِ فِيهَا. وَبِالإِجْمَالِ فَمَنْ تَعَلَّمَ وَفَهِمَ مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ فَهْماً صَحِيحاً فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ التَمْيِيزِ ، أَىْ يُمَيّـِزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالحَسَنِ وَالقَبِيحِ. وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ نِعْمَةٍ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَيَنْبَغِى عِنَايَتُهُ بِهِ لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ هُنَاكَ قَدْراً مِنْ عِلْمِ الدِّينِ يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ. كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ:[ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.] أَىْ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ مُسْلِمٍ ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ ، وَقَوَّاهُ الْحَافِظُ المِـّزِىّ فَقَالَ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ.إهـ. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُخْتَصَرُ حَاوِياً لِلضَّرُورِىِّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ كَانَ يَنْبَغِى عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْتَنِىَ بِهِ ، لأَنَّ الْذِى يَدُلُّكَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّحِيحِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ. لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: [ إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ.] أَىْ أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَمَّا تَرَى إِنْسَانًا يَطْلُبُ عِلْمَ الدِّينِ تَتَوَاضَعُ لَهُ ، فَتُحَرِّكُ أَجْنِحَتَهَا بِطَرِيقَةٍ فِيهَا إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

كِتَابُ التَوحِيدِ
فَـصْـلٌ
ضَرُورِيَّاتُ الاعْتِقَادِ

قال المؤلف رحمه الله: يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ الدُّخُولُ فِى دِينِ الإِسْلاِمِ والثُّبُوتُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيهِ مِنَ الأَحْكَامِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ الَّذِى هُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ فَوراً الدُّخُولُ فِى الإِسْلاَمِ. وَالْمُكَلَّفُ هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِى بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلاَمِ. الْبُلُوغُ لِلذَّكَرِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَينِ:[ رُؤْيَةِ الْمَنِىِّ أَو بُلُوغِ سِنِّ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَمَرِيَّةً.] وَالأُنْثى بِأَحَدِ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:[ رُؤْيَةِ الْمَنِىِّ أَوْ بُلُوغِ سِنِّ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَمَرِيَّةً أَوْ رُؤْيَةِ دَمِ الْحَيْضِ.] أَمَّا الْعَاقِلُ فَمَعْنَاهُ غَيْرُ الْمَجْنُونِ. وَالَّذِى بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلاَمِ هُوَ الَّذِى بَلَغَهُ أَصْلُ الدَّعْوَةِ أَىِ الشَّهَادَتَانِ ، وَلَيْسَ شَرْطاً أَنْ تَبْلُغَهُ التَّفَاصِيلُ وَالأَدِلَّةُ. إِنَّمَا إِذَا كَانَ الشَّخْصُ بَالِغاً عَاقِلاً وَبَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلاَمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِى هَذَا الدِّينِ فَوراً. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَاتَ عَلَى الْكُفْرِ اسْتَحَقَّ الْخُلُودَ الأَبَدِىَّ فِى نَارِ جَهَنَّمَ. أَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ لَوْ كَانَ بَالِغاً عَاقِلاً فَإِنَّهُ فِى الآخِرةِ لاَ مَسْئُولِيَّةَ عَلَيْهِ أَىْ لاَ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ لأَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.} سورة الإسراء / ءاية 15. كَذَلِكَ الَّذِى مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ هُوَ فِى الآخِرَةِ نَاجٍ وَلَوْ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ. وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الَّذِى عَاشَ حَيَاتَهُ كُلَّهَا عَلَى الْجُنُونِ ، يَعْنِى قَبْلَ الْبُلُوغِ جُنَّ ثُمَّ اسْتَمَرَّ عَلَى الْجُنُونِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَالدُّخُولُ فِى الإِسْلاَمِ سَهْلٌ ، يَكْفِى الاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ بِمَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ مَعَ النُّطْقِ بِاللِسَانِ بِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ. يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَــْــهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ أَوْ مَا يُعْطِى مَعْنَى ذَلِكَ. أَمَّا لَوْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَلاَ يَصِيرُ مُسْلِماً.

وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَدَاءُ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلّـِفِ:[ وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ.]

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَمِمَّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ مُطْلَقاً وَالنُّطْقُ بِهِ فِى الْحَالِ إِنْ كَانَ كَافِراً وَإِلاَّ فَفِى الصَّلاَةِ الشَّهَادَتَانِ ، وَهُمَا:[ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَــْــهَ إِلاَّ اللهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.]

الشَّرْحُ: أَنَّ هَذَا مَرَّ شَرْحُهُ ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ فِى كُلِّ صَلاَةٍ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ أَىْ فِى التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ قَبْلَ السَّلاَمِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَــْــهَ إِلاَّ اللهُ: أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأَعْتَرِفُ أَنْ لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ اللهُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الإِنْسَانَ لَمَّا يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَــْــهَ إِلاَّ اللهُ. مَعْنَى ذَلِكَ أُصَدِّقُ بِقَلْبِى يَقِيناً مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَأَنْطِقُ بِلِسَانِى أَنَّهُ لاَ أَحَدَ يَسْتَحِقُ أَنْ يُعْبَدَ إِلاَّ اللهُ. هُنَاكَ أَشْيَاءُ تُعْبَدُ غَيْرُ اللهِ. فَبُوذَا يُعْبَدُ ، وَعِيسَى يُعْبَدُ ، وَالأَصْنَامُ تُعْبَدُ ، وَحَتَّى الشَّيْطَانُ يُعْبَدُ ، لَكِنْ كُلُّ هَذِهِ تُعْبَدُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالَّذِى يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةَ التَّذَلُلِّ إِنَّمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى الْخَالِقُ وَحْدَهُ. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ:[ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ.] أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى:[ غَايَةُ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ.] كَمَا عَرَّفَهَا بِذَلِكَ الْحَافِظُ اللُّغَوِىُّ الْمُفَسّـِرُ الْفَقِيهُ الأُصُولِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ ، وَكَمَا قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْبَهَانِىُّ وَغَيْرُهُمَا. لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ مُجَرَّدَ النّـِدَاءِ ، وَلاَ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ ، وَلاَ مُجَرَّدَ الرَّجَاءِ ، إِنَّمَا إِذَا اقْتَرَنَ النّـِدَاءُ بِنِهَايَةِ التَّذَلُّلِ أَوِ اقْتَرَنَ الْخَوْفُ بِنِهَايَةِ التَّذَلُّلِ أَوِ اقْتَرَنَ الرَّجَاءُ بِنَهَايَةِ التَّذَلُّلِ فَهَذِهِ هِىَ الْعِبَادَةُ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْوَاحِدُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الْوَاحِدَ مَعْنَاهُ الَّذِى لاَ شَرِيكَ لَهُ أَىِ الَّذِى لاَ أَحَدَ يُشَارِكُهُ فِى الأُلُوهِيَّةِ. لَيْسَ الْوَاحِدُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَدَدِ ، لأَنَّ الْعَدَدَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. إِذَا قُلْنَا هَذَا إِنْسَانٌ وَاحِدٌ ثُمَّ ضَمَمْنَا إِلَيْهِ ءَاخَرَ مِثْلَهُ فَقَدْ صَارَا اثْنَيْنِ. لَمَّا نَقُولُ وَاحِدٌ عَنْ إِنْسَانٌ فَهُنَاكَ أُنَاسٌ ءَاخَرُونَ كَثِيرُونَ مِثْلُهُ يُشَارِكُونَهُ فِى الإِنْسَانِيَّةِ ، أَمَّا لَمَّا نَقُولُ عَنِ اللهِ وَاحِدٌ مَعْنَاهُ الَّذِى لاَ شَرِيكَ لَهُ ، كَمَا شَرَحَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ فِى كِتَابِهِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ ، قَالَ:[ وَاللهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لاَ مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.] إهـ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ: الأَحَدُ.

الشَّرْحُ: قَالَ بَعْضُهُمُ الأَحَدُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ. وَقَالَ عُلَمَاءُ ءَاخَرُونَ الأَحَدُ مَعْنَاهُ الَّذِى لاَ يَقْبَلُ الانْقِسَامَ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ جِسْماً مِثْلَنَا. لِذَلِكَ لاَ يَقْبَلُ الانْقِسَامَ ، لأَنَّ الَّذِى يَقْبَلُ الانْقِسَامَ هُوَ الْجِسْمُ وَالْجِسْمُ مَخْلُوقٌ. وَاللهُ خَالِقٌ لَيْسَ مَخْلُوقاً ، لِذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الأَوَّلُ الْقَدِيمُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الأَوَّلَ وَالْقَدِيمَ بِمَعنـًى ، أَىْ مَا لَيْسَ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ ، أَىْ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ. وَاللهُ وَحْدَهُ هُوَ الأَوَّلُ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وُكُلُّ مَا سِوَى اللهِ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ. وَهَذَا الأَمْرُ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ ، فَمَنِ اعْتَقَدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ مُسْلِماً.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْحَىُّ الْقَيُّومُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ هَذَا سَبَقَ تَفْسِيرُهُ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الدَّائِمُ.

الشَّرْحُ: أَىِ الَّذِى لَيْسَ لِوُجُودِهِ انْتِهَاءٌ ، لأَنّ وُجَودَهُ لَوْ كَانَ يَقْبَلُ النّـِهَايَةَ لَكَانَ مَخْلُوقاً لَهُ بِدَايَةٌ.
قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْخَالِقُ.

الشَّرْحُ: أَىِ الَّذِى أَبْرَزَ كُلَّ شَىءٍ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ، فَلَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وُجِدَ إِلاَّ بِخَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. الْعَبْدُ وَفِعْلُ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللهِ. نَحْنُ وَأَصْوَاتُنَا وَحَرَكَاتُنَا وَسَكَنَاتُنَا وَأَفْكَارُنَا وَسَمْعُنَا وَبَصَرُنَا وَتَقَلُّبُ قُلُوبِنَا وَمَشِيئَتُنَا ، كُلُّ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالْعَبْدُ لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً أَىْ لاَ يُبْرِزُ شَيْئاً مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ، إِنَّمَا الْعَبْدُ يَكْتَسِبُ عَمَلَهُ اكْتِسَاباً وَاللهُ يَخْلُقُهُ. وَكَذَلِكَ الأَسْبَابُ الْعَادِيَّةُ لاَ تَخْلُقُ مُسَبَّبَاتِهَا أَىْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا ، يَعْنِى أَنَّ النَّارَ لا تَخْلُقُ الإِحْرَاقَ ، وَالسّـِكِينَ لاَ تَخْلُقُ الْقَطْعَ ، والخُبْزَ لاَ يَخْلُقُ الشّـِبَعَ ، وَالْمَاءَ لاَ يَخْلُقُ الرِّىَّ ، وَالشَّمْسَ لاَ تَخْلُقُ الدِّفْءَ ، إِنَّمَا هَذِهِ أَسْبَابٌ وَالْخَالِقُ هُوَ اللهُ. لَمَّا تُلاَمِسُ النَّارُ الشَّىْءَ الَّذِى يَحْتَرِقُ اللهُ يَخْلُقُ الاحْتِرَاقَ فِى هَذَا الشَّىءِ فَيَحْتَرِقُ ، وَلَوْ لَمْ يَشَإِ اللهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْلُقْهُ لَمْ يَحْتَرِقْ ذَلِكَ الْجِسْمُ. وَذَلِكَ كَمَا حَصَلَ مَعَ سَيّـِدِنَا إِبْرَْهِيمَ إِذْ رُمِىَ فِى النَّارِ فَلَمْ تُحْرِقْهُ النَّارُ ، وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ مَا خَلَقَ الإِحْرَاقَ فِيهَا وَلاَ الاحْتِرَاقَ فِى إِبْرَْهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ أَيْضاً مِنْ أُصُولِ مَسَائِلِ الْعَقِيدَةِ مَنِ اعْتَقَدَ بِخِلاَفِهَا لاَ يَكُونُ مُسْلِماً ، يَعْنِى مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَداً يُشَارِكُ اللهَ فِى الْخَالِقِيَّةِ لاَ يَكُونُ مُسْلِماً ، وَلَوِ ادَّعَى الإِسْلاَمَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الرَّازِقُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الرَّازِقَ مَعْنَاهُ الَّذِى يُوصِلُ الرِّزْقَ إِلَى عِبَادِهِ. وَالرِّزْقُ هُوَ كُلُّ مَا يَنْفَعُ حَلاَلاً كَانَ أَو حَرَاماً.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْعَالِمُ.

الشَّرْحُ: أَىِ الَّذِى يَعْلَمُ كُلَّ شَىْءٍ. فيَعْلَمُ اللهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ قَبْلَ حُصُولِهَا.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْقَدِيرُ.

الشَّرْحُ: أَىِ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَلاَ يُعْجِزُهُ شَىْءٌ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.

الشَّرْحُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا أَرَادَ اللهُ فِى الأَزَلِ حُصُولَهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ فِى الْوَقْتِ الَّذِى شَاءَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى حُصُولَهُ فِيه ِ، وَمَا لَمْ يُردِ اللهُ حُصُولَهُ لاَ يَحْصُلُ أَبَداً ، وَلَوِ اجْتَمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ مَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ لاَ يَضُرُّوكَ بِهِ ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ مَا كَتَبَهُ اللهُ لَكَ لاَ يَصِلُ إِلَيْكَ ، فَلاَ تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ وَلاَ تَسْكُنُ فِى هَذَا الْعَالَمِ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ رَبِـّنَا عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا كَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ عَقِيدَةِ الإِسْلاَمِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَ الطَّبَرىّ و غيرهما أَحاديثَ عَدِيدةً عَن رَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّم أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الأَمْرَ فَهُوَ كَافِرٌ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الَّذِى لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ [ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.] ذِكْرٌ عَلَّمَنَاهُ رَسُولُ اللهِ ، وَهُوَ يَعْنِى أَنَّهُ لاَ حَوْلَ أَىْ لاَ تَحَوُّلَ وَلاَ ابْتِعَادَ عَنْ مَعْصِيِةِ اللهِ إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللهِ وَلاَ قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ إِلاَّ بِعَوْنِ اللهِ. هَكَذَا فَسَّرَهَا رَسُولُ اللهِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى المُوْصِلِىُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: الْمَوصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِى حَقّـِهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللاَّئِقَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا:[ اللاَّئِقَةِ بِهِ.] لأَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ وَلاَ يَلِيقُ بِالْخَالِقِ ، وَذَلِكَ كَشِدَّةِ الذَّكَاءِ ، وَقُوَّةِ العَقْلِ ، وَقُوَّةِ البَدَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ صِفَاتٌ هِىَ فِى حَقِّ الْمَخْلُوقِ صِفَاتُ كَمَالٍ وَلاَ يَلِيقُ أَنْ يُوصَفَ الْخَالِقُ بِهَا. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِى حَقّـِهِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ، كَالْجِسْمِ وَاللوْنِ وَالشَّكْلِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ. لِذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الإِسْلاَمِ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى مَوْجُودٌ بِلاَ مَكَانٍ ، لأَنَّ الْمَوْجُودَ فِى مَكَانٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ ، وَكُلُّ مَا لَهُ حَدٌّ مُحْتَاجٌ إِلى مَنْ خَصَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ لاَ يَكُونُ إِلَــهاً ، فَلِذَلِكَ اللهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَعَنِ الْجِهَاتِ ، فَلاَ نَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ فِى السَّمَاءِ ، وَلاَ نَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ فِى جِهَةِ فَوْق ، وَلاَ نَقُولُ اللهُ مَوْجُودٌ فِى كُلِّ مَكَانٍ ، إِنَّمَا نَقُولُ اللهُ مَوْجُودٌ لاَ يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ ، مَوْجُودٌ بِلاَ مَكَانٍ ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.} سورة الشورى / 11. مَعْنَاهُ لاَ شَىْءَ يُشْبِهُ اللهَ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ المِصْرِىُّ:[ مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.] إهـ. فَاللهُ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ مَا فِى الأَرْضِ وَكُلِّ مَا فِى السَّمَاءِ ، كُلِّ الأَجْسَامِ اللطِيفَةِ وَكُلِّ الأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ، اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَتِهَا بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ هُوَ ثَوْبَانُ بنُ إِبْرَْهِيمَ ، شُهِرَ بِذِى النُّونِ. وَهُوَ أَصْلاً نُوبِىٌّ ، عَاشَ فِى مِصْرَ مُنْذُ نَحْوِ أَلْفٍ وَمِائَتَىْ سَنَةٍ. كَانَ مِنْ جِلَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ مَشَاهِيرِ أَهْلِ التَّقْوَى.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ وَهُوَ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ.

الشَّرْحُ: أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ الأَزَلِىُّ الَّذِى لاَ ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ ، وَكُلُّ مَا سِوَى اللهِ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ. وَمَعْنَى الْحَادِثِ الَّذِى لَمْ يَكُنْ مَوْجُوداً ثُمَّ وُجِدَ أَىْ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ. وَكُلُّ حَادِثٍ إِنَّمَا وُجِدَ بِخَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَكُلُّ مَا سِوَى اللهِ حَادِثٌ خَلَقَهُ اللهُ ، سَوَاءٌ فِى ذَلِكَ النَّوْعُ وَالأَفْرَادُ ، وَسَوَاءٌ فِى ذَلِكَ الأَجْسَامُ وَالأَعْمَالُ ، والجَوَاهِرُ وَالأَعْرَاضُ ، فَكُلُّ مَا سِوَى اللهِ مَخْلُوقٌ. وَهَذَا أَيْضاً مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الإِسْلاَمِ. فَإِذَا اعْتَقَدَ إِنْسَانٌ أَنَّ شَيْئاً غَيْرَ اللهِ لَيْسَ لِوُجُودِهِ بِدَايَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ ، كَالَّذِينَ اعْتَقَدُوا أَنَّ نَوْعَ الْعَالَمِ أَزَلِىٌّ لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ ، مِنْ مُتَأَخِرِى الْفَلاَسِفَةِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ كأَحْمَدَ بنِ تَيْمِيَةَ الحراني. قَالَ الزَّرْكَشِىُّ فِى أَمْثَالِ هَؤُلاَءِ:[ كُفَّارٌ بِالإِجْمَـاعِ.] إهـ. ذَكَرَهُ فِى كِتَابِهِ تَشْنِيفِ المَسَامِعِ.
قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ مِنَ الذَّرَةِ إِلَى الْعَرْشِ وَمِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ وَالنَّوَايَا وَالْخَوَاطِرِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوَى اللهِ ، لاَ طَبِيعَةٌ وَلاَ عِلَّةٌ ، بَلْ دُخُولُهُ فِى الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ ، بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ.

الشَّرْحُ: أَنَّ طَبِيعَةَ الشَّىْءِ خَوَاصُّهُ وَصِفَاتُهُ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُرَادُ بِهَا الْعَادَةُ ، فَطَبِيعَةُ النَّارِ الإِحْرَاقُ ، وَطَبِيعَةُ الثَّلْجِ الْبُرُودَةُ وَهكَذا وَالْعِلَّةُ مِثْلُ السَّبَبِ. الْعِلَّةُ مِثْلُ مَا إِذَا كَانَ فِى إِصْبَعِكَ خَاتَمٌ ثُمَّ حَرَّكْتَ إِصْبَعَكَ ، فَتَحْرِيكُ الإِصْبَعِ عِلَّةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ. فَلاَ الطَّبِيعَةُ وَلاَ الْعِلَّةُ خَالِقَةٌ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ ، إِنَّمَا الْخَالِقُ هُوَ اللهُ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: لِقَولِ اللهِ تَعَالَى:{ وخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ.} سورة الأنعام / 101. أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فَلاَ خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ.} سورة فاطر / 3. قَالَ النَّسَفِىُّ فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجاً بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ وَالْكَسْرُ وَالانْكِسَارُ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إِلاَّ الْكَسْبُ وَأَمَّا الْخَلْقُ فَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى:{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ.} سورة البقرة / 286.

الشَّرْحُ: أَنَّ هَذِهِ هِىَ عَقِيدَةُ أَهْلِ الْحَقِّ. الْعَبْدُ مَخْلُوقٌ وَفِعْلُهُ مَخْلُوقٌ ، الْعَبْدُ لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا. إِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِى يَخْلُقُ أَفْعَالَ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ يَكْتَسِبُ فِعْلَهُ اكْتِسَابًا. فَإِذَا أَخَذَ إِنْسَانٌ حَجَراً مِنَ الأَرْضِ وَرَمَى بِهِ زُجَاجاً فَكَسَرَهُ ، فَالْكَسْرُ الَّذِى هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَالانْكِسَارُ الَّذِى هُوَ يَحْصُلُ فِى الزُّجَاجِ كِلاَهُمَا بِخَلْقِ اللهِ. وقَصْدُ الْعَبْدِ لِذَلِكَ بِخَلْقِ اللهِ ، وَالْيَدُ بِخَلْقِ اللهِ ، وَالْحَجَرُ بِخَلْقِ اللهِ. فَكُلُّ مَا يَحْصُلُ يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللهِ، حَتَّى أَعْمَالُ القُلُوبِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ إِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَــْــنِ يُقَلّـِبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.] لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ الإِصْبَعَ الْجَارِحَةَ الَّذِى نَحْنُ نَعْرِفُهُ ، إِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ تَحْتَ قَبْضَةِ اللهِ وَتَصَرُّفِهِ. فاللهُ تَعَالَى هُوَ يُقَلّـِبُ هَذِهِ القُلُوبَ إِنْ شَاءَ ثَبَّتَهَا عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهَا. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيْرُهُمَا. فَالذِينَ خَالَفُوا فِى هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَزَعَموا أَنَّ الْعِبَادَ يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُمُ الاخْتِيَارِيَّةَ هُم مُكَذِّبونَ لِلْقُرْءَانِ وَلِلْحَدِيثِ. لِذَلِكَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَكْفِيرِهِم. فَالْمَاتُرِيدِىُّ كَفَّرَهُمْ ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ قَالَ:[ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا – يَعْنِى الأَشَاعِرَةَ – عَلَى تَكْفِيرِهِمْ.] وَ قَبْلَهُمَا نَصَّ عَلى كُفْرِهِمْ عِدَّةٌ مِنْ أَكَابِرِ السَّلَفِ ، وَقَبْلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِى قَولِهِ كِفَايَةٌ. وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْكَلاَمِ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ ، بَلْ الْعَبْدُ لَهُ اخْتِيَارٌ لَكِنَّ اخْتِيَارَهُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ. اِخْتِيَارُهُ لاَ يَصِلُ إِلَى حَدِّ أَنْ يَخْلُقَ هُوَ فِعْلَهُ إِنَّمَا اخْتِيَارُهُ نَفْسُهُ مَخْلُوقٌ وَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَكَلاَمُهُ قَدِيمٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ وَالصّـِفَاتِ وَالأَفْعَالِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيراً.

الشَّرْحُ: أَنَّ كَلامَ اللهِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ لاَ ابْتِدَاءَ لَهُ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللهِ. لَيْسَ هُوَ شَيْئاً لَهُ ابْتِدَاءٌ ، وَلاَ هُوَ شَىْءٌ لَهُ نِهَايَةٌ ، وَلاَ هُوَ شَىْءٌ مُتَقَطّـِعٌ يَحْدُثُ دُفْعَةً بَعْدَ دُفْعَةً. لَيْسَ هُوَ صَوْتاً وَلاَ حَرْفاً وَلاَ لُغَةً ، إِنَّمَا هُوَ كَلاَمٌ لاَ يُشْبِهُ كَلاَمَ الْخَلْقِ. وَيُسَمَّى هَذَا الْكَلاَمُ الْقُرْءَانَ ، وَيُطْلَقُ الْقُرْءَانُ أَيْضاً عَلَى اللفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى سَيّـِدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وَهَذِهِ الأَلْفَاظُ مَخْلُوقَةٌ وَبِاللغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. لَكِنْ لأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلاَمِ الذَّاتِىِّ أَىْ تَدُلُّ عَلَى الْكَلاَمِ الذَّاتِىِّ يُقَالُ عَنْهَا أَيْضاً كَلاَمُ اللهِ ، وَهِىَ لاَ شَكَّ مَخْلُوقَةٌ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ شَخْصٌ لَفْظَ الْجَلاَلَةِ [ الله ] وَقِيلَ لَهُ مَا هَذَا؟ يَقُولُ الله ، وَلاَ يَعْنِى بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا اللفْظَ هُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسُ الَّذِى نَعْبُدُهُ. إِنَّمَا هَذَا اللفْظُ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ أَىْ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الَّذِى نَعْبُدُهُ. وَكَذَلِكَ اللفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيّـِدِنَا مُحَمَّدٍ عِبَارَةٌ عَنِ الْكَلاَمِ الذَّاتِىِّ الَّذِى لَيْسَ حَرْفاً وَلاَ صَوْتاً. كُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلاَمُ اللهِ ، وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ إِنْسَانٌ أَنَّ كَلاَمَ اللهِ الذَّاتِىَّ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ وَسَمِعَهُ سَيّـِدُنَا مُوسَى صلى الله عليه وسلم لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْلُّغَاتِ. هَذَا ضَلاَلٌ لأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهاً للهِ بِالْمَخْلُوقِينَ ، وَاللهُ مُبَايِنٌ أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِلْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ وَفِى الصّـِفَاتِ وَفِى الأَفْعَالِ ، يَعْنَى لاَ ذَاتُهُ يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْخَلْقِ وَلاَ صِفَاتُهُ تُشْبِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَلاَ فِعْلُه يُشْبِهُ فِعْلَ الْخَلْقِ. وَهُوَ مُتَعَالٍ أَىْ مُنَزَّهٌ عَمَّا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ أَىِ الْكَافِرُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. لَمَّا نَقُولُ عَنِ اللهِ [ سُبْحَانَهُ ] يَعْنِى نُنَزِّهُ اللهَ ، و[ تَعَالَى ] يِعْنِى نُؤَكّـِدُ هَذَا التَّنْزِيهَ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ النَّقْصِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى إِثْبَاتُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ صِفَةً للهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ إِمَّا لَفْظاً وَإِمَّا مَعْنًى كَثِيراً. وَهِىَ: الْوُجُودُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ وَالْبَقَاءُ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلاَمُ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْمُشَابَهَةِ لِلْحَادِثِ. فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصّـِفَاتُ ذِكْرُهَا كَثِيراً فِى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوباً عَيْنِيّاً.

الشَّرْحُ: أَنَّ هُنَاكَ صِفَاتٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ كَثِيراً. الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كَانَ يُكَلّـِمُ النَّاسَ عَنْهَا كَثِيراً إِمَّا بِالنَّصِّ وَإِمَّا بِالْمَعْنَى. وَمِنْ هَذَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الصّـِفَاتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْرِفَهَا. وَهِىَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ صِفَةً. وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ صِفَاتِ اللهِ مُنْحَصِرَةٌ فِى ثَلاَثَ عَشْرَةَ صِفَةً ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ اللهِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ صِفَةً يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لاَ سِيَّمَا مِنَ الْمُتَأَخّـِرِينَ ، مِثْلِ السَّـنُوسِىِّ مُؤَلّـِفِ الْعَقِيدَةِ السَّنُوسِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَالْفَضَالِىِّ وَالشَّرنُوبِىِّ الْمَالِكِيَّيْنِ وَغَيْرِهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَمِمَّنْ عَدَّدَ هَذِهِ الصّـِفَاتِ نَصّاً وَبَيَّنَ وُجُوبَ مَعْرِفَتِهَا الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضاً ، وَهُوَ مِنْ رُءُوسِ السَّلَفِ كَمَا لا يَخْـفَى ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِى كِتَابِهِ الْفِقَهِ الأَكْبَرِ.
وَالصّـِفَةُ الأُولَى مِنْ هَذِهِ الصّـِفَاتِ هِىَ الْوُجُودُ: أَىْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَوجُودٌ لاَ يُشْبِهُ الْمَوجُودَاتِ ، مَوْجُودٌ بِغَيْرِ بِدَايَةٍ وَبِغَيْرِ نِهَايَةٍ وَبِغَيْرِ مَكَانٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ أَفِى اللهِ شَكٌّ.} سورة إبراهيم / 9. يَعْنِى لاَ شَكَّ فِى وُجُودِ اللهِ.
الصّـِفَةُ الثَّانِيَةُ الْوَحْدَانِيَّةُ: أَىْ أَنَّ اللهَ لاَ شَرِيكَ لَهُ فِى الأُلُوهِيَّةِ ، لاَ ذَاتُهُ يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْخَلْقِ وَلاَ صِفَاتُهُ تُشْبِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ وَلاَ فِعْلُهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الْخَلْقِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا.} سورة الأنبياء / 22. أَىْ لَوْ كَانَ لَهُمَا – أَىْ لِلسَّمَاءِ وَالأَرْضِ – ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا. [ فِى ] هُنَا بِمَعْنَى اللاَّمِ.
الثَّالِثَةُ الْقِدَمُ: أَىْ أَنَّ اللهَ لاَ بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ.
الرَّابِعَةُ الْبَقَاءُ: أَىْ أَنَّ اللهَ لاَ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فَنَاءٌ وَلاَ عَدَمٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ هُوَ الأّوَّلُ وَالآخِرُ.} سورة الحديد/ 3. الأَوَّلُ يَعْنِى الَّذِى لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ وَالآخِرُ مَعْنَاهُ الَّذِى لاَ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فَنَاءٌ.
الْخَامِسَةُ الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ: يَعْنَى أَنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ غَيْرِهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ سِوَاهُ. كَمَا قَالَ رَبُّنَا:{ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.} سورة ءال عمران / 97.
السَّادِسَةُ الْقُدْرَةُ: أَىْ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لاَ يُعْجِزُهُ شَىْءٌ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ.}.سورة البقرة / 109.
السَّابِعَةُ الإِرَادَةُ: فَكُلُّ مَا شَاءَ اللهُ وُجُودَهُ لاَ بُدَّ أَنْ يُوْجَدَ فِى الْوَقْتِ الَّذِى شَاءَ اللهُ وُجُودَهُ فِيهِ. وَكُلُّ مَا لَمْ يَشَأْ وُجُودَهُ لاَ يُوْجَدُ ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.} سورة التكوير / 29.
الثَّامِنَةُ الْعِلْمُ: فَاللهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا:{ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً.} سورة الطلاق / 12.
التَّاسِعَةُ السَّمْعُ: أَىْ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَسْمَعُ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ أُذُنٍ وَلاَ ءَالَةٍ أُخْرَى ، ومِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.} سورة غافر / 20.
العَاشِرَةُ البَصَرُ: أَىْ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَى كُلَّ المُبْصَرَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى ضَوْءٍ وَلاَ حَدَقَةٍ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.} سورة الشورى / 11.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْحَيَاةُ: وَهِىَ حَيَاةٌ لاَ تُشْبِهُ حَيَاتَنَا ، حَيَاةٌ لَيْسَ لَهَا بِدَايَةٌ وَلاَ نِهَايَةٌ. وَلَيْسَتْ هِىَ حَيَاةٌ بِرُوحٍ وَجَسَدٍ ، إِنَّمَا هِىَ صِفَةٌ لاَئِقَةٌ بِاللهِ لَيْسَتْ كَحَيَاتِنَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ اللهُ لاَ إِلَــْــهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ.} سورة البقرة / 255.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْكَلاَمُ: وَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا كَلاَمٌ لاَ يُشْبِهُ كَلاَمَنَا، لَيْسَ حَرْفاً وَلاَ صَوْتاً وَلاَ لُغَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً.}سورة النساء/ 164.
الصّـِفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمُشَابَهَةِ لِلْحَادِثِ: فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ اللهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ، لأَنَّ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى خَالِقٍ. فَلَوْ كَانَ اللهُ مَوْصُوفاً بِهَذِهِ الصّـِفَاتِ لَكَانَ مُحْتَاجاً إِلَى خَالِقٍ ، وَاللهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الآيةُ الْمُحْكَمَةُ الْجَامِعَةُ:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ.} سورة الشورى / 11.

قَالَ الْمُؤَلِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَلَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لأَنَّ حُدُوثَ الصّـِفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الذَّاتِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ مَا كَانَ مَوْصُوفاً بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ حَادِثاً ، لِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ مَوْصُوفاً بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ. بَعْضُ الْمُشَبّـِهَةِ مِنْ فَسَادِ عُقُولِهِمْ يَقُولُونُ اللهُ يَتَكَلَّمُ مِثْلَنَا بِكَلاَمٍ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ وَهَذَا كُفْرٌ ، لأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهَ اللهِ بِخَلْقِهِ. ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُونَ وَكَلاَمُهُ أَزَلِىٌّ لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ فَيُنَاقِضُونَ أَنْفُسَهُمْ. هَؤُلاَءِ لاَ عُقُولَ لَهُمْ ، وَذَلِكَ لأَنَّهُ يُعْرَفُ بِمُجَرَّدِ الْحِسِّ أَنَّ الْحَرْفَ مَخْلُوقٌ وَالصَّوْتَ مَخْلُوقٌ. إِذَا قُلْتَ ( بِسْمِ ) فَقَدْ تَلَفَّظْتَ بِالْبَاءِ قَبْلَ السّـِينِ وَبِالسّـِينِ قَبْلَ الْمِيمِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لاَ شَكَّ هُوَ مَخْلُوقٌ. فَكَيْفَ يَقُولُونَ بَعْدَ هَذَا إِنَّ اللهَ مَوْصُوفٌ بِالحُرُوفِ وَ الأَصْوَاتِ؟ ثُمَّ يَزِيدُونَ فَيَقُولُونَ إِنَّها أَزَلِيَّةٌ لاَ ابْتَدَاءَ لَهَا!! هَذَا كَلاَمٌ فَاسِدٌ بِلاَ شَكٍّ. لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَنَّ ذَاتَ اللهِ تَعَالَى أَزَلِىٌّ لاَ ابْتِدَاءَ لَهُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لاَ ابْتِدَاءَ لَهَا. قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ فِى كِتَابِهِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ:[ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى فِى الأَزَلِ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ وَلاَ مَخْلُوقَةٍ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ أَوْ وَقَفَ فِيهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاللهِ تَعَالَى.] إهـ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ: أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأَعْتَرِفُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ القُرَشِىَّ عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الخَلْقِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ يَرْجِعُ نَسَبُهُ إِلَى هَاشِمِ بنِ عبدِ مناف. فَهُوَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الْهَاشِمِىُّ – يَعْنِى مِنْ بَنِى هَاشِمٍ – القُرَشِىُّ – يَعْنِى مِنْ قَبِيلَةِ قُرَيْشٍ – فَهَاشِمٌ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ ، وَقُرَيْشٌ أَشْرَفُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ. وَهُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِلَى كُلِّ الإِنْسِ وَالْجِنِّ ، لَيْسَ إِلَى العَرَبِ فَقَطْ، وَلاَ إِلَى العُجْمِ فَقَطْ ، وَلاَ إِلَى الإِنْسِ فَقَطْ ، إِنَّمَا أَرْسَلَهُ رَبُّهُ إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعاً.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَبُعِثَ بِهَا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِيهَا.

الشَّرْحُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ وُلِدَ فِى مَكَّةَ فِى عَامِ الْفِيلِ ، أَىْ فِي العَامِ الذِي غَزَا فِيْهِ أَبْرَهَةُ مَكَّةَ يُرِيدُ تَدْمِيرَ الْكَعْبَةِ هُوَ وَجُنْدُهُ وَمَعَهُمُ الأَفْيَالُ ، فأَهْلَكَهُ اللهُ وَجَيْشَهُ. وبُعِثَ لَمَّا كَانَ فِى سِنِّ الأَرْبَعِينَ. فَنَزَلَ الْوَحْىُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِى مَكَّةَ ، ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا بَعْدَ الْوَحْىِ نَحْوَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرِ سِنِينَ ، ثُمَّ تُوُفّـِىَ فِيهَا عَنْ ثَلاَثٍ وَسِتّـِينَ سَنَةً ودُفِنَ فِيهَا. وَمَعْرِفَةُ نَسَبِ رَسُولِ اللهِ وَمَعْرِفَةُ مَكَانِ وِلاَدَتِهِ وَمَكَانِ وَفَاتِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ. وَأَمَّا قَبِيلَةُ قُرَيْشٍ فَيَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَى إِسْمَــْــعِيلَ نَبِىِّ اللهِ ابْنِ إِبْرَْهِيمَ نَبِىِّ اللهِ.

قَالَ المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عِنِ اللهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ الإِيمَانَ وَالتَّصْدِيقَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَمِنْ ذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ وَنَعِيمُهُ وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الإِنْسَانَ بَعْدَمَا يُدْفَنُ تَرْجِعُ رُوحُهُ إِلَى جَسَدِهِ ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ يُقَالُ لأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَسْأَلاَنِهِ عَنْ رَبِـّهِ وَنَبِيّـِهِ وَدِينِهِ. فَالْمُؤْمِنُ التَّقِىُّ لاَ يَخَافُ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرْتَاعُ ارْتِيَاعاً شَدِيداً. ثُمَّ النَّاسُ فِى الْقَبْرِ قِسْمَانِ ، قِسْمٌ مُنَعَّمُونَ فِى قُبُورِهِمْ ، قُبُورُهُمْ مُنَوَّرَةٌ مُوَسَّعَةٌ ، وَقِسْمٌ مُعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ. ثُمَّ هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبُونَ قِسْمَانِ ، الْكُفَّارُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فِى الْقَبْرِ حَتَّى إِذَا بَلِىَ الْجَسَدُ تَعَذَّبَتْ أَرْوَاحُهُمْ. وَالْقِسْمُ الثَّانِى هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْعُصَاةُ الَّذِينَ لَمْ يُسَامِحْهُمُ اللهُ ، فَيُعَذَّبُونَ مُدَّةً فِى القَبْرِ ، ثُمَّ لاَ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. بَلْ إِذَا بَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ تَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ مُعَلَّقَةً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَيُؤَخَّرُ لَهُمْ بَقِيَّةُ الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ – أَىْ لِلَّذِينَ لَمْ يُسَامِحْهُمُ اللهُ مِنْهُمْ -. وَالإِيمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ وَاجِبٌ ، وَمَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَى الإِطْلاَقِ فَهُوَ كَافِرٌ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْبَعْثُ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعِيدُ الأَجْسَادَ الَّتِى أَكَلَهَا التُّرَابُ ، وَيُعِيدُ الأَرْوَاحَ إِلَيْهَا ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْحَشْرُ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ أَنَّ الإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْبَهَائِمَ بَعْدَمَا يُبْعَثُونَ يُحْشَرُونَ كُلُّهُمْ إِلَى مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْقِيَامَةُ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ. وَطُولُهُ كَخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِينِنَا هَذِهِ. أَوَّلُهُ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ مِنَ الْقُبُورِ ، وَءَاخِرُهُ بِاسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِى النَّارِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْحِسَابُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُ ، فَمِنْ مَسْرُورٍ يَوْمَئِذٍ وَمِنْ مُسْتَاءٍ ، كُلُّ إِنْسَانٍ يُعْطَى كِتَابَهُ الَّذِى فِيهِ مَا عَمِلَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالثَّوَابُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الثَّوَابَ هُوَ مَا يَسُرُّ الْمُؤْمِنَ فِى الآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى مَا عَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ. وَهَذَا الثَّوَابُ يَكُونُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْعَذَابُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الْعَذَابَ هُوَ مَا يَسُوءُ الشَّخْصَ فِى الآخِرَةِ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَه فِى الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِى. وَهُوَ أَيْضاً بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْمِيزَانُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ تُوْزَنُ فِى الآخِرَةِ ، الْحَسَنَاتُ فِى كَفَّةٍ وَالسَّيّـِئَاتُ فِى كَفَّةٍ. فَإِنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ الْحَسَنَاتِ فَالشَّخْصُ فَائِزٌ نَاجٍ ، وَإِنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ السَّيّـِئَاتِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعَذَابِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلاَ يَكُونُ لَهُ فِى كَفَّةِ الْحَسَنَاتِ شَىْءٌ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالنَّارُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ النَّارَ مَكَانُ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَقِسْمٍ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِى الآخِرَةِ. وَهِىَ نَارٌ حِسّـِيَّةٌ ، شَدِيدَةُ الْحَرَارَةِ ، لاَ تَنْطَفِىءُ وَلاَ تَنْتَهِى. يَمْكُثُ الْكُفَّارُ فِيهَا فِى الْعَذَابِ أَبَداً ، لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ يَنْقَطِعُ. أَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا فَإِنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ ، لأَنَّ اللهَ مَا جَعَلَ عَذَابَ الْمُسْلِمَ وَ عَذَابَ الْكَافِرَ سَوَاءً.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالصّـِرَاطُ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِالصّـِرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ فَوْقَ جَهَنَّمَ ، أَوَّلُهُ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَءَاخِرُهُ قَبْلَ الْجَنَّةِ يَرِدُهُ النَّاسُ. قِسْمٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ أَوَّلِهِ يَقَعُونَ فِى النَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ ، وَقِسْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَمْشُونَ عَلَى الصّـِرَاطِ ثُمَّ يَقَعُونَ فِى النَّارِ، وَالْبَاقُونَ نَاجُونَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْحَوْضُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ حَوْضُ نَبِيّـِنَا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ ، وَهُوَ مَجْمَعُ مَاءٍ كَبِيرٌ ، يَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ. وَكُلُّ نَبِىٍّ لَهُ حَوْضٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أُمَّتُهُ. فَتَشْرَبُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِنْ حَوْضِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. رَزَقَنَا اللهُ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالشَّفَاعَةُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ هِىَ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ. فَالأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالشُّهَدَاءُ يَشْفَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَصَاحِبُ الشَّفَاعَةِ الْكُبْرَى هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. وَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ لِلْعُصَاةِ الْمُذْنِبِينَ أِىْ لِقِسْمٍ مِنْهُمْ لَيْسِ لِلْكُلِّ، فَيُسَامـِحُهُمُ اللهُ وَيُعْفِيهِمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْجَنَّةُ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ ، وَهِىَ مَوْجُودَةٌ الآنَ ، فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَسَقْفُهَا الْعَرْشُ ( وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا بِكَثِيرٍ ). وَفِيهَا دَرَجَاتٌ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالرُّؤْيَةُ للهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِى الآخِرَةِ بِلاَ كَيْفٍ وَلاَ مَكَانٍ وَلاَ جِهَةٍ كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ هَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ مَنْ جُمْلَةِ الفُرُوقِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَبَيْنَ فِرَقٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ. فَالْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ. يُعْطِيهِمُ اللهُ فِى أَعْيُنِهِمْ قُوَّةً يَرَوْنَهُ بِهَا ، لاَ كَمَا يَرَوْنَ الْمَخْلُوقَاتِ. يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِى جِهَةٍ ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. اللهُ يَجْعَلُ فِى أَعْيُنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُوَّةً يَرَوْنَ ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَ بِهَا ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ السُّرُورِ بِذَلِكَ مَا لاَ يُوْصَفُ ، وَهَذَا أَعْظَمُ نَعِيمٍ يَتَنَعَّمُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ. رَزَقَنَا اللهُ ذَلِكَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالْخُلُودُ فِيهِمَا. [ أَىْ فِى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ].

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ – أَىِ الْكُفَّارَ – يَخْلُدُونَ فِى النَّارِ وَأَهْلَ الْجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِى الْجَنَّةِ ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ كِتَابُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَكَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَالإِيمَانُ بِمَلاَئِكَةِ اللهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْمَلاَئِكَةِ ، أَىْ أَنَّهُمْ مَوْجُودُونَ. خَلَقَهُمُ اللهُ مِنْ نُورٍ ، وَلَيْسُوا ذُكُوراً وَلاَ إِنَاثاً ، وَلاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ ، وَلاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرونَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَرُسُلِهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِكُلِّ أَنْبِيَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مَنْ عَرَفْنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ نَعْرِفْ. وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ ، أَوَّلُهُمْ سَيّـِدُنَا ءَادَمُ ، وَكَانَ نَبِيّاً رَسُولاً ، وَءَاخِرُهُمْ سَيّـِدُنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. مِنْهُمْ مَنْ كَانَ نَبِيّاً رَسُولاً وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ نَبِيّاً غَيْرَ رَسُولٍ. فَالنَّبِىُّ الرَّسُولُ هُوَ مَنْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ فِيهِ اخْتِلاَفٌ عَنْ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِى قَبْلَهُ ، وَأَمَّا النَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ أُوْحِىَ إِلَيْهِ لَكِنْ بِاتّـِبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِى قَبْلَهُ ، وَكُلٌّ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ. وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ غَيْرَ الرَّسُولِ هُوَ مَنْ أُوْحِىَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ لَكِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ هُوَ غَلَطٌ شَـنِيعٌ ، لاَ يُؤْخَذُ بِهِ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَكُتُبِهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ بِكُلِّ كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلَةِ ، وَهِىَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةُ ، أَشْهَرُهَا التَّوْرَاةُ وَالزَّبُورُ وَالإِنْجِيلُ وَالْقُرْءَانُ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِهِ.

الشَّرْحُ: أَنَّهُ يَجِبُ الإِيمَانُ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِى هَذَا الْعَالَمِ يَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَبِخَلْقِ الله ِ، وَبِقَدَرِ اللهِ. وَمَعْنَى الْقَدَرِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ صِفَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَدْبِيرُ الأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ مُطَابِقٍ لِعِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّيْنِ ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى جَعْلُ كُلِّ شَىْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْقَدَرِ الْمَقْدُورُ أَىِ الْمَخْلُوقُ – كَمَا هُوَ هُنَا – فَإِنَّهُ يَعْنِى مَا يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِ اللهِ ، لِذَلِكَ هُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ. أَمَّا الْقَدَرُ بِمَعْنَى صِفَةِ اللهِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ إِنَّ مِنْهُ خَيْراً وَمِنْهُ شَرًّا ، وَإِنَّمَا تَقْدِيرُ اللهِ حَسَنٌ ، أَمَّا الْمَقـُدُورُ فَمِنْهُ خَيْرٌ وَمِنْهُ شَرٌّ.
قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيّـِينَ وَسَيّـِدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ.

الشَّرْحُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ سَيّـِدَنَا مُحَمَّداً هُوَ ءَاخِرُ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلاَ يُبْعَثُ بَعْدَهُ نَبِىٌّ. فَسَيّـِدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ، فَإِنَّهُ بُعِثَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ هُوَ لَمَّا يَنْزِلُ يَحْكُمُ بِشَرْعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. أَمَّا ءَاخِرُ الأَنْبِيَاءِ بَعْثَاً فَهُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ:{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّـِينَ.}سورة الأحزاب/ 40. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ نَبِيّاً يُبْعَثُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْقَادِيَانِيَّةِ ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ غَلاَم أَحْمَد نَبِىٌّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ. غُلاَمُ أَحْمَدَ رَجُلٌ عَاشَ مُنْذُ نَحْو مِائَةِ سَنَةٍ وَادَّعَى النُّبُوَّةَ ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الآنَ الْقَادِيَانِيَّةُ نِسْبَةً لِبَلَدِهِ قَادِيَانَ. ثُمَّ إِنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ هُوَ أَفْضَلُ أَنْبِيَاءِ اللهِ، وَيَلِيهِ بِالْفَضْلِ نَبِىُّ اللهِ إِبْرَاهِيمُ ، ثُمَّ مُوسَى ، ثُمَّ عِيسَى ، ثُمَّ نُوحٌ ، صَلَوَاتُ رَبّـِى وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفاً بِالصّـِدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْفَطَانَةِ.

الشَّرْحُ: أَنَّ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ صَادِقٌ لاَ يَكْذِبُ وَلَو كَذْبَةً وَاحِدَةً لاَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلاَ بَعْدَهَا. وَكُلٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ أَمِينٌ لاَ يَخُونُ ، لاَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلاَ بَعْدَهَا. وَكُلٌّ مِنْهُمْ ذَكِىٌّ ، قَادِرٌ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْكُفَّارِ ، بَلْ هُمْ أَذْكَى خَلْقِ اللهِ قَاطِبَةً.

قَالَ الْمُؤَلّـِفُ رَحِمَهُ اللهُ: فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَالرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْبَلاَدَةُ.

الشَّرْحُ: أَنَّ النَّبِىَّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَكْذِبُ أَبَداً كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلاَ يَخُونُ ، لاَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلاَ بَعْدَهَا ، وَلاَ يَأْتِى الأَفْعَالَ الرَّذِيلَةَ كَتَتَبُّعِ النّـِسَاءِ فِى الطُّرُقَاتِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلاَ يَصْدُرُ مِنْهُ سَفَاهَةٌ ، وَ هِىَ ضِدُّ الْحِكْمَةِ مِثْلُ أَنْ يَسُبَّ الشَّخْصُ يَمِيناً وَشِمَالاً ، فهَذَا يُقَالُ عَنْهُ سَفِيهٌ. وَيَسْتَحِيلُ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللهِ بَلاَدَةُ الذِّهْنِ أَىِ الْغَبَاءُ ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ أَيـَّةُ صِفَةٍ مُنَفّـِرَةٍ ، إِنْ كَانَ فِى الْخِلْقَةِ – كَالأَمْرَاضِ الْمُنَفّـِرَةِ – أَو فِى الأَخْلاَقِ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْجُبْنُ ، وَعَدَمُ التَّبْلِيغُ.

قال المؤلف رحمه الله: وتجبُ لهمُ العِصمةُ مِنَ الكفرِ والكبائرِ وصغائرِ الخسةِ قبلَ النبوةِ وبعدَها.

الشرح: أن النبىَّ من الأنبياء لا يصدر منه كفر لا قبل النبوة ولا بعدها. لذلك ما يقولُه بعض الناس عن إبراهيم عليه السلام أنه مرّت عليه مدة عبدَ فيها النجمَ ثم القمرَ ثم الشمسَ كَذِبٌ على إبراهيم. والآيةُ التى يستندون إليها ليقولوا ذلك ليس معناها كما يَزْعُمُون ، إنما قولُ إبراهيم:{ هذا رَبّى.} سورة الأنعام/ 76. هو على وجه الإنكارِ على قَومِهِ وليس موافَقَةً لهم على ذلك ، أَىْ كَأَنَّهُ يَقُولُ:[ أَهَذَا رَبّـِى كَمَا تَزْعُمُونَ؟! هَذَا لاَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ إَلَهاً.] هذا فى لغة العرب يقال له استفهامٌ إنكارِىٌّ.

كذلك يستحيلُ على الأنبياء الكبائرُ قبل النبوة وبعدَهَا ، لذلك فإِنَّ قَتْلَ موسَى لذلك الشخص الذى قَتَلَهُ ما كان ذنباً كبيراً. ذلك الشخصُ ما كان مسلماً ، وموسى ما قَصَدَ قتلَهُ ، إنما وَكَزَه أى ضَرَبهُ بقبضة يده وهو يظن أنَّه لا يموت من ذلك لكنه مات ، فنَدِم موسى عليه السلام لأنه قاتل قبل أن يُؤْمَرَ بالقتال.

كذلك لا يجوزُ على الأنبياء صغائرُ الخِسَّة ، مثلُ سَرِقَةِ لُقْمَة أو حَبَّةِ عِنَب ، فهذه معصية صغيرة لكن تَدُل على خِسَّة أى دناءة فى نفس فاعلها ، فالأنبياءُ معصومونَ من ذلك قبلَ النبوةِ وبعدَها. فَيُعْلَمْ مِمَّا تَقَدَّمَ أن معصيةَ سيدِنا ءادم لم تكن كبيرةً من الكبائر ، إنما كانت معصيةً صغيرةً ليس فيها خسةٌ ولا دناءةٌ ، كما قال الإمامُ الأشعرىُّ وغيرُه.

قال المؤلف رحمه الله: ويجوزُ عليهِم ما سِوَى ذلك من المعاصِى. لكن يُنَبَّهُونَ فوراً للتوبَةِ قبلَ أنْ يَقْتَدِىَ بهِم فيها غيرُهُم.

الشرح: أن النبىَّ من الأنبياء إذا صدر منه معصيةٌ صغيرةٌ ليس فيها خسة يَرجِعُ عنها أى يتوبُ منها فوراً قبل أن يقتدِىَ به الناسُ فى ذلك.

فما يقولُه بعضُ الناس من أن سيدَنا يُوسفَ أراد أَن يَزْنِىَ بامرأةِ العزيز هو كلامٌ فاسدٌ ، لأن هذا فعلٌ خَسِيسٌ لا يليقُ بنبِىٍّ من أنبياء الله تعالى ، والآيةُ التِى يُسِىءُ بعضُ الناس تَفسيرَهَا لينسبوا إرادةَ الزنا إلى سيدنا يوسف معناها غيرُ ما يَزْعُمُون. قال الله تعالى:{ ولقد هَمَّت به وهَمَّ بها لولا أن رأى برهانَ ربّـِه.} سورة يوسف/ 24. فمعنى { ولقد هَمَّتْ به } أرادت الزنا ، { وَهَمَّ بها لولا أن رأى برهانَ ربّـِه } أى لولا أن اللهَ تعالى عَصَمَهُ لكان هَمَّ بها ، لكنَّ اللهَ عصمَه فلم يَهِمَّ أصلاً ، أى لم يقع الهَمُّ أصلاً من سيدنا يوسف عليه السلام.

إذا كان الأنبياء معصومون من مجرد النظرِ بِشهْوَةٍ إلى الأجنبية فكيف إرادةُ الزنا والعزمُ عليه؟!!.

قال المؤلف رحمه الله: فَمِنْ هنا يُعْلَمُ أَنَّ النبوةَ لا تَصِحُ لأخوةِ يوسف الذينَ فعَلوا تلك الأفاعيلَ الخسيسةَ وهم مَنْ سِوَى بِنيَامِين. والأسباطُ الذين أُنزلَ عليهِمُ الوَحىُ هُم مَن نُبّـِىءَ من ذريتِهِم.

الشرح: أنَّ ما قالَه بعضُ الناسِ من أَنَّ إخوَةَ يوسف نُبّـِـئُوا أى نزل عليهم الوحى قول باطل ، يعنى إلا فى ما يتعلق بِبِنْيَامِينَ ، وهو الأصغرُ من بينهِم أخو يوسف من أبيه وأمه ، أما الآخرون فكانوا إخوَتَهُ من أبيه. بنيامينُ ما شارَكَهُم فيما فَعَلُوه ، لذلك المشهور أنه نُبِـّئَ فيما بعد ، أما البقية فإنهم هموا بقتل أخيهم ظلماً ، وَرَمَوهُ فى البئر ، وباعوه على أنَّه عبدٌ وهو حر ، وأهانوا أباهم وهو نبىٌّ من الأنبياء ( وهذا كفر ). ومَعَ أنَّهم تابوا بعد ذلك فإنّ النبوة ما جَاءَتْهُم لأن أنبياء الله لا يجوز عليهم هذه الأفعالُ الخسيسة لا قبلَ النبوةِ ولا بعدَها. وأما الأسباطُ الذين ذكرَهم الله فى القرءان مع الأنبياء فلا يُقْصَدُ بهم إخوة يوسف هؤلاء ، وإنما المرادُ بهم أنبياء من ذريتهم.

باب الردة
قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على كُلِّ مسلمٍ حِفْظُ إسلامِه وصونُه عَمَّا يُفْسِدُهُ ويُبْطِلُهُ ويَقْطَعُهُ وهُوَ الرِّدَّةُ والعياذُ باللهِ تَعَالَى.

الشرح: أن كلَّ مسلمٍ مأمورٌ بأن يحفَظَ إسلامَهُ مِنَ الردة. والردة هى الكفر بعد الإسلام ، وهى تَقطَعُ الإسلامَ وتبطِلُهُ ، أى بمجرد حصول الردةِ لا يبقى الشخصُ مسلِمَاً بل يصيرُ فوراً كافراً ولو كان أبواه مسلمَيْنِ.

قال المؤلف رحمه الله: قالَ النَّوَوِىُّ وغيرُهُ: الـّرِدَّةُ أفحَشُ أنواعِ الكفر.

الشرح: أنَّ أفحشَ أنواعِ الكفر هو أن يكفُرَ الإنسانُ بعد أن كان مسلماً ، لذلك المرتدُ أخَسُّ حالاً من الكافرِ الأصلىّ. فلو كان مَثَلاً بين المسلمين وبين كفارٍ أصليين حربٌ ثم وَقَعَ صُلْحٌ بين الفريقين بشروطِهِ الشرعية ، حَرُمَ عند ذلك على هؤلاء المسلمينَ دِمَاءُ هؤلاء الكفار. أما المرتدُّ إذا لَم يَرجع إلى الإسلام فدمُه مَهْدُور ، يعنى يجبُ على الخليفة أن يَقتُلَهُ إذا لم يرجع إلى الإسلام. فحالُ المرتد أخسُّ من حال الكافر الأصلى. نسألُ الله أن يحفَظَنَا من الردة.

قال المؤلف رحمه الله: وقد كَثُرَ فى هذا الزمانِ التساهلُ فى الكلام حتى إنه يخرج من بعضهم ألفاظٌ تُخرِجُهم عن الإسلام ولا يرَون ذلك ذنباً فضلاً عن كونه كفراً.

الشرح: أن هذا أمر مشاهَد ، فكثير من الناس يتكلمونَ بالكفر بسهولة كأنَّهم يشربون الماء. فى الأزمان الماضية كان لو تَلَفَّظَ إنسانٌ باللفظِ الكُفْرِىّ علانيةً يحصُلُ من ذلك أمر عظيم. وأما فى أيامِنَا فَيُشْتَمُ اللهُ عزَّ وجلّ علانيةً فى مواضعَ كثيرةٍ جداً ومن أناس كثيرين يَدَّعُونَ الإِسْلام ، وقليلٌ مَنْ يَنْصَحُ هؤلاءِ وينهاهُم عمّا يقولون. هذا وكثيرٌ منهم لا يعتقدون أن ما قالُوه كفرٌ يخرجُهُم من الإسلام ، وهو حقيقةً مُخْرِجٌ لهم من الدين.

قال المؤلف رحمه الله: وذلك مصداقُ قولِهِ صلى الله عليه وسلم :[ إنَّ العبدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بأساً يهوِى بها فِى النار سبعين خريفاً.] أى مسافةَ سبعين عاماً فى النـزول وذلك منتهَى جهنم وهو خاصٌ بالكفار. والحديثُ رواه الترمذىُّ وحَسَّنَهُ ، وفى معناهُ حديثٌ رواه البخارىُّ ومسلم. وهذا الحديثُ دليلٌ على أنه لا يُشترَط فى الوقوع فى الكفر معرفةُ الحكم ولا انشراحُ الصدر ولا اعتقادُ معنى اللفظِ كما يقول كتابُ ( فقه السنة ).

الشرح: أن العبد قد يقعُ فِى الكفر بكلمةٍ واحدةٍ يَنْطِقُ بِهَا ، والدليلُ على ذلك حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إنَّ العبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكلمةِ لا يَرَى بها بَأْساً يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا.] وهذا الحديثُ رواه الإمامُ الترمذىُّ فى جامِعِهِ وقَوَّاه ، وبمعناه روايةٌ أخرى رواها البخارى ومسلم:[ إن العبدَ لَيتكلمُ بالكلمة ما يَتَبَيَّنُ فِيها – أى لا يرى بها بأساً – يَهوِى بها فى النار أَبْعَدَ مما بَينَ المشرقِ والمغرب.] وكِلاَ الحديثين يدُلُّ على أن الشخصَ يَقَعُ فى الكفر بمجرد النطق باللفظ الكفرىّ ، ولو كان لا يعتقدُ معنى ذلك الكلام فى قلبه ، بل مُجَرَّدُ أَن يَقُولَهَا بإرادَتِهِ يكون كفراً ولو كان لا يعتقدُ المعنى، كَمَن يَسُبُّ الله تعالى فإنه لا يُشترط لوقوعه فى الكفر اعتقادُ هذا المعنى الكفرىّ ، ولا يُشترط أن ينشَرِحَ صدرُهُ للكفر. رجلٌ يقال له سيد سابق ذَكَرَ فى كتاب له اسمه ( فقه السُّنَّة ) أَنَّ الإنسان إذا نَطَقَ بالكلمةِ الكفرية لا يكفر إلا إذا كان يعتقدُ معنى اللفظ وانشرحَ صدرُهُ لهذا الكفر. كلام هذا الرجل ضِدُّ حديثِ رسولِ الله الذى ذكرناه وضِدُّ القرءان أيضاً ، لأنَّ الله بَيَّنَ لنا فى القرءان أن الذى يُشتَرَطُ فى حقه انشراحُ الصدر حتى يُحكَمَ عليه بالكفر هو فقط المُكْرَهُ بالقَتْلِ ونحوِه على النطق بكلمة الكفر. فَكَّذَّب هذا الرجلُ كتابَ الله وجعل غَيْرَ المُكْرَه مِثْلَ المُكْرَه سواءً. وأمرُه عجيب لأن الإنسانَ الذى يقتُلُ شخصاً بغير حق لا يسألُهُ القاضى هل كنتَ منشرحَ الصدر لما قتلتَه أم لا ليحكُم عليه بالحكم المناسب. وكذلك الذى يسرق لا يسألُه القاضى حتى يُصدِرَ عليه الحكمَ هل كنتَ منشرحَ الصدر لما سرقتَ أم لا ، فإذا كان الأمرُ كذلك فى القتل والسرقة اللذَينِ هما أخفُ بكثير من ذنب الكفر ، فكيف بالنسبة للكفر؟!!.

قال المؤلف رحمه الله: وكذلك لا يُشترَطُ فى الوقوعِ فى الكفرِ عَدَمُ الغَضَبِ كما أشارَ إلى ذلك النووى ، قال:[ لو غَضِبَ رجلٌ على ولدِه أو غلامِه فضربَه ضرباً شديداً فقال له رجلٌ: أَلَستَ مسلماً فقال:لا ، متعمداً كفر.] وقالَه غيرُه من حنفيةٍ وغيرِهم.

الشرح: أنه لا يشترط ليُحكَم على شخصٍ بالكفر أن يكون نطق بالكفر فى حال الرِضَى أى فى غيرِ حال الغضب. يَعنِى أنَّ مَنْ نَطَقَ بكلمةِ الكفر فى حال الرضى أو فى حال الغضب فهو كافر إلا إذا كان غَضَباً شديداً جداً بحيثُ غاب عقلُه بسَبـَبِهِ فما عاد يَعِى ماذا يقول، فَقَدَ التمييز ، فعند ذلك لا يكتب عليه اللفظ الكفرىّ. أما فى غير ذلك من أحوال الغضب فإنه يُكتب عليه مهما بلغ به الغضب طالما هو يَتَكلَّمُ بإرادته. بعضُ الناس يقولون:[ إذا كان الشخصُ غاضباً فتكلم بكلمةِ الكفر لا تُكتب عليه.] فقولهم هذا ضلال لأن اللهَ ما استثنى هذه الحال فى القرءان والنبِىَّ صلى الله عليه وسلم ما استثناها فى الحديث. فهؤلاء الذين يستثنون حالَ الغضب يستدركون على الله وعلى الرسول فيَكْفُرُونَ بذلك. وقد أشار الإمامُ النووىُّ وغيرُه إلى هذه المسئلة ، فقال: لو أن إنساناً غضِبَ على ولدِهِ أو غلامِهِ أى عبدِه فبسبب الغضب ضربه ضرباً شديداً فمرَّ به رجل فرءاه يضرِبُهُ هذا الضربَ الشديد فقال له: ألست بمسلم؟! كيف تضربُه هذا الضرب؟! فأجابه بقوله: لا-يعنى لست مسلماً – متعمداً أى بإرادته ، قال النووى: يكفر ولو كان غاضباً.

قال المؤلف رحمه الله: والردةُ ثلاثةُ أقسامٍ كما قسَّمها النووىُّ وغيرُه من شافعيةٍ وحنفيةٍ وغيرِهِم: اعتقاداتٌ وأفعالٌ وأقوالٌ، وكلٌّ يتشعّبُ شُعَبًا كثيرةً.

الشرح: أن الردةَ تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، اعتقاداتٌ بالقلب ؛ وأفعالٌ بالجوارح ؛ وأقوالٌ باللسان. علماءُ المذاهب الأربعة قَسَّموا الردةَ إلى هذا التقسيم ، مثلُ النووىّ فى كتابه المنهاج ، وابنِ الوَرْدِىّ فِى الحَاوِى ، وغيرِهِمَا من علماء المذاهبِ الأربعة. وكلُّ قسمٍ من هذه الأقسام الثلاثة يُخرِجُ صاحبَهُ من الإسلام من غير اشتراطِ أن يجتمعَ معَهُ قسمٌ ءاخر.

قال المؤلف رحمه الله: فَمِنَ الأولِ: الشَّكُّ فِى الله.
الشرح: أنَّ مَنْ شك فى الله أى ما عاد عندَه اليقينُ الجازم فى وجودِ الله عز وجل ولو لمدة قصيرة فإنه يكفر بذلك.

قال المؤلف رحمه الله: أو فى رسولهِ أو القرءانِ أو اليومِ الآخرِ أو الجنةِ أو النارِ أو الثوابِ أو العقابِ.

الشرح: أن من شك أيضاً فى حقِيَّة نبوة سيدنا محمد فهو كافر. أو شك فى حقِيّة القرءان ، أو فى اليوم الآخر أى شَكَّ هل يكون أم لا يكون ، أو شك فى الجنة أو النار أى شَكَّ هل يُثابُ الطائعون بالجنة أم لا وهل يعاقب الكفار فى النار أم لا ، فإنه يكفر أيضاً.

والذى يُخرِجُ الشخصَ من الإسلام هو الشَّكُّ ، وليس مجردَ الخاطر الذى يَخطُرُ له وقلبُهُ جازمٌ بالحق. فإنَّ هذا لا يُؤَثّـِرُ على إيمانه. يعنى إذا خطرَ لإنسان خاطر يُنافِى العقيدةَ الصحيحة لكن هذا ما أورَثَه شَكًّا ، بل كَرِهَ هذا الخاطرَ وطردَه ، فإنه فى هذه الحال لا يكفر ، بل له ثوابٌ فى كراهِيَتِه لهذا الخاطر.

قال المؤلف رحمه الله: أو نحوِ ذلك مما هوَ مُجْمَعٌ عليه.

الشرح: أنه إذا كان هناك أمر أجمَعَ المسلمون عليه أى أنّ العالم والجاهل من بينهم يعرفُ أن رسول الله جاء به ثم شكَّ الشخص هل يكون أم لا يكون مع معرفته بأن الرسول أخبر أنه يكون فإنه يكفر بذلك. مِثلُ وَزْنِ الأعمال فى الآخرة ، فإن الجاهلَ والعالم من المسلمين يعرفُ أن رسول الله أخبر أن هذا يكون ، فمن شك فى ذلك فهو كافر ، إلا أنْ يكونَ مثلَ حديث عَهْدٍ بإسلام ما عرفَ أنَّ الرسول صلّى اللهُ عليهِ وَ سَلَّم أخبرَ عنهُ من قَبلُ ، فإنه لا يكفر عندئذٍ.

قال المؤلف رحمه الله: أو اعتقادُ قِدَمِ العالَمِ وأزلِيَّتِهِ بجنسه وتركيبه أو بجنسه فقط.

الشرح: أن من اعتقد أن شيئاً غيرَ الله كان موجوداً مَعَ الله فى الأزلِ فهو كافر. ذَكَرَ ذلك المُتَوَلّـِى مِن كبارِ مشايخِ الشافعية ، والقاضِى عِياض من مشاهيرِ المالِكِيَّة ، وابنُ دَقِيقِ العِيد ، وقد قِيلَ ببلُوغِهِ درجةَ الاجتهاد ، وغيرُهُم كثير.

قال المؤلف رحمه الله: أو نفىُ صفةٍ من صفاتِ الله الواجبةِ له إجماعاً كَكَونِه عَالِمَاً.

الشرح: أن هناك صفاتٍ من صفات الله عز وجل يعرفُ الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أن الله موصوفٌ بها ، فمن أنكر واحدةً منها أو شك فى ذلك فهو كافر. مثلُ الذِى يشكُّ فى قدرَةِ الله على كلِّ شىء ، أو يشُكُّ فى عِلْمِ الله بكلِّ شىء ، أو يشك فى كونِ الله مُتَكَلّـِمًا سميعاً بصيراً ، فإنّ كلَّ ذلك كفر. وليس المراد بذلك أنّ الذى لم يخطُر ببالِهِ قَطُّ أن الله سميع يكفر ، إنما المراد أنّ الذى شكَّ هلِ الله موصوف بهذه الصفة أم لا فإنّ هذا الذى يَكْفُر.
قال المؤلف رحمه الله: أو نسبةُ ما يجب تنـزيهُهُ عنه إجماعاً كالجسم.

الشرح: أن هناك صفاتٍ يعرف الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أن اللهَ مُنَزَّهٌ عنها لأن فيها نِسْبَةَ النَّقْصِ إلى الله ، فإذا نسب إنسان صفةً من هذه الصفات إلى ربِـّنَا عز وجل فهو كافر. كالذى يصفُ اللهَ بأنه جسم ، أو بأنه ضوء ، أو ينسب إلى الله تعالى اللون ، لأنه يكون شبَّه اللهَ بالمخلوقين. وكذا لو قال إنّ الله جسمٌ لكن لا كالأجسام فهو كافر. وقد نقل صاحبُ الخِصَال من الحَنـَابلة عن الإمام أحمد أنه كَفَّر الذى يقول:[ إن الله جسمٌ لا كالأجسام.] وذلك لأنه نَسبَ إلى الله ما لا يليقُ به أى الجسمية.

قال المؤلف رحمه الله: أو تحليلُ محرمٍ بالإجماعِ معلومٍ مِنَ الدّين بالضرورةِ مما لا يَخْفَى عليه كالـّزِنَى واللواطِ والقتلِ والسرقَةِ والغَصْب.

الشرح: أن هناك أموراً يعرفُ الجاهلُ والعالم من المسلمين أنَّهَا مُحَرَّمَة مثل القتل المُحَرَّم والسرقة والغَصْب وما شابَه ذلك. فإذا زَعَمَ إنسان أن شيئاً من هذه الأمور حلالٌ فهو كافر ، كالذى يَزْعُمُ أَنَّ شرب الخَمْرِ جائز ، أو أَنَّ أكلَ لحمِ الخنـزير جائز، أو أن الزنا جائز ، فإنه يكفُرُ ، إلا إذا كان مثلَ حديثِ عهدٍ بالإسلام ولم يكن عَرَف أن هذه الأشياءَ محرمةٌ فى دين الإسلام ، فإنه لا يُكَفَّر عند ذلك بل يُعَلَّم.
قال المؤلف رحمه الله: أو تحريمُ حلالٍ ظاهرٍ كذلك كالبيعِ والنِـّكَاح.

الشرح: أن هناك أشياءَ يعرف الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين أنها حلالٌ فى الشرع ، فإذا زَعَمَ إنسان أنَّها حرامٌ فهو كافر ، مثلُ الزِواج ، فإنه إذا حَرَّمَهُ إنسان فهو كافر. ومثلُ الذبيحة بالطريقة الشرعية ، إذا زعم إنسان أَنَّها حرام فهو كافر.

قال المؤلف رحمه الله: أو نفىُ وُجُوبِ مُجْمَعٍ عليه كذلك كالصلواتِ الخمسِ أو سجدةٍ منها والزكاةِ والصومِ والحجِ والوضوءِ.

الشرح: أن هناك أموراً الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين يعرف أنها واجبة فرض ، مثل الصلوات الخمس. فإذا قال إنسان: أنا سقط عنى التكليف بالصلوات الخمس ، أو قال: الذى يَصِل إلى حدِّ صفاءِ القلب لا يعود فرضاً عليه أن يصلى ، فهذا كافر. كذلك الذى يُنكِر أن الزكاة واجبة ، أو يُنكر وجوبَ صومِ رمضان ، فإنه يكفر.

قال المؤلف رحمه الله: أو إيجابُ ما لم يَجِب إجماعاً كذلك.

الشرح: أن هناك أموراً الجاهلُ والعالِمُ من المسلمين يعرف أنها ليست فرضاً ، مثل ركعتين تُصَلَّيان تَطَوُّعاً قبل صلاة الصبح. النبىّ حث على صلاة ركعتين قبل صلاةِ فرضِ الصبح. فإذا قال إنسان إنّ الإتيان بهاتين الركعتين فرض كالصبح فهو كافر.

قال المؤلف رحمه الله: أو نفْىُ مَشروعيَّةِ مُجْمَعٍ عليه كذلك.

الشرح: أن هناك أموراً الجاهل والعالم من المسلمين يعرف أنها مشروعة أى أنّ فى فعلها ثواباً فى الشرع ، مثل صلاة الوتر. فإذا أنكر إنسان مشروعيةَ أمرٍ من هذه الأمور فإنه يكفر. مثل الذى يقول: صلاة الوتر ليس فيها ثواب، فإنه كافر. وهكذا كلُّ حكمٍ معلومٍ من الدين بالضرورة أنه من أحكام الشريعة من أنكرَه كَفَر ، يعنى كلُّ حكمٍ الجاهل والعالم من المسلمين يعرف أنه من أحكام الشريعة. وكذا يكفر من يزعم أن هذا الحكم ليس شيئاً حسناً أو ليس عدلاً مع معرفته بأنه من الشرع ، كالذى يُرْوَى عن أَبِى العلاء المعَرِّىّ فى الذبيحَةِ والزِواج من ذَمّـِه لهذين الأمرين ، فإن هذا كفر. ومثلُ ما يقولُه بعضُ الذين يدعون الاهتمام بأمور النساء فى هذا الزمن من ذمِّ جواز تعدد الزوجات للرجل أو ذم الحجاب وما شابه ، فهذا كلُّهُ كفر. ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقبول على العينِ والرأس ، وكل ما خالفه فهو مردود على قائله كائناً من كان.

قال المؤلف رحمه الله: أو عَزَمَ على الكفرِ فى المستقبلِ أو على فِعْلِ شىء مما ذُكِر أو تَرَدَّدَ فيه.

الشرح: أن من عَقَدَ قلبَه أى عَزَم عزماً جازماً على أن يكفر فى المستقبل كَفَرَ فى الحال. وكذلك الذى يتردد هل يكفُرُ أم لا يصير كافراً فى الحال. ومثلُهُمَا الذى يُعَلّـِقُ كفرَه على حصولِ شىءٍ فى المستقبل ، لأن المؤمن حقيقة يكون قلبُه ثابتاً على الإيمان ، لا يريدُ أن يتركَهُ أبداً.
قال المؤلف رحمه الله: لا خُطُورُهُ فى البالِ بدونِ إرادة.

الشرح: أن هذا سبق بيانه بحمد الله.

قال المؤلف رحمه الله: أو أَنكَرَ صُحبَةَ سَيّدِنَا أَبِى بكرٍ رضى الله عنه.

الشرح: أن من اعتقد بقلبِهِ أن أبا بكرٍ ليس صاحبَ رسولِ الله فهو كافر. ويَخُصُّ الفقهاءُ أبا بكر بالذكر فى هذه المسئلة ولا يذكرون عمر مثلاً أو عثمان أو علياً لأن الله تعالى نص على صُحبة أبِى بكرٍ فى القرءان قال الله تعالى:{ إذ أَخرجه الذين كفروا ثانِىَ اثنينِ إذْ هما فى الغارِ إذْ يقولُ لصاحِبِهِ لا تَحْزَن.} سورة التوبة/ 40. فَسَمَّى اللهُ أبا بكر صاحبَ رسول الله فى القرءان ، فمن أنكر ذلك فقد كذَّب القرءان وكفر بذلك.

قال المؤلف رحمه الله: أو رسالةَ واحدٍ منَ الرسُلِ المُجْمَعِ على رسالتِهِ.

الشرح: أن هناك أنبياءَ يعلم الجاهل والعالم من المسلمين أنهم أنبياء ، مثلَ ءادم ونوح وموسى وعيسى ومحمد صلوات ربى وسلامُه عليهم ، فإذا أنكر إنسان نُبوة واحد منهم فهو كافر. أما إذا لم يعرف مثلاً أن شِيْـثًا كان نبياً، فلما ذُكِرَ أمامَهُ اسمُ شِيثٍ ظن أنه ليس نبياً ، فإنه لا يكفر بهذا. وكذلك لا يكفر من أنكر كَونَ الخَضِر نبياً ، لأن العلماء اختلفوا هل كان الخضر نبياً أم رجلاً صالحاً غيرَ نبىّ ، وإن كان جُمهُورُهم على القول بأنه نبىّ ، وهو القول الصحيح الذى تَدُلُّ عليه النصوص الشرعية.

قال المؤلف رحمه الله: أو جَحَدَ حرفاً مُجْمَعًا عليه مِنَ القرءان ، أو زاد حرفًا فيه مجمعًا على نفيه معتقدًا أنه منه عنادًا.

الشرح: أن الشخصَ إذا زاد شيئاً على كتابِ الله عز وجل وهو يعلم أنّ هذا ليس من القرءان لكن لأجلِ العناد قال هذا من القرءان فإنه يكفر.كذلك الذى ينفى حرفاً واحداً أن يكون منَ القرءان وهو يعلمُ أنه من القرءان لكن لأجل العناد قال هو ليس من القرءان فإنه يكفر بذلك. أما الذى زاد شيئاً أو أنقَصَهُ بسبب سوء حفظه لا عناداً فإنه لا يكفر بمجرد ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: أو كَذَّب رسولاً أو نَقَّصَهُ أو صَغَّر اسمَهُ بقصدِ تحقيرِهِ.

الشرح: أن كلَّ تنقيص وتكذيب وَذَمٍّ لنبىٍّ من أنبياء الله كيفما كان فهو كُفْرٌ. كما لو اعتقد إنسان فى نبى من أنبياء الله أنه جاهل ، أو جبان ، أو غيرُ أمين ، أو ما شابه ذلك فإن معتقده يكفر.

قال المؤلف رحمه الله: أو جوَّزَ نُبُوَّةَ أحَدٍ بعد نبينا محمد .
الشرح: أن من جملة الكفر الاعتقادى أن يعتقدَ إنسان أنه جائز شرعاً أن يأتِىَ نبىّ بعد محمد صلى الله عليه وسلم . فإنّ هذا كفر سواءٌ قال إنَّه يجوز أن يُبعَثَ بعد محمد نبىٌّ رسول أو نبىٌّ غيرُ رسول، مثل القاديانية فإنّ قسماً منهم يزعُمُون أن نبوةَ غُلام أحمد نُبوةٌ ظِلّيَّة ، يعنون أنه ليس نبياً مستقلاً إنما هو نبىٌّ تابعٌ لمحمدٍ عليه الصلاة والسلام ، وهذا كفر لأنهم أثبتوا له وصفَ النبوة ، فكذبوا بذلك القرءانَ والرسولَ وَالأمَّةَ قاطبةً.

قال المؤلف رحمه الله: والقسمُ الثانِى الأفعالُ: كسجودٍ لصنمٍ أو شمسٍ أو مخلوقٍ ءاخرَ على وجهِ العبادةِ له.

الشرح: أنَّ القسمَ الثانِىَ من أقسامِ الردة هو الردةُ الفعليةُ المتعلقةُ بالجوارحِ ، مثلُ السجودِ لصنمٍ. فمن سجدَ لصنم من غير إكراه كَفَّرْنَاهُ من غير نظرٍ إلى نيتـِهِ ، وكذلك من سجدَ للشمسِ ، أو القمر ، أو الشيطان ، أو النار ، أو نحوِ ذلك من الأشياء التى لا يَسْجُدُ لها إلا الكفار. وأما من سجد لإنسانٍ فَفِى الأمرِ تَفصِيل. إنْ سجدَ له بنيةِ العبادة فهو كُفر ، وإنْ سَجَدَ له تحيةً أو نحوَ ذلك فلا يَكْفُر. وقد كان هذا الأمرُ أى السجودُ لمسلمٍ تحيةً واحتراماً جائزاً فى الشرائع السابقة ، كما سَجَدَ الملائكةُ لآدم ، ثم حُرِّمَ هذا الأمر فى الشريعةِ المحمديةِ ، فلا يجوزُ أن يسجدَ شخصٌ لشخصٍ ءاخر ولو كان على وجه التحية والاحترام. ومِنَ الكفر الفعلىّ أيضاً إلقاءُ المصحف فى القاذورات ولو قال الشخصُ الذى فعل هذا الأمر: أنا ما كنت أقصِدُ الإهانة ، لأن مجرد فعله إهانة. أمّا إن كان لا يعرف أنَّ الكتاب الذى يرميه هو كتابٌ مُعَظَّم كأن كان لا يعرف أنه المصحف ثم رماه فى القاذورة فلا يكفر.
والقاعدةُ فى هذا الأمر أن كلَّ فعلٍ أجمع المسلمون أنه لا يصدُرُ إلا من كافر فمَن فَعَلَهُ فهو كافر ، مثل ما لو تَزَيَّى إنسان بالزِىّ الخاص بغير المسلمين ودخل معَهم معابدَهُم مختلطاً بهم وهو على هذه الحال أى وهو مُتَزَىٍّ بالزِىّ الخاص بهم فإنه يكفر لأن هذا أمر لا يصدر إلا من كافر فمن فعَلَهُ صار كافراً.

قال المؤلف رحمه الله: والقسمُ الثالثُ الأقوالُ وهى كثيرةٌ جداً لا تنحصر.

الشرح: أنَّ أكثر الكفريات إنما هى كفرياتٌ باللّسان ، وهذا مصداقُ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ أكثرُ خطايَا ابنِ ءَادم مِنْ لسانِهِ.] رواه الطبرانىُّ.

قال المؤلف رحمه الله: مِنْهَا أَنْ يقولَ لمسلمٍ يا كافرُ أو يا يهودىُّ أو يا نصرانـىُّ أو يا عديمَ الدينِ مريداً بذلك أَنَّ الذِى عليه المخاطَبُ مِنَ الدينِ كفرٌ أو يهوديةٌ أو نصرانيةٌ أو ليس بدين لاَ عَلَى قصدِ التشبيهِ.

الشرح: أَنَّ الإنسان إذا قال لشخصٍ هو يعرِفُهُ مسلماً:[ يا كافر.] أو [ يا نصرانىّ.] أو [ يا يهودىّ.] أو [ يا عديمَ الدين.] وكان قصدُه بكلمة يا كافر أن دينَك دين كُفر أو أنت دينُك نصرانية أو دينُكَ يَهودية أو أنت حقيقةً لست على دِين ، ما كان يقصِدُ تشبيهَهُ باليهود أو النصارى أو من لا دين له إنما كان يقصِد أنه حقيقة على دين غير الإسلام وهو يعرفُ أنه مسلم وأنَّ دينَه الإسلام ، فى هذه الحال يكون سمَّى الإسلام كفراً فيصيرُ كافراً. وقد بَيَّنَ ذلك سيدُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فقال:[ إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما. إن كان كما قال وإلاَّ رجعت عليه.] رواه البخارىُّ وابنُ حِبّانَ وغيرُهما. أما إذا كان قصدُه تشبيهَهُ بالكفار وما كان يقصد بهذه الكلمة أنه كافر حقيقةً فلا يَكْفُر ، كأن قال له يا كافر ويقصِد أنه لخساسة أعماله كأنه كافر ليس مسلماً ، فهُنا لا يكفر لكن عليه إثم كبير.

قال المؤلف رحمه الله: وكالسُّخريةِ باسمٍ من أسمائِهِ تعالى أو وعدِهِ أو وَعِيدِهِ ممن لا يخفى عليه نسبة ذلك إليه سبحانه.

الشرح: أن من استهزأ بالله أو بوعد الله أو بوعيد الله فهو كافر ، كما لو استهزأ إنسانٌ باسمٍ من أسماء الله مع علمه أن هذا اسم الله عز وجل فإنه يَكْفُر. ومثل ذلك ما لو استهزأ بالجنة. بعضُ الناسِ من خُبْثِهِم يستهزِءُونَ بالجنة يقول بعضهم للآخر:[ اذهب أنت إلى الجنة ، الجنة ماذا فيها؟ أما أنا أريد أن أذهب إلى النار لألقى المغنين وأمثالهم هناك.] يعنى أن الجنة ليست ذات قيمة ، وهذا كفر. أما لو كان الشخص لا يَعْرِف أَنَّ الله توعد بوعيدٍ ما أو وَعَدَ بوعدٍ ما فاستهزأ به لا يَكْـفُر ، كما لو أنَّ شخصاً ما عَرَف أن هناك عقاربَ فى جهنم يَـتَعَذَّبُ بها الكفار فسَمِعَ إنساناً يتحدثُ عن هذا الأمر فَظَنَّ أنَّ هذا الأمرَ غيرُ صحيح فاستَخَفَّ بكلامه فإنه لا يَكْفُر لأنَّه ما قصد الاستخفافَ بِوَعِيدِ الله عز وجل.

قال المؤلف رحمه الله: وكأنْ يقولَ لو أَمَرَنِى اللهُ بكذا لم أفعَلْهُ أو لو صارتِ القبلةُ فى جهةِ كذا ما صليتُ إليها أو لو أعطانِى اللهُ الجنةَ ما دخلتُهَا مستخفاً أو مظهراً للعناد فى الكل.

الشرح: أَنَّ الاستخفافَ قَد يكونُ مع اعتقادِ عَدَمِ الحَقِيّة ، أما العناد فقد يكونُ مع اعتقادِ الحقيَّة ولكن مع إظهارِ خِلافِ ذلك ، فمن قال ألفاظاً مشابهة للألفاظ التى مَثَّلَ بها المؤلف سواءٌ قالَها عناداً أو استخفافاً فهو كافر.

قال المؤلف رحمه الله: وكأَنْ يقولَ لو ءَاخَذَنِى اللهُ بتركِ الصلاةِ مَعَ مَا أنا فيه مِنَ المَرَضِ ظَلَمَنِى.

الشرح: أنه إذا كان إنسان مريضاً مثلاً فَتَرَكَ الصلاةَ فى مَرَضِهِ ، فقال له إنسان: لِمَ لا تُصَلّى؟ صَلِّ ، الصلاة ما زالت واجبةً عليك. فأجابَه: لو ءاخذنى الله بتركِى للصلاة مع الحال التى أنا فيها من المرض ظلمنى. يكون كافراً بذلك لأنه أجازَ الظُلْمَ على الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله: أو قَالَ لِفِعْلٍ حَدَثَ هذا بغيرِ تقديرِ الله.

الشرح: أنه إذا قال إنسان عن شىءٍ واحد أنَّه حصل بغير تقدير الله فهو كافر ، وهذا شامل للخير وللشر ، لأنَّ الخيرَ والشر حُصُولُهُمَا بتقديرِ الله ، ولا يُلاَمُ اللهُ تعالى على تقديرِه للشر ، وإنما يلامُ العبدُ الذِى يفعَلُ الشرَّ.

قال المؤلف رحمه الله: أو [ إذا قال إنسان ] لو شَهِدَ عندِىَ الأنبياءُ أو الملائكةُ أو جميعُ المسملينَ بكذا ما قَبِلْتُهُم.

الشرح: أنَّ قائِلَ هذه الكلمة كافر ، لأن الذى لا يَقْبَلُ شهادةَ الأنبياء فهو مُخَوِّنٌ لَهُم ، وكذا بالنسبة للملائكة ، وكذا بالنسبةِ لجميعِ المسلمين. ومن خَوَّنَ الأنبياءَ فهوَ كافر لأنَّه مُكَذِّبٌ للقرءان ، وغيرُ مؤمنٍ بالأنبياء. وكذا الذى يُخَوّنُ الملائكةَ أو يُخَوِّنُ كلَّ المسلمين فإنّ من خوَّنَهم كلَّهم يريدُ أن يَنْقُضَ الدّينَ من أساسِهِ ، لأنَّ أحكام الدّين إنما وصلتْـنَا عن طريق المسلمين. فلو كان خبرُ جميعِهم غيرَ مَقْبُول لَمَا كان ثقةٌ بما نُقِلَ إلينا من الشرع ، ولذلك قائل هذه العبارة كافر.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال: لا أفعلُ كذا وإِنْ كان سنةً بقصدِ الاستهزاء.

الشرح: أنه إذا قال إنسان لآخر: ” لِمَ لا تستعمل السواك؟ السواك سُنَّة ” فأجابَه ” لا أُريد “، ويقصد أن هذا الأمر شىءٌ مُسْتَقْذَر فإنه يَكْفُر لأنه بذلك يستهزئ بسنة رسول الله . أما إِنْ كان لا يريد الاستخفاف بسنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه قال: لا أريد ويعنى بذلك أنه الآن لا يستَعْمِلُهُ فإنه لا يَكْفُر.

قال المؤلف رحمه الله: أو[ قال شخص ] لو كانَ فلانٌ نبياً ما ءَامَنْتُ به.

الشرح: أنَّ قائل هذه العبارة يَكْفُر ، لأن كلمَتَهُ تتضمن الاستخفافَ بمنصِبِ النُّبوّة. هذا كأنه يقول: ” منصبُ النبوة ليس له شأن عندِى “، فهو كافر.

قال المؤلف رحمه الله: أو أعطاهُ عالِمٌ فَتْوًى فَقَال: أَيْشٍ هذا الشرع مريداً الاستخفافَ بحكمِ الشرع.

الشرح: أنه إذا إنسان أَصْدَرَ فى حَقِهِ حاكمٌ شرعِىّ حكماً شرعياً ، أو طَلَبَ مِن مُفْتٍ جواباً على مسألة فأفتَاهُ فيها ، فلم يعجبه الحكم أو الفتوى فقال له: أَيْشٍ هذا الشرعُ؟ يعنى بذلك أن حكم الشريعة المحمدية شىءٌ قبيح غيرُ صحيح، فإنه يَكْفُر. أما لو أراد أيْشٍ هذا الذى أنت تزعُمُهُ شرعاً وهو ليس بشرعِ النَّبِىّ فلا يَكْفُر.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى كُلِّ عالِمٍ مريداً الاستغراقَ الشامِلَ.

الشرح: أنه إذا لَعَنَ إنسان كُلَّ العلماء أى استغرَقَهَم أى شَمِلَهُم جميعاً باللعن فهو كافر ، لأن هذا يَتَضَمَّنُ الاستخفافَ بمنصِبِ العلم ، أما لو لَعَنَ علماءَ مُعَيَّنِينَ كعلماءِ بلدةٍ معينةٍ لأَنهم غيرُ عاملين بعلمهم فإنه لا يَكْفُرُ عندَ ذلك وإن كان كلامُه لا يَخْلُو مِنَ المعصية.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال: أَنَا بَرِىءٌ مِنَ اللهِ أو مِنَ الملائكَةِ أو مِنَ النَّبِىّ أو مِنَ الشريعةِ أو مِنَ الإِسْلاَمِ.

الشرح: أن هذه الألفاظَ من الكفر الصريح فمن قال شيئاً منها فهو كافر.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال: لا أعْرِفُ الحُكْمَ مُسْتَهْزِئَاً بحُكْمِ الله.

الشرح: أنه إذا قال إنسان لآخر: ” ما هو حكمُ هذه المسئلة فى الشرع؟” فأجابه ” لا أدرى “، يريد بذلك أن هذا شىء لا أهميةَ له عندى أى أنا لا أرى منـزلةً لأمور الشرع ، فإنه يكفر. أما إذا قالَ كلمةَ ” لا أدرِى ” فى موضِعِهَا فكلامُهُ ممدوح. رسول الله سُئِلَ مَرةً ما هى خير البقاع وما هى شر البقاع؟ فقال: ” لا أدرى أسأَلُ جبريل ” ثم سألَ جبريلَ فقال: ” لا أدرِى أسألُ ربَّ العِزَّة “، ثم أوحى الله للنبىِّ صلى الله عليه وسلم أنّ خيرَ البقاع المساجد وأنَّ شرَّ البقاع الأسواق. رواه ابن حبّان.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال وقد ملأ وعاءً:{ وكأساً دهاقاً.} سورة النبأ/ 34. أو أفرغَ شراباً فقال:{ فكانت سراباً.} سورة النبأ / 20. أو عند وزن أو كيل:{ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.} سورة المطففين/ 3. أو عند رؤيةِ جمعٍ:{ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً.} سورة الكهف/ 47. بقصدِ الاستخفافِ فى الكُلِّ بمعنى هذه الآيات. وكذا كلُّ موضع استُعمِل فيه القرءانُ بذلك القصد ، فإن كان بغير ذلك القصد فلا يكفر. لكن قال الشيخ أحمدُ بن حجرٍ: لا تبعدُ حرمتُه.

الشرح: أنَّ من أورَدَ ءايةً من ءايات القرءان فى أَىّ موضع لأجل الاستخفاف بها فهو كُفر. كأن كان يملأُ كأساً بالخمرِ فقال:{ وكأساً دهاقاً.} يريدُ بذلك أن هذا الخمر الذى يضَعُهُ فى هذه الكأس خيرٌ من شرابِ أَهْلِ الجنة ، يعنِى أنَّ هذا هو الشرابُ المُسْتَلَذُّ ليس ذاكَ الموعودَ به أهلُ الجنة ، فإنه يَكْفُر لأنه استَخَفَّ بمعنَى ءايةٍ من ءاياتِ كتابِ الله. أما لو أوردَ ءايةً من الآيات فى غيرِ موضِعِهَا لكن بغيرِ استخفاف فلا يَكفر. كأن رأى أُنَاسَاً مُجْتَمِعِينَ أو دَعَا أناساً للاجتماع فاجتمعَ قومٌ كثيرون فأورد قولَ الله:{ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً.} وهو لا يريد بذلك الاستخفاف بالآية فلا يكفر. لكنْ قال أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ الهَيْتَمِىّ الفقيهُ الشافعىُّ المعروفُ: إنّ هذا الأمر وإن لم يكن كفراً لكن ليس بعيداً أن يقال عنه حرام ، لأنه إيرادٌ للآية فِى غيرِ موضِعِهَا وهذا فيه إسائةُ أَدَبٍ مع القرءان.

قال المؤلف رحمه الله: وكذا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أو مَلَكًا.

الشرح: أَنَّ من شَتَمَ نبياً من الأنبياء أو مَلَكَاً من الملائكة فهو كافر بلا تفصيل.

قال المؤلف رحمه الله: أو قال: أَكونُ قَوَّاداً إِنْ صَلَّيتُ أو ما أصبتُ خيراً منذُ صليتُ أو الصلاةُ لا تصلح لِى بقصدِ الاستهزاء.

الشرح: أن الذى يقول هذه الألفاظَ بقصدِ الاستهزاء بالصلاة فهو كافر بلا شك. كالذِى يقولُ عن نفسه إنه إذا صلَّى يكون قواداً – والقواد هو الذى يجلب الزبائن للزوانى – فإنَّ هذا القائل يكفر لأنه مستخفٌ بالصلاة. لكن لو قالت امرأَةٌ حائِضٌ: ” الصلاة لا تصلُحُ لى ” وتريد بذلك أنه طالما أنا فى الحيض لا يجوز لِى أن أصلّىَ فلا تَكْفُر.

قال المؤلف رحمه الله: أو قالَ لمسلمٍ: أنا عَدُوُّك وعدوُّ نَبِيِـّكَ أو لشريفٍ: أنا عدوُّكَ وعدوُّ جدِكَ مُريداً النبىَّ صلى الله عليه وسلم أو يقولَ شيئاً من نحو هذه الألفاظِ البَشِعَةِ الشَّنِيعَة.

الشرح: أن من شَتَمَ رسولَ الله أو تَنَقَّصَهُ بأىِّ وجهٍ من أَوْجُهِ الشتم أو التنقيص فهو كافر بالإجماع. قال القاضِى أَبُو يُوسُف رحمه الله:[ مَنْ شَكَّ فِى كُفْرِهِ وعَذَابِه فهو أيضاً كافر.] إهـ. يعنى من شك فى كُفْرِ الذى يَسُبُّ النبىّ وأنه يستحقُ العذابَ فى الآخرة فهو أيضاً كافر. ومثلُهُ قال سَحْـنُون المالِكِىّ. فإذا كان هذا فِى سَبِّ النبىّ فكيف بالذى يَسُبُّ الله تعالى ؟!!.

قال المؤلف رحمه الله: وقد عَدَّ كثيرٌ من الفقهاء كالفقيه الحنفىّ بدر الرشيد والقاضى عياضٍ المالكىِّ رحمهما اللهُ أشياءَ كثيرةً. فينبغى الاطّـِلاعُ عليها، فإنَّ مَنْ لم يَعْرِفِ الشرَّ يقَعُ فيه.

الشرح: أَنَّ القاضِىَ عِياضاً عاش فِى القرن الخامس الهجرىّ ، وهو من أشهرِ فقهاء المالكية ، وقد ذَكَرَ فِى كِتَابِهِ الشِفَا ألفاظاً عَديدةً تُخْرِجُ من الإسلام للتحذيرِ منها. وكذا فَعَلَ غيرُهُ من فقهاء المذاهب الأربعة. ومنهم فَقِيهٌ حَنَفِىّ كان فى القرن الثامن الهجرىّ يقالُ له بدْرُ الرَّشِيد أَلَّفَ رسالةً أى كتاباً صغيراً خاصاً بتَعْدَادِ الألفاظ الكفرية. وإنما فعلوا ذلك حتى يَحْذَرَ المسلمُ مثلَ هذِه الألفاظ ويتجَنَّبَهَا.

قال المؤلف رحمه الله: والقاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ أو فعلٍ أو قولٍ يدلُّ على استخفافٍ بالله أو كتبِه أو رسلِهِ أو ملائكتِهِ أو شعائرِه أو معالمِ دينِه أو أحكامِهِ أو وَعده أو وعيدِه كفرٌ. فليحذرِ الإنسانُ من ذلك جَهْدَهُ على أىّ حال.

الشرح: أن كلَّ اعتقادٍ بالقلب أو فعلٍ بالجوارح أو قولٍ باللسان فيه استخفافٌ بالله فهو كفر. وكذا ما فيه استخفافٌ بكُتُبِ الله المُنَزَّلَة ، أو بأنبيائِهِ، أو بالملائكة ، أو بشعائر الدين ومعالِمِه أى الأشياء التى هى عَلَمٌ على أمور الدين أى التى هى مشهورة من أمور الدين ، كالأذَان فإنه يقال له عَلَمٌ أو شَعِيرَة ، ومثل الحج والمساجد وعيد الفطر وعيد الأضحى والصلاة، كلُّ هذه من معالم الدين وشعائِرِه فالاستخفاف بها كُفرٌ. وكذلك الاستخفافُ بأحكام الشريعة أو بوعد الله أو بوعيده ، كلُّ ذلك كُفر سواءٌ عَقَدَ الإنسانُ على ذلك قلبَهُ أو فَعَلَهُ بجوارحِهِ أو نَطَقَ به بلِسَانِهِ. فليَحْذَرِ الإنسانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ لأن من مات على الكفر فقد خَسِرَ الدنيا والآخرة ، أعاذنا الله من ذلك.

تـــوبـة المرتــد

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على مَنْ وَقَعَت منه رِدَّةٌ العودُ فوراً إلى الإسلامِ بالنطق بالشهادَتَين ، والإقلاعِ عمَّا وقعت به الردة.

الشرح: أنَّ من ارتد لا بد له حتى يرجِعَ إلى الإسلام من أن يُقْلِع عن سبب الردة وأن يَنْطِقَ بالشهادتين للتَّبَرؤِ مِنَ الكفر. أى أنَّ الإنسان إذا وقع فى الردة بقولِ كُفْرٍ أو فِعْلِ كُفْرٍ أو باعتقادٍ كفرىٍّ مثلاً لا بد له حتى يرجع إلى الإسلام من أن يترُكَ هذا الكفر الذى وقع فيه وينطِقَ بالشهادتين. وهذا معناه أنَّه لا بُدَّ أن يَعرِف أن الأمرَ الذى وَقَعَ فيه هو كُفْرٌ. فلو حصلَ مِنَ الشخصِ كُفْرٌ ثُمَّ تَشَهَّدَ بعدَ ذلك أَلْفَ مَرَّة مِنْ غَيرِ أَنْ يَعْرِف أَنَّ هذا الأمر هو أمرٌ كفرىٌّ لا تنفَعُهُ كُل هذه المرات التى تشهَّد فيها. وهذا أيضاً معناه أنَّ الشخصَ لا بد أن ينطِقَ بالشهادتين حتى يرجع إلى الإسلام ، فلا يكفى أَنْ يترُكَ العقيدةَ الكفرية التى كان عليها حتى يصيرَ مسلماً من جديد. بل لا بد مع ذلك من أنْ ينطِقَ بالشهادتين للتبرؤ من الكفر.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ عليهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ والعَزْمُ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ لِمِثْلِهِ.

الشرح: أن المرتد يجبُ عليه عَدَا الرجوع إلى الإسلام أن يَنْدَمَ أيضاً على الردة التى صدرت منه ، فإذا لَم يَنْدَم صحَّ رجوعُهُ إلى الإسلام مع حصول المعصية بترك الندم. هذا بِشَرْطِ أَنْ لا يكونَ عندَه عزمٌ على أن يكفرَ فى المستقبلِ، لأنَّه إذا كان عند تشهده عازماً على الكفرِ فى المستقبل فإن هذا التشهدَ لا ينفعُه فى الرجوع إلى الإسلام.

قال المؤلف رحمه الله: فإنْ لِم يَرجِعْ عن كفرِه بالشهادةِ وجبتِ استِـتَابَتُهُ. ولا يُقْبَلُ مِنْهُ إلا الإسلامُ أو القتلُ بِهِ -يعنى بالكفر- يُنَفّـِذُهُ عليهِ الخليفةُ بعدَ أَنْ يَعْرِضَ عليهِ الرجوعَ إلى الإسلامِ. ويعتَمِدُ الخليفةُ فى ذلك على شهادةِ شاهِدَين عَدْلَين أو على اعترافِه وذلك لحديثِ البخارىّ:[ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوه.]

الشرح: أَنَّ الخليفةَ إذا ثَبَتَ عندَه أنَّ شخصاً ارتدَّ، إمّا باعترافِه أو بشهادَةِ شاهدين عَدْلَينِ عليه ، ثم لم يرجع إلى الإسلام حَبَسَه ثلاثة أيام ، يُنْفِقُ عليه فيها من ماله – أى من مال المرتد -، فى كلِّ يوم منها يعرِضُ عليه الرجوعَ إلى الإسلام ، فإن مضتِ الأيامُ الثلاثةُ ولم يرجع إلى الإسلام بالشهادتين وَجَبَ على الخليفةِ قتلُهُ. ولا يُقْبَلُ مِنهُ إلا الإسلامُ فإن لم يفعل يُقْتَل ، وذلك لحديثِ رسولِ اللهِ :[ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فاقْتُلُوه.] رواه البخارىّ.

قال المؤلف رحمه الله: ويَبْطُلُ بِهَا صَومُهُ.

الشرح: أنَّ مَنْ كان صائِماً صومَ فرض ثُمَّ ارتَدَّ فَسَدَ صومُهُ. ويجبُ عليه الرجوعُ فوراً إلى الإسلام ، ثم الإمساكُ عن المفطّـِرات سائِرَ النهار ، وأن يقضِىَ هذا اليومَ على الفور إِنْ قَدَر.

قال المؤلف رحمه الله: وتَيَمُّمُهُ.
الشرح: أنه إذا كان الشخصُ متيمِـّمَاً ثمَّ ارتدَّ فَسَدَ تَيَمُّمُهُ فوراً ، فإنْ رَجَعَ إلى الإسلامِ لا بُدَّ لَهُ مِنْ طَهَارَةٍ جديدة. وهذا بخلافِ الوضوءِ ، فإنه إذا كان الشخص متوَضِئاً ثم ارتدَّ ثم رَجَعَ إلى الإسلام قبلَ أنْ يحصُلَ معَهَ ما يَنْقُضُ الوضوءَ فَوضُوءُهُ بحاله ، وذلك أنَّ التيَمُّمَ طهارةٌ ضعيفةٌ بخلاف الوضوء.

قال المؤلف رحمه الله: ونكاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ.

الشرح: أنه إذا ارتد أحدُ الزوجين قبلَ الدخول بَطَلَ العقدُ حالاً ، فلو رَجَعَ المرتد منهما فوراً إلى الإسلامِ وأَرَادَا الرجوعَ إلى بعضِهِمَا فلا بد مِنْ عَقْدٍ جَدِيد.

قال المؤلف رحمه الله: وكذا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسلامِ فِى العِدَّة.

الشرح: أنه إذا ارتدَّ أحدُ الزوجين بعد الدخول ثم مضَت العِدة ولم يَرْجِع الذى ارتدَّ إلى الإسلام بَطَلَ العقدُ بينَهُمَا ، وأما قبل الدخولِ فلا عِدَّةَ عليها. أما إن رَجَعَ الذى ارتد منهما إلى الإسلام فى خلالِ العِدة فيرجعان إلى بعضِهِمَا من غير حاجة إلى عقد جديد.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وغيرِهَا.

الشرح: أن مَنْ كان والداه مُسلِمَيْنِ ثم هو ارتدَّ لا يجوز أن يتزوجَ من مسلمةٍ ولا من غيرِها ، وذلك لأنَّ اللهَ حَرَّمَ على المسلِمَةِ الزِّواجَ من كافر ، والمرتدُّ كافرٌ.

قال المؤلف رحمه الله: وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ.

الشرح: أن ذبيحة المرتد تكون مَيْتَةً ، ولو كان ارتدَّ عن الإسلام إلى النصرانية أو إلى اليهودية ، لأنَّه لا يُعَدُّ بذلك من النصارى واليهود الأصلِيين الذين يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذبائِحِهِم.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يَرِثُ ولاَ يُوْرَثُ.

الشرح: أن المرتدَ إذا مات لا يَرِثُهُ أقارِبُهُ المسلمون ، ولا غيرُ المسلمين. ولا يجوزُ أنْ يَرِثَ هو من غيرِه لا من مسلم ولا من كافر.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يُصَلَّى عليهِ ولا يُغَسَّلُ ولا يُكَفَّنُ ولا يُدْفَنُ فى مقابر المسلمين.

الشرح: أن المرتدَ إذا مات لا يجوز أن يُصَلَّى عليهِ ، وذلك لأنَّه كافر ولا يجوز أن يُصَلَّى على كافرٍ. ولا يَجِبُ تَغْسِيلُهُ، ولا تكفينُه ، ولا يجوزُ أن يدفنَ فى مقابر المسلمين ، لأن هذه المقابر وُقِفَت لدفنِ مَوتَى المسلمينَ وهو ليس منهم.

مسئلة: لو ماتت زوجة المسلم الكافرة وهى حامل فمات الجنين فى بطنها لم يجز دفنها فى مقابر المسلمين لكفرها ولا دفنها فى مقابر الكفار لأجل الجنين الذى فى بطنها إنما تدفن فى مكان لا هو من مقابر المسلمين ولا من مقابر الكفار ويُوَجّهُ ظهرها إلى القبلة حتى يكون صدر الجنين متوجهاً إليها.

قال المؤلف رحمه الله: ومالُهُ فَىءٌ.

الشرح: أن المرتدَ إذا مات يكونُ مالُه فيئاً يُصرَفُ فى مصالح المسلمين ، ولا يرثه أقارِبُهُ إنما يُسْتَعْمَلُ فِى بناءِ مسجد أو مدرسةٍ شرعية أو يُوَزَّعُ على الفقراء أو نحوِ ذلك.

أَداءُ جميعِ ما أوجَبَهُ اللهُ

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على كُلِّ مكلَّفٍ أَداءُ جميعِ ما أوجَبَهُ اللهُ عليهِ. ويجبُ عليه أنْ يُؤَدِّيَهُ على مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنَ الإِتْيَانِ بأَرْكانِهِ وشروطِهِ ويجتَنِبَ مُبْطِلاَتِهِ.

الشرح: أنه يجبُ تأْدِيَةُ الفرائضِ التِى فَرَضَهَا اللهُ تبارك وتعالى ، يعنى معَ تطبيقِ الأركان والشروط ، ولا يكفى مجردُ القيامِ بصُوَرِ الأعمال مع الإخلالِ ببعضِ الشروطِ أو الأركان. ويجبُ أنْ يجتَنِبَ الشخصُ مبطلاتِ هذه الواجبات ، وإلا يكونُ داخِلاً تحتَ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ رُبَّ قائِمٍ حَظُّهُ من قيامِهِ السَّهَر ورُبَّ صَائِمٍ حظُّهُ من صيامِه الجوعُ والعَطَش.] رواه ابنُ حبان. يُعْلَم من ذلك أَهَميةُ تَعَلُّمِ عِلمِ الدّين ، لأنَّ مَنْ لم يتعلم الكفاية من هذا العلم كيف يعرف ما هى الشروط وما هى الأركان وما هى المبطلات حتى يؤدّىَ الشروطَ والأركان ويجتنب المبطلات؟

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ عليه أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شىءٍ منها أو يأتى بها على غير وَجْهِهَا بالإتيانِ بِهَا على وَجْهِهَا.

الشرح: أَنَّ الشخصَ إذا عَرَفَ مِنْ إنسانٍ أنَّه تَرَكَ فرضاً من فرائض الله تبارك وتعالى يجب عليه أن يأمُرَه بأداء هذا الفرض. أو إنْ عَرَفَ أنه يأتى به على غيرِ وجهِه الذى يَصِحُّ بِهِ يجب عليه أن يأمره بالإتيان به على الوجه الذى يصح به. هذا إذا كان الشخص يُخِلُّ بفرضٍ مجمَعٍ على فرضيتهِ أو يترك شرطاً مجمعاً عليه. وإلا إذا كان الشخصُ لا يأتى بهذا الفرض أو الشرطِ لكونِه يَتْبَعُ إماماً لا يرى أنَّ هذا الأمر واجب فهُنَا لا يجبُ على الشخصِ أَنْ يأمُرَهُ بِفِعْلِهِ. مثالُ ذلك أنّ مَسْحَ كلِّ الرأس فرضٌ فى الوضوء عند المالكية ، وأما عند الشافعِىّ فيكفى مسحُ جُزءٍ منه. فإذا إنسانٌ مالكىّ رأى شخصاً يتوضأ ويمسحُ بعضَ رأسِه فى الوضوء لا ينبغى أن يَتَسَرَّعَ بالإنكارِ على هذا الشخص ، إلا إذا كان هذا الشخصُ الثانِى يعتقد أَنَّ مِن فرائض الوضوء مسحَ كلِّ الرأس كأن كان مالكياً أو يَتْبَعُ مذهباً من المذاهب التى توجب ذلك ، فعندئذٍ يُنْكِرُ عليه.
قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ عليه قَهْرُهُ على ذلك إِنْ قَدَرَ عَلَيهِ.

الشرح: أنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ إنساناً لا يؤدِى هذه الفرائض مثلاً ، أو يأتى بها على غير وجهها ، وكان لا يَمْتَثِلُ إلا بالقهر يجبُ عليه أن يقهَرَهُ إن كان قادراً على ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وإلا وَجَبَ عليه الإنكارُ بقلبِهِ إنْ عَجَزَ عن القَهْرِ والأمرِ وذلك أَضْعَفُ الإيمانِ أى أَقَلُّ ما يلزَمُ الإنسانَ عندَ العَجْزِ.

الشرح: أنَّ مَنْ عَلِمَ بمنكر وكان يستطيعُ أنْ يُغَيّـِرَ هذا المنكر بلسانه عليه أن يفعل. كأن كان يعرف أنه إذا نصحَ هذا الإنسان الذى يأتـى هذا المنكر يَرْتَدِعُ هذا الإنسان. هنا يجبُ عليهِ ذلك. فإنْ كان فاعل المنكر لا يستَمِعُ للنصيحة وكان الشخصُ قادِراً على قهرِهِ يجبُ عليه ذلك ، يَقْهَرُهُ حتى يترُك المنكر الذى يفعَلُهُ، وهذا لحديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ رأى مِنْكُم مُنْكَرًا – يعنى من عَلِمَ منكم بمنكر – فَليُغَيّرْهُ بيدِه فإنْ لم يستَطِع فبلسانه فإن لم يستَطِعْ فبقلبِهِ وذلك أضعفُ الإيمان.] رواه البخارى. فمَنْ عَرَفَ بمنكر فَغَيَّرَهُ بيدِه فهو سالم ، فإِنْ عَجَزَ تَكَلَّمَ بلسانِهِ ، إما يُكَلّـِمُ من يفعل المنكر أو إن كان لا يقبلُ منه يكلمُ إنساناً يعرف أنه يقبلُ منه لِيُكَلّـِمَهُ ، فإنْ فعَلَ ذلك فهو سالم. فإن عجز عن الأمرين القهرِ والأمرِ يجبُ أن يُنكرَ بقلبِهِ ، فإن فعل ذلك فهو سالم. أما إذا لم يُنكر بقلبِهِ عند العجز عن القهر والأمر فهو ءاثِم. وما ذكرناه عن القهرِ والأمر مُقَـيَّدٌ بأن لا يكونَ هذا القهرُ أو الأمرُ يؤدِى إلى منكرٍ أعظمَ وإلا حَرُمَ. لأنَّ مِنْ شَرْطِ إنكارِ المنكر باليدِ أو باللسان أن لا يؤدِّىَ ذلك إلى منكرٍ أعظم. وقد زاد المؤلفُ كلامَهُ وضُوحًا بقوله:

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ تركُ جميعِ المحرماتِ ونهىُ مرتَكِبِهَا ومنعُهُ قَهْرًا منها إن قَدَرَ عليه وإلا وَجَبَ عليه أَن يُنْكِرَ ذلكَ بقَلْبِهِ.
والحرام ما توعَّد الله مرتكبه بالعقاب ووعد تاركه بالثواب وعكسه الواجب.

الشرح: أنه مِنْ كُلِّ ما تقدم يتبين شدةُ أهمية تعليمِ الناسِ العلمَ الشرعىَّ الصحيح ولا سيما علم العقيدة ، وأهميةِ النهى عن المنكر ولا سيما النهىِ عن الكفر ، فإنه إذا كان يجبُ نهىُ شاربِ الخمرِ عن معصيته ونهىُ السارقِ عن السرقة ونهىُ الكاذِبِ عن الكذب فكيف بالذى يقعُ فى الردة؟! لا شك أَنّهُ واجب عظيمٌ أنْ ينهَاهُ الإنسانُ عن هذا الكفر وأن يأمرَهُ بالرجوع إلى الإسلام. ويكفى فى بيان فضل هذا الأمر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ أَحْيَى سُنَّتِى عندَ فَسَادِ أُمَّتِى كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيد.] رواه البيهقىّ . وما هو أجر الشهيد؟ الجنة من غيرِ عذاب. فهذا الحديثُ يُستَدَلُّ منه على أنَّ الذى تَعَلَّم العقيدةَ الصحيحة وعلَّمها للناس فى هذه الأيام يدخُلُ الجنةَ إن شاء الله مِنْ غيرِ عذاب ، ولو كانت له زَلاَّتٌ. فلا ينبغى للشخصِ أن يَنْزَوِىَ ويترُكَ الأمرَ بالمعروف والنهىَ عن المنكر لا سيما إذا نشط أهلُ البِدَع فى نَشْرِ بِدَعِهِم بين المسلمين. فى الزَّمَنِ الماضِى فى ناحيةٍ من نواحى المسلمين اشتدت شوكَةُ أَهْلِ البِدَع ، حتى إنّ بَعضَ العلماء من شدة ما تضايقوا منهم تركوا البَلَد الذى كانوا فيه وانفردوا فى الجبال هرباً من مضايقاتِهِم ، فصار أبو إسحَق الإسْفَرَايِـنِى يَلْحَق هؤلاء العلماءَ إلى الجبال ويقول لهم:[ يا أَكَلَةَ الحشيش؟ تتركون دينَ محمد للذئاب؟” معناه أنتم خير لكم أن تنكروا هذه البدعَ بدلاً من هربكم إلى الجبال ، لِمَ لَمْ تـثبتوا بين الناس حتى تدافعوا عن الدين؟ وذلك لأن إنكارَ المنكر باللسانِ معَ القدرَةِ واجب. فنسألُ اللهَ تعالى أَنْ يَسْتَعْمِلَنَا كُلَّنَا فى هذا ، وأن يجعَلَنَا من الذين يَحْرِصون على تعليم عقيدةِ أهل السنة ونشرِها فى الليلِ والنهار ، وأن يرزقَنَا أَجْرَ الشهداء ، ولو مِتْـنَا على الفراش. والله أعلم.

الطَّهَارَةُ وَالصَّلاَة
على مذهب الإمام الشافعي
مواقيت الصلاة

قَالَ المُؤَلِف رَحِمَهُ اللهُ: فَمِنَ الوَاجِبِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى اليومِ واللّيْلَةِ.

الشرح: أنه يجِبُ على المسلِمِ خَمْسُ صلواتٍ فى كُلِّ يومٍ وليلة ، ولا صلاةَ واجبةٌ غيرَ هؤلاء الخمس – يعنى وجوبَ عينٍ -. وأداءُ هذه الصلوات أفضلُ الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله ، وتركُهَا ذنبٌ عَظِيمٌ يجعَلُ الشخصَ قريباً من الكفر ، حفظنا الله من ذلك.

قَال المؤلِف رَحمهُ الله: الظُهْرُ: وَوَقْتُهَا إذا زَالَتِ الشمسُ إِلَى مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شىءٍ مِثْلَهُ غَيْرَ ظِلِّ الاستواء.

الشرح: أنه مِنَ المهم معرفةُ كيفَ تَدخُلُ أوقاتُ الصلوات وكيف تخرُج. فوقتُ الظهر يَبْتَدِئ أولَ ما تميلُ الشمس ولو أَخَفَّ الميل عن وسطِ السماء إلى جهةِ المغرب. وبيان ذلك أنّ الشمسَ تَطْلُعُ مِنَ المشرق ثم تتحرك حتى تَصِل إلى وسطِ السّمَاء فإذا وَقَفْتَ فى تلك اللحظة فى البلاد الشمالية مثلاً متوجهاً إلى الجنوب تكونُ الشمسُ بين عينيك ويكونُ ظِلُّ الشىء أقْصَرَ ظِلٍّ له فى ذلك اليوم ، هذا الوقت – أى لما تكون الشمسُ فى وسط السماء – يقال له: وقتُ الاستواء وفى ذلك الوقت لا يكون الظهرُ قد دخل بعد. لكن بعد ذلك أولَ ما تَميل الشمس ولو قليلاً عن وسطِ السماء إلى جهةِ الغرب يكونُ دَخَلَ الظهر. ويبقى وقتُ الظهر إلى أن يصيرَ طول ظِلّ الشىء مساوياً لطولِ الشىء نفسِهِ مع زيادَةِ طولِ ظِلِّ الاستواءِ عليه. مثال ذلك إذا كان هناك خَشَبَة قائمة طُولُهَا ثلاثُ أقدام ، فلما صارت الشمس فى وسط السماء كان ظِلُّ هذه الخَشَبَة قَدَمًا واحدةً. فعندما يَصير فى ذلك اليوم طولُ الظِل أربعَ أقدام يكون انتهى وقت الظهر ، وبعد ذلك يبتدئ وقتُ العصر.

قال المؤلف رحمه الله: والعصرُ: ووقتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلى مَغِيبِ الشمسِ.

الشرح: أن وقت العصر يستمر من بعدِ انتهاء وقت الظهر إلى أن يغيبَ كاملُ قُرْصِ الشمس. فإنْ كُـنْتَ لا تستطيعُ رُؤيةَ قُرصِ الشمسِ فى الجهةِ الغربية يُعْرَفُ ذلك بزوال الشُّعَاعِ من رؤوس الجبال وبإقبال الظلمة من المشرق. وذلك لحديث:[ إذا غابت الشمسُ من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم.] رواه مسلم.

قال المؤلف رحمه الله: والمغرِبُ: وَوَقْتُهَا مِنْ بَعدِ مَغِيبِ الشمسِ إلى مغيبِ الشَفَقِ الأَحْمَر.

الشرح: أنَّ وقتَ المغرب يَبْتَدِئ بعد انتهاءِ وقتِ العصر مباشرةً ، ويستمر إلى أن يغيب الشفقُ الأحمر من الأفق الغربىّ. فإن كنتَ لا تستطيعُ رؤيةَ الأفق الغربى يُعْرَفُ غياب الشفق بظهور النجوم الصغيرة بكثرة فى السماء ، يعنى لما تظهر هذه النجوم بكثرة يكون هذا علامةً على أن الشفق الأحمر قد غاب قبل ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: والعشاءُ: ووقتُهَا مِنْ بعدِ وقتِ المغرب إلى طلوع الفجر الصادق.

الشرح: أنَّ وقْتَ العشاء يبتدِئ مباشرةً بعد انتهاءِ وقتِ المغرب ، ويستمرُ إلى طلوعِ الفجر الصادق الذى هو بياضٌ معتَرِض يطلُعُ فى الأُفْق الشرقىّ ، يَبْدَأُ أولَ ما يظهر دقيقاً ثم يزدادُ وينتشرُ شيئاً فشيئاً إلى أن تَطْلُعَ الشمس. فبمجرد طلوع هذا البياض ينتهى وقت العشاء ويبتدئ وقتُ الصبح.

قال المؤلف رحمه الله: والصبح: ووقتُها مِنْ بعدِ وقتِ العشاءِ إلى طُلُوعِ الشمس.

الشرح: أن وقتَ الصبح يبدأ مباشرةً بطلوع الفجر ، ويستمرُ إلى أن تطلُعَ الشمسُ ، أى حتى يطلُعَ أوّلُ جُزءٍ مِنَ الشمسِ. فإنْ كانت جبالٌ تحول بينَك وبين الأفق الشرقى تُقَدِّر أَنَّه لو لم تكن هذه الجبال متى يكونُ طُلُوعُ الشمسِ أى متى يظهر أول جزء من قُرصِ الشمس ، وتَبْنِى على ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: فتجبُ هذه الفروضُ فى أوقاتِها على كل مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ طاهرٍ.

الشرح: أن معرفةَ هذه الأوقات وإيقاعَ الصلاةِ فيها لا قَبْلَهَا ولا بعدَهَا فَرْضٌ ، فيحرم تقديمُ الصلوات على وقتِها وتأخيرُها عن وقتها بلا عذر لأن الله تبارك وتعالى قال:{ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ.} سورة الماعون / 4-5. والمراد بالسهو هنا تأخير الصلاة عمداً حتى يخرج وقتُها. فالذى يؤخرُ الصلاةَ عمداً حتى يخرجَ وقتُها فإنّ الله تَوَعَّدَه بالويل وهو العذاب الشديد. ومَعَ ذلك فإنّ من يُؤَخرها عن وقتِها عمداً حتى يخرُجَ وقتُها من غير أن يُصَلّـِيَهَا لا يكون كافراً ، لكنه يكون قريباً من الكفر. وقال بعضُ الأئمةِ بتكفيرِهِ ، لكنَّ الجمهورَ على أنه فاسق لم يَصِل إلى الكفر بذلك.

قال المؤلف رحمه الله: فيَحْرُمُ تقدِيمُهَا على وقتِها وتَأخيرُهَا عنه لغير عذرٍ.

الشرح: أنَّ مَنْ صَلَّى الصلاةَ قبلَ وقتِهَا لم تَصِحَّ منه الصلاةُ ، ومن صلاَّهَا بعد خروجِ وقتِها وَقَعَت هذه الصلاةُ قضَاءً ، لكنْ عصى اللهَ بتأخِيرِهَا إن كان أَخَّرَهَا بلا عُذْرٍ. وأشدُ المعصيتين معصية التقديم ، لأنَّ الذى قدَّمَها على وقتِها لم تقع صلاتُه لا أداءً ولا قضاءً. فإنْ جَمَعَ بين الصلاتين لعذر شرعىٍّ فلا إثمَ عليه ، مثلُ الذى يجمعُ بينهما للسَّفَرِ ، أو المرضِ ، أو المطرِ ، ولذلك تفاصيلُ معروفةٌ فى كتب الفقه.

قال المؤلف رحمه الله: فإِنْ طَرَأَ مَانِعٌ كَحَيضٍ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ وقتِهَا ما يَسَعُهَا وطُهْرَهَا لنحوِ سَلَسٍ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا.

الشرح: أَنَّه إذا دَخَلَ وَقْتُ الصلاةِ ثم بعدَ دخولِ الوقتِ مضى منه ما يَسَعُ الصلاة ثم طَرَأَ مانِع كجنون قبل أن يصلّـِىَ الشخصُ واستمر المانعُ إلى أَنْ خَرَجَ الوقت ثم بعد ذلك زال ، هنا يجبُ على الشخصِ أن يَقْضِىَ تلك الصلاة ، لأنه مَرَّ من أولِ الوقت ما يَسَعُهَا ولَم يستعمل هذا الوقتَ فِى الصلاة. فإن كان الشخصُ مصاباً بِسَلَسٍ ونحوه لا يجبُ أنْ يقضِىَ هذه الصلاة إلا إن مَرَّ مِن ابتداء وقتها إلى ما قبل طروء المانع ما يَسَعُ الصلاةَ وطُهْرَهَا ، ويشمل الوضوءَ أو التيمُّمَ وإزالة النجاسة التى لا يعفى عنها.

قال المؤلف رحمه الله: أو زَالَ المانعُ وقد بَقِىَ مِنَ الوقْتِ قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَتْهُ ، وَكَذَا مَا قَبْلَهَا إِنْ جُمِعَت مَعَهَا ، فَيَجِبُ العصرُ مع الظهرِ إِنْ زَالَ المانِعُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الغروب ، والعشاءُ مع المغربِ بإدراكِ قَدْرِ تكبيرةٍ قبلَ الفجر.

الشرح: أنَّ هناك صلواتٍ يجوزُ جمعُها للعذرِ ، وهى الظهرُ معَ العصرِ والمغربُ معَ العشاء. فإذا ذهبَ المانِعُ كأنِ انقطَعَ الحيضُ عن المرأةِ قبْلَ خُرُوجِ وقتِ الصلاةِ الثانيةِ منهما بقَدْرِ تكبيرة أو أكثر ، كأن انقطع الحيض قبل غروب الشمس بقدر تكبيرة مثلاً فإن الصلاة التى هى صاحبة الوقت أى صلاة العصر تلزمها ، ولو كان الوقت لا يكفِى لكى تَغْتَسِلَ وتُصَلّـِى. وتلزمها كذلك الصلاةُ التى قَبْلَهَا لأنها تُجْمَعُ مَعَهَا للعُذْر وهى الظهر. أما لو انتهى الحيضُ قَبْلَ خُرُوجِ وقتِ الظهر بتكبيرة فتَلْزَمُهَا عند ذلك صلاةُ الظهرِ ولا تَلْزَمُهَا الصبحُ التى هى قبلَهَا ، لأنَّ الصبحَ والظهرَ لا يُجْمَعَانِ للعذر.

فصل :مَا يجبُ على أولياءِ الصّـِبيانِ

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على وَلِىِّ الصبىّ والصبية المُمَيّـِزَينِ أن يأمُرَهُما بالصلاةِ ويُعَلّـِمَهُمَا أَحْكَامَهَا بَعْدَ سَبعِ سِنين.

الشرح: أَنَّ هذا الفصلَ معقودٌ لِمَا يجبُ على أولياءِ الصّـِبيانِ. فيجبُ على وَلِىِّ الصبىّ والصبيةِ أن يأمرهما بالصلاةِ بعد سبعِ سنين قمرية إذا كانا مُمَيّـِزَينِ ، أمَّا قبلَ السبع فلا يجبُ أن يأمرهما ولو مَيَّزَا. ويحصلُ التمييزُ بأنْ يصيرَ الصبىُّ فِى حالٍ يَفهَمُ فيها الخطاب ويردُّ الجواب. يعنِى لو سُئِلَ مثلاً كَمْ مَرَّةً يأتى رمضان فى العام؟ أو كم يوماً فى الأسبوع يوجَد؟ أو من أين جهة القبلة؟ وما شابه ذلك يَفهَم السؤال ويجيبُ جواباً صحيحاً.

قال المؤلف رحمه الله: ويضربَهُمَا على تركِهَا بعدَ عشرِ سنينَ كصومٍ أطاقاه.

الشرح: أنّ وَلىّ الصبىّ والصبية المميزينِ يأمُرُهَما بالصيام أيضاً بعد سبعِ سنين إنْ مَيَّزَا وأطاقا الصيام ، وأما بعدَ عشرٍ فيضربُهُمَا على تركِ الصلاة وتَرْكِ الصيام إن أطاقا الصوم ، وذلك لحديث أَبِى داودَ أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:[ مُرُوا أولادَكُم بالصلاةِ وهم أبناءُ سَبعٍ ، واضرِبُوهُم عليها وهُم أبنَاءُ عَشرٍ. وفَـّرِقُوا بينَهُم فى المضاجع.] ويُشتَرَطُ فِى الضَّرْبِ المذكورِ أنْ لا يكون مُبَرِّحاً.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ عليه أيضاً تعليمُهُمَا مِنَ العَقَائِدِ والأَحْكَامِ يَجِبُ كَذَا وَيَحْرُمُ كَذَا وَمَشروعِيَّةَ السّـِوَاكِ والجَمَاعَةِ.

الشرح: أنَّه يجبُ على الولىّ أن يُعِلّمَ الصبىَّ والصبية المميزَيْن ما يحتاجان إليه بعدَ البلوغ من أمورِ الدّين الضرورية التى يشتركُ فى معرِفَتِها العامُّ والخاصُّ ، وهو ما كان مُتَعَلّـِقًا بأصولِ العقيدة ، مِنْ وجودِ الله ووَحْدَانِيَّتِهِ ، وقِدَمِهِ وبَقَائِهِ ومخالَفَتِهِ للحوادث ، وأَنَّ للهِ تعالى قُدْرَةً وسَمْعًا وبَصَرًا وكلامًا وحياةً وعلمًا ومشيئةً ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسولُ الله وخاتَمُ الأنبياء ، وأنَّه وُلِد بمكة وهاجر إلى المدينة. وأنَّ الله أرسل أنبياء أولُهُم ءادم  ، وأنَّه أنزلَ على أنبيائِهِ كُتـُباً. وأن لله ملائكةً. وأنه سيُفنِى الإنس والجن ثم يُعَادُونَ إلى الحياة ، وأنه بعد ذلك يُجَازَونَ على أعمالِهِم. وأنَّ الله أعدَّ للمؤمنينَ داراً للنعيم تسمى الجنة ، وأعدَّ داراً للعذاب هى جَهَنَّم ، وما أشبه ذلك من أصولِ العقائد. ويُعَلّمُهُم كذلك حُرمَةَ السَّرِقَةِ ، والكَذِبِ ، والزنا ، واللواطِ ، والغيبةِ والنميمةِ ، وضربِ المسلم ظلماً ، ونحوَ ذلك من الأمورِ الظاهرةِ. وهذا أمرٌ يهمله كثيرٌ مِنَ الأهل ، فيأثمون بذلك. لا هم يُعَلّمُونَ أولادَهم ولا هم يأتون لأولادِهِم بمَنْ يُعَلّمُهُم ، وإنما هَمُّهُم مَأْكَلُ أولادِهِم ومشرَبُهُم وملبسُهُم ومأواهُم فقط ، فيعامِلُونَ أولادَهم كما يعاملونُ بهائمهم. نعوذ بالله من ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ على وُلاةِ الأمرِ قتلُ تَارِكِ الصلاةِ كَسَلاً إنْ لم يتُبْ ، وحكمُهُ أنه مسلمٌ. وَيَجِبُ على كُلِّ مسلمٍ أمرُ أهلِهِ بالصلاةِ وكلِّ مَنْ قَدَرَ عليه مِنْ غيرِهِم.
الشرح: أنه يجبُ وجوباً كفائياً على المسلمِ أَنْ يأْمُرَ أهلَه بالصلاة وكلَّ مَنْ قَدَرَ عليهم من غير أهله إن كانوا لا يؤدونَهَا. والمرادُ بالأهلِ هنا الزوجةُ والأولادُ وما أشبَهَ ذلك. وأما الخليفةُ فإنَّه إذا عَرَفَ شخصاً يتركُ الصلاةَ كسلاً يأمُرُهُ بأدائها ، فإن لم يفعَل وَجَبَ عليهِ أَنْ يَقْتُلَهُ. يُمْهِلُهُ حتَى يَمْضِىَ وقتُ الصلاةِ الثانية إِنْ كانت الصلاةُ الثانية تُجْمَعُ مَعَ الأولى ، أى يُمْهِلُهُ حتى يمضىَ وقتُ هذه الفريضة التى أمره بفعلها ووقت التى بعدها إن كانت تُجمع معها. فإذا مضى ذلك الوقت فلم يُصَـلِّ قتلَهُ. أما إِنْ كانت لا تُجْمَع معها فيمهله إلى أن ينتهىَ وقت هذه الصلاة فقط. فإذا تَوَعَّدَ الخليفةُ تاركَ الصلاةِ بالقتلِ على تركِ صلاةِ الصبح ثم طَلَعَتِ الشمس ولم يكن صلى الصبحَ يقتلُهُ. وأما إذا تَوَعَّدَه على تركِ صلاةِ الظهر فإنه لا يقتُلُه إذا لم يُصَلِّ حتى تغرُبَ الشمس. ويُعَامَلُ هذا المقتولُ معاملةَ المسلمين ، يُغَسَّل ويُكَفَّنُ ويُصَلَّى عليه ويُدْفَنُ فى مقابر المسلمين ، إلا إذا كان تركُهُ للصلاة جحوداً أى لأنه مستخِفٌّ بالصلاة أو لا يرى أنَّها فرضٌ فإنه يكونُ مرتداً عند ذلك ، ويعاملُه الخليفة معاملةَ المرتد.

الوضوءُ

قال المؤلف رحمه الله: ومِنْ شروطِ الصلاةِ الوضوءُ.

الشرح: أنَّ الوضوءَ شرطٌ لصحةِ الصلاة ، فلا تصح الصلاة بغير طهارة.

قال المؤلف رحمه الله: وفُرُوضُهُ سِتَّةٌ.

الشرح: أنَّ هناك ستةَ أشياء إذا فعَلَها الشخصُ فى الوضوءِ صح وضوءُهُ بلا إثم ، وأما الأمور الأخرى المطلوب شرعاً فعلها فى الوضوء فهى سُـنَّـة.

قال المؤلف رحمه الله:
الأولُ: نيةُ الطهارةِ للصلاةِ أو غيرُها مِنَ النّـِيَّاتِ المُجْزِئَةِ عِندَ غَسْلِ الوجهِ أَى مقترنةً بغَسْلِهِ عندَ الشافعىّ. وتَكْفِى النيةُ إِنْ تَقَدَّمَتْ على غَسل الوجهِ بقليلٍ عِنْدَ مالكٍ.

الشرح: أن الفرضَ الأول من فروض الوضوء النيةُ ، فينوى بقلبه الطهارةَ للصلاة ، أو الوضوءَ ، أو فرضَ الوضوء. ولا بُدَّ أَنْ تكونَ هذه النيةُ بالقلبِ فلا يكفى أن يتلفظ بها بلسانه وهو غافل عن معناها بقلبه ، ولا بد أن تكونَ مَع أولِ غسلِ الوجه ، أى أولَّ ما يلامسُ الماءُ وجهَهُ يستحضِرُ بقلبِهِ الوضوءَ ، هذا مذهب سيدِنَا الشافعىّ رضى الله عنه. وقال مالكٌ تُجزِئُ النية إذا سبقت غَسْلَ الوجه بقليل ، يعنى ولو لم يستحضرها فِى أول غسلِ الوجه.
قال المؤلف رحمه الله:
الثانى: غَسْلُ الوجهِ جميعِهِ مِنْ منابتِ شَعَر رأسِهِ إِلَى الذَّقَنِ ومِنَ الأُذُنِ إِلَى الأُذُنِ شَعْرًا وَبَشَرًا ، لا بَاطِنِ لحيةِ الرَّجُلِ وعارِضَيْهِ إِذَا كَثُـفَا.

الشرح: أنه يجب غَسْلُ كُلِّ الوجهِ فى الوضوء. وحدُّ الوجه طُولاً من منابت شعر الرأس عادةً عند غالب الناس إلى أسفلِ الذَّقَنِ ، وعَرْضًا مِنَ الأُذُنِ إِلَى الأُذُنِ ، أى مِنْ وَتِدِ الأذن إلى وَتِدِ الأُذُن ، يعنى من أصلِ الأذن إلى أصلِ الأذن. فيجبُ غَسْلُ كُلِّ جِلْدِ الوجهِ وشَعَرِهِ ، إلاَّ باطِنَ لحيةِ الرَّجُلِ الكثيفة وباطنَ عارِضَيْهِ الكثيفين. والعارضانِ هُمَا هذا الشَّعَرُ النابِتُ على اللَّحْيَينِ ، فالرجل له عارضانِ واللحية تشملهما. وأما إذا كان الشَعَرُ خَفِيفًا فلا بد من غَسْلِ ظاهرِ اللحية وباطِنِهَا. وذَكَرَ المؤلِفُ الرَّجُلَ لأنَّ المرأةَ إذا نَبَتَت لها لحيةٌ كثيفةٌ على خلافِ الغالب يجبُ أن تَغْسِلَ ظاهرَها وباطنَها فِى الوضوء.

قال المؤلف رحمه الله:
الثالِثُ: غَسْلُ اليَدَينِ مَعَ المِرْفَقَينِ وَمَا عَلَيْهِمَا.

الشرح: أن الفرض الثالث فى الوضوء غسلُ اليدين من رؤوس الأصابع إلى المرفق أى مع المرفق ، فلو تَرَك غسلَ المرفق لَم يصحَّ وضوؤُه.
قال المؤلف رحمه الله:
الرابعُ: مسحُ الرأسِ أو بعضِهِ ولَو شَعرةً فِى حَدّهِ.

الشرح: أَنَّ الفرضَ الرابعَ مِنْ فروض الوضوء مسحُ بعضِ شَعْرِ الرأسِ أو جلدِهِ. وحدُّ الرأسِ من مَنْبِتِ الشعر عند غالبِ الناس إلى نُقْرَةِ القفا. فلو مَسَحَ شَعرةً أو جُزءاً مِنْ شعرةٍ بحيث أن هذا الجزءَ من الشعرة لو مُدَّ إلى جهةِ نزوله أى إلى الجهة التى ينـزلُ منها عادةً لا يخرج بهذا المدِّ عن حد الرأس فإنه يكفى عند ذلك لأن هذا جزءٌ مِنْ الرأس.

قال المؤلف رحمه الله:
الخامسُ: غَسْلُ الرِّجْلَينِ مَعَ الكَعْبَينِ أو مَسْحُ الخُفِّ إِذَا كَمَلَتْ شُرُوطُهُ.

الشرح: أَنَّ الركن الخامسَ من أركانِ الوضوءِ غَسْلُ الرّجلينِ مع الكعبينِ ، فإذا لم يغسل الكعبين لم يصحَّ وضوؤُه. وينوبُ المسحُ على الخُـفِّ عن غَسْلِ الرّجلين إذا اكتملت شروطُ المسح على الخف ، بأَن يكونَ الخفُ ساتراً لِمَحَلِّ غَسْلِ الفرضِ مِنَ القَدَمَينِ ، وأَنْ يُمْكِنَ تتابُعُ المشْىِ علَيهِ ، وأن يكون لُبسه بعد تمام الطهارة ، وأن لا يكون نَجِسَ العَيْنِ.
قال المؤلف رحمه الله: السادسُ: التَرْتِيبُ هكذا.

الشرح: أنه يشترط أن يَبدَأَ بالنيةِ مع غَسْلِ الوجهِ ، ويُكْمِلَ غَسْلَ وجهِهِ ، ثم يغسِلَ يديه بعد ذلك ثم يمسَحَ رأسَهُ ثم يغسلَ قَدَمَيْه. فلو أَخَلَّ بالترتيب لم يصحَّ وضوؤُه ، وذلك لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ غَسْلَ الأعضاءِ فى الوضوءِ على هذا الترتيبِ فِى القرءان ، قال ربنا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ.}.سورة المائدة /من الأية 6.
نَواقِضُ الوضُوءِ

قال المؤلف رحمه الله: وَينقُضُ الوضوءَ مَا خَرجَ مِنَ السَّبيلَينِ غَيرَ المَنِىّ ، وَمَسُّ قُبُلِ الآدَمِىِّ أَو حَلْقَةِ دُبُرِهِ بِبَطْنِ الكَفِّ بِلاَ حَائِلٍ ، وَلَمْسُ بَشَرَةِ الأجنبِيةِ التِى تُشْتَهَى ، وَزَوَالُ العَقْلِ ، لاَ نَـوْمُ قَاعِدٍ مُمَكّـِنٍ مِقْعَدَتَهُ.

الشرح: أن ما يَنْقُضُ الوضوءَ هى هذه الأشياءُ المذكورةُ فقط ، وما عداها لا ينقضُ الوضوء.
أَوَّلُهَا كلُّ ما خرج من السبيلين – القُبُل والدُّبُر – إلا المنىَّ ، سَوَاءٌ كان هذا الخارجُ مُعْتَادًا أو غيرَ مُعْتَادٍ. وأما المنىُّ فلا يَنقضُ مجرَّدُ خروجِهِ الوضوءَ وإنْ كان يُوجِبُ الغُسْلَ.
الأمر الثانِى مَسُّ قُبُلِ الآدمىّ أو حَلْقَةِ دُبُرِهِ ببطنِ الكفِ من غير حائل. وبطنُ الكف هو ما يختَفِى عِندَ إطباقِ الكفين بعضِهما على بعضٍ مع تحامُلٍ يسير – أى خفيف – وتفريقِ ما بين الأصابع ، فكل ما لا يظهرُ عندها هو بطنُ الكفِ. أما مَسُّ القُبُلِ أو حَلْقَةِ الدُبُّر بظهر الكف أو أطرافه فلا ينقض.
ومن نواقض الوضوء لمسُ بشرَةِ الأجنبيةِ التِى تُشْتَهَى. فالذى يَنقُضُ هوَ مسُّ الجلدِ للجِلْدِ مع كَون الجانبين بَلَغَا سِناً يُشْتَهَى فيه مِثْلُهُمَا ولو كانا لم يبلُغَا بعد. وأما لمسُّ سنِّ الأَجنبية أو شَعَرِها أو ظُفْرِها فلا ينقض الوضوء وإِنْ حَرُمَ.
كذلك مما يَنْقُضُ الوضوءَ الجنونُ ولو لِلَحْظَة ، وكُلُّ زَوَالٍ للعقل ، حتى النومُ إلا إذا نام الشخصُ مُمَكّـِنًا مقْعَدَتَهُ وأَفَاقَ وهو على ذلك. والأجنبية المذكورة ءانفاً هى من ليست مَحْرَمًا. وأما مَسّ جِلْدِ مَحْرَمٍ كأُمِـّهِ أو أُختِهِ أو بِنْتِهِ الصُّلْبِيَةِ أو بنتِهِ مِنَ الرَّضَاع أو أُمِّ زَوْجَتِهِ فلا ينقض. ولو مست المرأة جِلْدَ عَمّهَا أو خَالِهَا ، أو جِلْدَ وَالِدِ زَوجِهَا أو وَلدِها بالرَّضَاع ، أو واحدٍ من سائرِ المَحَارِم فلا ينقض ذلك وضوءَها ولا يحرم.

الاستنجاءُ

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ الاستنجاءُ مِنْ كُلِّ رَطْبٍ خارجٍ مِنَ السبيليْنِ غيرَ المنىِّ بالماءِ إلى أَنْ يَطْهُرَ المَحَلُّ ، أو بمسْحِهِ ثلاثَ مَسَحاتٍ أَو أكثرَ إلى أن يَنْقَى المحلُّ وإِن بَقِىَ الأثرُ ، بِقَالعٍ طاهرٍ جامدٍ غيرِ مُحْتَرَمٍ كَحَجَرٍ أَو وَرَقٍ ولو مَعَ وُجُودِ الماءِ مِنْ غَيْرِ انتقالٍ وقبلَ جفَافٍ ، فَإِنِ انتَقَلَ عنِ المكانِ الذِى استَقَرَّ فيهِ أَو جَفَّ وجبَ الماءُ.

الشرح: أَنَّ الاستنجاءَ واجِبٌ أى لا بد منه لصحةِ الصلاةِ ، وذلك مِنْ كُلِّ رَطْبٍ خارِجٍ مِنْ أَحَدِ السبيلينِ إلا المنِىَّ فإنَّه طاهِر ، وأما الخارجُ الجافُّ الذِى لا رُطوبَةَ فيه كَبَعرِ الجَمَلِ فَلاَ يَجِبُ الاستنجاءُ منه. والاستنجاءُ يَصِحُّ أَنْ يكونَ بالحجرِ أو ما يَقُومُ مقامَه أو بالماء أو بِهِمَا معاً. فإذا أراد الشخصُ الاقتصارَ على الحجرِ أو ما يقومُ مقامَه لا بدَّ أن يمسحَ المحل الذى أصابَه الخارج ثلاثَ مسحاتٍ على الأقل. فإذا أَنْقَى المَحَلَّ بأقلَّ من ثلاثة لا بُدَّ أن يزيد إلى الثلاثة ، وإن أَنْقَى بالثلاثة كَفَاهُ ذلك ، وإِنْ لم يُنْقِ بثلاثةٍ لا بد أن يزيدَ حَتَّى يُنْقِى. فإن لم يُرِدْ أنْ يستعمل الحجر أَجْزَأَهُ أن يستعملَ شيئاً يقومُ مَقَامَه ، وذلك بأنْ يكونَ هذا الشىءُ قالِعاً ليس كَـنَحْوِ الزُّجَاجِ والقصبِ ، وطاهراً فلا يُجْزِئُ الرَّوْثُ الجامِدُ الجاف لأنَّهُ نَجِس ، وأن يكون جامداً فلا يُجْزِئُ الترابُ المتناثر ولا يُجْزِئُ ما فيه رطوبة. ولا بد أَنْ يكونَ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ فلا يجزئُ المحترمُ كَوَرَقَةٍ فيها علمٌ شَرْعِى وكطعامِ بَنِى ءادم أو الطعام المشترك بين بَنِى ءادم والبهائم ، أى الذى لا يَغلبُ عليه أنه أكْلُ البهائم ولا يغلبُ عليه أنه أكلُ بَنِى ءادم بل هو مُشْتَرَك بين البهائم وبنى ءادم فإنه لا يجزئ. وإذا اسْتَنْجَى بالحجرِ أو بما يقومُ مقامَ الحجَرِ يَكْفِيهِ إزالةُ العين ولو بَقِىَ الأثر. والأثر هو الذى لا يزول إلا بالماء أو بصغار الخَزَف أى الفَخَّار ، فما لا يزول إلا به يُعْفَى عنه. ولا يصح الاستنجاءُ بالحجرِ إذا انتقلَ الخارِجُ عَنْ مَحَلِّ الخروج ، يعنى إذا انتقل البولُ عن محل خروجِه أى إذا تعدى البولُ الحَشَفَةَ مِنَ الذَّكَرِ أوْ إذا وَصَلَ إِلَى مَدْخَلِ الذَّكَرِ مِنَ الأُنثى ، أو إِذا تَجَاوَزَ الغائِطُ الصَفْحَتَينِ أى ما لا يَظهرُ مِنَ الأَلْيَتينِ عند الوقوف ، عند ذلك لا يُجزِئ الحجر فى هذه الحالات الثلاث. وكذلك لو جف الخارج على محل الخروج لا يجزئ الحجر. وكما يجزِئُ الحجر وحده فى الاستنجاء يُجزِئُ الماءُ أيضاً ، لكن إذا أراد الاقتصار على أحدِهِمَا فالماءُ أَفْضَل. فإذا أراد الاستنجاءَ بالماء يَسْكُبُ الماءَ على محلِّ الخروجِ مع دَلْكِ المَخْرَج حتى يذْهَبَ العَينُ والأَثر. وإذا جَمَعَ فِى الاستنجاءِ بين الماءِ والحجرِ فهو أحسن ، ويبتدئ بالحجر ثم بعد ذلك يستعملُ الماء.

الغُسْلِ

قال المؤلف رحمه الله: ومِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ: الطهارَةُ مِنَ الحَدَثِ الأكبرِ.

الشرح: أن الطهارةَ شرطٌ مِنْ شروط صحةِ الصلاة ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثاً أَكْبَر لا بد أن يَتَطَهَّرَ للصلاةِ حتى تَصِحَّ صلاتُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: بالغُسْلِ أو التيمُّمِ لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الغُسْلِ.

الشرح: أنَّ الطهارةَ مِنَ الحَدَثِ الأكبَرِ تكونُ بالاغْتِسالِ بالماءِ أو بالتيممِ بالتراب لمن عَجَزَ عن الاغتسالِ بالماء.
قال المؤلف رحمه الله: والذى يُوْجِبُهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ.

الشرح: أنَّ هذه الأشياءَ الخمسةَ تُوجِبُ على الشخصِ أن يَتَطَهَّرَ مِن الحدث الأكبر. وغيرُهَا لا يوجب ذلك. أما غَسْلُ الميت فهذا ليس غَسْلاً من حدثٍ أكبر ، وهو ليس واجباً على المَـيّت لأنه خرج من دار التكليف ، إنما هو غُسْلُ تَكْرِيم أى لتكريمِ هذا الميت المسلم ، وهُوَ واجب وجوباً كفائياً على غيره من المسلمين.

قال المؤلف رحمه الله: خُرُوجُ المنىِّ.

الشرح: أن هذا أولُ أَسْبَابِ الحَدَثِ الأكبر ، فإذا خَرَجَ مِنَ الشخْصِ مَنِيُّهُ وَجَبَ عليه أَنْ يَغْتَسِلَ للصلاة. ويُعْرَفُ المَنِىُّ بواحِدَةٍ مِنْ عَلاَمَاتٍ ، منها أَنَّه يَخْرُجُ بِلَذَّة ، وأَنَّه يخرُجُ مُتَدَفّـِقًا أى متقطعاً على دَفَعَاتٍ بقوة ، وأَنَّ له رائحةَ بياضِ البَيضِ جاَفَّاً والعجينِ أو طلع النخل رَطْباً. هذه هى العلامات التِى تُمَيـّزُ المنِىَّ من غيره ، فإذا وُجِدَت واحدة منها يكفى ذلك للحكم عليه بأنه مَنىّ ، ولا يُشْتَرَطُ اجتماعُهَا.

قال المؤلف رحمه الله: والجِمَاعُ.

الشرح: أَنَّ الجِمَاعَ يُوجِبُ الاغتسالَ ولو حَصَلَ مِنْ غَيرِ إِنْزَال. والمرادُ بالجماعِ حقيقَـتُه أى إيلاجُ الحشفةِ فى الفرجِ ، وهذان السَبَبَانِ أى خروجُ المنىِّ والجماعُ مُشْتَرَكَانِ بينَ الرجالِ والنساءِ. وبَقِيَت ثلاثةُ أسبابٍ للحدثِ الذى يوجب الغسل هى خاصةٌ بالنّساء.

قال المؤلف رحمه الله: والحيضُ والنّـِفَاسُ والوِلادة.

الشرح: أَنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الغُسْلِ انقطاعَ الحيض. فعندما يَنقَطِعُ دَمُ الحيض صار واجباً على المرأةِ أن تَغْتَسِلَ لأجل الصلاة أى حتى تصلى.
الحَـيْـضُ لغـةً السيلانُ ، يقالُ حَاضَ الوادِي إذا سالَ. وشرعاً دَمُ جـِبـِلَّةٍ ( أي دمٌ تقتضيهِ الطباعُ السليمةُ أي عادة معروفة تجري على أغلب النساء.) يَخـْرجُ مِـن أقـْصى رحِمِ المرأةِ مِـنْ داخِلِ الرَّحِم في أوقات مخصوصة ، فما خـَرجَ مـِنْ ظاهـِر الفـَرْجِ لا يُعـَدُّ حـَيـْضاً كأَنْ جُرِحَتِ المَرأةُ في ظاهـِر فرجـِها وخـَرَجَ منهُ دمٌ هذا لا يـُعَدُّ حـَيْـضاً.

والأصلُ في الحيضِ ءايةٌ ، قال تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ.} سورة البقرة / 222. أي الحيضِ. وخبرُ الصحيحيـْن:[ هذا شيءٌ كَتبهُ اللهُ على بناتِ ءادمَ.]

أقلُّ سـِنِّهِ تسعُ سـِنينَ قمريةً تقريباً أي إن نَقَصَ قليلاً يُعدُّ حيـْضاً أي إن نَقَصَ عُمُرُهَا عن تسعِ سنين بنحوِ عشْرةِ أيامٍ أو خمسةَ عشـَر يوماً يُعَـدُّ حيْضاً. أمَّا إن رأتِ الدمَ قبلَ التاسعةِ بعشرين يوماً لا يُعَـدُّ حيضاً.

وأقلُّـه يومٌ وليلةٌ أي أربعٌ وعـِشرونَ ساعةً. وأكثرُهُ خمسةََ عشَـرَ يوماً بلياليها كأقلِّ طُـهـْرٍ بـَيـْنَ حَيْـضَتـَيـْنِِ ولا حدَّ لأَكثـَرِه.
وحَـرُمَ به وبنفاسٍ ما حَـرُمَ بجنابةٍ وعـُبورُ مسجدٍ خافتْ تلويثـَهُ أي كانتْ خافت أنْ يـَنـزِلَ الدمُ إلى الأرضِ ، وطـُهـْرٌ عنْ حَدَثٍ وصَوْمٌ أي لا يـَجوزُ لهما الوضوءُ لأنَّ وُضُوءَهُما لا يَصـِحُّ. ويجبُ قضاؤُهُ أما الصلاةُ فلا ، ومباشرةُ ما بينَ سرتِها وركبتِها أي لا يجوزُ لزوجِـِها أن يستمتـِعَ بما بينَ سـُرتِها ورُكبتـِها إلا فوقَ الحَائـِلِ. وطلاقٌ بشرطِهِ ( أي بشرْطِ تحريمِهِ ) أمـَّا إنْ طلَّقَ فيقعُ الطلاقُ.
وإذا انقطـَعَ الحـَيـْضُ لم يـَحـِلَّ قبلَ طُهـْرٍ أي قبلَ أنْ تغتسِلَ غيرُ صَوْمٍ وطلاقٍ وطُهـْرٍ أي يجوزُ صَوْمُها وطلاقـُهَا ووضوؤُهَا.

و حديث النبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ على أنَّ الحيضَ كان قبلَ بني إسرائيلَ كان منْ أيامِ سيدتـِنا حـَوَّاءَ واعتقادُنا أنهُ حـَصلَ منها ذلك في الأرضِ وليسَ في الجنةِ . بعضٌ قالَ منْ أيامِ بني إسرائيلَ حَصـَلَ الحيضُ ولكنَّ الأقوى في الخـَبرِ حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الشيخان:[ هذا شيءٌ كـَـتـَبـَهُ اللهُ على بَنـَاتِ ءَادَمَ.] هذا يَدُلُّ على أَنَّ الحَيـْضَ كانَ قـَـبلَ بني إسْرَائـِيـلَ لأنَّ النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ قالَ:[ كـَـتـَبـَهُ اللهُ على بناتِ ءادمَ.]

أقلُّ سـِنيهِ تسعُ سنينَ قمريةً تقريباً ، لأنها لو رأتِ الدّمَ قبلَ بلوغِ تسعِ سنـَواتٍ بخمسةَ عشـَرَ يوماً وأكْـملَ أربعَ وعشرينَ ساعةً يُعدُّ حيضاً. أما إذا رأتِ الدم قبلَ بـُـلوغ تسعِ سنواتٍ قمريةًً بستةََ عـَشَرَ يـَوْماً أو بأكثرَ لا تعتبـِرُه حيضاً ولو كانَ أكملَ أربعَ وعشرينَ ساعـَةً.

أي إن نـَقـُصَ عـُمُـرُها عـنْ تِـسعِ سنينَ بنحـْو ِعَشْـرَة أيامٍ أو خمسةََ عـَشَرَ يوماً يـُعـَدُّ حَـيـْضاً. أما إنْ رأتِ الدمَ قبلَ التاسعةِ بعشرينَ يـَوْماً لا يُـعـَدُّ حـَيـْضاً.

قالَ الشيخُ عبد الله الهرري: أقـُّل سـِنِّ الحيضِ تـِسعُ سـَنـَواتٍ قــَمـَرِيَّةً تـَقـْريـبـاً ولا يُنـْظـَرُ إلى تـِسـْعِ سـَنَـواتٍ رُومِـيـَّةًً ، والسنةُ القـَمريةُ أقلُّ مـِـنْ السـَّـنـةِ الرُّوميةِ . والواحدةُ يـَصيرُ عمُرُها تـِسعَ سـَنـَواتٍ قـَمريةً قبلَ بُـلوغِـها تِسعُ سنواتٍ روميةً.

أمثلةٌ على المَسْـأَلـَةِ:
أ) بنتٌ رأتِ الدمَ في نفسِ اليومِ الذي بلغـَتْ فيه تسعَ سنواتٍ قمريةً واستمرَّ الدمُ أربعَ وعشرينَ ساعةً فهذا حيضٌ .

ب) بنتٌ رأتِ الدمَ قبلَ بلوغِ تسعِ سنواتٍ قمريةً بعشرةِ أيامٍ أو ثلاثةَ عشَرَ يوماً أو خمسةَ عشَرَ يوماً وكان استمرَ الدمَ أربعَ وعشرينَ ساعةً فهذا أيضاً حيضٌ.

ت) بنتٌ رأتِ الدمَ قبلَ بلوغِ تسعِ سنينَ بستةَ عـَشَرَ يوماً أو بأكثرَ مـِنْ ستةَ عـَشَرَ يوماً فهذا لا تعتبرُه حيضاً ولو استمرّ أربعًَ وعشرينَ ساعةً.

إذًا أقلُّ سنٍّ تـَحـِيضُ فيه المـَرأةُ أي أقلُّ سنِّ الحيضِ تسعُ سنواتٍ قمريةًً تقريباً أي إنْ صارَ عـُمُرُها تسعَ سنواتٍ إلا خمسةََ عشَر يوماً أي أقلَّ منْ تسعِ سنواتٍ بخمسةَ عـَشَرَ يوماً ورأتِ الدمَ واستمرَ أربعاً وعشرينَ ساعةً فهوَ حيضٌ كذلك الحـُكمُ إنْ رأتِ الدمَ بينَ هذا اليوم ويومِ بلوغِ تسعِ سنواتٍ واستمرَ أربعاً وعشرينَ ساعةً كأنْ رأتـْهُ قبلَ بلوغِ تسعِ سنواتًٍ بأربعةَ عـَشـَرَ أو ثلاثـَةَ عشـَرَ يوماً أو بأقلَّ منْ ذلكَ واستمرَ أربعاً وعشرينَ ساعةً فهوَ حيضٌ.

أما إذا رأتِ الدمَ قبلَ ذلكَ أيْ قبلَ بلوغِ ِتسعِ سنواتِ قمريةً بستةَ عـَشـَرَ يـَوماً أو بأكثرَ منْ ذلك فلا تـَعتبـِـرُهُ حيضاً ولو أكملَ أربعاً وعشرينَ ساعةً.

وأقـَلـُّهُ يومٌ وليلةٌ أي أربعٌ وعشـْرونَ ساعةً ، فإنْ رأتِ البنتُ الدمَ أولَ مرَّةً بعدَ بلوغِ سنِّ الحيضِ أي تسعِ سنينَ قمريةً تقريباً وبلـَغَ جملتـُهُ أربعاً وعشرينَ ساعةً على الاتصالِ أوْ على الانقطاعِ أي لو جاءَها مستمراً بدونِ انقطاعٍ حتى بلغَ أربعاً وعشرينَ ساعةً أو على الانقطاعِ كأن جاءَها في اليومِ الأولِ أربعَ ساعاتٍ وفي اليومِ الثاني أربعَ ساعاتٍ. وهكذا إلى اليومِ السادسِ فبلغَ مجموعُهُ أربعاً وعـِشرينَ ساعةً فهذا تعتبـِرُهُ حيضاً في الحالتـَيـْن.

أما لو رأتِ الدمَ بعدَ بلوغِ سنِّ الحيضِ ولم يبلغْ مجموعُ الدمِ أربعاً وعشـْرِينَ ساعةً فلا تعتبرُهُ حيضاً فهو ليسَ حـَيضاً عندَ الإمامِ الشافعيِّ.

وأكثرُهُ خمسةَ عـَشـَرَ يوماً بلياليها كأقلِّ طـُهـْرٍ بينَ حيضتيـْنِ. فأقـَلُّ الحيـْضِ أربعٌ وعشرونَ ساعةً وأكثرُهُ خمسةَ عشرَ يوماً بـلياليها.

وأقلُّ الطـُّهـْرِ خمسةَ عشَرَ يوماً بينَ الحيضتيـْنِ فبيـْن الحيضِ الأولِ والحيضِ الثاني لا بدَّ أنْ يكونَ هناك خمسةَ عشـَرَ يوماً طـُهـْراً على الأقـَلِّ فإنِ انقطعَ حيضُهَا الأولُ ثمَّ رأتِ الدمَ بعـْدَ عشـْرةِ أيامٍ نقاءً فلا تعتـَبـِرُهُ حيـْضاً وإنِ استـَمـَرَّ أربعاً وعشرينَ ساعةً.
ولا حدَّ لأكثرِ الطـُّهـْرِ لأنه قد يأتي للمرأةِ حيضٌ ثم بعدَ عشرِ سنواتٍ يأتيها مرةً ثانيةً. وقد تـَحيضُ المرأةُ بعمْرِ تـِسعِ سنواتٍ ثم لا تراهُ إلا بعدَ خمسينَ سنةً وقد يأتـِيها عدةَ مرّاتٍ ثمّ ينقطِعُ ولا يأْتيها إلى المـَماتِ.
إذاً إذا حاضتِ المرأةُ وطـَهُـرَتْ مـِنْ ذلك الحيضِ ثمّ رأتِ الدمَ ضِمنَ الخمسةِ عـَشـَر يوماً طـُهـْراً فهذا لا تعتبرُهُ حيضاً وإنـّما يكونُ دمَ علةٍ. هذا مـَعنى:[ ‌ولا حدَّ لأكثرِهِ.]

وحـَرُمَ بهِ وبـِـنـِفـاسٍ ما حـَرُمَ بجـَنابةٍ كقراءةِ القـُرءاَنِ فإنـّها حرامٌ على الجـُنـُبِ كذلك حرامٌ على الحائضِ والنـُّـفساءِ ( وعبورُ مسجدٍ خافت تلويثـَهُ أي كانت تـَخشى أنْ ينـْزِلَ الدمُ إلى الأرضِ ) فإنْ خافتِ الحائضُ أوِ النفساءُ منْ نزولِ الدمِ على الأرضِ في حالِ عـُبورِها المسجدَ يـَحْرُمُ عليها العـُبـُورُ أما إنْ لم تخـْشَ الحائضُ أو النفساءُ تلويثَ أرضِ المسجدِ بالدّمِ في حالِ عبورِها فلا يحرُمُ عليهـِما العبورُ. كأنْ دخلتْ منْ بابٍ وخرجـْت منْ ءَاخرَ مـِنْ دونِ مـُكـثٍ ، لأنَّ المُـكثَ يحرُمُ على الحَائـِضِ وإنْ أمـِنـَتْ التلويثَ ويحرُمُ على النفساءِ.

وطـُهـْرٌ عنْ حـَدَثٍ أوْ صَوْم أي لا يجوزُ لَهماَ ، يعني الحائضُ والنفساءُ: الوضوءُ لأنَّ وُضُؤَهُمَا لاَ يصحُ. فالحائضُ التِيْ ينـزلُ منهَا الدَّمُ مَا انْقَطَعَ حيضُهَا لاَ يجوزُ لهَا أنْ تتوضأَ حَرامٌ عليهَا وكذلكَ حَرامٌ عَلَى النُفَسَاءِ أنْ تتوضأَ قبلَ انقطاعِ نزولِ دَمِ النِفَاسِ. أَمَّا الجُنُبُ يجوزُ لهُ أوْ لهَا أنْ تَتوضأَ هذَا تخفيفٌ للحدثِ.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للصومِ فإنْ كانتْ واحدةٌ حائضاً أوْ نُفَسَاءَ يعنِي مَا زَالَ يَنـزِلُ منهَا دَمٌ لَمْ ينقطِعَ حيضُهَا أوْ نِفَاسَهَا لاَ يجوزُ وَلاَ يصحُّ مِنهَا الصِيَامُ.

إذاً الحائضُ أوِ النفساءُ لاَ يجوزُ لهَا أنْ تتوضأَ فيْ حَالِ حيضِهَا أوْ نِفَاسِهَا ولاَ يجوزُ لهَا أنْ تصومَ فِي حَالِ حيضِهَا أوْ نِفاسِهَا أَيْضاً فَإِنْ صَامَتْ لاَ يصحُ منهَا وعليهَا معصيةٌ. ويجبُ قضاؤُهُ أمَّا الصلاةُ فلاَ. يعنيْ يجبُ عَلَى الحائضِ والنُفسَاءِ قضاءُ الأيَّامِ الَّتي أفطرتْ فيهَا مِنْ رمضانَ بسَببِ حيضِهَا أوْ نِفاسهَا كُلُّ يومٍ بِيَومٍ ، أمَّا الصلاةُ الَّتى مَا صلَّتهَا فيْ حالِ حيضِهَا أوْ نِفاسِهَا فَلاَ يجبُ عليهَا قضاؤُهَا ولاَ تقضِيهَا فَلوْ كانَ حيضُهَا خمسةَ عشرة يوماً أوْ نفاسُهَا سِتونَ يوماً بقيت فيهَا بلا صلاةٍ ، لاَ تقضيْ شيئاً منهَا.

ومُباشَرة مَا بينَ سُرَّتِهَا ورُكْبَتِهَا أيْ لاَ يجوزُ لزوجِهَا أَنْ يَستَمتِعَ بِمَا بين سرتها وركبتها إلا فوق الحائل. يعني يحرم على الزوج أن يباشر زوجته ما بين السرة والركبة بغير حائلٍ ( عند الشافعية ) في حال حيضها أو نفاسها. وعلى قولٍ عند الشافعية أيضاً أنه لا يحرم إلا الجماع فعلى هذا القول يجوز للزوج أن يستمتع بما بين السرة والركبة بغير حائلٍ إلا الجماع لا يجوز له.

وطلاقٌ بشرطه:[ أي بشرط تحريمه.] أما إن طلق فيقع الطلاق ، وإذا انقطع الحيض لم يحل قبل طهر أي قبل أن تغتسل غير صومٍ وطلاقٍ أي يجوز صومها وطلاقها ووضوؤها.

إذا واحد يعرف أن زوجته في حال حيضٍ أو نفاسٍ وطلق زوجته طلاقه هذا حرامٌ لا يجوز لكن يقع الطلاق أي تطلق زوجته وعليه معصية. قيل سمي طلاقاً بدعياً لأنه مخالف للإجماع.

ويحرُم الطلاقُ في حالِ الحيضِ أو النـِـفاس لأن عدة المرأة تطول يعنى تنتظر حتى ينتهي الحيض أو النفاس ثم بعد ذلك تبدأ بالعدة.

أما إذا واحدةٌ انقطع حيضها أو نفاسها ولكن لم تغتسل بعد يحِـل لها ثلاثة أشياء:
1) الصوم: كأن انقطع عنها دم حيضها أو نفاسها في الليل فقبل أن تغتسل يجوز لها أن تنوي وتبدأ بالصيام في ذلك اليوم ، لا يشترط لها أن تنوي الصيام بعد الاغتسال.

2) الطلاق: يعنى التي انقطع عنها دم حيضها أو نفاسها يجوز لزوجها أن يطلقها ولو قبل أن تغتسل فإن طلقها بعد انقطاع حيضها أو نفاسها وقبل أن تغتسل يقع الطلاق ولا يكون عليه معصيةٌ.

3) طُهرٌ: فإذا انقطع حيضها أو نفاسها وأرادت أن تغتسل يجوز لها أن تتوضأ قبل الغسل تخفيفاً للحدث معناه تتوضأ ثم تغتسل ليس معناه تتوضأ ثم تصلي من غير اغتسالٍ.

بابُ الاِستِـحاضَة

الاسْـتِـحَاضَةُ دمُ علةٍ. دمٌ فاسِدٌ ليسَ حيـْضاً وليس نـِفاساً حـُـكمُه كسلَسِ البَـوْلِ. فلا تمنع ما يمنعه الحيض فيجب أن تغسل مُـستـَحاضةٌ فرجها.
( الاستحاضة سبعة أنواعٍ فالمـُسْـتـَحاضَـة يجب عليها عندما تريد الصلاة أن تغسل فرجها مع وجود الدم ثم تصلي ) فتحشوه أي تحطُّ فيه قطناً أو خرقة حتى يخف الدم فتعصبه أي تربـِط خرقةً من الأمام إلى الخلف ثم تعصِب عليه خرقة أخرى بشرطهما ( أي الحشو والعصب ) أي إذا لم تكن صائمةً تحشو أما الصائمة لا تحشو وكذلك إذا كان يؤذيها لا تحشو فتتطهر لكل فرضٍ وقته أي وضوؤها لا يصح إلا بعد دخول الوقت وتبادر به أي لا تتأخر بعد وضوئها عن الصلاة بل تبادر بصلاتها ولا يضرُّ تأخيرها لمصلحةٍ ( كأن أخـّرت لانتظار جماعةٍ مثلاً فلا يؤثر ) أو لسترٍ وانتظار جماعةٍ.
ويجب طهرٌ إن انقطع الدم تعيد أو في أثناء الوضوء علمت أنه انقطع تعيد ، لا إن عاد قريباً بعدما توضأت انقطع ثم بعد دقائق رجع فهذه ليس عليها أن تعيد الوضوء بل يكفيها ذلك الوضوء.

مسألة:[ رأت ولو حاملاً لا مع طلق دما ، حيض قدره ولم يعبر ( أي لم يزد على خمسة عشر يوماً ) أكثره فهو مع نقاء تخلله حيضٌ. المرأة إذا رأت دماً قدر الحيض أي ما يسع أربع وعشرين ساعة متصلاً أو منفصلاً ولو كانت حاملاً فهو حيضٌ أما ما تراه النساء مع الطلق فهذا ليس حيضاً.]

الشرح: ( الاستحاضة ) يعني نزول الدم باستمرارٍ وليس دم حيضٍ ولا دم نفاسٍ ( والاستحاضة كسلسٍ ) في الحكم ( فلا تمنع ما يمنعه الحيض ، فيجب أن تغسل مستحاضةٌ فرجها.

( الاستحاضة سبعة أنواعٍ فالمستحاضة يجب عليها عندما تريد الصلاة أن تغسل فرجها مع وجود الدم ثم تصلي ) ليس معناه تصلي والدم ينـزل منها. ( فتحشوه أي تحط فيه قطناً أو خرقةٍ حتى يخف الدم ) يعني إذا أرادت المستـَحاضة الصلاة تغسل فرجها ثم تحشوه بقطنٍ أو خرقةٍ حتى يخف نزول الدم ( فـتعصبه أي تربـط خـرفةً من الأمام إلى الخلف ثم تعصب عليه خرقةً أخرى بشرطهما ) يعني بعد غسل النجاسة وحشو الفرج تضع خرقةً على الدائر حتى تمسك الخرقة الأولى ( أي الحشو والعصب) أي إذا لم تكن صائمةً تحشو أما الصائمة لا تحشو ) إذا أرادت أن تضع داخل فرجها قطناً أو خرقةً الشرط في ذلك أن لا تكون صائمةً ، فالصائمة تفطر بحشوها للفرج. وكذلك الشرط في الحشو أن لا تتأذى منه وإلا لا تحشو وهذا معنى قوله ( وكذلك إن كان يؤذيها لا تحشو ).

( فـَـتـَـتـَـطـَهـَّـر لكلِّ فرضٍ وقتـَه أي وضوؤها لا يصحُّ إلا بعد دخول الوقت ) مثل المصابة بسلس البول لا تتوضأ قبل دخول الوقت ، أما بعد دخول الوقت يصح وضوؤها كذلك المستحاضة لا يصح وضوؤها قبل دخول الوقت.

( وتبادر به أي لا تتأخر بعد وضوئها عن الصلاة بل تبادر بصلاتها ) يعني بعد دخول الوقت تتوضأ وفوراً تبادر أي تبدأ بالصلاة.
( ولا يضر تأخيرها لمصلحةٍ ) كأن أخرت لانتظار جماعةٍ مثلاً فلا يؤثر ، أو لسترٍ. فإذا عمـِلت الطريقة المذكورة مـن الحشو والتعصيب ثم بعد ذلك توضأت ثم لم تبادر فوراً بالصلاة وإنما بقيت لانتظار جماعةٍ جاز لها ذلك ومن الأعذار السـتر كأن توضأت ثم بقيت وقتاً تلبـس فيه أي ما يستر عورتها لأجل الصلاة.

( ويجب طهـرٌ إن انقطعَ دمها بعدَه أو فيه ) فالأول كأن كانت استعملت الطريقة في التعصيب ثم توضأت وأنهتِ الوضوء ثم بعد ذلك تبين لها أن نزول الدم انقطع منها قبل أن تدخل في الصلاة هنا تعيد الوضوء يعني تزيل النجاسة إن كان هناك نجاسةٌ ظاهرةٌ خارج الفرج ثم تتوضأ للصلاة.

والحالة الثانية في قوله:( أو فيه ) يعني بذلك من استعملت طريقة التعصيب وشرعت في الوضوء وأثناء الوضوء تبين لها أن نزول الدم انقطع هنا ترجع تعيد الوضوء بعد إزالة النجاسة ، تستنجي وتعيد الوضوء. أي بعدما توضأت انقطع الدم تعيد أو في أثناء الوضوء علمت أنه انقطع تعيد.

( لا إن عاد قريباً بعدما توضأت انقطع ثم بعد دقائق رجع فهذه ليس عليها أن تعيد الوضوء ) فإذا توضأت في حال الاستحاضة ( أي مع نزول الدم ) بعد عمل طريقة العصب ثم بعد انتهائها من الوضوء انقطع الدم وعاد قريباً لم يـَطـُـل انقطاعه كدقيقةٍ أو دقيقتين فهذه ليس علـيها أن تعيد الوضوء بل يكفيها الوضوء الأول.
( بل يكفيها ذلك الوضوء ) مثلاً امرأة مستحاضةٌ استنجت ثم حشت ثم عصبت وتوضأت ثم بعدَ الوضوءِ شعرَتْ بانقطاع الدم ثم عـَودتـِه في فترةٍ قصيرةٍ لا تعيد الوضوء يكفيها الوضوء الأول ( ثلاثة دقائق أو أربعة دقائق تـُعـَدُّ فترةً قصيرةً ).

فائدةٌ: الحاملُ إذا جاءَها دمٌ ، بعضُ الفقهاءِ قالوا: هذا يكونُ حيـضاً ، وبعضـُهـُم قالوا: الحاملُ لا تحيضُ. فعلى قولهم الحامل إذا رأت الدم لا تعتبره حيضاً ولو تجاوز أربعاً وعشرين ساعةً.

وما سيذكره الآن هو على قول أن الحامل تحيض.

مسألةٌ:[ امرأة رأت ولو حاملاً لا مع طلقٍ دماً لزمن حيضٍ قدره ولم يعبـُر ( أي لم يزد على خمسة عشر يوماً.) أكثرَه فهو مع نقاء تخلله حيضٌ. المرأة إذا رأت دماً قدر حيضٍ أي ما يسع أربعا وعشرين ساعة متصلاً أو منفصلاً ولو كانت حاملاً فهو حيضٌ.]

المرأة إذا كانت حاملاً تتصرف كأن هذا الدمَ إذا بلغ أربعا وعشرين ساعة يكون حيضاً أو متقطع فيكون المجموع قدر أربعٍ وعشرين ساعةً فتعتبر كلَّ هذه المدةِ حيضاً لذلك قال:( متصلاً أو منفصلاً ) هذا عند الذين قالوا إن المرأة تحيض وهم بعض الشافعية.
أما ما تراه النساء من الطلق فهذا ليس حيضاً ، لما قال:[ مع الطلق ] يعني عند الوقت السابق للولادة في هذه الساعات ينـزل من الحامل دمٌ هذا لا يعتبر حيضاً حتى عند الذين قالوا الحامل تحيض.

خلاصةٌ:

المستحاضة التي ينـزل منها الدم باستمرارٍ تستنجي ثم تحشو فرجها بقطن أو خرقةٍ إن لم تكن صائمةً أو كان يـُؤذيها الحشو ثم تعـصبه من الأمام إلى الخلف بخرقةٍ أُولى ثم تعصبه على الدائر بخرقةٍ ثانيةٍ ثم تتوضأ بنية استباحةِ فرض الصلاة ولا تنوي رفع الحدث الأصغر لأن الحدث لا يرتفع عندها لاستمرار نزول الدم إن كانت المستحاضَة أثناء الوضوء أو بعد الوضوء وقبل الصلاة تبين لها أن الدم انقطع فإذا كان يوجد دمٌ خارج الفرج تستنجي وتتوضأ من جديد.

أما إن كان انقطع نزول الدم بعد الوضوء فترةً قصيرةً ثم عاد لا تعيد الوضوء وإنما يكفيها الوضوء الأول.
حالةُ المـُبـْتـَـدَأةِ المُـمَـيـِّـزَةِ:[ فإنْ عـَبـَرَه أي إن تجاوز خمسة عشر يوماً وكانت مبتدأةً:( هي التي ما سبق أن رأت حيضاً ) مميزةً بأن ترى قوياً وضعيفاً فالضعيف استحاضةٌ والقوي حيضٌ إن لم يـَـنـْـقـُص عن أقله ( أي أن لا يقل عن أربعٍ وعشرين ساعةً ) ولا عبـَرَ أكثرَه ( أن لا يزيد عن خمسة عشر يوماً ) ولاءً أي على التوالي أي متصلاً.]

الشرح: المـُبـْـتـَدَأةُ: يعني أولَ مرةٍ يأتيها الحيض.
المُمَيـِّزَة: يعني جاءها الدم على صـِفتـَين ( قويٌّ وضعيفٌ أو ذو رائحةٍ كريهةٍ وبدون رائحةٍ ) بشرط أن يكون القوي عبر أقل الحيض أي أربعا وعشرين ساعةً ، والضعيف عبر أقل الطهر خمسة عشر يوماً بدون هذين الشرطين لا تـُعتـَـبـَرُ مميزة.

مثلا: واحدةٌ جاءها الدم لأول مرةٍ وكان قوياً لمدة أربعٍ وعشرين ساعةً. وضعيفاً تجاوز خمسة عشر يوماً. فالقوي تعتبره حيضاً والضعيف تعتبره استحاضةً.( فتستعمل طريقة الحشو والعصْب المذكورةَ ءانفاً.)

مثال أخر: امرأة جاءها الدم أربعةَ أيامٍ قوياً أو ذو رائحةٍ كريهةٍ ثم بعد ذلك صار ضعيفاً أو صارت رائحته منعدمةً أو خفيفة وعَبَرَ الخفيفُ أوِ الضعيفُ لوحده خمسةَ عشر يوماً هنا تقول: القويّ حيضاً أي أربعة أيامٍ حيضاً ، والباقي استحاضةً فتقضي ما فاتها من صلاةٍ وصيامٍ.

الحـُكم: في حالة الأولى: المبتـَـدَأة المميزة. إذا كان القوي عبر أقلَّ الحيض يعني عبر أربعا وعشرين ساعةً ، والضعيف لوحده تجاوز أقلَّ الطهر يعني خمسة عشر يوماً يكون القوي حيضاً والضعيفُ استحاضةً وتقضي ما فاتها في أيام الاستحاضة.

تلخيص:
المبتدَأة: أول مرة يأتيها الحيض.
المميـِـزة: جاءها الدم بصفتين وعلى شرطين:
الشرط الأول: أن يكون القوي تجاوز أربعاً وعشرين ساعةً وما زاد عن خمسة عشر يوماً.
الشرط الثاني: أن يكون الضعيف تجاوز خمسة عشر يوماً. ( لوحدِه ) ويشترط في هذه الحالة أن يكونَ نزولُ الدم متصلاً.

مُـبْـتـَدَأة غير مميـِـزة:[ أو لا مميزة ، معناه بلونٍ واحد يأتيها الدم أو فقدت شرطاً مما ذكر ( الضعيف يشترط أم لا يقلّ عن خمسة عشر يوماً ، والقوي أن لا ينقـُص عن أقل الحيض أي يومٍ وليلةٍ وهذان الشرطان إن فُقدا ، الحكم يتغير.) فحيضتها يوم وليلةٌ وما سواه يكون استحاضةً وطهرها تِسعٌ وعشرون إن عرفت وقت ابتداء الدم.]

الشرح: المبتدَأة: أول مرةٍ يأتيها الدم ما سبق لها حيضٌ.
لا مميزةٍ: معناه غير مميزةٍ أي فقدت أحدَ الشرطين المذكورين كأن جاءها بلونٍ واحدٍ وتجاوز خمسة عشر يوماً. وهذا معنى قولِه:[ يأتيها الدم بلونٍ واحدٍ أو فقدت شرطاً من الشرطين.] وهما:[ الضعيف يشترط أن لا يقل عن خمسة عشر يوماً والقوي أن لا ينقص عن أقل الحيض أي يومٍ وليلةٍ هذان الشرطان إن فُقدا ، الحكم يتغير.] فإذا جاءها الدم على صفتين قويٌّ وضعيفٌ لكن فقد أحد الشرطين كأن:

1) كان القوي أقل من أربعٍ وعشرين ساعةً والضعيف تجاوز خمسة عشر يوماً.
2) أو كان القوي أكثر من أربعٍ وعشرين ساعةً والضعيف أقلُّ من خمسة عشر يوماً.
3) أو جاءها الدم بلونٍ واحدٍ وتجاوز خمسة عشر يوماً.
فإذا واحدةٌ جاءها الدم أول مرةٍ على أحد هذه الأوصاف الثلاثة فهي مبتدأةٌ غير مميزةٍ.
( فحيضتها يومٌ وليلةٌ وما سواه يكون استحاضةً ، وطهرها تسعٌ وعشرون يوماً إن عرفت وقت ابتداء الدم .)

إذاً الحكم بالنسبة للمبتدأة غير المميزة أن تعتبر أول أربعٍ وعشرين ساعةً أي أول يومٍ وليلة حيضاً ، وما زاد على ذلك فهو استحاضةٌ وتقضي ما تركته من عبادةٍ فيه.

ملاحظة: المبتدأة التي يأتيها الدم أول مرةٍ ولم يتجاوز خمسة عشر يوماً فكله حيضٌ ولو كان على صفتين ( قويٌّ وضعيفٌ ) كأن كان مجموعه أربعة عشر يوماً أو ثلاثة عشر يوماً أو أقل من ذلك أو خمسة عشر يوماً ( أي ينقطع في اليوم الخامس عشر ولا يتجاوزه ) تعتبر كل ذلك حيضاً.

المعتادةُ غيرُ المميـِّـزةِ:[ أو معتادةٍ بأن سبق لها حيضٌ وطهرٌ فترد إليهما وتثبت العادة إن لم تختلف بمرةٍ. العادة بمرةٍ واحدةٍ تثبت كأن كانت ترى خمسة أيام دماً ثم خمسة وعشرين طهراً حصل هكذا مرة أو مرتين ثم جاءها الدم المستمر يقال لها خمسة أيامٍ اعتبريه حيضاً والخمسة والعشرين استحاضةً. في الخمسة أيامٍ لا تصلي ولا تصوم ثم فيما بعدها تغتسل وتصلي وتصوم إلى ءاخر الشهر ولو بقيت شهوراً على هذه الحال وهذه يقال لها معتادةٌ غير مميزةٍ أي ترى الدم بلونٍ واحدٍ الشهور كلها.]
الشرح: المعتادة: هي التي سبق لها حيض وطهر مرة أو مرتين.
غير مميزة: بعد ثبوت عادتها جاءها الدم بصفة واحدة واستمر اكثر من خمسة عشر يوماََ.
أو فقد أحد الشرطين المذكورين من قبل إذا كان على صفتين.

الحكم: ترجع الى عادتها فتعتبرها حيضاً وما زاد عن عادتها تعتبره استحاضة.

مثال :امرأةٌ كان يأتيها الدمُ خمسة أيام ثم ينقطع ، جاءها الحيض بهذا القدْر عدة مرات ثم بعد ذلك جاءها الدم بصفة واحدة وتجاوز خمسة عشر يوماً. هنا ترجـِع إلى عادتها وتعتبر أول خمسة أيام حيضاً وما زاد عن ذلك تعتبره استحاضة ولو استمر إلى الشهر الثاني أو أكثر.

إذاً المعتادة غير المميزة تنظر إلى ءاخر مرة جاءها الحيض كم كان مقداره فإن تجاوز في المرة التي بعدها خمسة عشر يوماً تعود إلى عادتها الأخيرة.

مثلاً: ءاخر مرة كان جاءها الحيض سبعة أيام ثم انقطع ثم في المرة التي بعدها جاءها الدم واستمر أكثر من خمسة عشر يوماً. هنا تقول ما زاد عن سبعة أيام استحاضةٌ وتتصرف على أنها مستحاضة ( ولا يثبت لها هذا إلا بعد خمسة عشر يوماً إن كان الدم بصفة واحدة.)

مثالٌ ءاخر: إذا واحدة أتاها الدم أول مرة خمسة أيام ثم في المرة الثانية سبعة أيام ثم في الثالثة أتاها تسعة أيام في الرابعة أستمر معها الدم بصفة واحدة إلى أكثر من خمسة عشرة يوماً فهنا ترجع إلى ءاخر مرة وهي تسعة أيامٍ تعتبرها حيضاً وما زاد استحاضة لا تنظر إلى الخمسة أيام ٍولا إلى السبعة أيام.

تنبيه :إذا واحدة يأتيها كلَّ شهر سبعة أيام ثم استمر أكثر من سبعة أيام تعتبره حيضا ما لم يعبر خمسة عشر يوماً ، وتعتبر ما زاد عن السبعة استحاضة إذا زاد عن خمسة عشر يوماً.
ما دام أقل من خمسة عشر يوماً هذا تعتبره حيضاً أما إن زاد عن خمسة عشر ترجع إلى عادتها والزائد تعتبره استحاضة.
هذه المسألة هي المعتادة غيرُ المميزة وهي ثلاثة أحوال:
1) كأن جاءها الدم بصفةٍ واحدةٍ واستمر متصلاً إلى أن تجاوز خمسة عشر يوماً وقد يتصل شهوراً.
2) كأن جاءها الدم على صفتين ( قويٍّ وضعيفٍ ) وكان القوي أقل من أربعٍ وعشرين ساعة والضعيف تجاوز خمسة عشر يوماً لوحده.
٣) كأن جاءها الدم على صفتين ( قويٌّ وضعيفٍ ) وكان القوي أكثر من أربع وعشرين ساعة. والضعيف لم يتجاوز خمسة عشر يوماً لوحده.

المعتادة المميزة:[ ويحكم لمعتادةٍ مميزةٍ ترى قوياً وضعيفاً فالقوي حيضٌ والضعيف استحاضةٌ.التي كان سبق لها حيضٌ وطُهرٌ ثم أصابها الاستحاضة يحكم لها بالتمييز إن كان تمييزها مستوفياً للشروط التي ذُكرت: أن لا ينقص القوي عن أربعٍ وعشرين ساعةً ولا يتجاوز أكثره ولا ينقصُ الضعيف عن أقل الطهر على الاتصال.]

الشرح: المعتادة: هي التي سبق لها حيضٌ وطهرٌ.
المميزة: هي التي يأتيها الدم على صفتين قويٍّ وضعيفٍ مثلاً ويكون موافقاً للشرطين المذكورين:
أن يكون القوي تجاوز أقل الحيض أي تجاوز أربعا وعشرين ساعة ، من غير أن يتعدى خمسة عشر يوماً.
وأن يكون الضعيف لا ينقص عن أقل الطهر أي أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوماً بعد القوي.
ملاحظة: يكون نزول الدم في هذه الحالة وفي الحالات السابقة متصلاً بدون انقطاعٍ.
إذاً المعتادة المميزة هي التي سبق لها حيضٌ وطهرٌ ثم جاءها في المرة الأخيرة دمٌ بصفتين مميزتين على حسب الشروط وهو أن لا يقل القوي عن أربعٍ وعشرين ساعة من غير أن يتجاوز خمسة عشر يوماً والضعيف أن لا ينقص عن خمسة عشر يوماً.
أما إذا جاءها دمٌ بصفةٍ واحدةٍ وتجاوز خمسة عشر يوماً متصلاً هذه غيرُ مميزة وحكمها غير حكم المميزة.

مثالٌ: امرأة يأتيها الدم سبعة أيامٍ عدة مراتٍ. أو كان ءاخر مرةٍ جاءها الدم سبعة أيامٍ ثم بعد ذلك جاءها الدم على صفتين ( قويٍ وضعيفٍ ) بشرطهما هذه معتادةٌ مميزةٌ تعتبر القوي حيضاً والضعيف استحاضةً ولا عبرة لعادتها.

الحكم: إذاً حكم المعتادة المميزة أن تعتبر القوي حيضاً والضعيف استحاضةً فتقضي ما فاتها في الضعيف من عبادةٍ ولا عبرة لعادتها.
أما إذا جاءها على صفتين مع فُقدان أحد الشرطين هذه تكون معتادةً غير مميزةٍ ترجع إلى عادتها.
مثالٌ عن المعتادة المميزة: امرأةٌ جاءها دمٌ عشرة أيامٍ قوياًّ وأكثر من خمسة عشر يوماً ضعيفاً وكانت عادتها أن يأتيها الدم سبعة أيامٍ ثم تنقطع هذه معتادةٌ مميزةٌ

حُكمها :أن تعتبر القوي حيضاً والضعيف استحاضةً ولا تقول أرجع إلى عادتي لأنها مميزة. يعني تعتبر العشرة أيام حيضاً والباقي استحاضةً.

أما إذا جاءها القوي ثمانية عشر ساعةً ( لم يتجاوز أربع وعشرين ساعةً ) هنا فقدت أحد الشرطين فترجع إلى عادتها لأنها مُعتادةٌ غير مميزةٍ تقول عادتي أي سبع أيامٍ حيض والباقي استحاضةٌ.

شرح الأقسام الأربعة الأولى للإستحاضة:

المبتدَأة المميزة: أول مرةٍ يأتيها دم حيضٍ تسمى مبتدأة.
ومميـِـزة معناه جاءها الدم بصفتين ( قويٍ وضعيفٍ أو أسود وأحمر أو ذو رائحةٍ و عديم الرائحة ) وكان القوي أكثر من أربع وعشرين ساعةً والضعيف تجاوز قدره الخمسة عشر يوماً.
حكمها: أن تعتبر القوي حيضاً والضعيف استحاضةً.
المبتدَأة غير المميـِّـزة: وهي التي أول مرةٍ يأتيها الدم وكان على صفتين لكن خالف أحدَ الشرطين.
١) كأن كان كلُّه بلونٍ واحدٍ من أول يومٍ وبقي مستمراً إلى أكثرِ من خمسة عشر يوماً هذه مبتدأةٌ غير مميزة.
٢) وكأن كانت رأت الدم على صفتين من غير أن يستـَـكمل الشرطين كأن كان القوي أقل من أربعٍ وعشرين ساعةً والضعيف قدره أكثر من خمسة عشر يوماً هذه مبتدأةٌ غير مميزة.
٣) الحالة الثالثة كأن رأت الدم على صفتين وكان القوي تجاوز أربعاً وعشرين ساعةً والضعيف لم يتجاوز قدره خمسة عشر يوماً هذه أيضاً مبتدأةٌ غير مميزةٍ.

وحكمها في الحالات الثلاثة أن تـَـعتبر أول أربعٍ وعشرين ساعةً أو يوم وليلة حيضاً وما زاد عن ذلك تعتبره استحاضةً.

ملاحظةٌ: إذا كانت مبتـَـدَأة جاءها الدم بلونٍ واحدٍ ولم يتجاوز خمسة عشر يوماً تعتبرُه كلـَّه حيضاً.

المعتادة غير المميزة: وهي التي سبق لها حيضٌ وطهرٌ مرةً أو أكثر ثم جاءها الدم:
١) إما بلونٍ واحدٍ واستمر أكثر من خمسة عشر يوماً.
٢) وإما أن يأتيـَـها الدم على صفتين ويكون القوي أقلَّ من أربعٍ وعشرين ساعةً والضعيف أكثرَ من خمسة عشر يوماً.
٣) وإما أن يكون القوي أكثر من أربع وعشرين ساعةً والضعيف قدره أقل من خمسة عشر يوماً. ففي هذه الحالات الثلاثة تكون معتادةً غيرَ مميزةٍ.

حكمـُها: أن تعتبر عادتـَها حيضاً وما زاد عن عادتها استحاضةً.

المعتادة المميزة: وهي التي سبق لها حيضٌ وطهرٌ مرةً أو أكثر ثم جاءها الدم على صفتين موافقاً للشرطين وهما ( أن يكون القوي أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة والضعيف قدره أكثر من خمسة عشر يوماً ) فهذه مُعتادةٌ مميزةٌ

حكمها: أن تعتبر القوي حيضاً والضعيف استحاضة ولا تنظر إلى عادتها.
باب المتحيـِّرة

الـمتحيرةٌ:[ هي التي نسيت عادتها قدراً ووقتاً ، المتحيرة هي التي لا تذكر كم كان أيام الدم ولا تذكر هل كان يأتيها أول الشهر أو وسطه أو ءاخره فكحائضٍ لا في طلاقٍ وعبادةٍ تفتقر إلى نيةٍ ( لما قال كحائضٍ يعنى ذلك أن زوجها لا يجامعها البتة ) وهي حكمها أنها كالحائض حتى لو بقي الدم عشر سنواتٍ إلا في الطلاق والعبادة التي تحتاج إلى النية كالصوم والصلاة فهي مثل الطاهرة.
وتغتسل في كل فرض إن جهلت وقت الانقطاع. هي تغتسل لكل فرضٍ للظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح إلا أن تكون تذكر أنه كان في الماضي ينقطع دمها عند الغروب هذه كلما جاء الغروب تغتسل وما سوى ذلك بالوضوء.
وتصوم رمضان ثم شهراً كاملاً فيبقى يومان إن لم تعتد الانقطاع ليلاً فتصوم لها من ثمانية عشر ثلاثةً أولَها وثلاثة ءاخرَها. أي تصوم رمضان لاحتمال أنها طاهرةٌ ثم شهراً كاملاً فيحصُـل لها من كل شهرٍ أربعة عشر يوماً فيبقى عليها يومان إن لم تعتد الانقطاع ليلاً. فإن اعتادته لم يبق عليها شيء. وإذا بقي عليها يومان فتصوم لهما من ثمانية عشر يوماً ثلاثة أولَها وثلاثةً ءاخرَها فيحصل لها يومان مـن صيام ستة أيامٍ. ويمكن قضاء يومٍ بصوم أول يومٍ وثالث يومٍ وسابع عشر من سبعة عشر يوماً.]

قال الشيخ: هذه مبتلاةٌ نزلت عليها مصيبةٌ كبيرةٌ ومشقةٌ كبيرة.
الشرح: ( المتحيرة ) هي التي سبق لها حيضٌ وطهرٌ ثم جاءها مرة ثانية بعد انقطاعٍ وامتد أكثر من خمسة عشر يوماً بصفةٍ واحدةٍ وكانت نسِيت عادتها التي سبقت لها ( لم تعرف كم كان خمسة أيامٍ أم ستة أيامٍ نسيت بالمرة لا تذكر قدراً بالمرة ). وكذلك لا تعرف هل كان يأتيها أول الشهر أم ءاخرَ الشهر أم نصفه هذا معنى نسيت عادتها قدراً ووقتاً.
( الشروط التي تجتمع في المرأة حتى تصير متحيرة معتادةً ) يعني سبق لها حيضٌ وطهرٌ نسيت عادتها قدراً كم كان يأتيها الدم ( هل بقدر خمسةِ أيام أم ستةِ أيام أم غيرِ ذلك ) هذا معنى نسيت عادتها قدراً نسيت عادتها وقتاً نسيت متى كان يأتيها الحيض هل في أول الشهر أو بنصف الشهر أو بآخر الشهر.فالتي اجتمع فيها هذه القيود الثلاثة فهي المتحيرة.
( المتحيرة هي التي لا تذكر كم كان أيامُ الدم ولا تذكر هل كان يأتيها أول الشهر أو وسط الشهر أو ءاخر الشهر ) مثلاً واحدة جاءها الحيض عدة مرات ثم انقطع عنها عدة أشهر ثم جاءها المرةَ الثانيةَ وامتد أكثرَ من خمسةَ عشر يوماً بصفةٍ واحدة وكانت نسيت عادتها الأخيرة ( أي قدرَ عادتـِـها ووقت عادتها ) نسيت هل كان قدره خمسة أيام أم ستة أيام أم غير ذلك وكذلك نسيت هل كان جاءها أول الشهر أم وسط الشهر أم ءاخر الشهر هذه يقال لها متحيرة ( متحيرة فكحائض لا في طلاقٍ وعبادةٍ تفتقر لنيةٍ ) لمَّا قال:[ كحائض ] معنى ذلك أن زوجها لا يجامعها البتة ) ففي كل مدة نزول الدم مستمراً هي كالحائض إلا في الطلاق يعني إن أراد أن يطلقها زوجها فهي ليست كالحائض هنا يقع طلاقها ولا يحرُم فإن طلقها لا يقع في المعصية ويصح الطلاق.
كذلك في العبادة هي ليست كالحائض ( العبادة التي تفتقر إلى نيةٍ ) أما في غير الطلاق والعبادة التي تحتاج إلى نية كالصلاة والصيام ، هي كالحائض يعني حكمها حكم الحائض.
هي حكمها أنها كالحائض حتى لو بقي الدم عشر سنوات إلا في الطلاق والعبادة التي تحتاج إلى نية كالصيام والصلاة فهي مثل الطاهر. فالمتحيرة تعمل بالاحتياط في أمر الصلاة وغيرها من العبادات التي تحتاج إلى نيةٍ كأنها طاهرٌ أما بالنسبة للأشياء الأخرى كجماع زوجها لها كأنها حائضٌ لا يجوز له أن يجامعها ما دام ينـزل منها.
( وتغتسل لكل فرض إن جهلت وقت الانقطاع ) فإن جهلت وقت انقطاع الدم في ءاخر حيضة لها قبل حالتها هذه فإنها تغتسل لكل فرضِ صلاةٍ ، ثم تفعل طريقة الحشو والعصب كالمستحاضة ثم تتوضأ بعد دخول وقت الصلاة بنية استباحة فرض الصلاة وليس بنية رفع الحدث الأصغر لأن الحدث لا يرتفع بنـزول الدم مستمراً من الفرج ثم تصلي فرضها وهكذا تفعل لكل فرضٍ.
هي تغتسل لكل فرض للظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح إلا أن تكون تذكر أنه كان في الماضي ينقطع دمها عند الغروب هذه كلما جاءَ الغروبُ تغتسل وما سوى ذلك بالوضوء ، أما التي هي في حالة المتحيرة لكن تتذكر أن الدمَ في الماضي أي في الحيضات السابقة كان ينقطع عند المغرب فهذه تغتسل عند المغرب ثم تفعل الطريقةَ المذكورة ( الحشو والعصب ) ثم تتوضأ بنيةِ استباحة فرض الصلاة وتصلي المغربَ أما في العشاء والصبح والظهر والعصر فهي فقط تستنجي وتعمل الطريقة المذكورة وتستبيحُ الصلاة ( أي تتوضأ بنية استباحة الصلاة ) وتصلي كلَّ فرض هذا بعد دخول الوقت في كل صلاة ولا تغتسل إلا عند المغرب وهكذا تفعل في كل يومٍ هذا إن كانت تتذكر أن الدم كان ينقطع عنها في المغرب ، أما إن كانت تتذكر أن الدم ينقطع عنها مثلاً في الظهر فتغتسل فقط في الظهر وتعمل الطريقة وتتوضأ وتصلي أما البقية العصر والمغرب والعشاء والصبح فقط تستنجي وتعمل الطريقة وتستبيح الصلاة بعد دخول الوقت وتصلي إلى الظهر من اليوم الثاني وهكذا في كل يومٍ ، وأما إن لم تتذكر وقتاً انقطع فيه الدم باعتبار ءاخر مرةٍ فهذه تغتسل لكل فرضٍ.

وتصوم رمضان ثم شهراً كاملاً فيبقى يومان إن لم تعتد الانقطاع ليلاً بالنسبة للصيام فلها طريقتان في الصوم على حسب حالها:
١) إن كانت تتذكر أن ءاخر مرةٍ انقطع عنها الدم كان انقطاعه في الليل فهذه فقط تصوم شهر رمضان ثم تتبعه بشهرٍ كاملٍ.
٢) إن كانت تتذكر أن ءاخرَ مرةٍ انقطع عنها الدم كان انقطاعُـه في النهار ليس في الليل فهذه تصوم رمضان ، ثم شهراً كاملاً ثم يومين بعد ذلك بطريقةٍ معينةٍ وليس يوميـن متتاليين.
( فتصوم لها ثمانية عشر ثلاثة أولها وثلاثة ءاخرَها ) يعني تعين ثمانية عشر يوماً متتاليةً تصوم منها أول ثلاثة أيامٍ ( اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث ) ثم تفطر إلى اليوم الخامس عشر ثم تصوم ءاخر ثلاثةِ أيامٍ ( اليوم السادس عشر واليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر ) فيكون المجموعُ ستةَ أيامٍ فتتأكد من حصول يومين منهما خارجَ الحيضِ يعني خارجَ قدرِ أكثر الحيض.
هي تصوم يومين لأن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً فلما تصوم رمضان كله يصح لها يقيناً خمسة عشر يوماً.
فإن كانت عادتها انقطاع الدم في الليل تصوم شهراً ثانياً فيحصل لها خمسة عشر يوماً يقيناً ، ويكونُ المجموعُ ثلاثين يوماً.
أما إذا كان ينقطع عنها الدمُ نهاراً فيصحُّ لها أربعة عشر يوماً يقيناً بصيامها لكامل الشهر فتصوم شهراً ثانياً فيحصُـل لها أيضاً أربعة عشر يوماً يقيناً فيكون المجموعُ ثمانيةً وعشرين يوماً ويبقى لها يومان لتمام الثلاثين ( من كلِّ شهرٍ يومٌ ) وطريقة صيام اليومين يكون بتعيين ثمانية عشر يوماً فتصوم منها أول ثلاثة أيامٍ وءاخر ثلاثة أيام وتفطر بينها بهذه الطريقة يصح لها يومان يقينا.
( أي تصوم رمضان لاحتمال أن تكونَ طاهرةً ثم شهراً كاملاً فيحصُـل لها من كل شهرٍ أربعة عشر يوماً فيبقى عليها يومان إن لم تعتد الانقطاع فإن اعتادته لم يبق عليها شيءٌ.) إذاً إذا كانت عادتها أن ينقطع عنها الدم في الليل تصوم شهر رمضان وتُتبعه بشهرٍ كاملٍ فيصبح لها ثلاثين يوماً يقيناً.
أما إذا كانت عادتها أن ينقطع عنها الدم في النهار فتصومُ رمضان وتُتبعه بشهرٍ كاملٍ وتزيد عليه يومين بالطريقة المذكورة في الحساب.هذا كله للمتحيرة التي لا تعرف قدر عادتها ولا تـَعرف الوقت الذي كان يأتيها فيه الدم.( وإذا بقي عليها يومان فتصوم لها من ثمانية عشر يوماً ، ثلاثةً أولها وثلاثة ءاخرها فيحصل لها يومان من صيام ستة أيام.
( ويُمكن قضاء يومٍ بصومِ أول يومٍ وثالثِ يومٍ والسابعَ عشرَ من سبعة عشر يوماً متوالية ) بالنسبة للقضاء إن كان عليها قضاء يومٍ من رمضان قبل أن تصاب بهذه البلية تقضيه بالطريقة التالية:
1) تـُعـيـِّن سبعة عشر يوماً متواليةً.
2) فتصوم منها أول يومٍ ثم تفطر الثاني.
4) وتصوم الثالث وتفطر من الرابع إلى السادسِ عشر.
5) ثم تصوم اليوم السابعَ عشر.
فبهذه الطريقةِ تتيقن من صيام يومٍ لأنه ولو كانت عادتها خمسة عشر يوماً في الماضي لا بد أن يقع يومٌ من هذه الثلاثة أيامٍ ، اليوم الأول واليوم الثالث واليوم السابع عشر في تقدير طُهـرها. إهـ.

فائدة: إذا واحدٌ قال عن رجلٍ ينـزل منه دم كالنساء ليس فيه ضرر في العقيدة لأنه واحدٌ من الكفار الله تعالى ابتلاه جعله ينـزل منه الدم كالنساء ، أذله الله. فإذا قال واحدٌ عن رجلٍ ( يحيض كالنساء ) ليس فيه كفرٌ.

وأَمَّا النّـِفَاسُ فهو دَمٌ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ المرأَةِ بعدَ الولادةِ بسببِ الولادة. وأقلُّهُ مَجَّةٌ يعنى دُفعة واحدة ، وأقصاهُ ستونَ يوماً.
فائدةٌ: سمي النفاس نفاساً لأنه يعقب حياة ، روحٌ. بعد نزول هذا الولد ينـزل دمٌ يسمى نفاساً.

وأما الولادة فإنها تُوجِبُ الغُسلَ أيضاً ولو لم يَعْقِبِ الولادةَ دَمٌ. فلو وَلَدَت المرأةُ ثم نَزَلَ بعد الولادة دمُ النفاس يجب عليها أن تغتسلَ لأجل الصلاة عندما ينقطع هذا الدم. لكن لو فَرَضْنَا أَنْ امرَأَةً وَلَدَت ثم لم ينـزلْ منها دَمُ النفاس فهذه يجبُ عليها أيضاً أن
تغتسلَ لأجل الصلاة ، لأنَّ خُرُوجَ الوَلَدِ فى هذه الحال مِثْلُ خروجِ المَنِىّ ، لأن أصلَ الولد مَنِىٌّ مُنْعَقِدٌ.
مسئلة عن الحج مروان الحسيني: سألته امرأة كانت في ءاخر شهرها التاسع من الحمل خرج منها دم ماذا تفعل؟ هل تستطيع أن تصلي؟ وما هو حكم هذا الدم الذي ينـزل؟
أجاب:هذا الدم ينقض الوضوء لكنه ليس دم نفاس ولا حيض تسنتجي منه وتضع خُرقة وتتوضأ وتصلي، كذلك حكم ماء الرأس إذا نزل. ( ماء ينـزل قبل الولادة.) ولها في هذه الحالة أن تجمع وتقصر لأنها في حالة مرض وتخاف أن يفوتها وقت الصلاة.
قال المؤلف رحمه الله: وَفُرُوضُ الغُسْلِ اثْنَانِ.

الشرح: أَنَّ هناك شَيئَينِ اثنين فقط هما ركنا الغسل ، وكل ما عداهُمَا ليس من أركانه.
قال المؤلف رحمه الله: نِيةُ رَفْعِ الحَدَثِ الأكبرِ أو نحوُها ، وتعميمُ جميعِ البَدَنِ بَشَرًا وَشَعَرًا وإن كَثُفَ بالماءِ.

الشرح: أن الركن الأول من أركان الغسل النية ، ومحلُّها القلب. فينوِى بقلبه رفعَ الحدث الأكبر عندما يلامِسُ الماءُ بَدَنَهُ ، فلا بُدَّ أَنْ تكونَ النيةُ مقترنةً بملاقاةِ الماءِ للبَدَن. فإذا نوى قَبْلَ البَدْءِ بِصَبِّ الماء ثم لمَّا بَدَأَ بصب الماء لم يستحضرْ بقلبه النية بالمرة فهذا الصَبُّ لا يكون مجزئاً ، حتى يجزئ يُجَدِّدَ النيةَ مَعَ ملاقاةِ الماءِ للجَسَدِ. ومعنى النية أنْ يَستحْضرَ بقلبه أنَّه الآن يغتسل الغسل الواجب ، أو أن يستحضرَ بقلبِهِ أَنَّه الآنَ يَرْفَعُ الحدثَ الأَكْبَر ، أو ما شَابَه ذلك من النيات. هذا هو الفرض الأول.
والفرضُ الثانى أن يُعَمّمَ كُلَّ البدن ، بما يَشْمَلُ كُلَّ الشَعَر والجلد مرةً واحدةً بالماء. ولو كانَ الشَعر كثيفاً فإنه لا بُدَّ أن يُوْصِلَ الماء إلى الباطن مرةً واحدةً ، وأما التَّثـْلِيثُ فَسُنَّة. فإن كان على بدنه نجاسةٌ يَغْسِل غَسْلَةً أُولى لإزالةِ النجاسة ثم غَسْلَةً ثانية لرَفْعِ الحدَثِ الأكبر عن الموضع.

شُـرُوطُ الـطَّـهَـارَةِ

الشرح: أن هذا الفصل معقود لبيان شروط صحة الطهارة.

قال المؤلف رحمه الله: الإسلامُ.

الشرح: أن الكافرَ لا تصِحُ منه الطهارة ، ونَعْنِى بذلك الوضوء و الغسل و التيمم.

قال المؤلف رحمه الله: والتَمْيـيزُ.

الشرح: أنَّ الصغيرَ غيرَ المُمَيّزِ والمجنونَ لا تصِحُّ منهما الطهارةُ.

قال المؤلف رحمه الله: وعَدَمُ المانِعِ مِنْ وُصُولِ الماءِ إِلَى المَغْسُولِ.

الشرح: أنَّ مِنْ شروط صحةِ الطهارة أن لا يكون مانِعٌ يمنعُ من ملاقاةِ الماء للعضو الذى يجبُ غَسْـلُـهُ أو مَسْحُهُ فى الطهارة ، فإن وُجِدَ ذلك لا بُدَّ من إِزَالَتِهِ حتى يصلَ الماءُ إلى ما تَحْتَهُ من الجلدِ. ويُفْهَمُ من ذلك أنَّ طِلاَءَ الأظافر الذى تضعُهُ النساءُ لا بُدَّ من إزالتِهِ قبلَ الوضوءِ أو الغسل ليصح لها الوضوءُ أو الغُسْلُ ، لأنه يمنعُ مِنْ وُصُولِ الماءِ إلى الظُّفْرِ.

قال المؤلف رحمه الله: والسَّيَلاَنُ.

الشرح: أنه لا بد فى غُسْلِ الطهارةِ من أن يَجْرِىَ الماءُ على الجلد بطبْعِهِ ولو مع إمرار اليد. أما مجرد المسح الذى لا يُسمى غَسلاً فهذا لا يُجْزِئ ، أى إذا بلَّـلَ شخصٌ يدَه بالماء ثم مَسَحَ بها وَجهَهُ فى الوضوء بَدَلَ أن يغسِلَه لا يُجْزِئ.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يكونَ الماءُ مُطَهّـِرًا.

الشرح: أنه يشترط أن يكونَ الماءُ طاهراً بنفسه أى غيرَ نجس ومُطَهّـِراً لغيره. فَلِكَى يجزئ استعماله فى رفع الحدث أو إزالة النجَس لا بد من أن يجمع الصفتين أى لا بد أن يكون طاهراً مطهراً ، فإن كان طاهراً لكن لا يُطَهّـِرُ غيرَهُ لا يكفى. وحتى يكون الماء مطهّـِراً لا بد من تَوَفُّرِ أَشياءَ أربعةٍ ، بدأ المؤلف رحمه الله بذكرها بقوله:

بِأَنْ لاَ يُسْلَبَ اسمَهُ بمخالطة طاهرٍ يستغنى الماءُ عنه أى امتزاجِ شىءٍ طاهرٍ كالحليبِ والحِبْرِ وشِبْهِ ذلك. فلو تَغَيَّرَ الماءُ به بحيث لا يسمى ماءً لم يصلح للطهارة.

الشرح: أن من شروطِ صحةِ الغُسل والوضوء أن يكونا بالماء. فلو امتزجَ بالماء أى انحلَّ فيه طاهِرٌ ءاخر بحيثُ غيَّرَهُ تَغَيُّراً كبيراً إلى حدِّ أنه لم يَعُدْ يُسَمَّى ماءً لا يعودُ هذا الماءُ صالحاً للطهارة. مثالُ ذلك: أَنْ يَخْتَلِطَ الماءُ بِحَلِيبٍ أو بِحِبْرٍ أو بنحوِهِمَا بحيثُ يتغيرُ لونُهُ أو طعمُهُ أو ريحُهُ تَغَيُّراً كبيراً إلى حد أنه لا يسمَّى بعد ذلك ماءً – أى بغير قيد – فإنه لا يعودُ صالحاً للطهارة. وأما التَغَيُّرُ الخفيف فلا يؤثّر.

قال المؤلف رحمه الله: وأما تَغَيُّرُه بما لا يستغنِى الماءُ عنه كأن يَتَغَيَّر بما فى مَقَرّهِ أو مَمَرّهِ أو نحوِ ذلكَ مِمَا يَشُقُّ صونُ الماءِ عنهُ فلاَ يَضُرُّ فَيَبْقَى مُطَهّـِراً.
الشرح: أنَّ الماءَ إذا تغيَّرَ تغيُّراً ظاهراً كثيراً بطاهرٍ انحَلَّ فيه وخالَطَه أى امتزج به لكن كان يَشُقُّ صَونُ الماءِ عن هذا الطاهر ، مثل أن يكونَ هذا الشىءُ الطاهر كِبْرِيـتًا فى مقرِّ الماءِ أى حيثُ يَجْتَمِع الماء ، أو فى مَمَرّهِ أى يَمُرُّ الماءُ عليه فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ رَائِحَتَهُ بحيث تَتَغَيَّر رائحة الماء بقوة بسببه ، أو يتغير طعمُه تغيراً كثيراً بسببه ، فإن هذا الماء يبقى طاهراً مطهراً يصح به الوضوءُ والغُسْلُ ، لأَنَّهُ يَشُقُّ أى يصعُبُ صَونُ الماءِ عن هذا الطّاهر. ثم ذكر المؤلف رحمه الله الشرط الثانِىَ حتى يكون الماء مطهراً فقال:

وأَنْ لاَ يَتَغَيَّرَ بِنَجسٍ وَلَو تَغَيُّرًا يَسِيراً.

الشرح: أنَّه إذا لاقت نجاسةٌ الماءَ فتغَيَّر الماءُ بهذه النجاسة ولو قليلاً صار الماء نجساً ولو كان ماءً كثيراً. ثم ذَكَرَ الأمرَ الثالثَ فقال:

وإن كان الماءُ دونَ القُلَّتَينِ اشتُرِطَ أَنْ لاَ يُلاَقِيَهُ نَجَسٌ غَيرُ معفوٍ عنه.

الشرح: أَنَّ الماء إذا كان أقلَّ من قُلَّتين يُشتَرَطُ أن لا يُلاقِيَهُ نَجَسٌ ليبقَى طاهراً مطهراً. فإن لاقاه نَجَسٌ صار الماءُ نَجِسًا ولو لم تُغَـيّـِرْهُ هذه النجاسة ، وذلك لِقِلَّتِهِ. والقُلَّتـَانِ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِىٍّ تقريباً فى الأَصَحّ ، أو بعبارَةٍ أخرى ما يَمْلأُ حُفْرَةً مُدَوَّرة قُطْرُهَا ذراع وَعُمْقُهَا ذراعانِ ونِصْف. فإن كان الماءُ أَقَلَّ مِنْ ذلك يَنْجُسُ بمجردِ مُلاقاةِ النجاسَةِ له ، إلاَّ إذا كانت النجاسةُ معفواً عنها ، مِثْلَ مَا لا نَفْسَ له سَائِلة كهذه الحشرات الصغيرة فإنها إذا وقعت فى الماء وماتت فيه لا تُنَجّسُهُ ولو كان الماء قليلاً. ثم ذكر المؤلف رحمه اللهُ الأمرَ الرابِعَ فقال:

وأَنْ لاَ يَكُونَ استُعْمِلَ فِى رَفْعِ حَدَثٍ أو إزالةِ نَجسٍ.

الشرح: أَنَّ الماءَ إذا كان قليلاً دون القلتين واستُعمِلَ فِى فرضِ الوضوء أو فى فرض الغُسْل لا يَبْقَى مُطَهّـِراً ، بل يكون طاهراً غيرَ مُطَهّـِر. وكذلك لو استُعْمِلَ هذا الماءُ القليل لإزالةِ نجاسة ولم يتغَيّر الماء بذلك ، أى لمّا أَزَالَ هذا الماءُ النجاسةَ لم تُغَيّرْهُ ، فإنه يَبْقَى طاهراً لكنه غيرُ مُطَهّر. فالماءُ الذِى هو على أصلِ خِلْقَتِهِ يقال له ماءٌ مُطْلَقٌ وهو طاهرٌ مُطَهّر. فإذا كان قليلاً واستُعْمِلَ فى فَرْضِ الوضوء أو فرض الغسل لا يصحُّ استعمَالُهُ فى الطهارة لأنه صَار طاهراً غيرَ مُطَهّر. وكذا لو استُعْمِلَ فى إزالةِ نجاسة فَأَزَالهَا ولم تُغَيّرْهُ فإنه أيضاً يكونُ طاهراً غيرَ مُطَهّر. أما إذا وَقَعَت النجاسةُ غيرُ المَعْفُوّ عنها فِى الماء فهنا حالان:
إذا كان الماءُ كثيراً لا يَنْجُسُ إلاَّ إِنْ غيَّرَتْهُ النجاسة ، وإذا كان قليلاً صار نَجِساً غَيَّرَتْهُ أو لم تُغَيّرْهُ.
والكثيرُ هو ما كان قُلَّتَيْنِ فأكثر ، والقليلُ ما كان دونَ ذلك. والحكمُ الذى ذكرناه مُسْتَنَدُهُ حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه أصحاب السنن الأربعة:[ إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ.] أى يدفع عن نفسه التَنَجُّسَ يعنى إلا إذا تَغَـيَّـرَ طَعْمُهُ أو لَوْنُهُ أو رِيـحُـهُ بالنجاسة.

قال المؤلف رحمه الله: وَمَنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ أَو كانَ يَضُرُّهُ المَاءُ تَيَمَّمَ.

الشرح: أن قولَ المؤلف ( ومن لم يجد الماء ) يُفهِم أَنَّ مَن تيمَّمَ لأجلِ أنَّه ليس معَه ماء من غير بَحث لا يَصِحُ تَيَمُّمُهُ. فَمَن طَلَبَ الماءَ أى بَحَثَ عَنِ الماءِ وَلَمْ يَجِدْهُ ، عِنْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فإن كان يعلم بوجود الماء فى ضمن حد القرب وهو نصف فرسخ وجب عليه قصده ، وإن لم يَعْلَمْ بذلك وجب عليه أن يطلب الماء بالنظر فى الجهات الأربعة إن كان فى أرض مستوية ، وإلا فبالبحث فى ضمن حد الغوث أى بالتوجه إلى كل جهة مسافة ثلاثمائة ذراع تقريبًا فإن لم يجد الماء فله أن يتيمم عندئذ. وكذا لو وَجَدَ الماء لكن كان استعمالُ الماء يَضُرُّهُ ، كأنْ كان يُسَبّبُ له الموتَ مثلاً ، أو تَلَفَ عُضْوٍ من أعضائِه ، أو تَطُولُ بسَبَبِ ذلك مُدّةُ مَرَضِهِ ، أو يصير عندَهُ شَينٌ أى عيبٌ ظاهرٌ فى عُضوٍ ظاهر من أعضائِه كالوجه واليدين ، فعند ذلك يجوزُ له أَنْ يَتَيَمَّم ولو كان مَعَهُ ماء.
قال المؤلف رحمه الله: بَعْدَ دُخُولِ الوَقْتِ.

الشرح: أنَّ مَن تيمَّمَ مثلاً لصلاةِ الظهرِ قَبْلَ دُخُولِ وقتِ الظهر لا يصحُّ تَيَمُّمُهُ ، فلا بُدَّ أَنْ يكونَ التيَمُّمُ للصلاة بعدَ دخولِ وقتِ هذه الصلاة.

قال المؤلف رحمه الله: وَزَوَالِ النجاسَةِ التى لا يُعْفَى عنها.

الشرح: أنه إذا كان شخص معَه شىءٌ قليلٌ مِنَ الماء ، وعلى بَدَنِهِ نجاسة لا يُعْفَى عنها ، وكان هذا الماءُ يكفيه إما لإزالة النجاسة وإما للوضوء ولا يكفيه للأمرين ، فإنه عند ذلك يُزِيلُ النجاسةَ ثم يتيمَّم إِنْ لم يَجِدِ الماء. فإنِ لَم يكن عنده ماء بالمرة ليُزيلَ النجاسة فإنه يُخَفّـِفُهَا إن استطاع بشىءٍ ما ثم يتيمم ، وإلا تيمَّم وهو على حالِهِ.

قال المؤلف رحمه الله: بِتُرَابٍ خَالِصٍ طَهُورٍ له غُبَارٌ.

الشرح: أن التيمُّمَ لا يَصِحُّ إلا بترابٍ له غبار ، فلا يَصِحُّ بالصَّخْرِ لأنه ليس تراباً ، ولا يصح بِرَمْلِ البحر لأنَّ رَمْلَ البحر ليس له غبار ، ولا يصح التيمُّمُ بالغبار المتجمع على شىءٍ من أثاث البيت إلا إذا كان هذا الغبارُ غبارَ تراب. ولا بُدَّ أن يكون هذا الترابُ خالصاً غيرَ مَخْلوطٍ بطاهر ءاخر مثلِ الرَّمَاد. ولا بُدَّ أنْ يكونَ غيرَ مستَعْمَلٍ قبلَ ذلك فى التَيَمُّم ، فالترابُ المتناثر مِنْ مسح الوجه بالضربة الأولى من التيمم والترابُ الذى يتناثر من مسحِ اليدين فى الضربة الثانية لا يصح أن يستَعْمِلَه الشخص للتيمُّم. وكذلك لا يصحُّ فيه استعمالُ الترابِ النَّجِسِ.

قال المؤلف رحمه الله: فِى الوجهِ واليَدينِ يُرَتّـِبُهُمَا بِضَرْبَتَينِ بِنِيَّةِ استِبَاحَةِ فَرْضِ الصَّلاَةِ مَعَ النَّقْلِ وَمَسْحِ أَوَّلِ الوجهِ.

الشرح: أن المتيمم يَضْرِبُ بيدَيهِ على التراب ثم يَرْفَعُ يديه ليمسحَ وجهَه. وفى خلال هذا النقل ومع أول ابتداء مسحِ الوجه يكون مستحضراً بقلبه أنه هو الآن يتيمم. فلا بد أَنْ تُستدامَ هذه النية مع مسحِ أولِ جُزْءٍ مِنَ الوجه ، فلو انقطعت ما بين النقلِ ومسحِ أولِ الوجه لا يُجْزِئ. وقال مالك: لو انقطعت النية ما بين النقل ومسح أول الوجه فلا يؤثر.
ولا بد فى التيمم من ضَرْبَتَينِ على الأقل ، فلا تكفِى ضربةٌ واحدة يَمسحُ بها الوجه واليدين. إنما يضربُ ضربةً يمسَحُ بها وجهَهُ ، ولا يُشترَطُ فى ذلك إيصال التراب إلى باطن لحية الرجل ولو كانت خفيفة ( لأن هذا فيه صعوبة )، ثم يضربُ ضربةً ثانية يمسح بها يديه ويَشبِك أصابعه لإيصال الغبار إلى ما بين الأصابع. ولا يُجْزِئُ تَيَمُّمٌ واحدٌ لِفَرِيضَتَينِ بل لا بد أن يتيمَّمَ لكلِّ فَريضة ، فإذا تيمَّم صَلَّى فرضاً واحداً بهذا التيمُّمِ ، ثم إذا أراد أن يصلّـِىَ فرضاً ءاخر لا بد له من تيمم ءاخر ، ولو كان هذا الفرضُ قضاءً. وأما بالنسبة للنوافل فإنه يصلى ما شاء منها بتيمم واحد.

مَا يَحْرُمُ على المُحْدِثِ حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر

الشرح: أنَّ هذا الفصلَ معقودٌ لِمَا يَحْرُمُ على المُحْدِثِ حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر من ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وَمَنِ انتَقَضَ وضوؤُه حَرُمَ عليه الصلاة.

الشرح: أَنَّ هناك أشياء تجوزُ لغير المحدِث ، وأما المحدِث فَتَحْرُمُ عليه ، ومنها الصلاةُ. فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أصغر حَرُمَ عليه أَنْ يُصَلّـِىَ إلاَّ بعد أَنْ يتوضأَ.

قال المؤلف رحمه الله: والطوافُ.

الشرح: أن الطوافَ مثلُ الصلاة لا يَصِحُّ فِعْلُهُ بغيرِ طهارة. فَمَنْ انتقَضَ وضوؤُه لم يَجُزْ له أن يطوفَ بالكعبة حتى يتوضأَ.

قال المؤلف رحمه الله: وَحَمْلُ المصحفِ ، وَمَسُّهُ.

الشرح: أن مَن انتقض وضوؤُه لا يجوزُ له أن يحمِلَ المصحفَ ولو بحائل ، ولا يجوز له أن يمسَّه ، أى لا يجوز له مَسُّ الكلام ولا الحاشيةِ ولا الجلدِ المُتَّصِل به ، إلا لضرورة.

قال المؤلف رحمه الله: وَيُمَكَّنُ مِنْ ذلك الصبىُّ للدراسة.

الشرح: أنَّ الصَبِىَّ والصبية اللَّذَيْنِ مَـيَّزَا إذا كانا يَدْرُسَانِ فى المصحف يجوز لنا أن نُمَكّـِنَهُمَا من حَمْلِ المصحَفِ ومَسّـِهِ إذا كانا يريدان ذلك لأجل الدراسة. فإذا كان الصبى يريد أن يأخذَهُ إلى عند الأستاذ الذى يُدَرّسُهُ أو إذا كان يَحْمِلُهُ ليدرس فيه وهو على غيرِ وضوء يُمَكَّنُ من ذلك ، لأن الصبىَّ إذا شَرَطتَ عليه كلما انتقض وضوؤُه أن يجدده لأجل الدراسة فى المصحف قد يتركُ الدراسةَ. فبسبب ذلك خُفّـِفَ فى أمرِهِ. ولا يجوز الطلب من الصبىّ المُمَيّـِز المحدث أن يحمِلَ المصحف ليأتِىَ به إلى والده أو سيده أو نحوهما.
قال المؤلف رحمه الله: وَيَحْرُمُ عَلَى الجُنُبِ هذهِ ، وقراءةُ القرءانِ ، والمُكْثُ فِى المسجد.

الشرح: أنَّ الجنبَ حرام عليه أن يصلىَ وأن يطوفَ بالكعبة وأن يَمَسَّ القرءان أو يحملَهُ حتى يتطهر. وزيادةً على ذلك يحرم عليه أن يقرأَ القرءانَ بلسانه ، وأن يَمْكُثَ فى المسجد ، أو يَتَرَدَّدَ فيه ، إلا أنه يجوز له أن يَمُرَّ فيه مروراً فيدخلَ من باب ليخرج من ءاخر. وَيُخَصُّ مِنْ ذلك رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجوز له المُكْثُ فى المسجد مع الجنابة.

قال المؤلف رحمه الله: وَعَلَى الحائِضِ والنُّفَسَاءِ هذه ، والصومُ قَبْلَ الانقطاعِ ، وتمكينُ الزوجِ والسيدِ مِنَ الاستمتاعِ بما بينَ السُّرَّةِ والركبةِ قَبل الغُسْلِ. وقيلَ لا يحرُمُ إلاّ الجماع.

الشرح: أن الحائض والنفساء يحرُمُ عليهما الأمورُ الخمسة التى تحرم على الجنب أى يحرم عليهما الصلاةُ والطوافُ وحملُ المصحفِ ومسُّه وقراءةُ القرءانِ والمكثُ فى المسجد. وزيادةً على ذلك يحرم عليهما أيضاً أمران ءاخران:
الأول هو أن تصومَا قبلَ أن ينقطعَ دَمُ الحيض أو النفاس فلو نَوَتا الصيام بعد انقطاعِ الدم وقبلَ الغسل صَحَّ ذلك منهما.
والثانى أن تُمَكّـِنَا الزوج مِنْ أنْ يستمْتِعَ منهما بما بين السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ قبلَ الغسل ولو كان الدمُ انقطع ، أى إذا كان ذلك من غير حائل. وأما إذا كان حائِلٌ فيحْرُمُ الجماعُ ، ولا يحرم ما دون الجِمَاعِ. ومِثْلُ حُكْمِ الزوجةِ فى هذا الأمر حكمُ الأَمَةِ غيرِ المتزوجة بالنسبَةِ لِسَيدِهَا. وهناك قولٌ ءاخر فى مذهب الشافعىّ أنَّ الاستمتاعَ بما بين سرةِ وركبةِ الزوجة الحائض من غير حائل لا يحرم منه إلا الجماع.

الطهارةُ عَنِ النجاسةِ

قال المؤلف رحمه الله: ومِنْ شُروطِ الصلاةِ الطهارةُ عَنِ النجاسةِ:
(1): فى البَدَنِ ، (2): والثوبِ ، (3): والمكانِ ، (4): والمَحْمُولِ له ، كَقِنّـِينَة يحمِلُهَا فِى جَيْبِهِ.

الشرح: أن الطهارةَ عن النجاسةِ شَرْطٌ لصحةِ الصلاة ، إلا إذا كانت النجاسةُ مَعْفُوّاً عنها. ولا بد أن تكون الطهارةُ فى البدنِ والمكانِ والمحمولِ لهِ والثوبِ. يعنى إذا كان على بدنه نجاسةٌ غيرُ معفوٍ عنها أو على ثوبه نجاسةٌ غيرُ معفوٍ عنها أو كان على المحمُول له نجاسةٌ غيرُ معفوٍ عنها أو وَقَف أو وَضَعَ جبهَتَهُ أثناءَ السجود على نجاسَةٍ غير معفو عنها فإن صلاتَهُ لا تَصِحُّ فى هذه الحال. ومثلُ الجَبْهَةِ والقدمين أَىُّ جزءٍ من بدنه يلاقى الأرض. وأما النجاسة المعفوُّ عنها فلا تؤثر ، كدم جرحه ، أو القيحِ الخارِجِ منه فإنه يعفى عنهما.

قال المؤلف رحمه الله: فإنْ لاقاهُ نَجَسٌ أو محمولَه بَطَلَت صلاتُه ، إلا أَنْ يُلْقِيَهُ حالاً ويكونَ جامداً أو يكون معفواً عنه كدم جرحه.

الشرح: أن الشخصَ إذا كان يصلى ثم فى خلال الصلاةِ لاقَت بدنَه أو لاقت ثوبَه أو لاقت محمولَه نجاسةٌ فإن صلاتَه تبطُلُ حالاً ، إلا إذا كانت النجاسةُ جافة وألقاها حالاً من غير حملِها. ولو أزالَهَا بِكُمّـِهِ فكأنه حَمَلَهَا. وكذلك لو أزالها بعُود فإن هذا يؤثرُ على صلاته. أما لو وَقَعَت على رِداءٍ يَضَعُهَ على كتفيه مثلاً فَنَفَضَ الرداء أو ألقاهُ فإنَ صلاتَه لا تَفْسُدُ عند ذلك. ولو كانت هذه النجاسةُ معفواً عنها مثلَ دَمُ جُرْحِهِ ، فإنها لا تؤثر على صحة صلاته.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ إزالةُ نَجَسٍ لم يُعْفَ عنه بإزالةِ العينِ مِن طَعمٍ ولونٍ وريحٍ بالماءِ المطهّـِرِ.

الشرح: أنَّ النجاسةَ إذا كانت عينيةً أى ما زال عينُها موجوداً على المحل أى طعمها أو لونها أو ريحها ، فإن المحل لا يطهر فى هذه الحال حتى يُغْسَلَ الموضع بالماء المطهّـِرِ. يعنى لا يطهُرُ المحلُّ بإزالتها بالترابِ مثلاً أو بوضعِهَا فى الشمس ولو زالت الأوصاف. إنما يُغْسَلُ الموضِعُ بالماء حتى يَزُولَ العينُ والوصفُ.

قال المؤلف رحمه الله: والحُكميةِ بِجَرْىِ الماءِ عليها. والنجاسةُ الحكمية هى التى لا يُدْرَك لها لونٌ أو طعمٌ أو ريحٌ.

الشرح: أنَّ النجاسة إذا جاءَت على موضعٍ ثم زالت عينُهَا وأوصافُهَا لكن لا بالماء ، فإن هذا الموضعَ يبقى مُتَنَجّـِساً لأن العينَ والوصف زالا بغير الماء. وتسمى هذه النجاسةُ نجاسةً حكمية ، يعنى أنَّ عينَ النجاسة لم تعد موجودة على الموضع لكن حكمُ الموضع أنه مُتَنَجّس ، فيكفِى لتطهيره غَسْلُهُ مرةً واحدة بالماء.

قال المؤلف رحمه الله: والكَلْبِيَّةِ بغَسْلِهَا سَبْعَاً إحدَاهُنَّ ممزوجةً بالترابِ الطَّهور. والمُزِيلَةُ للعينِ وإن تَعَدَّدَت واحدة.

الشرح: أَنَّ تَطْهيرَ الموضع من النجاسةِ الكلبية لا يكفى فيه الغَسْلُ مرةً واحدة. بل لا بد من غَسْلِ الموضِعِ سَبْعَ مَرَّات ، إحدى الغَسَلات يكون الماء فيها مخلوطاً بالتراب. يُصَبُّ الماء على الموضِع حتى تزولَ عينُ النجاسة ، وعند ذلك يُعْتَبَرُ كلُّ ما صبَّه غَسْلَةً واحدة ( فلو احتاج أن يَصُبَّ عشرَ مراتٍ حتى تزولَ العين تُعْتَبَر هذه العشرةُ مرَّة واحدة ) ، ويبقى عليه أن يَغْسِلَ سِتَّ غَسَلاَتٍ أخرى. ولا بد أن يخلِطَ الماءَ بالتراب فى واحدة من هذه الغسلات السبع أى بحيث يتغيرُ لونُ الماءِ بهذا التراب. والأفضل أن يكون ذلك فى الغسلة الأولى. والمرادُ بالنجاسة الكلبية نجاسةُ الكلبِ والخنـزيرِ كِلَيْهِمَا ، وهذا يَشْمَل مُلاَمَسَةَ الكلب والخنـزير مع البلل وريقَهُمَا وبولَهُمَا ورَوثَهُمَا وسائِرَ أجزائهما.

قال المؤلف رحمه الله: ويُشْتَرَطُ وُرُودُ الماءِ إِنْ كانَ قليلاً.

الشرح: أنَّه لإزالةِ النجاسَةِ عن موضع بماءٍ قليل لا بد من أن يَجْرِىَ الماءُ على الموضع أى لا بد من أن يكون الماءُ وارداً على الموضع. أما لو وَضَعَ النجاسةَ فى الماء القليل فهذا لا يُطَهّرُ الموضع إنما يُنَجّسُ الماء. مثلُ إنسان كان على ثوبِه نجاسة فَغَمَسَ الثوب مع الموضع المتنجس فى ماءٍ قليل ثم نَزَعَ الثوب من الماء وقد ذهبت عين النجاسة أى وطعمُهَا ولونها وريحها. فى هذه الحال هذا الثوب لم يطهُر ، بل كُلُّ ما انغمس منه فى الماء صار نجساً مع الماء الذى فى الإناء ، لأن النجاسةَ فى هذه الحال وردت على الماء القليل وليس الماء هو الذى ورد عليها. أما إذا كان الماءُ كثيراً فلا يتأثر ، طالما أن الماء لم يتغير. فإذا أُزِيلَت عين النجاسة وأوصافُها بإِيراد الماء على النجاسة أو بوضعِ الشىء المتنجس فى الماء الكثير يَطهُرُ الموضع المتنجس فى الحالين.

شُرُوطِ الصلاةِ

قال المؤلف رحمه الله: وَمِنْ شُرُوطِ الصلاةِ: استقبالُ القِبْلَةِ.

الشرح: أن هذا الفصلَ معقودٌ لبيانِ شروطِ صحةِ الصلاة. ذكر المؤلف أن منها استقبالَ القبلة ، أى استقبالَ الكعبة ، فمَن كان يراها يتوجَّهُ إليها بالرؤية ، ومن كان بعيداً عنها يجتهد حتى يَتَوَجّهَ إليها. ولا تَصِحُّ صلاته فى هذه الحال من غيرِ أن يجتهد إن كان قادراً على ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ودُخُولُ وَقْتِ الصلاةِ.

الشرح: أنَّه لا يَصحُ أن يُصَلَّى الفرضُ قبلَ دُخُولِ وَقْتِهِ. فلو أن إنساناً قام فصلَّى من غيرِ أن يعرف هل دخل الوقت أم لا ، إنما دخل فى الصلاة بناء على التَّوَهُّمِ فقط لم تصح صلاتُه. أى إن لم يعتمد على شىءٍ مُعْتَبَرٍ شرعاً لِيَعْرِفَ أن وقتَ الصلاة دخل بل بمجرَّد التوهم قام فصلى لا تصح صلاته فى هذه الحال ولو وقعت ضمن الوقت.

قال المؤلف رحمه الله: والإِسْلاَمُ.

الشرح: أن الصلاةَ عبادة فلا تَصِحُّ مِنَ الكافر ، لأن العبادةَ لا تصحُ إلا بعدَ معرِفَةِ المعبود.

قال المؤلف رحمه الله: والتمييزُ وهوَ أنْ يكونَ الولدُ بَلَغَ مِنَ السّنِ إِلَى حيثُ يَفْهَمُ الخِطَابَ وَيَرُدُّ الجواب.

الشرح: أن غيرَ المميزِ لا تصح منه الصلاة. فلا يقال للولد غير المميز صلِّ ، لأن الصلاةَ لا تصح منه ، بل يقال له مثلاً انظر كيف يصلون. والتمييز معناه أن يصير فى حَدٍّ يفهم فيه الخطاب ويُحْسِنُ أن يرد الجواب.

قال المؤلف رحمه الله: والعِلمُ بِفَرْضِيَّتِهَا.

الشرح: لو أن شخصاً كان حديثَ عهدٍ بإسلام لم يعرف بعدُ أن الصلوات الخمس فرض ، ثم رأى المسلمين يُصَلُّون صلاة الظهر مثلاً ، فصلَّى مَعَهُم من غير أن يعتقد أنها فرض ، لا تصح صلاتُهُ لأنَّ العلمَ بفرضِيَّتِهَا شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا. وأما من عاش بينَ المسلمين إذا أنكر فرضية الصلوات الخمس أو وا2حدةٍ منها أو شك فى ذلك فإنه يكفر.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ لا يعتقدَ فَرْضًا مِنْ فروضِهَا سُنَّة.

الشرح: يُشترطُ لصحةِ الصلاة أنْ لا يعتقدَ فى قلبِهِ أن ركناً من أركانِهَا هو سنة. فلو اعتقد أنَّ فرضاً من فروضها سُـنَّة لم تصحَ صلاتُهُ ولو فعله ، وذلك كأن يعتقدَ أن التشهد الأخير سنةٌ وليس فرضاً ، فإنَّ صلاتَهُ لا تصحُّ ولو قَرَأَهُ فى الصلاة.

قال المؤلف رحمه الله: والسَّتْرُ بما يستُرُ لَونَ البَشَرَةِ لجميعِ بَدَنِ الحُرَّةِ إلاَّ الوجْهَ والكَفَّين.

الشرح: أنَّ سترَ العورةِ شرطٌ من شروطِ صحةِ الصلاة. والعورةُ فِى حَقِّ المرأَةِ الحرَّة كلُّ بدَنِهَا إلا الوجهَ والكفين. فلا بُدَّ عند الصلاة من أن تستُرَ كلَّ العورة بشىءٍ يَسْتُرُ اللون ولو كان يُظهِرُ الحَجْمَ ، فلو صلَّت ساترةً بما يَسْتُرُ اللون لكن يُحَجّمُ العورةَ فصلاتُها صحيحةٌ مع الكراهة.

قال المؤلف رحمه الله: وبما يستُرُ ما بينَ السُّرَةِ والركبةِ للذَّكَرِ والأَمَةِ مِنْ كُلِّ الجوانِبِ لا الأَسْفَلِ.

الشرح: أنَّ عورةَ الرَّجُل ما بين سُرَّتِهِ ورُكْبَتِهِ ، فلا بد من سترِ ذلك فى الصلاة. والسُّرَّةُ والركبةُ نفسُهما ليستا عورة ، إنما العورةُ ما بينَهُمَا. وعورةُ الأمةِ فى الصلاةِ مثلُ عورةِ الرَّجُل ، يعنى إذا صلَّت الأَمَةُ ساترةً فقط ما بين سرَّتِهَا وركبَتِهَا فصلاتُهَا صحيحة. وليس معنى ذلك أنها تَخْرُجُ كذلك فى الطريق بين الناس ، بل لعورتها أمام الأجانب تفصيل يطلب فى غير هذا المختصر. ولا بُدَّ فى ساتر العورةِ بالنسبةِ للمرأة والرجلِ والأمةِ أن يسترَ من كُلِّ الجوانبِ ، لا من أسفل ، يعنى لو كان الساتِرُ يَسْـتُرُ من كل الجوانب لكن بحيث لو أن إنساناً نَظَرَ من تحتَ يرى العورة فإن هذا لا يؤثر على صحة الصلاة بل الصلاةُ صحيحة. مثلُ رَجُلٍ وَضَعَ إزاراً سَتَرَ به ما بين السُّرَّةِ والركبة من كل الجوانب ، لكن لو نظر إنسان من تحتُ كان يرى فَخِذَهُ فصلاتُه فى هذا الإزار صحيحة.

مُبطِلاتِ الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: وَتَبْطُلُ الصلاةُ بالكلامِ ولو بحَرْفَينِ أو بحرْفٍ مُفْهِمٍ إلاّ إِنْ نَسِىَ وَقَلّ.

الشرح: أن هذا الفصلَ معقودٌ لبيانِ مُبطِلاتِ الصلاة. ومن مبطلاتِ الصلاةِ كلامُ الناس أى أن يتكلمَ المُصَلّى بكلام الناس ، يعنى بغير الذِكْر ، لأن الذكْرَ لا يُبْطِلُ الصلاة. فمن تَكَلَّم عمداً فى الصلاةِ بحرفين اثنين – ولو كان ليس لهما معنى – أو تكلَّم عمداً بحرف واحد لكن له معنى مثل:[ فِ ] ومعناه الأمرُ بالوفاء – وهو ذاكر أنه فى الصلاة بطلَت صلاتُهُ. هذا إذا كان يَعْرِف أن هذا الأمرَ حَرَام ، أما إذا كان قريبَ عَهْدٍ بإِسلام فلم يعرف بَعْدُ أن كلام الناس لا يجوز فى الصلاة فتكلم لا تفسُدُ صلاتُه.

قال المؤلف رحمه الله: وبالفعلِ الكثيرِ وهوَ عندَ بعضِ الفقهاءِ ما يَسَعُ قَدْرَ ركعةٍ من الزمَنِ. وقِيلَ ثلاثُ حَركاتٍ مُتوالياتٍ ، والأولُ أَقْوَى دليلاً.

الشرح: أن الإتيان بأفعال كثيرة فى الصلاة هو من مفسداتِ الصلاة ، يعنى إن كانت من غيرِ أفعالِ الصلاة. قال بعضُ الفقهاء: إذا تَحَرَّك ثلاثَ حركاتٍ متواليات يكفى ذلك لإبطال صلاتِهِ. وكذا إنْ حَرَّكَ ثلاثةَ أعضاء دفعةً واحدة فإن هذا يُبْطِلُ الصلاة. وقال ءاخرون إذا تَحَرَّك حركاتٍ لو جُمِعَتْ مُدَدُها لكانت تساوى ركعةً فى الصلاة عند ذلك تبطُلُ صلاتُهُ ، وهذا القول أقوى من الأول من حيثُ الدليلُ.

قال المؤلف رحمه الله: وبالحركةِ المُفْرِطَةِ.

الشرح: أنَّ الإنسان إذا تحرَّك حركةً واحدة لكن كانت الحركة مفرطة ، كأن قفز قفزةً فاحشةً وهو فى الصلاة ، أو وَكَزَ إنساناً وكزاً عنيفاً فإنَّ صلاتَه تبطل عند ذلك. أما الوثبةُ الخفيفَةُ فلا تؤثر.

قال المؤلف رحمه الله: وبزيادَةِ رُكْنٍ فِعْلىٍّ.

الشرح: أنه إذا زاد المصلى رُكناً فعلياً عمداً فسدت صلاتُه. فلو كان يصلّى فقرأ الفاتحة ثم ركع ثم اعتدل ثم ركع ثانية ذاكراً فسدت صلاتُه.

قال المؤلف رحمه الله: وبالحركةِ الواحدةِ لِلَّعِبِ.

الشرح: أن الإنسان إذا تحرك وهو فى الصلاة حركةً خفيفةً بنية اللعب فسدت صلاتُه ، وذلك لأن نيةَ اللعب تنافِى نيةَ الصلاة.

قال المؤلف رحمه الله: وبالأكلِ والشُربِ إلا إِنْ نَسِىَ وَقَلَّ.

الشرح: أن الشخص إذا أكل أو شرب فى أثناء الصلاة وهو ذاكر للصلاة فسدت صلاتُه ، حتى لو كان ما أَكَلَهُ أو شربَهُ قليلاً جداً ، كأن بَلَعَ عمداً الطعامَ العَالِقَ بين الأسنان فإن هذا يُبطلُ صلاتَه.

قال المؤلف رحمه الله: وبنيةِ قطعِ الصلاةِ.

الشرح: أن من قال فى قلبه أنا الآن قطعتُ صلاتى انقطَعَت فى الحال.

قال المؤلف رحمه الله: وبتعليقِ قطْعِهَا علَى شىءٍ ، وبالتَّرَدُدِ فيه.

الشرح: أن الشخصَ إذا نوى أن يقطعَ صلاتَه إذا حصل أمرٌ ما انقطعت صلاته فى الحال. مثلاً نوى فى قلبه أنه إذا دُقَّ الباب وهو يصلى سيقْطَعُ صلاتَهُ فإنها تنقطع فى الحال. وكذلك لو تَرَدَّدَ مثلاً فيما إذا دَخَلَ البيتَ سارقٌ وهو يُصلّى هل يقطع صلاته أم لا يَقطعُهَا فإنها تنقطع حالاً.

قال المؤلف رحمه الله: وبأنْ يمضِىَ ركنٌ معَ الشكِّ فِى نيةِ التحَرُّمِ أَو يَطولَ زمنُ الشكِّ.

الشرح: أنَّ من شك فى أثناء الصلاة فى نيةِ التحَرُّم فقال فى قلبه هل نويت أو لم أنوِ؟! ، ثم استمر هذا الشكُّ مدةَ ركنٍ كامل ، مدةَ قراءةِ الفاتحة مثلاً ، فإنَّ صلاتَهُ تبطُل ، أو أنهى الفاتحة ثم رَكَعَ وهو شاكٌّ فإنَّ صلاتَهُ تبطُلُ. أما إذا شك ثم زال هذا الشكُّ سريعاً فإن صلاتَه لا تبطل عند ذلك. وكذلك لو طال زمن الشك فى غير ركنٍ تبطل الصلاة ، فلو كان مثلاً يقرأُ من القرءان بعد أن أنهى قراءة الفاتحة وقبل أن يركع ، هذه القراءة سنة وليست ركناً من أركان الصلاة. لكن لو طال زمنُ الشك فى خلالها تبطل صلاتُهُ.

شروط قَبُولِ الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: وَشُرِطَ مَعَ ما مرَّ لقبُولِهَا عند الله سبحانَه وتعالى أَنْ يقصِدَ بها وجهَ اللهِ وَحْدَهُ.

الشرح: أن هذا الفصلَ متعلقٌ بشروط قَبُولِ الصلاة. فما تكلمنا عنه قَبْلُ شروطٌ لصحتها أى حتى تكون صحيحة ، أما هذا الفصل فهو متعلقٌ بالشروط التى لا بد من توفُّرِهَا حتى تكون الصلاة مقبولة عند الله تعالى أى حتى يكونَ للمصلّى ثوابٌ فى صلاته. من هذه الشروط أن يكون مخلصاً فى نيته يعنى أن يقصِدَ بصلاتِه وجهَ اللهِ عزَّ وجَلّ ، كأن يستحضر فى قلبه أنه يؤدِى هذه الصلاة طاعةً لله ، أو أَنَّه يُؤَدِى هذه الصلاة طلباً للثوابِ مِنَ الله ، أما إذا كان يؤدى الصلاة رياءً فإن صلاتَه تَصِحُّ لكن مع الإثم الكبير. فإن صلى من غير رياء و من غير أن يستحضرَ فى قلبه أنه يصلّـِى لله تعالَى فإنه يخرجُ من صلاتِه بلا ثواب وإن كان ليس عليه إثم.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ يكونَ مأكَلُهُ وملبُوسُهُ ومُصَلاَّهُ حَلاَلاً.

الشرح: أن اللباسَ الذى يلبَسُه الشخصُ فى حال الصلاة والطعامَ الذى يكون فى بطنه فى حال الصلاة والمكانَ الذى يؤدِى فيه الصلاة لا بد أن يكون كلُّ ذلك حلالاً حتى يكونَ له ثواب فى صلاتِه ، فإنْ كان شىءٌ منها حراماً صحت صلاتُه لكن من غير ثواب.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يَخْشَعَ للهِ قَلبُهُ فيها ولو لحظةً فإنْ لمْ يَحْصُلْ ذلك صحتْ صلاتُهُ بِلاَ ثوابٍ.

الشرح: أنه لا بد أن يستحضرَ فى قلبه ولو للحظةٍ استشعارَ الخوفِ من الله عز وجل فى أثناء الصلاة ليكونَ له ثواب فى صلاته ، أى لا بُدَّ أن يستَشْعِرَ فى قلبه الإجلالَ والخشوع لله عزَّ وجلّ ولو لحظةً حتى يكون له ثواب ، وكلما زادَ خشوعُهُ زاد ثوابُهُ. مرةً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فِى حُجْرَةِ السيدَة عائشة أى فى نَوْبَتها فقال لها:[ يا عائشةُ ذَرِينِى أَتَعَبَّدُ رَبِى.] أى اترُكينىِ أصلّى لربِى. ثم أخذ ماءً فتوضأ منه ثم قام يُصَلّـِى ، فصار يبكى حتى ابتلت لحيتُهُ صلى الله عليه وسلم وابتَلَّ التراب الذى قربَهُ من كَثْرَةِ دموعِهِ. هذا خُشُوعٌ بالغٌ وليسَ هو خوفَ خُسْرَانٍ فى الآخرة لأن الأنبياء لا يخافونَ سوءَ الخاتِمَة. إنما هذا استشعارٌ فى القلب بالإجلال لله عزّ وجلّ أى بشدةِ تعظيِمِ الله عزّ وجلّ.

أركانُ الصَّلاَةِ

قال المؤلف رحمه الله: أركانُ الصَّلاَةِ سبعةَ عشرَ.

الشرح: أنَّ أركانَ الصلاةِ أو – بتعبِيرٍ ءاخر – فرائضَ الصلاةِ أى أجزاءَ الصلاةِ التى لا تصحُ الصلاةُ إن تُرِكَ واحدٌ منها هى سبعةَ عَشرَ رُكْـنَاً أى إذا عُدَّت الطمأنينةُ فى كل محلٍ من مَحَالّـِهَا رُكناً مستقلاً.

قال المؤلف رحمه الله:
الأول: النيةُ بالقلبِ للفعلِ وَيُعَيّـِنُ ذاتَ السبَبِ والوقتِ وينوِى الفرضيةَ فِى الفرضِ.

الشرح: أن النيةَ هى الركنُ الأول مِنْ أركان الصلاة ، ومحلُّهَا القلبُ. فلا يكفِى التلفُّظُ بها باللسان قبلَ الدخولِ فِى الصلاة إن لم يستحضرْها الشخصُ بقلبهِ فِى ابتداءِ صلاتِهِ. ووقتُ النية هو تكبيرةُ الإحرام ، أى لا بد أن يَستحضر فى قلبه النيةَ بينما هو يقولُ بلسانِهِ الله أكبر. ولا بد فى النيةِ منْ أن يَقْصِدَ بقلبه فعلَ الصلاة. ثم إن كانت الصلاةُ فرضاً لا بدَّ أن ينوِىَ الفرضيةَ ، وإنْ كان لَهَا وقتٌ مُعَيَّنٌ لا بد أن يُعَينَهَا. فالظهر مثلاً لها وقت مُعَـيَّن فلا بد أن يستحضرَ فى قلبه عند النيةِ أنه يُؤَدّى صلاةَ الظهرِ بخصُوصِهَا ، لأن لها وقتاً معيناً. وإن كان للصلاةِ سبب مُعَيَّنٌ لا بد أن يُعَينَهَا أيضاً ، كصلاةِ الكسوف أى كسوف الشمس ، فلا بد أن يعين فى النيةِ أنه يصلى صلاةَ الكسوفِ ، لأن لها سبباً معيناً. فإذا أراد أن يصلِىَ فرضَ الصبح مثلاً فالنيةُ المجزِئَةُ عندئذٍ تكون أن يقولَ بقلبه أُصلِى فرضَ الصبح أو أُصَلّى الصبحَ المفروضةَ أو نحو ذلك ، وإذا كان يريد أن يُصَلّـِىَ صلاةَ العيد التى لها سبب يقول أُصلِى صلاةَ العيد ، وإذا أراد أن يصلّىَ نَفْلاً مُطْلقَاً ليس مُخْتَصاً بسبب معين ولا بوقت معين يَكفِى أن يقولَ بقلبه أُصَلّـِى.

قال المؤلف رحمه الله:
الثانى: أن يَقُولَ بحيثُ يُسْمِعُ نفسَهُ كَكُلِّ رُكْنٍ قولِىٍّ: اللهُ أكبرُ.

الشرح: أن الركنَ الثانِىَ من أركان الصلاة هو تكبيرةُ الإحرام أى التكبيرة التى يُحْرِم بها بالصلاة أى بها يدخل فى الصلاة وهى أولى تكبيراتها.ولا بد فى هذه التكبيرة من أن يُسمِعَ نفسَهُ. وهذا – يعنى أن يُسْمِعَ نفسه – لا بد منه أيضاً فى كُلِّ ركن قولىّ.

قال المؤلف رحمه الله: الثالث: القيامُ فى الفرضِ للقادر.

الشرح: أنَّ مِنْ أركانِ الصلاةِ أن يقومَ فيها إن كان قادراً على القيام ، وذلك بأن يَعْتَمِدَ على قدميه ناصباً لِفَقَارِ ظهْرِهِ. فإن عَجَزَ عن القيام صلَّى قاعداً ، فإن عَجَزَ عن الجلوس صلَّى مضطجعاً على جَنْبِهِ الأيمن أو الأيسر وصدرُهُ إلى القبلة ، لكن الاضطجاع على جنبه الأيمن أفضل. فإن عجز عن ذلك صلَّى مُستلقياً على ظهرِه مَادّاً قدَمَيهِ إلى القبلة ، مع وضعِ شىءٍ تحتَ رأسِهِ ليكونَ وجهُهُ إلى القبلة ( لا إلى السماء ) إنْ قَدَر.

قال المؤلف رحمه الله:
الرابعُ: قراءَةُ الفاتِحَةِ بالبَسْمَلَةِ والتشدِيداتِ ، ويشترطُ مُوالاتُهَا ، وترتيبُهَا ، وإخراجُ الحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا.

الشرح: أنه لا بد أن يأتى المصلى بالتشديدات التى فى الفاتحة ، وأن يوالىَ بين ءاياتها يعنى أن يقرأ الآية بعد الأخرى من غير فاصل بينهما. ولا بد من ترتيبِ الآيات بحيثُ لا يُقَدّمُ ءايةً على التى قبلَها. ولا بد – أى لصحة الصلاة – من أن يُخْرِجَ الحروفَ من مخارِجِهَا صحيحةً ، ويكفى فى ذلك أن يُخْرِجَ أصولَ الحروفِ صحيحةً ولو لَمْ يأتِ بكمالِ لفظِ الحرف. أما إن أَهْمَلَ ذلك فلا تَصِحُّ قراءَتُهُ للفاتحة ، كالذين يَقْرَءُون الفاتحة فيلفظُون الطاء تاءً ، أو الذال زاياً ، فهؤلاء لا تصحُ قراءَتُهُم ، وبالتالى لا تصحُ صلاتُهُم. ومثلُهم الذين يأتون بالصاد بينَها وبين السين لا هى صاد خالصة ولا هى سين خالصة لا تصح صلاتُهُم.

قال المؤلف رحمه الله: وعَدَمُ اللحنِ المُخِلِّ بالمعنِى كضَمِّ تاءِ [ أَنْعَمتَ]. ويَحْرُمُ اللحنُ الذِى لَمْ يُخِلَّ ولا يُبْطِلُ.

الشرح: أنه حرامٌ أن يَلْحَنَ الإنسانُ فى قراءةِ الفاتحة ، ولو كان بسببِ تقصِيرِهِ فى التعلُّم فإنّ هذا ليس عذراً. فإن لَحَنَ لَحْنَاً يُخِلُّ بالمعنى مثلَ ضَمِّ تاءِ أنعمتَ تبطل صلاته لأنه يغير المعنى فتبطُلُ صلاتُه ولو كان يَجْهَل أَنَّ الصوابَ هو غيرُ ما قَرَأَهُ ، إلا إن خَرَجَت منه الكلمةُ سَبْقَ لِسَان فيُعِيدُهَا على الصواب. أما اللحنُ الذى لا يخلُ بالمعنى مثل ما لو قال:[ الحمد للهُ ] بضم الهاء من لفظ الجلالة فإنه إذا كان يظن أنَّ هذا هو الصوابُ لا تَفْسُدُ صلاتُه. أما إذا كان يَعْرِف أن الصوابَ هو غيرُ ما يقول ونَطَقَ بالكلمةِ عمداً على الوجه الغَلَطِ فتفسُدُ صلاتُهُ لِتَلاعُبِهِ.

قال المؤلف رحمه الله: الخامس: الركوعُ بأنْ يَنْحَنِىَ بِحَيْثُ تَنَالُ رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيهِ.

الشرح: أن الركن الخامس من أركان الصلاة أن ينحنِىَ إلى حد أنه لو أرادَ أن يضع الراحتان على الركبتين يستطيع – أى من غير انخناس – ولا يُشتَرَط وضع الراحتين على الركبتين ، لكنه سُّنَّةٌ. وكذلك ليس شرطاً أن يقول [ سبحان ربّـِىَ العظيم ] لكنه سُنَّةٌ.

قال المؤلف رحمه الله: السادس: الطمأنيةُ فيه بِقَدْرِ [ سبحانَ اللهِ ] وهِىَ سُكُونُ كُلِّ عَظْمٍ مَكَانَهُ دَفْعَةً واحدةً.

الشرح: أن الركن السادسَ من أركانِ الصلاةِ الطمأنينةُ ، أى أن تَسْكُنَ كل أعضائِهِ دَفعةً واحدة بقدرِ [ سبحان الله ] على الأقل.

قال المؤلف رحمه الله: السابع: الاعتدالُ بأنْ يَنْتَصِبَ بعدَ الرُّكُوعِ قَائِمًا.

الشرح: أن معنى الاعتدال أن يَرْجِعَ الراكِعُ إلى ما كان عليه قبلَ الرُّكوع. ولا يُشتَرَطُ فى هذا الاعتدالِ أن يقولَ [ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَه ربَّنَا وَلَكَ الحمد.] لكنه سُنَّة. ولا بد أن يَطْمَئِنَّ فِى الاعتدالِ بقدرِ [ سبحانَ اللهِ ] أيضاً ، وهذا ثامِنُ الأركان كما قال المؤلف رحمه الله:
قال المؤلف رحمه الله: الثامِنُ: الطمأنينةُ فيه.

قال رحمه الله: التاسِعُ: السجودُ مرتينِ بأنِ يَضَعَ جبهَتَهَ كُلَّهَا أَوْ بعضَهَا على مُصَلاَّهُ مكشوفَةً ومُتَثَاقِلاً بها ومُنَكّـِسًا أَى يَجْعَلُ أَسَافِلَهُ أَعْلَى مِنْ أَعَالِيهِ ، وَيَضَعَ شيئاً مِنْ رُكْبَتَيهِ وَمِنْ بُطُونِ أَصَابِعِ رِجْلَيهِ.

الشرح: أن الركن التاسع من أركانِ الصلاة السجود ، وهو مرتانِ فىكُلِّ رَكعة. ولصحةِ السجود لا بد من أن تُبَاشِرَ الجبهَةُ المُصَلَّى – أى مكانَ السجود – من غير حائل بينَهُمَا ، فلو كان الشَعَرُ يَحُولُ بين الجبهةِ وبين المُصَلَّى لَمْ يصحَّ السجودُ. ولا بد أن يكون الشخصُ متثاقلاً برأسِه عند السجود أى تاركاً ثِقَلَ رأسِهِ يَقَعُ على المُصَلَّى. ولا بد أن يكون مُنَكّـِسًا أى أن تكونَ أسافِلُهُ أَعْلَى مِنْ أعاليه. وقال بعضُ الشافعيةِ يصحُ لو استوت الأسافلُ والأعَالِى. ولا بد أن يَضَعَ شيئاً من رُكبتيه وشيئاً من باطن كَفَّيهِ وشيئاً من باطِنِ أصابِعِ قدميه على مصلاه.

قال المؤلف رحمه الله: وقال بعضُ العلماءُ خارجَ المذهبِ: ليسَ شَرطاً فِى السجودِ التَنْكِيسُ ، فلو كان رأسُهُ أَعْلَى مِنْ دُبُرِهِ صَحَّتِ الصَّلاَةُ عِنْدَهُم.

الشرح: أن هذا مذهبُ الإمام أحمد رضى الله عنه. يعنى طالما لم يَخْرُج ذلك عن صفة السجود.

قال المؤلف رحمه الله: العاشرُ: الطمأنينةُ فيه.

الشرح: أن الطمأنينة فى السجود ركن وقد مرَّ شرحها فيما قبل.

قال المؤلف رحمه الله: الحادِى عَشَرَ: الجلوسُ بين السجدتينِ.

الشرح: أن من ترك الجلوسَ بين السجدتين عَمداً لم تصحَّ صلاتُهُ ، ولا بد أن يَطْمَئِنَّ فى هذا الجلوسِ بقدْرِ [ سبحانَ الله ] كما قال المؤلف رحمه الله:

قال المؤلف رحمه الله: الثانِى عَشَرَ: الطمأنينةُ فيه.

قال رحمه الله: الثالثَ عَشَرَ: الجلوسُ للتشهُّدِ الأخيرِ وما بعدَهُ مِنَ الصلاةِ على النبىّ والسّلامِ.

الشرح: أن التشهدَ الأخير لا يُجْزِئُ إلا إذا قاله الشخص وهو جالس. إذاً مِنْ أركان الصلاة أن يجلِسَ لِيَتَشَهَّد التشهد الأخير. وكذلك أَمْرُ الصلاةِ على النبىّ بعد التشهُّد والسلامِ.

قال المؤلف رحمه الله: الرابعَ عَشَرَ: التشهدُ الأخيرُ فيقولُ: التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ للهِ ، السلامُ عليكَ أيُّها النبىُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ السلامُ علينا وعَلَى عبادِ اللهِ الصالحينَ. أشهدُ أَنْ لا إلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وأَشهدُ أَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ ، أو أَقَلَّه وهُوَ: التحيّاتُ للهِ ، سَلامٌ عليكَ أيُّهَا النبىُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ ، سَلامٌ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحينَ ، أشهدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.

الشرح: أن الركن الرابع عشر من أركان الصلاة قراءةُ التشهدِ الأخير فى الجلوس الأخير. وقد ثبت عن رسول الله عدةُ صِيَغٍ للتشهد ذُكر بعضها فى المتن ، وكل واحدةٍ منها تُجْزِئُ فى الصلاة.

قال المؤلف رحمه الله: الخامسَ عشرَ: الصلاةُ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم وأَقَلُّهَا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد.

الشرح: أنّ الصلاةَ على النبىِّ بعد التشهدِ ركنٌ من أركانِ الصلاةِ فى مذهبِ الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. والعبارةُ التى ذكرها المؤلف أى [ اللَّهمَّ صلّ على محمد ] هى مِثَالٌ عن الصلاةِ المُجْزِئَةِ. فلو قال:[ صلَّى الله على محمّد ] أجزأ ، أو قال:[ صلَّى اللهُ على رسولِ الله ] أو قال:[ صلَّى اللهُ على النبىّ ] أجزأ ذلك. أما إذا قال:[ صلَّى الله على أحمد ] فلا يُجْزِئ.

قال المؤلف رحمه الله: السادِسَ عشرَ: السلام وأَقَلُّه: السلامُ عليكم.

الشرح: أنه لا بد أن ينتبهَ الإنسانُ إلى الإتيانِ بـ (أَل) فى [ السلام ] فلا يقول مثلاً [ سَلامُ عليكم ] بل لا بد أن يقول:[ السلام عليكم.] والفرضُ هو التسليمةُ الأولى ، أما الثانيةُ فسُنَّة. ولا يُشتَرَطُ أن يقولَ:[ ورحمةُ الله ] لكن لو قَالَهَا يكونُ أحسن.

قال المؤلف رحمه الله: السابِعَ عشرَ: الترتيبُ.

الشرح: أنه لا بد أن يأتِىَ بأركان الصلاة على الترتيبِ المذكورِ فى تَعْدَادِهَا. يقفُ قائماً إن قَدَرَ ويُكَبّر وهو قائِم وفى خلال التكبير ينوى ثم يقرأُ الفاتحة ثم يَركع ويطمئنُ فى الركوع ثم يعتدل مع الطمأنينة ثم يسجُدُ مرتين مع الطمأنينة ويَجْلِسُ بين السجدتينِ مع الطمأنينة كذلك ، ثم فى الركعةِ الأخيرة بعد السجدةِ الثانية يقعُدُ ، ثم يقرأ فى ذلك الجلوسِ التشهدَ ثم يُصَلّـِى على النبىّ ثم يُسَلّـِمُ.

قال المؤلف رحمه الله: فإن تَعَمَّد تَرْكَهُ كأنْ سَجَدَ قبلَ ركوعِهِ بَطَلَتْ.

الشرح: أنه إذا تعمد الشخصُ تركَ الترتيب كأن قَدَّمَ السلامَ على محلّـِهِ عمداً ، أو قدَّمَ ركناً فعلياً على ركنٍ فعلىٍّ قبْلَهُ فسَجَدَ قبلَ أن يركَع مثلاً وهو عامد لذلك تفسُدُ صلاتُهُ لأنه مُتلاعب.

قال المؤلف رحمه الله: وإن سَهَا فليَعُدْ إليهِ إلاَّ أنْ يكونَ فى مثلِهِ أو بعدَهَ فَتَتمُّ بهِ رَكْعَتُهُ وَلَغَا مَا سَهَا بهِ. فلو لَمْ يَذْكُرْ تَرْكَهُ للركوعِ إلا بعدَ أنْ رَكَعَ فى القيامِ الذِى بعدَه أو فى السجودِ الذِى بعدَه لَغَا ما فَعَلَهُ بينَ ذلِكَ.

الشرح: أن مَنْ سها فَتَرك الترتيب ماذا يَفعل؟ هذه المسئلة لها حالانِ. إنْ تَذَكَّر قبل أن يصلَ إلى ركن هو مثلُ الركن الذى ترَكَهُ يرجِعُ إلى الركن المتروك فيؤَدِيه. مثالُ ذلك إذا أنهى الفاتحة ثم نَسِىَ أن يركع فنـزل فوراً إلى السجود ، ثم فى السجدةِ الثانية تذكّر أنه لم يركع ، هنا يقف فوراً ثم يركع ويَعْتَبِرُ أنه الآن يُكْمِلُ الرَكعة. يعنى يَعتَدِلُ بعدَ ذلك ثم يسجدُ سجدةً ثم يجلس ثم يسجد سجدةً ثانية ثم يقوم إلى الركعةِ التى بعدَها أو يجلِس للتشهد. أما إذا لَمْ يَذْكُر أنه ترك الركوع حتى وصلَ إلى الركوع فى الركعة التالية يعنى فى الركعةِ الأولى قرأَ الفاتحة ثم نَسِىَ أن يركع فسجَدَ ثم جلَسَ ثم سَجد ثم قام فقرأ الفاتحة ثم رَكَع ثم تذكَّر وهو راكع أنه تركَ الركوع فى الركعةِ السابقة فإنه يعتبر نفسَه أنه يُكْمِلُ الآن الركعةَ الأولى وأنَّ كلَّ ما فَعَلَه بعدَ الركنِ الذى نَسِيَهُ إلى عند هذا الركوع كأنه ما كان. والحكم هو نفسُهُ لو تَذَكَّرَ بعدَ الركوع من الركعةِ الثانية. مثال ذلك إذا نَسِىَ الركوع فى الركعة الأولى ثم تذكّر فى الركعةِ الرابعة وهو ساجد أنه نَسِىَ الركوع فى الأولى ، فإنه يعتبرُ أن هذه هى الثالثة ثم يأتى بركعة بعدَها حتى تَتِمَّ صلاتُه.

الجماعة والجُمُعَة

قال المؤلف رحمه الله:الجماعةُ على الذكورِ الأحرارِ المقيمينَ البالغينَ غيرِ المعذورينَ فرضُ كفايةٍ.

الشرح: أن الجماعةَ فى الصلواتِ الخمس فرضُ كفايةٍ ، وفى صلاةِ الجُمُعَةِ هى فرضُ عين. وقد جعل الله عزّ وجلّ فى صلاةِ الجماعةِ ثواباً عظيماً ، ويكفى فى ذلك حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ صَلَّى العشاءَ فِى جماعة كان كمَن قامَ نِصْفَ الليل ومَنْ صلَّى الصُبْحَ فى جماعة فكأنما صلى الليل كله.] رواه مسلم. وقوله عليه الصلاة والسلام:[ صلاةُ الجماعةِ تَعْدِلُ صلاةَ الفَذِّ بخمسٍ وعشرينَ درجة.] رواه البخارى. وإنما تكون الجماعةُ فرضَ كفايةٍ فى الصلوات الخمسِ على الذكورِ الأحرارِ المقيمينَ البالغينَ غيرِ المعذورين. وبقولنا الذكور أخرجنا الإناث فلا تُفترَضُ الجماعةُ فى حَقّـِهِنَّ. وبقولِنا الأحرارَ أَخرجنا العبيد فلا تُفْتَرَضُ فى حقهم. وبالمقيمينَ أَخْرَجْنَا المسافرين ، فلا تُفترضُ الجماعةُ على المسافرِ. وبالبالغينَ أخرجنا الصغارَ غيرَ البالغين فلا تفترض فى حقهم ، لكن على ولىِّ الصبىِّ المميزِ أنْ يأمرَهُ بالجمعة والجماعة – يعنى بعد سبع -. وبغير المعذورينَ أخرجنا المعذور بعذرٍ يُسْقِطُ عنه الجمعةَ أو الجماعة ، كالخوفِ من العدوِ بذهابِه إلى موضعِ الجماعة ، أو خوفِ ضياعِ مالِهِ بذهابِهِ إلى هناك أو نحوِ ذلك. ولم يذكرِ المؤلفُ [ العاقلَ ] فى المتنِ لظهورِ أمرِهِ ، فغيرُ العاقلِ لا تُفْتَرَضُ الجماعة فى حقه.

قال المؤلف رحمه الله: وفِى الجمعةِ فرضُ عينٍ عليهم إذا كانوا أربعينَ مكلَّفينَ مستوطِنينَ فى أبنيةٍ لا فى الخيامِ لأنها لا تجبُ على أهلِ الخيام.

الشرح: أنَّ الجمعةَ فرضُ عينٍ على الذِين ذكرناهم ( يعنِى الذكور الأحرار البالغين المقيمين غير المعذورين ) إذا كانوا أربعينَ ، فإن كانوا أقلَّ من ذلك لا تجبُ عليهم الجمعة ، بل لا تصحُ منهم لو صَلَّوْهَا ، وإنما يُصَلُّونَ الظهرَ فى هذه الحال. فإن اجتمعَ أربعونَ من هؤلاء وكانوا مستوطنينَ فى المكانِ الذى تقام فيه الجمعة أى مستوطنين فى خِطَّةِ أبنيةٍ لا فى الخيام فإنها عند ذلك تكون فرضَ عينٍ عليهم. أما أهلُ الخيامِ فلا تجبُ عليهِمُ الجمعةُ.

قال المؤلف رحمه الله: وتجبُ على مَنْ نَوَى الإقامةَ عندهم أربعةَ أيامٍ صِحَاحٍ أَى غيرَ يَومَىِ الدخولِ والخروجِ.

الشرح: أنَّ مَنْ كان غيرَ مستوطنٍ فى بلدِ الجمعة لكن دَخَلَ البلدَ ونَوَى أنْ يمكُثَ فيها أربعةَ أيامٍ أو أكثر غيرَ يَوْمَىِ الدخولِ والخروجِ ، يجبُ أَنْ يُصَلّـِىَ مع أهل البلد الجمعة. فإنه وإن كان حضُورُه لا يؤثر فى أمر انعقادها ، لكن إذا انعقدت وجب عليه حضورها. وينتهى يوم الخروج بغروب الشمس.
فلو دَخَل إنسانٌ بلداً ما بعد فجر الاثنين يَستَمِرُّ يومُ الدخول إلى فَجْرِ الثلاثاء ، ثم إذا نوى أن يمكثَ فى هذه البلد الثلاثاء والأربعاء والخميسَ والجمعة ثم يخرجَ السبت وجبَ عليه أن يصلّـِىَ معهم يومَ الجمعة. وهذا يَشْمَلُ فيما لو نوى أن يخرُجَ بعدَ غروبِ شمسِ الجمعة أى فى الليل. أما لو نوى أن يتركَ البلد فى خلال نهارِ الجمعةِ فهنا لا يجبُ عليه أن يصلى معهم الجمعة لأنه دخل الاثنين وهو ينوى الخروج قبل غروب شمس الجمعة فبقِىَ الثلاثاء والأربعاء والخميس وهى أقل من أربعة أيام فيكون له حكم المسافر بذلك.

قال المؤلفُ رَحِمَهُ اللهُ: وَعَـلَى مَنْ بَـلَـغَـهُ نِـدَاءُ صَـيّـتٍ مِنْ طَـرَفٍ يَـلِـيـهِ مِنْ بَـلَـدِهَا.

الشرح: أن الإنسان إذا كان يسكُنُ خارج حدود بُنْيَان البلد ، يعنى بين بيتِهِ وبين بناء البلد هناك انقطاعُ بُنْيـَان ، لكن كان بحيثُ لو وَقَفَ إنسانٌ صَيّـِتٌ على طرفِ البلد الذى يَلِى بيتَهُ وأَذَّنَ يسمعُ هذا الشخصُ النداءَ وهو فى بـيـتِه ، ولو كان لا يُمَـيّز كلَّ كلماتِ النِداء ، لكنه يعرف أن هذا هو الأَذَانُ ، ففى هذه الحال يجبُ عليه أن يصلِىَ الجمعةَ مع أهلِ البلد. ولا يشترطُ لانعقادِ الجمعةِ أن تكونَ فى مسجد.

قال المؤلف رحمه الله: وشَرْطُهَا وقتُ الظُهْرِ.

الشرح: أن المؤلفَ – بعد أن تكلَّمَ على شروطِ الانعقادِ وشروطِ الوجوبِ – شَرَعَ يتكلمُ على شروطِ صحةِ الجمعةِ ، فذكر رحمه الله وقتَ الظهرِ.

فلا يصحُ إقامةُ الجمعةِ قبلَ دخولِ وقتِ الظهرِ ، ولا بعدَ خروجِ وقتِ الظهرِ ، بل إذا فاتَتِ الجمعةُ تُقْضَى ظُهراً ولا تُقْضَى جمعةً.

قال المؤلف رحمه الله: وخُطْبَتَان قَبلَهَا فيه يَسمَعُهُمَا الأربعُونَ.

الشرح: أنه يُشترَطُ أيضاً لصحةِ الجمعة أن تُخْطَبَ خُطْبَتَان قبلَ صلاةِ الجمعةِ. ولا بد أن تكون الخُطبتانِ فى وقتِ الظهرِ ، وأن يَسْمَعَ الأربعونَ الخُطبتين ، أى أن يسمعَ الخطبتين أربعون على الأقل من الذين تنعقدُ بهم الجمعة.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ تُصَلَّى جَمَاعَةً بِهِمْ.
الشرح: أَنَّ صلاةَ الجمعةِ لا تصحُ أن تُصَلَّى فِى غيرِ جَمَاعة ، فلو صلاَّها شخصٌ منفرداً لم تَصِحَّ.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ لا تُقَارِنَهَا أُخْرِى بِبَلَدٍ واحدٍ ، فإِن سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بالتحريمَةِ صَحتِ السابقةُ ولَمْ تَصِحَّ المَسبوقةُ. هذا إِذا كانَ يمكنُهُمُ الاجتماعُ فِى مكانٍ واحدٍ فإن شَقَّ ذلكَ صَحتِ السابقةُ والمسبوقةُ.

الشرح: أن من شروطِ صحةِ الجمعة أن لا تُقارِنَ الجمعةَ جمعةٌ أخرى فى بلدٍ واحد ، أى إن لم يكن عذرٌ لذلك كأن يَشُقَّ اجتماعُ المصلينَ فِى مكانٍ واحد. فإنْ شَقَّ ذلك صحت الجمعتانِ السابقةُ والمسبوقةُ. أما إن لَم يشُقَّ ذلك فأُقِيمَت جمُعتَانِ فى وقتٍ واحد فى بلدٍ واحد لم تَصِحَّ أىٌّ منهُمَا. أى أذا أتَى كُلٌّ مِنَ الإمامين بالرَّاء من تكبيرةِ الإحرام فى وقتٍ واحد ، هنا كلتا الجمعتينِ غيرُ صحيحتين. وكذلك لو جُهِلَت أيتهما السابقةُ وأيتهما المسبوقة لا تصحُّ أىٌّ منهما. أما لو عُلِمَتِ السابقةُ والمسبوقةُ فالسابقةُ هى الصحيحةُ والمسبوقةُ فاسدةٌ. وقال قسمٌ من الشافعيةِ لا تقامُ جمعتانِ فى بلدٍ بأىِّ حالٍ مِنَ الأحوال ( وهو ظاهر نص الشافعىّ ) فعندَهُم حتى لو شقَّ اجتماعُ الناس فى مكانٍ واحدٍ لا تقامُ إلا جمعةٌ واحدةٌ فقط ، فإذا أقيمتْ أكثرُ من جمعة فالسابقةُ هى الصحيحة عندهم والمسبوقةُ فاسدة.

قال المؤلف رحمه الله: وأركانُ الخطبتينِ: حَمْدُ اللهِ ، والصلاةُ على النبىّ ، والوصيةُ بالتقوى فيهِما ، وءَايَةٌ مُفْهِمَةٌ فِى إِحْدَاهُمَا ، والدعاءُ للمؤمنين فى الثانية.

الشرح: أن الخطبتين قبلَ صلاةِ الجمعةِ لا تكونانِ صحيحتينِ إلا بهذه الأركانِ الخمسةِ المذكورة.
الركن الأول:[ حمدُ الله ] فى كلٍّ من الخطبتين ، ولا بُدَّ من الإتيان بلفظِ [ الحمْدِ ] وبلفظِ الجلالَةِ [ الله ] فلا يكفى لو قال:[ الشُكْرُ للهِ ] ولا يكفِى أيضاً لو قال:[ الحمدُ للرحمن ].
والركن الثانى:[ الصلاةُ على النبىّ ] أَى فِى كُلٍّ من الخطبتين ، فيقولُ:[ صلى اللهُ على محمد ] أو:[ الصلاة على محمّد ] أو ما شَابه ذلك ، كأن يقولَ:[ الصلاةُ على النبىِّ].
والركن الثالث:[ الوصيةُ بالتقوَى ] فى كلٍّ من الخطبتين ، وهى المقصود الأعظم من الخطبة ، فلا يكفِى التحذيرُ من الدنيا ، بل لا بد من الأمر بالطاعة والنهِى عن المعصية أو مِنْ أحَدِهِمَا ، ولو قال:[ أَطِيعُوا الله ] كفى. فهذه الأركان الثلاثة تُشترط فى كلٍّ من الخطبتين.
ويشترط كذلك قراءةُ ءايةٍ مُفهِمَةٍ فى إحداهُمَا أى الأولى أو الثانيةِ ، أما إن لم تكن الآيةُ مفهمةً كقولِهِ تعالى:{ ثُمَّ نَظَر.} سورة المدثر / 21. فلا تُجْزِئ.
والركن الخامسُ: الدعاءُ للمؤمنينَ فى الخطبةِ الثانِية ، فإن قال اللهم اغفر للمؤمنين يكون شمل المؤمنات أيضاً فلا يُشْتَرَطُ أن يذكر المؤمنات ، لكنه يُسَنُّ.

قال المؤلف رحمه الله: وشُرُوطُهُمَا: الطهارةُ عن الحدثين.

الشرح: أن المؤلف رحمه الله شَرَعَ يذكُرُ شروطَ صحةِ الخطبتين بعد أنْ ذكَرَ أركانَهُمَا ، فذكر الطهارة عن الحدثين الأكبرِ والأصغرِ ، فلا بد أن يكون الخطيبُ طاهراً عنهما.

قال المؤلف رحمه الله: وعَنِ النجاسةِ فِى البَدَنِ والمكانِ والمحمُولِ.

الشرح: أن الخطيبَ لا بد أن يكون طاهراً عن النجاسةِ غيِر المعفو عنها فى بدنه وفى المكان الذى يقِفُ عليه وفيما يحمِلُهُ. فلو كان على ثوبِهِ نجاسةٌ غيرُ معفوٍ عنها أو يحمِلُ فى جيبه نجاسةً غيرَ معفوٍ عنها أو يقِفُ علَى نَجَاسَةٍ غيرِ معفوٍ عنها فإنَّ خطبَتَهُ لا تَصِحُّ.

قال المؤلف رحمه الله: وَسَتْرُ العَوْرَةِ.

الشرح: أَنَّ الخطيبَ إذا خَطَبَ مَكْشُوفَ العورةِ أو بعضِهَا لا تصِحُّ خُطْـبَـتُـهُ.

قال المؤلف رحمه الله: والقِيَامُ ، والجلوسُ بينهما.

الشرح: أن الخطيب لا بد أن يخطُبَ الجمعةَ وهو قائم فى الخطبتين كِلَيْهِمَا ، إلا إذا كان معذوراً. والأَوْلَى له فى هذه الحال أن يَسْتَخْلِفَ غيرَهُ ، فإن لم يَسْتَخْلِفْ غيرَه وخَطَبَ جالساً صحَّ ذلك للعذر. ولا بدَّ أن يجلِسَ الخطيب بينَ الخطبتين ، فإن لم يفعَل لم تصحَّ الخطبة.

قال المؤلف رحمه الله: والموالاةُ بين أَرْكَانِهِمَا ، وبينهما وبينَ الصلاةِ.

الشرح: أنه لا بُدَّ لصحةِ الخُطبة أن يُوَالِىَ بين أركانِهِما. ومعنى ذلك أن لا يقطَعَ بين أركانِهِمَا بفاصلٍ طويلٍ ليس له تَعَلُّقٌ بالخُطْبَة. فلو بَدَأَ بالخُطْبَةِ فَأَتَى بقِسْمٍ منَ الأركان ثم ذهب إلى دكان بعيد مثلاً فاشترى أغراضاً ثم رَجَع فأكمَلَ الخطبة لم يَصِحَّ ذلك. أما لو بَدَأَ بِحَمْدِ اللهِ وَصَلَّى علَى الرسُول عليه الصلاة والسلام ثمَّ تكلَّمَ فِى تحذير الناس من الركون إلى الدنيا فأطالَ الكلام ثم أوصى بالتقوى فإن الخطبةَ صحيحة لأن هذا الفاصل بين الأركان مُتَعَلّـِقٌ بالخُطْبَة. ولا بُدَّ أَنْ يُوَالِىَ بين الخُطْبتينِ وبين الصلاةِ أى أن لا يفصِلَ بين الخطبتينِ وبين الصلاة بفاصلٍ طويلٍ ليس متعلقاً بِهِمَا.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ تَكُونَا بالعَرَبِيةِ.

الشرح: أنه يُشترطُ لصحةِ الخطبتين أن تكونَ أركانُهما بالعربية ، ولو كان كلُّ الحاضرينَ أعاجِم. ويَحْرُمُ التَشَاغُلُ عن الجمعةِ ببيعٍ ونحوِ ذلك بعد الأَذَانِ الثانِى إِنْ لَمْ يَكُن معذوراً. ومثال العذرِ أن يكونَ هُوَ مسافرًا فيبيع مسافِرًا مثلَه فإنَّه عندَ ذلك لا إثمَ عليه.

صحةِ القُدوة

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ علَى كلِّ مَنْ صَلَّى مُقتدِياً فِى جُمُعَةٍ أو غيرِهَا: أنْ لا يتقدَّمَ علَى إمامِهِ فِى الموقِفِ والإحرامِ ، بل تُبْطِلُ المقارنَةُ فِى الإحرامِ وتُكْرَهُ فِى غيرِهِ إلا التأمينَ.

الشرح: أن هذا الفصلَ معقودٌ لبيانِ صحةِ القُدوة. فمن أراد أن يصلّـِىَ الصلاةَ مقتدياً بغيره ، يعنى فى الجمعةِ أو غيرِها ، فلا بد من أن يراعِىَ شروطَ صحةِ القُدوة. ومنْ هذه الشروط: أن لا يتقدَّمَ على إمامِهِ فى الموقفِ يعنِى أنْ لا يقفَ أمامَ إمامِهِ. والعِبْرَةُ بالتقدُّم على الإمام فى القائِم بِعَقِبِ الـّرِجْل ( مِنْ خَلف ) ، فإذا كان عَقِبُ المأمومِ مُتَقَدِّمًا على عَقِبِ الإمام لا تَصِحُّ صلاتُه. ويشترطُ كذلك أنْ لا يتَقَدَّمَ على إمامه فى الإحرامِ أى أن لا يُحْرِمَ قبلَ إمامه أى أن لا يُكَبّرَ تكبيرة الإحرام قبل إمامِه ، فيجبُ أن ينتظرَ حتى يُنهِىَ الإمامُ كُلَّ تَكْبِيرَةِ الإحرام ثم عند ذلك هو يَبْدَأُ بها. ولو قَارَنَهُ فقط فِى الإحرامِ ولم يتقدم عليه بطلَت صلاتُهُ. أما فى باقِى أجزاءِ الصلاة فلا يَحْرُمُ إذا قارَنَه ذلك ، لكنه يُكْرَهُ إلا فى التأمينِ فإنه يُسَنُّ.

قال المؤلف رحمه الله: ويَحْرُمُ تقدُّمُهُ برُكنٍ فعلىّ.

الشرح: أنه إذا سَبَقَ المأمومُ إمامَه عمداً بركنٍ فعلىٍّ كاملٍ حَرُمَ ذلك وهو من الكبائر. ومثالُ ذلك أن يكون الإمامُ فى قراءةِ الفاتحةِ والمأمومُ خلفَهُ يقرَأُ الفاتحة أيضاً فيُنهِى المأمومُ الفاتحة قبل الإمام ، فينـزِلُ عند ذلك للركوع والإمامُ بعدُ قائم ، ثم يرفع المأمومُ من الركوع ليعتدل والإمامُ بعدُ قائم. هنا يكون المأموم تَقَدَّمَ على إمامه بكلِّ رُكْنِ الركوع فيكون عليه ذَنْبٌ كبير لحديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم :[ أَمَا يَخْشَى الذِى يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ صورَتَهُ صُورَةَ حِمَار.] يعنِى من عُظْمِ ذنبِهِ ، وهذا الحديثُ رواه البخارىُّ ومسلم وأصحابُ السنن الأربعة والبيهقى وغيرهم. أما لو سبق الإمامَ ببعضِ الرُّكْنِ لا بِكُلّـِهِ فلا يَحْرُمُ ، لكنه مكروه.

قال المؤلف رحمه الله: وتَبْطُلُ الصلاةُ بالتَقَدُّمِ على الإمامِ بركنينِ فعلِيينِ متوالييِن طويلينِ أَوْ طويلٍ وقصيرٍ بلا عذرٍ.

الشرح: أنَّ المأمومَ إذا سَبَقَ الإمامَ بركن واحد فعلىّ حرُمَ ذلك لكن لا تَبْطُلُ صلاتُهُ. أما لو سَبَقَهُ بركنين فعليين من غير عذر فإن صلاتَهُ تَبْطُلُ. مثالُ ذلك: أن يكونَ الإمامُ فى قراءةِ الفاتحة فيُنْهِى المأمومُ قراءَتَهَا ثم يركع ثم يعتدل ثم يبدأُ بالهُوِىِّ إلى السجود والإمامُ بعدُ يقرأُ الفاتحة هنا يكونُ سبَقَهُ بركنين فعليين متواليين فتبطل صلاةُ المأموم. والعذرُ الذى لا تَبْطُلُ به الصلاةُ فِى مثلِ هذه الحال كالنسيَانِ ، أى كأن ينسى أنه مُؤْتَمٌّ بهذا الإمام.

قال المؤلف رحمه الله: وكذَا التأَخُّرُ عنه بِهِمَا بِغَيرِ عُذْرٍ.

الشرح: أنه إذا قرَأَ الإمامُ الفاتحة فأنهاها وأنهَى المأمومُ الفاتحةَ ثم ركع الإمامُ ثم رفع فاعتدل ثم هَوَى إلى السجود والمأمومُ بعدُ قائم ما ركع، هنا تأخر عن إمامه بركنين فعليين كاملين من غير عذر فتفسُدُ صلاتُهُ. أما إِنْ تَأَخرَ عن إمامِه بركْنٍ واحدٍ لغيرِ عذرٍ فلا يَحْرُمُ ولا يُبْطِلُ أى ولا تفسد صلاتُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: وبأكثرَ منْ ثلاثَةِ أركانٍ طويلةٍ ولو لعذرٍ. فلو تأخرَ لإتمامِ الفاتحةِ حتى فَرَغَ الإمامُ مِنَ الركوعِ والسجودَيْنِ فَجَلَسَ للتشهدِ أو قامَ ، تَرَكَ إتمامَ الفاتحةِ ووافقَ الإمامَ فيما هوُ فيهِ وأتَى بركعةٍ بعد سلامِ إمامِهِ. وإنْ أتـمَّهَا قبلَ ذلكَ مشَى علَى ترتيبِ نفسِهِ.

الشرح: أنه تَقَدَّمَ بيانُ أنّ تأخُّرَ المأموم عن إمامِهِ بركنين فعليين لعذر يُبْطلُ صلاةَ المأموم ، فماذا يكونُ الحكم لو كان المأمومُ معذوراً؟ ومثال ذلك أن يكون الإمام سريعاً فى قراءةِ الفاتحة والمأمومُ بطِيئاً فى قراءَتِهَا لا يستطيعُ أن يُسْرِع. فإنه إذا تأخر المأمومُ عن الإمام بركنين فعليين لهذا العذر أى حتى يُنْهِىَ قراءةَ الفاتحة لا تَبْطُلُ صلاتُهُ. لكن لو تأخر بأكثرَ من ثلاثةِ أركانٍ طويلةٍ عن الإمامِ فَسَدَت صلاتُهُ ولو كان تأخره لعذر. مثالُ ذلك أَنْ يكونَ الإمامُ أَنْهَى قراءَةَ الفاتحة بسرعةٍ والمأمومُ ما زالَ يقرأُ الفاتحة ، فَرَكَعَ الإمامُ ثم اعتدل ثم سَجَدَ ثم جلَسَ ثم سجَدَ السجودَ الثانى ثم رَفَعَ من السجود الثانى إلى القيام أو إلى الجلوس والمأمومُ بعدُ يقرأُ الفاتحة لم يُنْهِهَا ، فى هذه الحال الإمامُ أنهَى ثلاثةَ أركانٍ طويلة ( الركوعُ ركن طويل أما الاعتدال فقصير ، ثم السجودُ الأول ركنٌ طويل ، أمّا الجلوسُ بين السجدتين فقصير ، ثم السجودُ الثانِى طويل وهو الركن الثالث ). فإذا رفع الإمام رأسَه من السجود الثانى يكون أنهى ثلاثة أركان طويلة والمأمومُ بعدُ يقرأ الفاتحة ما أنهاها ، فى هذه الحال على المأموم أن يترُكَ ترتيبَ نفسِهِ ويَلْحَقَ الإمام فيما هو فيه ، إن جلس الإمام ليتشهد يجلس ، وإن قام ليقرأ الفاتحة يعيدُ المأموم قراءة الفاتحة من الأَوَّل. فإنْ لَمْ يفعَل ذلك بل استمر على قراءَتِهِ للفاتحة بَطَلَت صلاتُهُ لأَنَّ إمامَه سَبَقَه بأكثر من ثلاثةِ أركانٍ طويلة. إنما الذى يفعَلُهُ فى هذه الحال أن يقطعَ ما هو فيه ويَتْبَعَ الإمام فيما هو فيه كما تقدم ثم يأتِى بركعةٍ بعدَ أَنْ يُسَلّـِمَ الإمام.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ يَعْلَمَ بانتقالاتِ إمامِهِ.

الشرح: أنَّ مِنْ شروطِ القدوَةِ أَنْ يعلمَ المأمومُ ولو ظناً بانتقالاتِ إمامِه ، لأنَّ العِلمَ بانتقالاتِ الإمامِ قد يكونُ برؤيةِ الإمام مثلاً وهذا يقينـِىٌّ، وقد يكونُ بتبليغِ مُبَلّـِغٍ عن الإمام وهذا علمٌ ظنىٌّ ليس يقينياً ( لأنَّ المُبَلّـِغَ قد يخطِئ ). أما إذا كان لا يعلمُ بانتقالاتِ إمامه ولو ظناً فلا تصح القدوة.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يَجْتَمِعَا فِى مسجدٍ ، وإلا فَفِى مسافَةِ ثلاثِمِائَةِ ذراعٍ يدويّة.

الشرح: أن من شروط القدوةِ أن يجتمع الإمامُ والمأمومُ فى مكانٍ ما أى أن يُعَدَّا مجتمعين فى مكانٍ واحد. فإن كانا فى مسجدٍ يُعتبرانِ مجتمعَيْنِ مهما بَعُدَت المسافةُ بينهما. وإن كانا خارجَ المسجدِ اشتُرِطَ أن لا تزيدَ المسافةُ بين الإمامِ والمأمومِ على ثلاثِمِائَةِ ذراعٍ يدوية أى إن لم يكن بينهما صفوف. أما إن كان بينهما صفوفٌ متتابعةٌ، الصفُ بعد الآخر ، فمهما امتدتِ المسافةُ بين الإمام والمأموم فالقدوةُ صحيحة طالما لم تزد المسافة بين المأموم والصف الذى أمامه على ثلاثمائة ذراع.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ لا يَحُولَ بينهُمَا حائِلٌ يَمْنَعُ الاستطرَاقَ.

الشرح: أن من شروطِ صحةِ القدوة أَنْ لا يكونَ بين الإمامِ والمأمومِ حائلٌ يمنعُ الاستطراق أى وصولَ المأموم إلى الإمام من غيرِ أن يَنْحَرِفَ عن القِبلَة. وكذلك يُشْتَرَطُ أنْ لا يكونَ بينهُمَا حائِلٌ يمنَعُ رؤيةَ المأمومِ للإمام أو رؤيةَ المأمومِ لمن يرى الإمام أو لمن يرى من يرى الإمام. فلو كان يَحُولُ بينَهُمَا بابٌ مُقْفَل لم تصحَّ القدوةُ لوجود حائِلٍ يمنَعُ الاستطراق. ولو كان يوجدُ بينهما بابٌ مردودٌ كذلك لم تصح القدوة لوجودِ حائلٍ يمنعُ الرؤية. وأما النارُ والبَحْرُ ونحوُهُمَا فلا تُعَدُّ حائِلاً فى العُرْفِ فلا يمنعُ وجودُهَا بينَ الإمامِ والمأمومِ صحةَ القُدْوَة.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ يَتَوَافَقَ نَظْمُ صَلاَتَيْهِمَا فَلاَ تَصِحُّ قُدْوَةُ مُصَلّى الفرضِ خَلفَ مُصَلّـِى صلاةِ الجِنَازَةِ.
الشرح: أن من شَرْطِ صحةِ الجماعة أن يتوافقَ نظمُ صلاةَ الإمام وصلاة المأموم فى الأفعال الظاهرة ، ولو اختلفا فى عَدَدِ الرَكَعَاتِ والنية. فلا تَصِحُّ صلاةُ الظهرِ مثلاً خلفَ من يصلى صلاة الجنازة ، لأن صلاة الجنازةِ لا ركوعَ فيها ولا سجود. فَـنَظْمُهَا مختلف عن نظم أفعال الظهر فلا تصح القدوة فى هذه الحال لأجل ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ لا يتخالفَا فِى سُنَّةٍ تَفْحُشُ المُخَالَفَةُ فيها ، كالتشهدِ الأولِ أى جلوسِهِ فِعْلاً وتَرْكَاً ، أَى إِن جَلَسَ الإمامُ جَلَسَ المأمومُ وإِن تَرَكَهُ قَامَ مَعَهُ.

الشرح: أن المأموم ينبغِى له أن يتابعَ الإمام فى السنن التى يفعَلُهَا الإمامُ. فإذا جَلَسَ الإمامُ لأداءِ التشهُّدِ الأول جَلَسَ المأمومُ ، وإن تَرَكَ الإمام التشهدَ الأول ترَكَهُ المأمومُ. فلو أنَّ الإمام تَرَكَ التشهدَ الأول وفَعَلَهُ المأمومُ عامِداً غيرَ ناسٍ عالماً بأن ذلك حرام فَسَدَت صلاتُهُ ، لأنَّه خالَفَ إمامَهُ بالإتيان بسُنَّةٍ ترَكَهَا الإمام بحيثُ أن المخالفةَ بينهما صارت فاحشة ، وذلك لأنَّه ترك المتابعةَ المفروضة عليه لأجل الإتيان بهذه السُنَّةٍ. أما لو أَتَى الإمامُ بالتشهدِ الأول فَتركَهُ المأموم عامداً فلا تبطُلُ صلاةُ المأموم فى هذه الحال ، لأنَّ المأمومَ تَرَكَ المتابعَةَ للإتيان بفرضٍ فانتقل من فرض إلى فرض فلا تفسد صلاتُهُ. وأما المخالفَةُ فى سُنَّةٍ لا تفحُشُ المخالفَةُ فيها فلا تؤثِر كجَلْسَةِ الاستراحة فى الركعة الأولى بعد السجود الثانى وقبلَ القيام فإنه إذا تركَها الإمام وأتى بها المأموم لا تَفْسُدُ صلاتُه لأن المخالفةَ يَسِيرَة.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يَنْوِىَ الاقتدَاءَ مَعَ التحرُّمِ فِى الجُمُعَةِ وَقَبْلَ المتَابَعَةِ وطولِ الانتظارِ فِى غيرِهَا ، أى قبلَ أَنْ يُتَابِعَهُ قصداً فإنْ تَابَعَهُ بِلا نيةٍ فَسَدَتْ صلاتُهُ ، وكذلك لو انتظرَهُ انتظاراً طويلاً مَعَ المتابعَةِ ، أما لو تابَعَهُ اتفاقاً بلا قَصْدٍ لَمْ تبطُلْ صلاتُهُ. وحاصِلُ المَسْأَلةِ أَنَّهُ إذَا تابَعَهُ قصداً فَسَدَتْ سَوَاءٌ طالَ الانتظارُ أو لَمْ يَطُلْ ، أما إِنِ انتظرَهُ طويلاً ولَمْ يتابِعْهُ فِى الأفعالِ فَلا تَفْسُدُ.

الشرح: أنَّ مِنْ شروطِ القدوةِ أن يَنْوِىَ المأمومُ القدوة أو الجماعة فى تكبيرة الإحرام أو بعد ذلك.فلو أَنَّ إنساناً دَخَلَ فِى الصلاةِ ثم دخلَ بعدَه ءاخر فى الصلاة من غير أن ينوىَ الاقتداء به ثم بعدَ مدة نوى أن يقتدِىَ بالأول صحَّ ذلك. لكن فِى صلاةِ الجمعةِ والصلاةِ المعادَةِ والصلاةِ المجموعةِ – أى تقديماً – لأجلِ المطر لا بد أن تكون نيةُ الاقتداء مع تكبيرة الإحرام ، لأن هذه الصلواتِ لا تَصِحُّ إلا جماعةً. وكذلك المنذورةُ جماعةً أى الصلاةُ التى نَذَرَ الشخصُ أن يصَلِيَهَا جماعةً لا بد أن تكونَ نيةُ الاقتداء فيها مع تكبيرة الإحرام.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ على الإمامِ نيةُ الإمامَةِ فِى الجمعةِ والمعادَةِ وتُسَنُّ فِى غيرِهِمَا.

الشرح: أنه لا يُشْتَرَطُ فى صلاةِ الجماعةِ أن ينوِىَ الإمامُ الإمامِيَّةَ بل يُسَنُّ ذلك ، لكن إذا ترك نيةَ الإمامة لا يَحُوزُ فضيلةَ الجماعة أى ثوابَها. وهذا فى غير الجمعةِ والمعادةِ. أما هما فلا بد أن ينوِىَ الإمامُ فيهما الإمامةَ ، لأنهما لا تصحّان إلا جماعة كما ذكرنا.

قال المؤلف رحمه الله: والمعادَةُ هى الصلاةُ التِى يُصَلّـِيهَا مَرَّةً ثانيةً بَعْدَ أنْ صلاّها جماعةً أو منفرداً إذا وَجَدَ رَجُلاً يُصَلِى مَعَهُ جماعةً أو صلى جماعةً لكنه أرادَ أنْ يُكْسِبَ رجلاً جاء لِيُصَلّى حتى لا تفوتَهُ فضيلَةُ الجَمَاعةِ.

الشرح: أن الشخصَ إذا صلَّى الفرضَ منفرِدًا أو جماعةً ثم وَجَدَ جماعةً ثانيةً يُصَلُّونَ هذه الفريضة نَفْسَهَا يُسَنُّ له أن يُعيدَ معهم ، أو وَجَدَ رجلاً يريدُ أن يصلّـِىَ وحدَه ولا يوجد من يُصلِى معه فى جماعة فيُسن له أن يُعيدَ مَعَهُ حتى يُكْسِبَ هذا الرجل أجرَ الجماعةِ.

تَجهيزِ الميّتِ

قال المؤلف رحمه الله: غَسْلُ المَيّتِ وتكفِينُهُ والصلاةُ عليه ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ إذا كان مسلماً وُلِدَ حياً.

الشرح: أن هذا الفصلَ معقودٌ لبيانِ تَجهيزِ الميّتِ. فيجبُ للمسلمِ الذى وُلِدَ حياً – ولو عاش لحظة واحدة فقط – إذا مات غَسْلٌ وتَكفينٌ وصلاةٌ عليه ودَفنٌ. وهذا الواجبُ فَرضُ كفاية فإذا قامَ به البعض سَقَطَ الحرج عن الباقين. أما لو أنَّ مُسلماً مات فأهمَلَ مسلموا البلد هذه الأمور بالنسبةِ له أَثِمَ كلُّ مَنْ عرَفَ به منهم ثم أَهْمَلَ.

قال المؤلف رحمه الله: وَوَجَبَ لِذِمِىٍّ تكفينٌ ودفنٌ.

الشرح: أن الذمىَّ إذا لم يترك مالاً يُكَفَّنُ منه ويُدفَن ولا تَوَلَّى ذلك أهلُ ملَّتِهِ يُفْعَلُ ذلك من بيتِ مالِ المسلمين ، يُنْفَقُ على ذلك من بيتِ المال، لكن لا يُدْفَنُ فِى مقابرِ المسلمين ، ولا يُصَلَّى عليه.

قال المؤلف رحمه الله: وَلِسِقْطٍ مَيّتٍ غَسْلٌ وَكَفَنٌ ودَفْنٌ ولا يُصَلَّى عَلَيهْمَا.

الشرح: أن الميـّتَ إذا كان سِقْطًا مَيْتًا وجبَ له غَسْلٌ وتكفينٌ ودفنٌ من غيرِ صلاةٍ عليه أى لا يُصَلَّى عليه. هذا إذا كان ظَهَرَ فيه خِلْقَةُ ءَادَمِىّ ، أما إن لم تكن ظهرَت فيه خِلْقَةُ ءادمِىّ فإنَّه يُسَنُّ لَفُّه بِخِرقَةٍ ودفْنُهُ ، ولا يَجِبُ ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وَمَنْ مَاتَ فِى قِتَالِ الكفَّارِ بِسَبَبِهِ كُفّـِنَ فِى ثيابِهِ فإنْ لَم تكفِهِ زِيدَ عليها ودُفِنَ ولا يُغَسَّلُ ولا يُصَلَّى عليهِ.

الشرح: أن الذِى يموتُ فى قتالِ الكفار بسببِ القتال ولو قَتَلَهُ المسلمونَ خطأً فى القتال فإنه يُعدُّ شهيدَ معركة. والشهيدُ يُكَفَّنُ فِى ثيابِه التِى قُتِلَ فيها إبقاءً لأثرِ الشهادةِ عليه. فإن لم تكفِهِ يُزادُ عليها بقدرِ الكفاية ، ولا يُغَسَّلُ، لأنَّ الله تعالى طَهَّرَهُ بالشهادة كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:[ السيفُ مَحَّاءُ الخطايا.] يعنى إذا مات الإنسان شهيداً مُحِيَت عنه كُلُّ ذنوبِهِ أى طُهّـِرَ من ذنوبِهِ كُلّـِهَا. ولا يُصَلَّى عليهِ ، لأنَّ الله تَوَلاَّهُ برحمتِهِ فأغناهُ عن دعاءِ المصلينَ له. ويجبُ دفنُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: وَأَقَلُّ الغُسْلِ: إزالَةُ النجاسةِ وتعميمُ جميعِ بَشَرِهِ وَشَعَرِهِ وإن كَثُفَ مَرَّةً بالماءِ المُطَهّرِ.

الشرح: أنه لصحةِ الغُسْلِ لا بد من إزالةِ النجاسةِ ثم غَسْلِ الموضع الذى كان مُتَنَجّـِسَاً بعد ذلك ، ويكفِى لإجزاءِ الغُسْلِ أن يعمَّمَ البَدَنُ والشَعَرُ مرةً واحدةً بالماءِ المطهّـِر. ولا يُشتَرَطُ لهذا الغُسْلِ نيّة ، لذلك لو فَعَلَهُ الكافر صَحَّ. ولا يجوزُ أن يَكْشِفَ الغاسِل عورةَ الميّت عِنْدَ غَسْلِهِ ، ولا أنْ يُبَاشِرَهَا بيدِهِ مِن غيرِ حائل ، ولا أن يُقَلّـِبَ المَيّتَ بطريقةٍ مُهِينَةٍ كأن يَكُبَّهُ على وجْهِهِ عندَ غَسْلِهِ.

قال المؤلف رحمه الله: وأقلُّ الكَفَنِ: ساتِرُ جميعِ البدَنِ وثلاثُ لفَائِفَ لِمَنْ تَرَكَ تَرِكَةً زائِدَةً على دَيْنِهِ وَلَمْ يُوصِ بِتَركِهَا.

الشرح: أن أقلَّ ما يُجْزِئُ فى الكفن هو ما يَسْتُرُ كلَّ البدن. فيُكَفَّنُ كُلُّ البدن بشىءٍ كان يجوزُ للميّت لُبْسُهُ حَـيّـاً ، إلا إذا كان يُزْرِى بالميت أى إلا إذا كان فيه إشعارٌ بإهانةِ الميت فلا يجوز تكفينُهُ به عند ذلك. فإن تَرَكَ الميت تَرِكَةً زائدةً على ديونِهِ لا بد من تكفينه بثلاثِ لفائِف ، إلا إذا كان الميت أوصَى أن لا يُكَفَّنَ بالثلاث ، فيُكْتَفَى عند ذلك بلِفَافَةٍ واحدة ، وهذا كلُّ ما يرافقُه مِنْ مَالِه إلى قبرِه. أما الرَّجُلُ التَّقِىُّ فإنَّ عَمَلَهُ الصالِحُ يأتِى إلى قبرِهِ على هيئَةِ رجلٍ حَسَن المنظر يؤنِسُهُ فيه.

قال المؤلف رحمه الله: وأقلُّ الصلاةِ عليهِ: أنْ يَنْوِىَ فِعْلَ الصلاةِ عليهِ ، والفرضَ ، ويعيّنَ الميّتَ ولو بالإشارةِ القلبيةِ ، ويقولَ الله أكبرُ وهو قائمٌ إنْ قَدَرَ ، ثمَّ يَقْرَأُ الفاتحةَ.

الشرح: أن صلاة الجِنازة لها أقل ولها أكمل. فالأقل الذى يَتَأَدَّى به الفرض الذى فَرَضَهُ الله على المسلمين فى ذلك هو أن ينوِىَ النيَّةَ الصحيحةَ ، أى أنْ ينوىَ بقلبِهِ فعلَ الصلاةِ على المـيّت ، ويُعَيّنَ الميت بقلبِهِ ( كأن يقولَ بقلبِه: على فلان ، أو على الميت الذى فى المحراب ، أو الذى يصلى عليه الإمام ، أو نحو ذلك)، وينوِىَ الفرضيةَ ، ويقومَ إِنْ قَدَرَ ، ويقولَ: الله أكبر مع استحضار النيّة فى خلال هذا التكبير ، ثم يقرأُ بعدَ ذلك الفاتحةَ. ويجوزُ تأخيرُ قراءَةِ الفاتحةِ إلى ما بعدَ التكبيرةِ الثانيةِ أو الثالثةِ أو الرابعةِ لكن لا بد أن يقرأَهَا قبل السلام ، والأفضل أن تكونَ بعد تكبيرة الإحرام.

قال المؤلف رحمه الله:ثمَّ يقولُ الله أكبرُ ، ثمَّ يقولُ اللَّهمَّ صَلِّ علَى محمد.

الشرح: أنه يكبر تكبيرةً ثانية ثم يصلّى بعدها على النبى صلى الله عليه وسلم ولا بد أن تكون الصلاةُ على النبىّ بعد هذه التكبيرة الثانية.

قال المؤلف رحمه الله: ثمَّ يقولُ الله أكبرُ ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لهُ وارحمْهُ.

الشرح: أنه بعد ذلك يُكَبّـِرُ تكبيرةً ثالثةً ثم يدعو للميتِ بعدَها. ولا بد أن يدعو للميتِ بخصوصِهِ ، وأن يكونَ الدعاءُ مُتَعَلّـِقًا بأمر أُخْرَوِىّ ، كأن يدعو له بالمغفرة.

قال المؤلف رحمه الله: ثمَّ يقولُ الله أكبرُ ، السلامُ عليكم.

الشرح: أنه بعدَ الدعاءِ للميت يكبرُ تكبيرةً رابعة ثم يُسَلّـِم. والأكملُ أن يَرْجِعَ للدعاءِ للميت ولو أطالَ فى ذلك ، ثم يُسَلّـِم بعدَ ذلكَ.

قال المؤلف رحمه الله: ولا بدَّ فيهَا مِنْ شُروطِ الصلاةِ وتركِ المبطلاتِ.

الشرح: أنه لا بد فى صلاة الجنازة من مراعاةِ سائر شروطِ الصلاةِ كاستقبالِ القِبْلَةِ والطهارَةِ عنِ النجاسةِ ونحوِ ذلك. ولا بد فيها أيضاً من تَجَنُّبِ مبطلاتِ الصلاة ككلامِ الناس والفعل الكثير المتوالى وما شابه ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وأقلُّ الدفنِ: حفرةٌ تكتُمُ رائحتَهُ وتَحْرُسُه مِنَ السباعِ. ويُسَنُّ أن يُعَمَّقَ قَدْرَ قَامةٍ وَبَسْطَةٍ وَيُوسَّعَ. ويجبُ توجِيهُهُ إلى القِبْلَةِ. ولا يَجُوزُ دَفْنُهُ فِى الفِسْقِيَّةِ.

الشرح: أنَّ الدفنَ الذى هو فرضٌ على الكفايةِ حُفرةٌ تكتُمُ رائحتَهُ بعدَ طَمّـِهِ وتمنعُ السِباعَ من نبشِ القبرِ وإخراجِ الجثة. وهذا هو الأقل. أما الأكملُ فهو أن يُوَسَّعَ القبرُ ويُعَمَّق قَدْرَ قامَةٍ وَبَسْطَةٍ. ويجبُ عندَ دفنِ الميّتِ المسلم توجيهُهُ إلى القِبْلَةِ ، أى يجبُ توجيهُ صدرِهِ إلى القِبْلَة. ولا يجوز أن يُدْفَنَ فِى فِسْقِيَّةٍ ، لأنَّ هذا فيه إهانةً له. ولا يجوزَ أنْ يُدْفَنَ اثنانِ فِى قبرٍ – يعنى قبل أن يَبْلَى جسدُ الأوَّل – إلا لحاجة. ولا يجوز فتحُ قبرِ المسلم لغيرِ ضرورة إذا لم يبلَ جسَدُهُ أيضاً. ويُسَنُّ وَضْعُ لَبِنَةٍ تحت رأسِ الميتِ وإفْضَاءُ خَدّهِ إليها أى أنْ يوضَع خدُّه على تلك اللَّبِنة أو أن يُفْضَى بِخَدّهِ إلى الأرض.
ولا يُكَبُّ الترابُ مباشرةً على جَسَدِ الميت ، بل لا بد أن يكون هناك عازِلٌ كَلَوحٍ بين جسدِ الميت وبين الترابِ الذى يُكَبُّ فوقه.
الصـيـام
على مذهب الإمام الشافعي
شروط وجوب الصيام

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ صومُ شهرِ رمضانَ على كلِّ مكلَّفٍ ولا يصِحُّ مِنْ حائضٍ ونُفَسَاءَ ، ويجبُ عليهما القضاءُ.

الشرح: أنَّ هذا الفصلَ معقودٌ لبيانِ أحكامِ الصيامِ. وصيامُ رمضان مِنْ أعظمِ أمورِ الإسلامِ الخمسة ، كما جاء فِى الحديث:[ بُنِىَ الإسلامُ على خمس.] وَعَدَّ منها صومَ رمضان. ورمضانُ هو أفضلُ شهورِ السَّنَةِ ، يجبُ صومُهُ على كلِّ مسلمٍ مكلف. ولا يجبُ على الكافِرِ وجوبَ مطالبةٍ فِى الدنيا وإن كان يعاقَبُ على تركِهِ فِى الآخرة. ولا يصحُّ صومُ رمضانَ من حائضٍ ولا نفساء ، وإن كان لا يجبُ عليهِمَا تَعَاطِى مُفَطّـِرٍ فى خلال نهارِ رمضان ، لكن حرام أن يُمسِكَا بنيةِ الصّيام ، فلو تَرَكَا الأكلَ والشربَ لا بنيةِ الصومِ فلا إِثْمَ عليهما. ويجبُ عليهما القضاءُ بعدَ ذلك. وهكذا أيضاً حكم من أفطرَ فِى رمضانَ لِعُذْرٍ ، إلا من أَفْطَرَ لِكِبَر أو مرضٍ لا يُرجَى بُرْءُه فإنه لا يجب عليه أن يقضِىَ بعد ذلك ، وذلك كالمصابِ بالفالِجِ فإنه لا يُرجَى بُرْءُه.
وإنما يجبُ صومُ رمضانَ بأحدِ أمرين برؤيةِ الهلال أو باستكمالِ شعبانَ ثلاثين ، فإذا شَهِدَ عَدْلٌ أنه رأى هلالَ رمضانَ ، أى شاهد هلالَ رمضانَ بعدَ غروبِ شمسِ التاسِعِ والعشرينَ من شعبان ، كان اليومُ التالِى أولَ أيامِ رمضان. فإن لَم يَحصل ذلك فاليومُ التالى هو الثلاثونَ من شعبان والذى بعدَه أولُ أيامِ رمضان.

قال المؤلف رحمه الله: ويجوزُ الفِطرُ لمسافرٍ سَفَرَ قَصْرٍ وإِنْ لَمْ يَشُقَّ عليهِ الصومُ.

الشرح: أن المسافرَ إذا كان يَقصِدُ مسافةَ قصرٍ بسفره ، وهى مرحلتان ، يجوزُ له الفِطْرُ فى رمضان. والمرحلةُ ثمانيةُ فَرَاسِخ ، والفرسخُ ثلاثَةُ أميال ، فمرحلتانِ تكونانِ ثمانِيَةً وأربعينَ ميلاً ، والميلُ ستةُ ءالافِ ذراع فتكون مسافة القصر مائتين وثمانية وثمانين ألف ذراع. فإذا كان إنسانٌ مسافراً سفراً غيرَ قصيرٍ أى مرحلتينِ فأكثرَ يجوزُ له الفطرُ بسبب ذلك فى رمضان ولو لم يشق عليه الصوم، بشرط أن يكون سفرُهُ فِى غيرِ معصية ، وبشرطِ أن يكونَ خَرَجَ من بلدِهِ قبْلَ الفجرِ.

قال المؤلف رحمه الله: ولمريضٍ وحاملٍ ومُرضِعٍ يَشُقُّ عليهِم مشقةً لا تُحْتَمَلُ الفِطرُ ويَجبُ عليهم القضاءُ.

الشرح: أن المريضَ يجوز له أن يفطرَ إذا كان مرضُهُ شديداً ، يعنى إذا كان يصيبه بسَبَبِ الصيامِ مشقَةٌ هى مثلُ المشقة التى تصيب من يباح له بسببها التيمم بدل استعمال الماء. يعنِى إذا كان بسببِ الصومِ تَطُولُ مدةُ مرَضِهِ، أو يَهْلَك ، أو يَتْلَفُ عضوُهُ ، أو نحو ذلك. فإذا كان يضرُهُ الصيام يجوزُ له أن يُفْطِر. ويجوزُ الفطرُ للحامِلِ والمرضِعِ إنْ شقَّ عليهما الصومُ ، يعنِى إذا خافَتَا على نفسيهِمَا أو خافتا على ولديهِمَا أو خافتا على نفسيهما و على ولدَيهِمَا. مثلُ أن تخافَ الحامِلُ أن يُجْهَضَ الولدُ ، أو خافَت المُرضِع أن ينقطِعَ لبَنُهَا أو يخفَ بحيثُ يتضَرَّرُ الولد. فى هذه الأحوال يجوزُ للحامل والمرضع الفِطرُ ، وعليهما القضاءُ. وإن أفطرتا فقط خوفاً على الولدِ فعليهما معَ القضاءِ الفدية. والفديةُ هِى مُدٌّ مِنْ غالِبِ قُوتِ البلَدِ عن كُلِّ يوم.

فرائض الصيام

قال المؤلف رحمه الله: ويجب التبيـيتُ.

الشرح: أنه يُشترَطُ لصحةِ الصومِ إيقاعُ نية صيام يوم رمضان فى الليل أى فى الليلة التى تسبق نهار الصوم. والليلُ ابتداؤُه من الغروبِ وانتهاؤه بالفجرِ. فلو لم ينوِ فى الليل بالمرة ثم نوى بعدَ الفجر صومَ ذلك اليوم من رمضان لم يصحَّ منه ، وهذا فى الصومِ الواجب. وأما النفلُ فيصحُ أن ينوِىَ الصيامَ فيهِ قبلَ الزوال. ولو أن الإنسان أَكَلَ عندَ السَّحُورِ لأجلِ أنه يريد أن يصومَ اليومَ التالِى من رمضان فهذِه نية، فنسيانُ النيّةِ فِى رمضانَ لا يحصُلُ حقيقةً إلا نادراً.

قال المؤلف رحمه الله: والتعيينُ فِى النيةِ لكلِ يومٍ.

الشرح: أنه لا بد أن يُعَـيّنَ الصومَ الذى يُعَلّقُ نيَّتَهُ به ، يعنى لا بد أن يعين أنه يصوم غداً من رمضان أو أنه يصوم عن نَذر أو أنه يصومُ عن كفارة ، لا بد من تعيينِ ذلك وإن كان لا يُشتَرَطُ أن يُعَيـّنَ سَبَبَ الكفارة أو نوعَهَا.

قال المؤلف رحمه الله: والإمساكُ عَنِ الجِماعِ.

الشرح: أن مِنْ شروطِ صحةِ الصيامِ الإمساكَ فِى نهار رمضان عن الجماعِ. فإن جامع فى النهار فَسَدَ صومُهُ ، إلا إذا كان ناسياً ، أو كان جاهلاً بحرمَةِ ذلك لكونهِ قريبَ عهدٍ بالإسلام أو نحوَ ذلك فإنَّ صومَه لا يفسُدُ فى هذِهِ الحال.

قال المؤلف رحمه الله: والاستمناءِ وهوَ استخراجُ المنِىِّ بنحوِ اليدِ.

الشرح: أن الاستمناء فِى نهارِ رمضان مُفَطّـِرٌ.

قال المؤلف رحمه الله: والاستقاءَةِ.

الشرح: أنَّ مَنْ تَعَمَّدَ الاستقاءةَ أى مَن طلبَ القىءَ بنحوِ إدخالِ إصبعِهِ وما شابه فاستقاء فإنه يُفْطِرُ بذلك. وأما إنْ غَلَبَهُ القَىء من غير طلب منه فلا يُفْطِر ، طَالَمَا لَم يَبْلَع شيئاً من القىء الخارج.

قال المؤلف رحمه الله: وعنِ الردةِ.

الشرح: أن مَنِ ارتَدَّ فَسَدَ صيامُهُ ، فيجبُ عليه أن يرجِعَ فوراً إلى الإسلام ، وأن يَكُفَّ باقِىَ النهار عن المفطراتِ ، ثم يَقضِى هذا اليوم فوراً بعد العيد ، سواءٌ كان كفرُهُ بالقلبِ أو بالجوارحِ أو باللسانِ.

قال المؤلف رحمه الله: وعن دُخُولِ عَيْنٍ جوفاً إلا ريقَه الخالِصَ الطاهِرَ مِن مَعْدِنِهِ.

الشرح: أنَّ مَن تَعَمَّدَ إدخالَ شىءٍ إلى الجوف ( وهو ما تحت الحلق ) أو إلى داخلِ الرأس من مَنْفَذٍ مفتوح وكان هذا الشىء له حجم أَفْطَرَ ، إلا إذا بلع من داخل فَمِهِ ريقَهُ الخالصَ ( غيرَ المخلوطِ بشىءٍ ءاخر ) الطاهرَ ( غيرَ المتنجس ) فلا يُفْطِر. والقاعدةُ أنَّ مَخْرَجَ الحاءِ هو من الجوفِ فما كان فوقَ مخرج الحاء فليس هو مِنَ الجوفِ. فإذا خَرَجَ البلغَمُ فجاوَزَ مَخْرَجَ الحاءِ يكون خَرَجَ عن الجوف صار فى الفم ، فإذا بلعَهُ بعد ذلك عامداً يكون قد أَفطر. والفم يُعَدُّ من الشفتين إلى مخرجِ الحاء ، وعلى قولٍ من الشفتين إلى مخرج الهمزَةِ والأَلِفِ. فإذا دخل إلى الجوفِ أو إلى داخل الرأسِ شىءٌ ذو حجم من مَنْفَذٍ مفتوحٍ عَمْدًا غيرَ الريق الخالص الطاهر من معدِنِه فَسَدَ الصومُ. والمنفَذُ المفتوحُ مثلُ الأنفِ والدُّبُرِ والفَمِ ، وأما العينُ فليست منفَذاً مفتوحَـاً. فلو قَطَرَ فِى عَينِهِ فأَحَسَّ بالطعمِ فِى حَلْقِهِ لا يُفْطِر. ولا يُفْطِرُ بالإِبرة فى الجلد ولا فى الشريان ولا فى العضل. وأما الأُذُنُ ففى كونِهَا منفَذًا مفتوحًا خلاف.

قال المؤلف رحمه الله: وأن لا يُجَنَّ ولو لحظةً ، وأن لا يُغْمَى عليه كُلَّ اليومِ.

الشرح: أن الشخص لو جُنَّ لحظةً واحدةً فى خلال نهار رمضان فسد صومُه فوراً. وإذا أُغمِىَ عليه كلَّ اليومِ فَسَدَ صومُهُ أيضاً ، لا إن أُغْمِىَ عليه ساعةً أو ساعتين أو ثلاثَ ساعات أو أربعَ ساعات بحيثُ لم يستغرقِ الإغماءُ كلَّ النهار فإنه لا يفسُدُ صومُهُ فى هذه الحال. وأما لو نام كلَّ النهار فصيامُهُ صحيح.

الأيام التي يحرم صومها

قال المؤلف رحمه الله: ولا يَصِحُّ صومُ العِيدَينِ وأيامِ التشريقِ.

الشرح: أن صومَ يومِ العيدِ عيدِ الفطر أو الأضحى حرامٌ ولا يصح. وكذلك صومُ الأيامِ الثلاثةِ التى تَلِى عيدَ الأضحى ، فإن ذلك لا يجوزُ ولا يَصِحُّ.

قال المؤلف رحمه الله: وكذا النصفُ الأخيرُ من شعبانَ ويومُ الشكِ إلا أَنْ يَصِلَهُ بما قبلَه أو لقضاءٍ أو نَذرٍ أو وِرْدٍ كمنِ اعتادَ صومَ الاثنينِ والخميسِ.

الشرح: أنَّ صومَ النصفِ الثانِى من شعبان لا يجوزُ ، إلا إذا وصلَهُ الشخصُ بما قبلَهُ. فإذا صامَ الخامسَ عشر ثم أكملَ فصامَ النصف الثانى من شعبان يجوزُ ذلك ، أو إذا صامَ فيه لأجلِ قضاءٍ يجوزُ ذلك ولو لم يصلْهُ بما قبلَهُ ، أو صام عن نذرٍ ، كأن نذرَ أن يصومَ كل اثنين فيجوز له لو كان فى النصف الثانى. وكذلك لو كان له وِرْدٌ أن يصوم كلَّ اثنين وخميس مثلاً فدخل النصف الثانى من شعبان يجوز له أن يصوم ، وذلك لأنَّ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام نَهَى عن صومِ النصفِ الثانِى من شعبانَ إلا صياماً كان يَصُومُهُ الشخصُ قبل ذلك يعنى إلا إذا كان له وِرْدٌ فإنه يجوزُ عند ذلك. ومما يحرُمُ صومُهُ أيضاً يومُ الشَكِّ ، ويكونُ يومُ الشكِّ إذا تحدَّثَ بعضُ الناس مِمَّن لا يثبُتُ دخولُ رمضانَ بقولِهِم أنهم رأوا الهلال بعد غروبِ شمس التاسع والعشرين فإنَّ اليومَ التالىَ يكونُ يومَ الشكِّ. هو يكون فى هذه الحال الثلاثين من شعبان لكن يُسمَّى يومَ الشك ، لأن مَن لا يثبتُ الشهرُ بقولهم قالوا إنهم رأو الهلال، وذلك مثلُ النساء و الصبيان الصغار و غيرِ العَدل. والعدل هو المسلم الذى اجتنبَ الكبائِر ولم يُصِرَّ على الصغائر وتخَلَّقَ بأخلاقِ أمثالِه أى التزم بمروءَةِ أمثالِهِ واجتنب خوارِمَ المروءة ، فلا يُكثِرُ من لَعِبِ الشطرنج مثلاً ، ولا يَشتغِلُ بتَطْيِير الحمام ، ولا يشغَلُ كلَّ وقتِه بالروايات المضحكة التى لا منفعة فيها وإن لَم يكن فيها معصية ، فإن مِثْلَ هذا ولو لم يكن ءاثماً لا تُقْبَلُ شهادَتُهُ ، فلو تحدَّث أنه رأى الهلال لا يَبْنِى القاضِى على كلامه. ويكونُ اليومُ التالى الثلاثين من شعبان لكن يسمَّى يومَ الشك ، ولا يجوزُ صومُه لأن عمار بن ياسر قال:[ من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم.] رواه البيهقى.

كفارةُ الظهارٍ

قال المؤلف رحمه الله: ومن أفسدَ صومَ يومٍ من رمضانَ ولا رخصةَ له فى فطرِهِ بجماعٍ فعليهِ الإثمُ والقضاءُ فوراً وكفارةُ ظهارٍ ، وهىَ: عتقُ رَقَبَةٍ ، فإن لم يستطع فصيامُ شهرينِ متتابعيْنِ ، فإن لم يستطع فإطعامُ ستينَ مسكيناً ، أى تمليكُ كُلِّ واحدٍ منهم مُدًّا من قمحٍ أو غيره مما هو غالب قوت البلد. والمُدُّ هوَ مِلءُ الكفيْنِ المعْتَدِلَتَيِن.

الشرح: أن من تيقَّنَ أنه أفسدَ صومَ يومٍ من رمضانَ بالجماع من غيرِ أن يكونَ مُترخصاً بجماعهِ أى من غير أن يكون جامَعَ لأجل أن يُفطِر بذلك مترخصاً أى لأن له رخصةً بعذر فإنه عند ذلك يكون ءاثماً ، كأن يكون مسافراً فأراد أن يُفْطِرَ بهذهِ الطريقة لأن له رخصةً فِى ذلك ، فى هذه الحال لا إثم عليه. فإن أفسدَ صومَهُ بالجماع من غير رخصة أى من غير عذر فعليه الإثمُ وأن يقضىَ هذا اليومَ فوراً بعد العيد وعليه كفارةٌ مثلُ كفارةِ الظهار. والكفارةُ هى عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ سليمةٍ من العُيوبِ المضرةِ بالعملِ ، فإن عَجَزَ عن ذلك صامَ شهرينِ مُتتابعين ، بحيثُ لو أَفْطَرَ يوماً قبلَ انتهاءِ الشهرين ولو لعذر يجبُ عليه أن يعيدَ من الأول ، فإن لم يستطع أى إن كان عاجزاً عن ذلك أطعَمَ ستينَ مسكيناً ستينَ مداً من غالب قوت البلد لكل واحد منهم مُد. والكفارَةُ على الواطِىءِ لا على الموطوءَةِ ، فالمرأةُ ليس عليها كفارة. لكن إن لم تكن معذورةً لا يجوز لها تَمكينُ زوجِهَا من جِمَاعِهَا فى نهارِ رمضان. فلو جامَعَ المريضُ أو المسافرُ بغيرِ نيةِ الترخُصِ أى جامَع ليس لأجلِ أن له رخصة بالفطر فسد صومه وعليه الإثم ولا كفارةَ عليه.
وقال بعضُ الأئمةِ: كل من أفسد صومَ يومٍ فى رمضانَ بدون عذر فعليه الإثمُ والقضاءُ وكفارةُ الظهار.

الزكاة
على مذهب الإمام الشافعي

قال المؤلف رحمه الله: وتجبُ الزكاةُ فِى: الإبِلِ. والبقرِ. والغنمِ. والتمرِ. والزبيبِ. والزروعِ المُقْتَاتَةِ حَالَةَ الاختيارِ. والذهَبِ. والفضةِ. والمعْدِنِ. والرّكازِ منهما. وأموالِ التجارةِ. والفِطْرِ.

الشرح: أن هذا الفصلَ معقودٌ لبيان أحكامِ الزكاة ، وهى من أهمِّ أُمورِ الإسلام ، كما جاء فى حديثِ البخارى:[ بُنِىَ الإسلامُ على خَمْس.] وَعَدَّ عليه الصلاةُ والسلامُ مِنَ الخمسِ إيتاءَ الزكاة.
ولا تجبُ الزكاةُ إلا فى الأشياءِ المذكورةِ فِى هذا المتن ، وكُلُّ ما عدا ذلك من الممتلكات لا زكاة فيه.
فلا زكاة فى البيتِ المؤَجَّر ، ولا الأراضِى المملوكة بغيرِ نيةِ التجارة ، ولا فى الفواكه كالتفاحِ والإِجَاصِ وما شابه ذلك ، ولا فى الخضارِ من نحو القِثَّاءِ والبندورة وما شابه ذلك.
ولا تجبُ فى السيارات التى يمتلكُهَا الشخصُ بغيرِ نيةِ التجارة ولـو كثرت.
ولا زكاةَ فى ءالات المصنع التى يستعملُهَا فى إنتاج ما يُنتِجُه.
ولا زكاةَ فى الأجر الشهرىّ الذى يأخذه الموظف ، أو الذى يدخُلُ لمثلِ الطبيبِ ومن شابَهَهُ من غيرِ أصحابِ التجارةِ.
ولا زكاةَ فى العُمْلَةِ الورقيةِ في مذهبُ الشافعىِّ ومالكٍ وغيرِهِمَا. وأما أبو حنيفةَ فيقولُ: تجبُ الزكاةُ فى العملةِ الورقيةِ أيضاً وفى الفلوسِ – أى العُملة النحاسية – لأنها تَرُوجُ رَوَاجَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ. فالأخذُ بمذهبِ أبى حنيفة فى هذه المسألةِ هو الأحوطُ ، ومن لم يأخذ به فلا لَوْمَ عليه.
فتجبُ الزكاةُ فى الإِبِلِ على اختلافِ أنواعِهَا ، والبقرِ بما يَشْمَلُ الجواميسَ أيضاً ، وفى الغنمِ وتَشْمَلُ الضَأْنَ والمَعَز على اختلافِ أنواعِهَا.
وتجبُ الزكاةُ أيضاً فى التَّمْرِ ، فينتَظِرُ مالكُ النخل الذى فى ثَمَرِ نخله زكاةٌ حتى يَتَتمَّرَ الثَمَرُ فيُخْرِجُ عند ذلك الزكاة منه.
وكذلك تجبُ الزكاةُ فى الزبيبِ فمَن كان عنده عِنَبٌ تجبُ فيه الزكاة هكذا يفعلُ أيضاً ، أى ينتظر حتى يتزبَّبَ ثم يخرج منه الزكاة. وأما سائر ثمار الأشجار فلا زكاةَ فيها ، إلا إذا كانت مالَ تجارَةٍ. وتجبُ الزكاةُ أيضاً فى الزروعِ المقتاتَةِ حالةَ الاختيارِ ، يعنى الحبوبَ التى يقوم بها البدن أى يعيش بها البدن ، مثلَ القمحِ والشعيرِ والذُّرَةِ والرزّ وما شابه ذلك. وأما الزروعُ التى يُقتاتُ بها فى غيرِ حال الاختيار كحال المجاعة مثلُ الحَنْظَل أو ما شابه مما لا يأْكُلُه الناس فى حال الاختيار إنما يأكلونَه فى حال المجاعة فلا زكاة فيه.
كذلك تجبُ الزكاةُ فِى الذَّهَبِ والفضَّةِ إنْ كانا مَعْدِناً أو رِكازاً أو حُلِيًّا أو عُمْلَةً أو غيرَ ذلك ، إلا أنَّ فِى الحُلِىِّ المباحِ خلافاً بين الأئمة. بعض الأئمة قال: لا زكاةَ فى الحُلىّ المباح ، وبعضُهم قال: فيه زكاة. وللشافعىِّ قولان فى المسئلة.
كذلك تجبُ الزكاةُ فى أموال التجارة. وأموالُ التجارةِ هى ما يَشترِيهِ الإنسانُ ليبيعَهُ بعد ذلك بربحٍ ليشتَرِىَ غيرَه ثم يبيعَهُ بربحٍ وهكذا. ما يشتريه بهذه النية هذا هو مالُ التجارة. فكُلُّ هذه الأموال التى ذكرناها ءانفاً تجبُ فيها الزكاة.
وهناك نوعٌ من الزكاة يتعلقُ بالبدن أى بالشخص نفسه لا بالمِـلْكِ وهو زكاة الفطر. فهذه هى أنواع الزكاةِ الواجبةُ ، وما سوى ما ذكر من الأموال فلا زكاة فيها.

ثم شرع المؤلف رحمه الله بتفصيلِ أَنصبةِ الزكَوَات فقال:
وأوَّلُ نصابِ الإبلِ خَمْسٌ.

الشرح: أن من مَلَكَ أقلَّ من خمسٍ من الإبل لا زكاةَ فى إبلِهِ هذه ، فإذا بَلَغَت إبِلُهُ خَمْسًا ففيها الزكاة. هذا هو أول النصاب. ثم بعد ذلك أنْصِبَةٌ أخرى: عشرة ، ثم خمسَ عَشْرة ، ثم عشرون ، ثم خمسٌ وعشرون ، ثم ستٌ وثلاثون ، ثم ست وأربعون ، ثم إحدى وستون ، ثم ست وسبعون ، ثم إحدى وتسعون ، ثم مائة وإحدى وعشرون ، ثم فى كل أربعين بنتُ لبون وفى كل خمسين حِقَّة.

قال المؤلف رحمه الله: والبقرِ ثلاثونَ.

الشرح: أن من كان عنده دون الثلاثينَ من البقر فلا زكاةَ فى بقَرِهِ. فأول النصاب ثلاثون ، ثم أربعون ، ثم بعد ذلك فى كل ثلاثين تَبيعٌ وفى كل أربعين مُسِنَّة.

قال المؤلف رحمه الله: والغنمِ أربعون.

الشرح: أن الأغنام لا زكاةَ فيها حتى تبلُغَ الأربعين. والغنم جنسٌ يشمَلُ الضأن والمَعَز على أنواعِهِمَا. فأول نصابها أربعون ، ثم مِائة وإحدى وعشرون ، ثم مائتان وواحدة ، ثم أربعُ مائة ، ثم فى كل مائة شاة.

قال المؤلف رحمه الله: فلا زكاةَ قبلَ ذلكَ ولا بدَّ مِنَ الحولِ بعد ذلك.

الشرح: أن الزكاة لا تجب على من كان عنده دون النصاب من الأنعام. والأنعام اسم يَشمل هذه الأصناف الثلاثة التى ذكرناها ، الإبل والبقر والغنم. ولا بد أن يمرَّ عليها فى مِلْكِهِ سَنَةٌ كاملةٌ حتى تجبَ الزكاةُ فيها. فإن باعَ مواشِيَهُ قبلَ اكتمالَ السنةِ القمرية فلا زكاةَ فيها ، ولو باعها قبلَ مرورِ الحولِ بيومٍ.

قال المؤلف رحمه الله: ولا بد من السَّومِ فِى كَلأٍ مباحٍ أى أنْ يرعاهَا مالكُهَا أو مَنْ أَذِنَ له فِى كلأٍ مباحٍ أى مرعًى لا مالكَ لَهُ.

الشرح: أنه إذا كانت المواشى تخرج بنفسها فترعَى من غير أن يُسِيمَهَا المالكُ ولا وكيلُهُ فلا زكاة فيها ، ولو كانت ءالافاً. وكذلك لو أن مالِكَهَا كان يَعْلِفُهَا بمالٍ أى يَشْتَرِى لها الأكلَ فَيَعْلفُهَا ولا يُسِيمُهَا فى كلأٍ مباح فلا زكاة فيها.
قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ لا تكونَ عاملةً، فالعاملةُ فِى نحوِ الحَرْثِ لاَ زكاةَ فيهَا.

الشرح: أن الجمل مثلاً إذا كان عاملاً يستَعْمِلُهُ مالكه لنقلِ الماء للناس بأجرة ، أو كان يستعمل الثيران التى عنده ليحرث أرضَه أو أرضَ غيره بأجرة ، أو يستعملُ الجاموس لإخراج الماء من البئر فهذه كلها مواشٍ عاملةٌ لا زكاة فيها.

قال المؤلف رحمه الله: فيجبُ فِى كُلِّ خمسٍ مِنَ الإِبِلِ شاةٌ.

الشرح: أن مَنْ كان عندَه خَمسٌ من الإبل فالزكاةُ الواجبةُ فيها شاةٌ جَذَعَةُ ضأنٍ ، يعنِى أجْذَعَت أى أسقطت مقدَّمَ أسنانِهَا أى أُنْثَى تَمَّ لها سنةٌ. ويجزِئُ أن يُخْرِجَ أيضاً ثَنِيَّةً منَ المَعَز ، يعنِى أُنْـثَى من الـمَعَز أتّمت سنتين.

قال المؤلف رحمه الله: وفى أربعينَ منَ الغنمِ شاةٌ جَذَعَةُ ضأنٍ أو ثَنِيَّةُ مَعْزٍ.

الشرح: أن الزكاةَ فى أولِ نصابِ الغنم شاةُ ضأنٍ أو ثنية معز كالزكاة فى أول نصاب الإبل.

قال المؤلف رحمه الله: وفِى كُلّ ثلاثينَ منَ البقرِ تَبِيعٌ ذَكَرٌ.

الشرح: أن فى كلِّ ثلاثينَ من البقرِ يجبُ أن يُخْرِجَ تَبِيعاً على أنه زكاةٌ. والتبيعُ هو الذكر من البقر الذى أتـمَّ سنةً وصار يَتْبَعُ أمَّهُ فى المرعى ( لذلك يسمونَه تبيعاً ).

قال المؤلف رحمه الله: ثم إنْ زادَت ماشِيَتُهُ علَى ذلك فَفِى ذلك الزَائِد. ويجبُ عليهِ أنْ يتعلَّمَ ما أوجبَهُ اللهُ تعالى عليهِ فيها.

الشرح: إن زادت ماشيتُهُ على النصاب الذى ذكرناه لا بد أن يتعلَّم ماذا يكون حكم الزكاة فى هذه الزيادة ثم على حسبِ ذلك يُؤَدِّى الزكاة.

قال المؤلف رحمه الله: وأما التمرُ والزبيبُ والزروعُ فأوَّلُ نصابِهَا خمسةُ أوسُقٍ.

الشرح: أن من كان عنده أقلُّ من خمسةِ أوسق من الزروع والتمر والزبيب فلا زكاةَ فيها. والوَسْقُ ستونَ صاعاً ، والصاعُ أربعةُ أمداد ، والمُدُّ سَعَةُ كفَّينِ معتَدِلَتين ، فيكون مجموعُ خَمْسَةِ أَوْسُق ثلاثَمِائَةِ صاعٍ بصاعِهِ عليه الصلاة والسلام أى ألفاً ومِائتَى مُدٍّ.
كما قال المؤلف رحمه الله: وهى ثلاثُمِائَةِ صاعٍ بصاعهِ عليه الصلاة والسلام ومعيارُهُ موجودٌ بالحجازِ.

الشرح: أن الحجاز هو بقعة من جزيرة العرب تضم مكة والمدينة والطائف وما حولها.

قال المؤلف رحمه الله: ويُضَمُّ زرعُ العامِ بعضُه إلى بعضٍ فى إكمالِ النصابِ.

الشرح: أنه إذا حصدَ القمح مرتين فى السنة أى فى سنة الزرع ، وفى كلِّ مرة كان ما حصدَه أقلَّ من النصاب ، لكن مجموعُ المحصود فى المرتين فى العام الواحد يبلغ النصاب ، عند ذلك يجب عليه أن يُخْرِجَ الزكاة. وليس له أن يقول إنه فى كلِّ مرة كان المحصول أقل من النصاب فلا زكاة عليه ، وذلك لأن مجموعَهُمَا فى عامٍ واحد يبلُغُ النصاب فوجب عليه الزكاة.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يُكَمَّلُ جنسٌ بجنسٍ كالشعيرِ مع الحنطَةِ.

الشرح: أنه إذا حصدَ فى عام واحد جنسين كقمحٍ وشعيرٍ ، وكل منهما كان أقلَّ مِنَ النصاب ، لكن لو جُمِعَا معاً لبلغا النصاب ، فى هذه الحال لا زكاةَ عليه ، لأن زكاةَ كلِّ جنسٍ تُعْتَبَرُ على حِدَةٍ. أما لوكان زَرَعَ نوعين مختلفين من جنسٍ واحد – كنوعين من الشعير – وكلُّ نوعٍ على حدةٍ كان لا يبلغ نصاباً أما المجموعُ فيبلُغ ، فهنا يجب عليه الزكاة لأنهما من جنسٍ واحد وهو الشعير.

قال المؤلف رحمه الله: وتجبُ الزكاةُ ببدُوّ الصلاحِ بأن يبلُغَ حالةً يُقْصَدُ للأَكْلِ فيها فلا زكاةَ فى الحِصْرِمِ والبلحِ.

الشرح: أن الإنسان إذا حَصَدَ الثمارَ قبلَ أن تبلُغَ الحالةَ التى تُقصَدُ فيها للأكل عادةً لا يجب عليه أن يدفعَ الزكاةَ فيها ، وذلك قبلَ أنْ يَصِيرَ ثَمَرُ النخلِ رُطَـبًـا ، وقبلَ أنْ يصيرَ ثَمَرُ الكَرْمِ عِنَبْاً. وكذا لو حصدَ القمح قبلَ أن يشتَدَّ حَبـُّـهُ فلا زكاة عند ذلك فيه.

كما قال المؤلف رحمه الله: واشتدادِ الحـبِّ.

الشرح: أنه لو بلغَ بعضُ الثَمَرِ الحالةَ التى يُقصدُ فيها للأكل وجبت الزكاة عند ذلك فى الكل، حتى لو فى حبةٍ واحدة بَدَا الصلاح فإنه عندئذ ينتظر حتى تصيرَ تمراً أو زبيباً ليُخرِجَ الزكاةَ عنها ، لأن الزكاةَ صارت واجبةً فيها.

قال المؤلف رحمه الله: وَيَجِبُ فيها العُشْرُ إِنْ لَمْ تُسْقَ بِمُؤْنَةٍ ونصفُهُ إِنْ سُقِيَتْ بِهَا.

الشرح: أن الثمار والزروع إن سُقِيَت بمؤنة أى بكُلْفَة فَفِيهَا نِصْفُ العُشْرِ. أما إذا كانت تُسْقَى بغيرِ مؤْنَةٍ كأن كانت تُسْقَى بماءِ السماء فالزكاةُ فيها العُشْر.

قال المؤلف رحمه الله: وما زَادَ علَى النصابِ أُخْرِجَ منه بِقِسْطِهِ.

الشرح: أنَّ ما زادَ على النصاب فى الزروعِ والزبيبِ والتَمْرِ ففيه الزكاة مهما قلَّ.

قال المؤلف رحمه الله: ولا زكاةَ فيما دونَ النصابِ إلا أنْ يَتَطَوَّعَ.

الشرح: أن ما كان من الحَبِّ والثَمَرِ دونَ النصاب لا تجبُ فيهِ الزكاة. لكنه يجوزُ أن يتطوعَ الشخصُ بدفعِ صدقة عما دون النصاب من بابِ التطوع لا من باب الوجوب ، أى يدفعُ هذا المال ونيَتُه أنه صدقةُ تطوع ليس الصدقةَ الواجبة ، خلافاً لأبِى حنيفة فإنه يُوجِبُ الزكاةَ فِى الزُروعِ والثِمارِ ولو كانت دونَ النصاب.

قال المؤلف رحمه الله: وأما الذهبُ فنصابُهُ عِشرونَ مِثْقَالاً ، والفضةُ مِائَتَا دِرْهَم.

الشرح: أن نصاب الذهب عشرون ديناراً أو مثقالاً ( هما بمعنـًى ). والمثقالُ هو ما كان مساوياً لوزنِ اثنتينِ وسبعين حبةَ شعير متوسطةً باعتبارِ شَعيرِ الحِجَاز من غير قَشْرٍ ( أى بِقِشْرِها ) يُقْطَعُ مِن طَرَفَيْهَا مَا دَقَّ وطَال. وأما الفضةُ فنصابُها مِائَتَا درهم. والدرهم خَمسونَ حبةِ شعيرٍ متوسطةٍ وخُمُسَا حَبّةٍ باعتبار شعير الحجاز من غير قَشْرٍ ويُقْطَعُ من أطرافها ما دقَّ وطال. أى أنّ نصابَ الذهَبِ هو أَرْبَعَةٌ وثمانونَ غِراماً وتِسْعَة أعشار الغرام تقريباً. وهذا الوزن فى الذهبِ الخالص. فأما إن كان عيار الذهب أربعةً وعشرين فيكون النصاب تقريباً سِتَةً وثمانينَ غراماً. فإن كان من عيار واحد وعشرين فيكونُ تقريباً سبعةً وتسعينَ غراماً. فإن كان من عيار ثمانيةَ عشرَ فهو مِائة وأربعةَ عشرَ غراماً. وذلك لأن هذه العِيارات تَحتَوِى غِشّاً غيرَ الذهب الخالص ، يعنى تحتوى معادن من غير الذهب بِنِسَبٍ معينة. والعبرة فى النصاب بالذهب الخالص، أى لا بد أن يكون ما فيه من الذهب الخالص مُساوياً للنصاب. وأما الفضةُ فنصابها قريب من خَمْسِمِائَة وأربَعةٍ وتسعين غراماً وعُشْرِ الغرام.
قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ فِيهِمَا رُبْعُ العُشْرِ وما زاد فبحسابِهِ.

الشرح: أنّ الزكاةَ فِى الذهبِ والفضةِ هى رُبعُ العُشرِ ، وما زاد عن النصاب ففيه كذلك هذا المقدارُ من الزكاةِ. ولا تجبُ الزكاةُ فى الذهبِ والفضةِ إلا بعد مرورِ الحَولِ.

كما قال المؤلف رحمه الله: ولا بد فيهما من الحولِ.

قال رحمه الله: إلا ما حَصَلَ مِنْ مَعْدِنٍ أو رِكَازٍ فَيُخْرِجُهَا حالاً ، وفِى الرِّكازِ الخُمْسُ.

الشرح: أن زكاةَ الذهبِ والفضةِ يُشْتَرَطُ لوجوبِهَا الحَوْلُ إلا فى حالين فى حال المعدِن وفِى حال الرِّكاز. فإذا اسْتُخْرِجَ الذهبُ أو الفضةُ من المكان الذى خَلَقَهُمَا اللهُ فيه ، فإنهما يُزَكَّيان حالاً بعد التنقيةِ من الترابِ ونحوِهِ إذا بلغ المقدارُ الصافى المستخرَجُ نصاباً. وكذلك إذا وَجدَ الإنسانُ دفيناً من الذهب أو الفضة وكان هذا الدفينُ من أيام الجاهلية ليس دفيناً إسلامياً ، ووجدَه فى أرضٍ مَشاع ليست مملوكةً لإنسان معين ، فإنه فى هذه الحال يُخْرِجُ الخُمُسَ زكاةً ويأكُلُ الباقى. أما ما وُجِدَ عليه اسمُ مَلِكٍ من ملوك الإسلام أو وُجِدَ فى أرضٍ لإنسانٍ ءاخر فحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَة. وحُكْمُهَا أن يُعَرِّفَهَا صاحِبُهَا سَنَةً ثم إن شاءَ يتملَّكُهَا بنيةِ أن يَغْرَمَ لصاحِبِهَا إذا ظهر أو يحفَظُهَا إلى أن يَظْهَرَ صاحِبُهَا.

قال المؤلف رحمه الله: وأما زكاةُ التجارَةِ فنصابُها نصابُ ما اشْتُرِيَتْ بهِ مِنَ النقدينِ. والنقدانِ هما الذهبُ والفضةُ. ولا يُعتَبَرُ إلاّ ءاخرَ الحولِ. ويجبُ فيها رُبْعُ عُشْرِ القيمةِ.

الشرح: أن الإنسانَ إذا ابتدأ تجارَتَه فى الأول من مُحَرَّم مثلاً أى اشترى فيه أشياء بنية التجارة ، ثم استمر فى التجارةِ حتى دخل الأولَ من محرم من السنةِ القابلة ، أى مضت عليه سَنَةٌ قمرية كاملة ، فإنه عند ذلك يُقَوِّمُ كلَّ البِضَاعَة التى عندَهُ للتجارة ، أى وكُلَّ العُمْلةِ الناتِجَةِ من التجارة والتى ما زال يستخدِمُهَا فى التجارة ، يُقَوِّمُ كلَّ ذلك بالذهب أو بالفضة ، على حسب النقد الذى ابتدأ به تجارته ، أى إذا ابتدأ تجارَتَهُ بشراء أعراض التجارة بالذهب يقوّمُ بضاعَتَهُ بالذهب ، وإن كان ابتدأ تجارتَهُ بالفضة يقوّمُها بالفضة. وإن اشترى البضاعة بغيرِ الذهب والفضة يُقَوّمُهَا بالنقد الغالب منهما فى البلد. فإن لم يكن يُسْتَعْمَل نقدُ الذهبِ ولا نقدُ الفضةِ فى البلد يقوّمُهُ بآخرِهِمَا استعمالاً – ثم يُخْرِجُ رُبع عشرِ القيمة إما ذهباً وإما فضة ، أى يُخرِج الزكاة عينَ ذهبٍ أو عينَ فضةٍ على حسب النقد الذى قَوَّمَ تجارته به.
قال المؤلف رحمه الله: ومالُ الخَلِيطَينِ أو الخُلَطَاءِ كَمَال المنفرِدِ فى النصابِ والمُخْرَجِ إذا كَمُلَتْ شُروطُ الخُلْطَةِ.

الشرح: أنه إذا خَلَطَ اثنانِ ماشيتَهُمَا على شروطٍ مخصوصة مذكورة فى كتبِ الفقه ، أو خَلَطَا زَرْعَيْهِمَا ، أو خَلَطَا التجارة ، فى هذه الحال يُزَكّـِيَانِ زكاةَ الواحد أى كأن الزرع أو التجارة أو العَرْضَ مِلكٌ لشخص واحد.

قال المؤلف رحمه الله: وزكاةُ الفِطرِ تجبُ بإدراكِ جزءٍ من رمضانَ وجُزءٍ مِن شَوَّال.

الشرح: أن زكاةَ الفطرِ تَجبُ على من كان حياً ءاخرَ رمضان وأولَ شوالٍ ، أى أدرك جزءاً ولو قَصيراً من ءاخر رمضان وهو حىٌّ وجزءاً ولو قَصيراً من أول شوال وهو حىّ ، وذلك بأن تغيبَ عليه شمسُ ءاخرِ يوم من رمضان وهو حىّ. وفى زيادة إيضاح المسألة.

قال المؤلف رحمه الله: على كُلِّ مسلمٍ عليه وعلى مَنْ عليه نَفَقَتُهُم إذا كانوا مُسلِمِين على كلِّ واحدٍ صاعٌ من غالِبِ قُوتِ البلدِ إذا فَضَلَتْ عَن دَينِهِ وكِسوتِهِ ومسكنِهِ وقوتِهِ وقوتِ من عليه نفقَتُهُم يومَ العيدِ وليلَتَهُ.

الشرح: أن زكاةَ الفطرِ تجبُ على المسلمِ الحرِّ الذى غربت عليه شمس ءاخر يومٍ من رمضان ، أى إذا كان حُرًّا يُخْرِجُ عن نفسه ويخرِجُ أيضاً عن كلِّ واحدٍ ممن تلزمُهُ نفقتُهم إذا كانوا مسلمين. فيُخْرِجُ عن أولاده الصغار غيرِ البالغين ، وعن زوجِتِه ، وعن عَبْدِهِ المسْلِم ، وعن أبيهِ الفقير و نحوهم ، لأنّ كُلاًّ من هؤلاء تَلزَمُهُ نفقتُهُ. هذا إذا زادَ مالُه عن دَينِهِ – ولو كان الدَّيْن مؤجَّلاً – وعن كِسوتِهِ اللائقةِ به ، وعن مسكَنِهِ وقوتِهِ وقوتِ من عليه نفقتُهم يومِ العيد والليلةِ التِى تأتى بعد يوم العيد. فإنْ لم يكن معه ما يزيدُ عن ذلك لم تَجِب عليه زكاةُ الفطرِ. ولا يصحُ أن يُخْرِجَ زكاةَ الفطرِ عن ولدِهِ البالغ بغير إذنِهِ. ويجبُ إخراجُ زكاةُ الفطرِ قبلَ غروبِ شمسِ يومِ العيدِ، والأحسنُ أن يخرجها يوم العيد قبلَ صلاةِ العيدِ. ويجوزُ فى أى وقتٍ فِى رمضان.

قال المؤلف رحمه الله: وتجبُ النيةُ فى جميعِ أنواعِ الزكاةِ مع الإفرازِ للقَدْرِ المُخْرَجِ.

الشرح: أنه لا بُدَّ لصحة أداء الزكاة أن تكون نيتُهُ أنَّ هذا المال الذى يدفعُهُ يدفَعُهُ زكاةً واجبةً. مثلاً يقول فى قلبه هذا زكاةُ مالِى ، أو هذا زكاة بدَنِى ( أى فى زكاة الفطر ). أما لو مَرَّ بفقيرٍ فدفعَ له مالاً على أنه صدقَةُ تَطوع لا يجوزُ له بعد ذلك أن يَحْسِبَ هذا القَدْر من الزكاةِ الواجبة ، لأنه لما دفعَ له هذا المال لم تكن نيتُهُ الصدقةَ الواجبة.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ صرفُهَا إلى مَن وُجِدَ فِى بَلَدِ المالِ مِنَ الأصنافِ الثمانيةِ من: (1) الفقراءِ ، (2) والمساكينِ ، (3) والعامِلِينَ عليها ، (4) والمؤلَّفَةِ قُلُوبُهُم ، (5) وفِى الرِّقَابِ ، (6) والغَارِمِينَ ، وهم المَدِينُونَ العاجِزونَ عن الوفاءِ ، (7) وفِى سبيلِ اللهِ ، وهم الغُزَاةُ المتطوعونَ ليسَ معناهُ كُلَّ عملٍ خَيرىٍّ ، (8) وابنِ السبيلِ ، وهو المسافرُ الذى ليسَ معَهُ مَا يوصِلُهُ إِلَى مَقْصَدِهِ.

الشرح: أن الزكاةَ تُدفَعُ إلَى الأصنافِ الثمانيةِ الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى فى ءايةِ الصدقات ، وهى قول الله تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.}سورة التوبة / 60. ففى هذه الآية ذكر ربُّنا عز وجل لمن تُدفَع الصدقات الواجبة.
* الصنفُ الأول هم الفقراء ، والفقيرُ هو الذى لا يَجِدُ نِصْفَ كفايَتِهِ.
* الصنفُ الثانِى المساكين ، والمسكين هو الذى يجدُ نصفَ الكفاية لكن لا يجدُ الكفايةَ تامةً.
* الصنف الثالث هم العاملون على الزكاة ، وهم الذين يوكلهم الخليفة ( من غيرِ أُجرة ) أن يجمعوا الزكوات ويوزعوها على المستحقين.
* الصنفُ الرابعُ المؤلفَّةُ قلوبُهم ، وهم الذين دخلوا فى الإسلام من مدةٍ قريبة وبعدُ فى قلوبهم وَحْشَةٌ من المسلمين ، أى ما تآلفوا مع المسلمين. فيُعطَونَ من الزكاةِ تأليفاً لقلوبِهِم. وهذان الصنفان الأخيران العاملون عليها والمؤلفة قلوبُهُم يُعطَوْنَ من الزكاةِ ولو كانوا أغنياء.
* الصنفُ الخامسُ فى الرقاب ، يعنِى العبيد الذين كاتَبوا أسيادَهُم على مبلغٍ من المال إذا دفعوه يصيرون أحراراً ، أى اتفقوا مع أسيادِهِم على أن السيد يَسْمَحُ لهم أن يذهبوا فيعمَلوا مدة معينة فإذا دفعوا للسيد مقداراً معيناً من المال يصيرُون أحرارًا. فإن عجز العبيد عن ذلك يُعْطَون من مال الزكاة إعانة لهم ليصيروا أحراراً.
* الصنف السادس هم الغارمون ، وهم المَدِينُونَ فِى حلالٍ ثم عَجَزُوا عن الوَفَاءِ ، أو استدانوا فى حرام ثم تابوا وظهرت عليهم ءاثار التوبة وعَجَزُوا عن وفاء الدين.
* الصنف السابعُ فى سبيل اللهِ ، وهم الغزاةُ المتطوعون ، أى الذين هم ليسوا فى ديوان المُرْتَزِقَة ، ليسوا فى الديوان بحيثُ يُعطَونَ مالاً على كونِهم مقاتلين فى الجيش إنما هم متطوعون. فهؤلاء لو كانوا أغنياء يُعطَونَ ما يستعينون به على الجهادِ. هذا معنى فى سبيل الله فى الآيةِ ، وليس معناها كُلَّ عمل خَيرىّ. لو كان معناها كلَّ عمل خيرىّ لمَاَ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام فى الزكاة:[ إنَّهُ لا حَقَّ فيها لغنِىٍّ ولا لِقَوِىٍّ مُكْتَسِب.] رواه أبو داودَ والبيهقىّ. وقد أجمعَ المجتهدون على أنَّ [ فى سبيلِ اللهِ ] فى هذه الآية معناها الغزاةُ المتطوعون.
* الصنف الثامن هو ابن السبيل ، وهو المسافر الذى انقطَعَ فى السفر من المال فلم يعد معه من المال ما يُوصِلُهُ إلى مَقصَدِهِ ويردُّه إلى بلدِهِ فإنه يُعطَى ما يَصِلُ به إلى مقصَدِهِ ثم يَرُدُّه إلى بلده من الزكاة.
ولا بد فى إخراجِ الزكاةِ مِنْ أن تُدْفَعَ إلَى ثلاثةٍ على الأقل مِن كلِّ صنفٍ من هذه الأصناف أى الموجود منهم في بلد الزكاة ، وقال بعضُ الأئمة: يصحُ دَفْعُ زكاةِ الواحدِ إلى الواحد. ولا يجوزُ دفعُهَا إلى أحدٍ من بَنِى هاشم أو بَنِى المُطَّلِب أو مَوَالِيهِم ولو كانوا فقراء. الذين كانوا عبيداً عند بنى هاشم أو بنى المطلب ثم أعتَقُوهُم ، هؤلاء يصيرونَ منهم ، فيَحْرُمُ عليهم أخذُ الزكاةِ كما يَحْرُمُ على بَنِى هاشم وبِنِى المطلب. هاشم والمُطَّلِب أَخَوَانِ هما ابنَا عَبدِ مناف ، فمن كان من ذُريِة أحدِهِمَا يَحْرُمُ عليه أكلُ الزكاة.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يجوزُ ولا يُجْزِئُ صَرفُهَا لغيِرهِم.
الشرح: أنَّ مَنْ دَفَعَ زكاةَ ماله إلى غير هذه الأصنافِ الثمانيةِ لم يُجْزئهُ ذلك زكاةً ، كأنْ دَفَعَ زكاةَ مالِهِ فى بناءِ مسجد أو مستشفى أو سُورِ مقْبَرَة أو مدرسة إسلامية. فى كلِّ هذه الحالات هذه ليست زكاةً صحيحة ، وذمتُهُ لم تبرأ بعد من الزكاة ، بل هو ءاثم بفعله ذلك الأمر ، لأنه يؤدى عبادةً فاسدة كالذى يُصلّى بغيرِ وضوء ، فإنه يأتِى يومَ القيامةِ والزكاةُ ما زالت فى ذمتِهِ ، أى لم تبرأ ذِمَّتُهُ منها.

الحج
على مذهب الإمام الشافعي

وجوب الحَجُّ والعمرةُ:
قال المؤلف رحمه الله: يجبُ الحَجُّ والعمرةُ فِى العمرِ مرةً.

الشرح: أنَّ الحجَّ هو قصدُ الكعبةِ لأفعالٍ معهودة ، والعمرةُ قصدُ الكعبة لأفعالٍ معلومة. والحجُّ فرضٌ مع الاستطاعةِ بالإجماع ، فمن أنكر وجوبَهُ على المستطيعِ فهو كافر. وأما العُمْرَةُ فقد اختُلِفَ فيها. فالشافعِىُّ رضِى الله عنه يقولُ: هى واجبةٌ فى العمرِ مرةً على المستطيع كالحج ، وذهب بعضٌ غيرُه من الأئمةِ كمالك إلى أنها سُنَّة. وأما الحجُ فلم يختلفوا فى وجوبِهِ على المستطيع ، وإن كانوا اختلفوا هل وجوبُهُ على الفور أم على التراخِى. فقال مالك: هو على الفورِ ، وقال الشافعىُّ رضى الله عنه: يجوزُ له تأخيرُهُ طالما أنه يؤدِيهِ قبلَ الموتِ.
وهو أحدُ الأمورِ الخمسةِ التى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ الإسلامَ بُنِىَ عليها. ومَزِيَّةُ الحجّ أنه إذا كان مقبولاً مبروراً خرجَ الإنسانُ به من ذنوبِهِ كيومَ ولدتْهُ أُمُّهُ ، كما روى ذلك البخارىُّ وغيرُه.

شروطُ وجوبٍ الحج وشروطُ صِحَّتهٍ

قال المؤلف رحمه الله: على المسلمِ الحرِّ المكلَّفِ المستطيعِ بما يوصلُه ويرُدُّه إلى وطنِهِ فاضلاً عن دَيْنِهِ ومَسكنه وكِسوتِهِ اللائِقَينِ بهِ ومُؤْنَةِ مَنْ عليه مُؤْنَتُهُ مدَّةَ ذهابِهِ وإيابِهِ.

الشرح: أن الحجَّ له شروطُ وجوبٍ وشروطُ صِحَّةٍ. أما شروطُ الوجوبِ فمنها:
الإسلامُ: فلا يجبُ علَى الكافِرِ وُجُوبَ مُطَالَبَةٍ فِى الدنيا ، وإن كان يُعَاقَبُ على تركِهِ فِى الآخرة.
والشرطُ الثانى: البلوغُ ، فلا يجبُ على غيرِ البالغ ولو كان غنياً.
والشرطُ الثالثُ: العقلُ ، فلا يجبُ على المجنونِ.
والشرط الرابع: الاستطاعةُ ، وذلك بأن يجدَ الشخصُ ما يُوصِلُهُ إلى مكةَ ويرُدُّهُ إلى وطنِهِ من زادٍ وما يتبَعُ ذلك زائداً عن دَينه ومسكنِهِ وكسوتِهِ اللائقَين به ونفقة من عليه مؤنَتُهُ مدةَ ذهابِهِ وإيابِهِ. هذا مع الأمنِ على نفسِهِ ومالِهِ. أما إذا كان يعلم أنه إذا ذهبَ إلى الحج سيُقْتَلُ فى الطريق أو يُسلبُ منه مالُه أو جُزءٌ منه فهنا لا يجبُ عليه. وهناك نوعٌ ءاخر من الاستطاعة وهو استطاعةٌ معنوية وليست حسية ، وهى أن تجدَ المرأةُ مَحْرَمَاً يذهب معها. فإن لَم تجدْ مَحْرَماً يذهبُ معها ولو بأجرة إن كانت قادرة عليها فلا يجبُ عليها الحج.
والشرطُ الخامسُ: الحُريّـة ، فلا يجبُ الحجُّ على العبدِ.
وأما وقوعُ الحجِ عن فرضِ الإسلامِ بحيثُ لا يجبُ إعادتُهُ مرةً ثانية فى العُمُر فله شرطان: التكليف والحريةُ التامة.

قال المؤلف رحمه الله: وأركانُ الحجِّ ستةٌ.

الشرح: أن الحجَّ يتضمنُ أركاناً ويتضمنُ واجباتٍ ويتضمنُ سُـنَـنـاً.

فأما الأركانُ فهى أجزاءُ الحجِ التى إذا تَرَكَ المرءُ واحداً منها لا يَنْجَبِرُ ذلك بالدمِ بل لا يصحُّ حجُّهُ إلا بالإتيانِ بها.
أما الواجبات فهى الأجزاءُ التى إذا تركَهَا المرء أَثِمَ وعليه دم لكن لا يفسُدُ حجُّهُ.

وأما السُّنَنُ فهى الأجزاءُ التى إذا فَعَلَهَا المرء كان مُثاباً وإذا تركَها فليس عليه إثمٌ ولا عليه دم. ففى الحج هناك فرقٌ بين الركنِ وبينَ الواجب ، ولا يُوجَدُ هذا الفرقُ فى أبواب الفقه الأخرى غير الحج ، إذ الركن والواجبُ والفرض بمعنى واحد فيها. فأركانُ الحجِ أى أجزاؤه التى لا يصحُّ الحجُّ بدونِهَا ولا تُجْبَرُ بالدم هى ستَةٌّ فقط.

قال المؤلف رحمه الله:
الأولُ: الإحرامُ ، وهوَ أنْ يقولَ بقلبِهِ:[ دخلتُ فى عملِ الحجِّ أو العمرةِ.]

الشرح: أن أولَ أركانِ الحج الإحرام. ومعنى الإحرام: الإتيانُ بالنية ، ليس معناهُ لُبسَ الثياب الخاصة بالحج أو نحو ذلك بل معناه الإتيانُ بالنيةِ الصحيحة. ومثالُ النيةِ المُجْزِئَةِ:[ نَويتُ الحجَّ وأحرمتُ به للهِ تعالى.] وبالنسبَةِ للعُمْرَةِ يقولُ:[ نَويتُ العمرةَ وأَحْرَمْتُ بها للهِ تعالى.] ولا بد أن تكون هذه النيةُ فِى أشهُرِ الحجِّ ، وهى: شوَّال وذو القَعدة وذو الحِجة ، يعنى العشرَ الأوائلَ من ذِى الحِجة.

قال المؤلف رحمه الله:
الثانى: الوقوفُ بعرفَةَ بين زوالِ شمسِ يومِ عرفةَ إلى فجرِ ليلةِ العيدِ.

الشرح: أن الركن الثانىَ من أركان الحج هو الوقوفُ بعرفة ، ووقتُهُ ضيقٌ. قال عليه الصلاة والسلام:[ الحجُّ عَرَفَة.] فمن فاتَهُ الوقوفُ بعرفة فقد فاتَهُ الحج. ووقتُ الوقُوفِ بعرفة من زوالِ شمسِ يوم عرفة أى يوم التاسع إلى الفجر من يومِ العيد. فلا بد للحاجِّ أن يكون فى ضمنِ حدود أرض عرفة لحظة فى ذلك الوقت، فى النهار أو فى الليل. لكنَّ الأفضلَ له أن يجمعَ بين النهارِ والليل ، يعنى أن يكون هناك من قبلِ غروبِ شمسِ يوم عرفة إلى ما بعد الغروب.

قال المؤلف رحمه الله: الثالث: الطوافُ بالبيتِ.

الشرح: أنَّ الركنَ الثالثَ من أركانِ الحجِ هو الطوافُ بالكعبةِ. ولا يصحُ إلا منْ بعدِ منتصَفِ ليلةِ العيد أى الليلة التى تسبقُ يومَ العيد. والليلُ يبدأ بالمغرب وينتهى بالفجر ، فوسطُ ذلك الوقت هو منتصف الليل. ويدورُ الحاجُّ حول الكعبة سبعَ مرات ، جاعلاً الكعبةَ عن يسارِهِ ، مُبتدئًا بالحَجَرِ ، متوجهاً إلى ناحية الحِجْرِ ، طائفاً خارجَ الكعبةِ ، يعنِى أنَّ كُلَّ بدَنِهِ لا بد أن يكون خارجَ الكعبَةِ، فلا يُحَاذِى بشىءٍ من بَدَنِهِ الحِجْرَ أو الشَاذَرْوَان.

قال المؤلف رحمه الله: الرابعُ: السعىُ بين الصفا والمروةِ سبعَ مراتٍ من العَقْدِ إلى العَقْدِ.

الشرح: أن السعىَ بين الصفا والمروةِ ركنٌ من أركانِ الحج. والصفا جبلٌ والمروة جبل ، وبينهما فى الأصلِ وادٍ ، لكنه الآن طُمَّ لتسهيلِ السعىِ على الحُجَّاج. فلا بد أنْ يَسعَى سبْعَةَ أشواط ، مبتدئًا بالصفا ومنتهياً بالمروة ، لأنَّ الذهابَ يُعَدُّ شوطاً والرجوعَ يُعَدُّ شوطاً ءاخر. وهناك علامةٌ عند الصفا وأخرى عند المروة فلا بد أن يكون السعىُ بين هاتين العلامتين على الأقل. وليست الطهارةُ شرطاً لصحة السعى ، ولا هى شرطٌ فى الوقوفِ بعرفة ، لكنها شرطٌ فى الطواف بالبيت.

قال المؤلف رحمه الله: والخامسُ: الحلْقُ أو التقصيرُ.

الشرح: أن من أركانِ الحج أن يَحْلِقَ الحاجُّ شعرَ رأسِهِ أو يُقَصّـِرَهُ. وهذا يحصلُ بحلقِ ثلاثِ شعرات على الأقل ، أو قَصّـِهَا ، أو حرقِهَا ، أو نحوِ ذلك. ويدخل وقته كالطواف بمنتصف ليلة العيد. والأفضلُ أن يَحْلِقَ الرجُلُ شعرَ رأسِهِ ، وأما المرأةُ فحَرامٌ عليها الحلقُ بالموسَى لغيرِ ضرورة ، وإنما تُقَصّرُ ، والأفضلُ أن تُقَصّـِرَ من كلِّ شعرِهَا.

قال المؤلف رحمه الله: السادسُ: الترتيبُ فِى مُعظَمِ الأركانِ.

الشرح: أن الترتيب ركن من أركان الحج. فلا بد من تقديم الإحرام على كلِّ باقِى الأركان ، ولا بد من تأخير الطواف والحلقِ أو التقصير عن الوقوفِ بعرفة. وأما السعىُ بينَ الصفا والمروة فلا بد لصحته من أن يكون بعد طوافٍ بالكعبة سواء كان طواف الفرض أو غيره.

قال المؤلف رحمه الله: وهى إلا الوقوفَ أركانٌ للعُمرَةِ.

الشرح: أنَّ هذه الستةَ باستثناءِ الوقوفِ بعرفة هى أركانٌ للعُمرة. يعنى أن أركانَ العمرةِ خمسةٌ: الإحرامُ ، والطوافُ ، والسعىُ ، والحلقُ أو التقصيرُ ، والترتيبُ. والترتيبُ هنا واجبٌ فى كُلِّ الأركانِ ، فلا بد من الابتداءِ بالإحرامِ ، ثم الطوافِ بعد ذلك ، ثم السعىِ بعد ذلك ، ثم الحلقِ أو التقصيرِ.

قال المؤلف رحمه الله: ولهذِهِ الأركانِ فروضٌ وشروطٌ لا بد من مراعَاتِهَا.

الشرح: أن كل ركنٍ من هذه الأركان له شروطٌ لصحتِهِ لا بد أن يُرَاعِيَها الحاجُّ حتى يكونَ أداؤه للركنِ صحيحاً مُجْزِئًا. ومَثَّل المؤلف رحمه الله لذلك بقوله:

قال المؤلف رحمه الله: ويُشتَرَطُ للطوافِ قطعُ مسافَةٍ من الحجرِ الأسودِ إلى الحجرِ الأسودِ سبْعَ مراتٍ. ومن شروطِه سترُ العورةِ والطهارةُ، وأن يجعلَ الكعبةَ عن يسارِهِ لا يستقبِلُهَا ولا يستدبِرُهَا.

ما يَحْرُمُ على المحرم:

قال رحمه الله: وَحَرُمَ على مَنْ أَحْرَمَ: (1) طِيبٌ.

الشرح: أن المؤلفَ رحمه الله شَرَعَ فى ذكرِ ما يَحْرُمُ على المحرم بدخوله فى الإحرامِ وهى ثمانية أمور. فذَكَرَ رحمه اللهُ الطّـِيبَ وهو أولُ الثمانية. فيحرُمُ على المحرم بالحجِ والعمرةِ التطيُّبُ فى اللباسِ والبَدَنِ فى أثناء النسك ولو كان أَخْشَم أى لو كان فاقداً لحاسة الشم. أما التَطَيُّبُ قبلَ الإحرام لأجلِ أنه يريدُ أن يُحْرِم فإنَّهُ سُنَّةٌ. وقال الشافعىُّ هو سُنَّـةٌ للرَجُلِ والمرأةِ كليهما ، لأن عائشةَ رضي الله عنها كانت تقول: كُنَّا نساءَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم نَتَطَيبُ للإحرامِ فيَسِيلُ المسكُ على وجوهِنَا فيرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينهانا. رواه أبو داود. ويؤْخَذُ من هذا الحديثِ أنه لا يَحْرُمُ على المرأةِ الخروجُ متطيبةً إن كانت لا تَقْصِدُ بذلك فتنةَ الرجال الأجانب. أما إنْ قصدَت ذلك فهو حرام. فإن لم تقصِد ذلك فهو مكروهٌ إلا للإحرامِ فيكونُ سُنـَّـةً.

قال المؤلف رحمه الله: (2) ودَهْنُ رأسٍ ولِحْيَةٍ بِزَيْتٍ أو شَحْمٍ أو شَمْعِ عَسَلٍ ذَائِبَينِ.

الشرح: أن الأمر الثانِىَ من محرماتِ الإحرام دهنُ الرأسِ أو اللحية بأى شئ يُسمَّى دُهناً ولو لَم يكن مُطَـيَّباً. ويَشمَلُ ذلك الزيتَ وشمعَ العسل الذائب والشحمَ الذائب وما شابه. ويجوزُ للمُحرِمِ دَهْنُ شَعْرِ جسدِهِ بالزيتِ ، وإنما الحرامُ دهنُ شعرِ الرأسِ وشعرِ اللحيةِ. فلو كان فاقدَ الشعر فى رأسِه جازَ له أن يدهنَ رأسَهُ بالزيتِ ونحوِهِ ، وكذا لو كان أَمْرَدَ لا شَعْرَ لَهُ فى وجْهِهِ جَازَ له دَهْنُ اللَّحْيَينِ بالدُّهْنِ.

قال المؤلف رحمه الله: (3) وإزالَةُ ظُفْرٍ وشَعَرٍ.

الشرح: أن الأمرَ الثالثَ من محرماتِ الإحرامِ إزالةُ الظفرِ أو إزالةُ الشعر بقصٍ أو نَتْفٍ أو حَلْقٍ أو غيرِ ذلك. لكن لو انْكَسَرَ بعضُ ظُفْرِهِ وكان يتضرَّر ببقاءِ الباقِى فلهُ إزالَتُهُ ، أى لو بَقِىَ كما هو من غير أن يقُصَّهُ يتضرر ، فيجوز له قَصُّهُ ولا إثمَ عليه فى هذه الحال ولا فدية. وكذا لا فدية عليه ولا إثم أيضاً إن انْتَتـَفَ شعرُهُ بغيرِ فعلٍ منه.

قال المؤلف رحمه الله: (4) وجِمَاعٌ ومٌقَدِّمَاتُهُ.

الشرح: أن الأمر الرابع من محرمات الإحرامِ هو الجماعُ ومقدِماتُ الجماعِ. فيحرُمُ على الزوجةِ غيرِ المحرِمَةِ تمكينُ زوجِهَا المحرِمِ من جماعِهَا أو من مقدماتِ الجماعِ ( ولو كانت هى غيرَ مُحْرِمَة ). ومقدماتُ الجماعِ مثلُ القُبْلَةِ بشهوة ، والنظرِ بشهوة ، واللمسِ بشهوة. فهى محرَّمَةٌ على المحرمِ يأثَمُ فاعِلُهَا وعليه دَمٌ إلا النظرَ فلا دَمَ فيه.

قال المؤلف رحمه الله: (5) وعقدُ النّكاح.ِ

الشرح: أن عقد النكاح هو الخامس من محرمات الإحرام ، فلا يجوزُ ولا يصحُّ أن يعقِدَ النكاح بنفسه أو بتوكيلِ وكيلٍ عنه. وسواء فى ذلك أَكانَ المُحْرِمُ هو الخاطب أو كان المحرم ولياً للمرأة فإنه لا يصحُ.
قال المؤلف رحمه الله: (6) وصيدُ مأكولٍ بَرِىٍّ وحشىٍّ.

الشرح: أن السادس من محرمات الإحرام صيدُ مأكولٍ برىٍّ وحشىٍّ ، كغزالٍ ونَعَامَةٍ ونحوِ ذلك. وأما الحيوانُ المؤذِى بطبعِهِ فيجوزُ للمحرِمِ قتلُهُ ، بل يُنْدَبُ ذلك ، مثلُ الفأرَة والحيّة وما شابه. ولا يَحرُمُ على المُحرِمِ اصطيادُ ما لا يجوزُ أكلُهُ ولو كان وَحْشِيَاً إلا ما يَحْرُمُ قتله شَرْعاً. فقد رُوِىَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلِ أربعةِ أشياء:[ النملةِ والنحلةِ والهُدْهُدِ والصُّرَدِ.] والصرد طائر ضخم الرأس يصطاد العصافير. والمرادُ بالنملِ النملُ السُلْيمَانِىُّ الأحمر الكبير ، فهذا حرامٌ قتلُهُ.
وكما يَحرُمُ التعرُضُ للحيوان المأكول البرىّ الوحشىّ يحرُمُ التعرُضُ لبيضِهِ ، وكذا لَبَـنُهُ وسائِرُ أجزائِهِ كريشِهِ وشعَرِهِ. فلو أتلفَ المُحْرِمُ بالحجِ حيواناً مأكولاً برياً وحشياً فعليهِ أن يدفَعَ المِثْل ، أى عليه أن يدفعَ لفقراء الحَرَم – أى للفقراء الذين هم موجودون فى حرم مكة – من الأنعامِ الثلاثة الإبل أو البقر أو الغنم ما هو أشبه بالحيوان الذى قَتَلَهُ. فالفدية فيمن قتلَ نَعَامَةً إبلٌ ، وفيمن قتلَ ضَبُعَاً شاةٌ ، وهكذا.

قال المؤلف رحمه الله: (7) وعلى الرجلِ سترُ رأسِهِ ولُبْسُ مُحِيطٍ بخياطَةٍ أو لَبْدٍ أو نَحْوِهِ.

الشرح: أن السابع من محرمات الإحرام أن يسترَ الرجلُ رأسَهُ بِقَلَنْسُوَةٍ أو نحوِهَا ( ولو ستر جُزءاً من رأسِهِ حَرُمَ كذلك ) بكُلِّ ما يُعَدُّ ساتراً فى العُرْفِ ، فلا يَحْرُمُ أن يَضَعَ يَدَهُ على رأسِهِ ، ولا أن يَضَعَ خيطاً دقيقاً. ويحرُمُ كذلك على الرجلِ أن يَلْبَسَ ما يُحيطُ ببدَنِهِ بخياطَةٍ ( كقميص ) أو بلَبْدٍ ، وإنما يَسْتُرُ بَدَنَهُ بإزارٍ غير مَخِيطٍ وما شابه ذلك. واللَّبْدُ هوَ أن يُؤخَذَ الصوفُ أو القطن فيُجمع ثم يُكبَس فيصيرُ متماسكاً بسبب الكبس لا بسببِ حَبْكٍ. فلو لَبِسَ قميصاً مُحِيطَاً بالبَدَنِ لا بخياطَة إنما بسبب لَبْدِهِ على هذه الطريقة لم يَجُزْ له ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: (8) وعلَى المُحْرِمَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا وَقُفَّازٌ.

الشرح: أن المرأةَ المحرمةَ حرامٌ عليها أن تستُرَ وجْهَهَا بغطاءٍ يلامِسُ الوجه. أما لو وضعت شيئاً يمنعُ أن يلامِسَ الغطاءُ وجهَهَا ثم سَدَلَت الغطاءَ جاز ذلك كما كانت تفعلُ نساءُ الرسول صلى الله عليه وسلم . وكذا يَحْرُمُ على المرأةِ لُبْسُ القُفَّازِ وهى محرمة ، ولا يحرُمُ عليها أن تستُرَ كفيهَا بِكُمٍّ طويل. وهذا الأمر أى حُرمَةُ سترِ الوجهِ على المرأةِ المحرِمة يُسْتَدَلُّ به على أن وجهَ المرأةِ ليس عورةً. وقد صَحَّ أن امرأَةً وَضِيئةَ الوجه – أى جميلة الوجه – جاءت إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تسأَلـُهُ عن شىءٍ فى الحج وكانت شابةً ولم تكن ساترةً لوجهِهَا ، فصارَ الفضلُ بنُ العباس ابنُ عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم ينظرُ إليها وجعلت هى تنظرُ إليه فَصَرَفَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجهَ ابنِ عمّهِ إلى الناحيةِ الأخرى ، ولَم يَقُلْ لها غَطّـِى وجهك ، وهذا الحديثُ صحيحٌ رواه البخارى. فلو كان وجهُ المرأةِ عورةً كما يزعُمُ بعضُ الناس ، أو لو كان يَجبُ على المرأةِ الجميلة أن تغطِىَ وجهَهَا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ تلك المرأةَ بذلك ، لكنه عليه الصلاة والسلام ما فعل ذلك. فتَشُدُّدُ بعضُ الناسِ فى هذه المسألة بتحريمهم على المرأةِ الجميلةِ الخروجَ كاشفةً لوجهِهَا أو بزعمِهم أنَّ وجهَ المرأةِ عورة هو تشدُدٌ فى غيرِ مَحَلّـِـهِ ، فإنّ هؤلاء يفرِضُونَ ما لَم يفرِضْهُ اللهُ عزّ وجلّ. وقول بعضهم:[ هذا كان قبلَ نزول ءاية الحجاب.] غيرُ صحيحٍ بالمرة لأن هذا الأمر حصلَ فى حِجَةِ الوداع وهى ءاخر حِجَة حَجَّهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بعدَ نزولِ ءايةِ الحجاب بنحوِ خمسِ سنوات. وكذا قول بعضِهِم:[ هذا شىءٌ خاصٌ بالحج ، لأن المرأةَ فى الحجِ حرامٌ عليها أن تُغَطِىَ وجهَهَا.] غير صحيح أيضاً فإنه يقال لهم:[ لو كان الأمرُ كما تزعُمون لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها غَطّـِى مع وجودِ شىء يمنعُ من ملاصقةِ النقاب لوجهِكِ كما أمر نساءَهُ أن يفعلْنَ ذلك لكونِ تغطية الوجه أمام الأجانب فرضاً عليهنَّ بالخصوص.] قال الله تعالى:{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء } سورة الأحزاب / 32. وأما غيرُ نساءِ النبىّ فلا يجب عليهنَّ ستر الوجه. قال القاضى عياض رحمه الله:[ للمرأةِ كشفُ الوجهِ إجماعاً وعلى الرجالِ غَضُّ البصر.] إهـ. وغض البصر يعنى تركُ النَّظَرِ المحرَّم.

الفدية والكفارةُ
قال المؤلف رحمه الله: فَمَنْ فَعَلَ شيئاً مِنْ هذهِ المحرماتِ فعليهِ الإثمُ والفِدْيَةُ.

الشرح: أنَّ مَنْ فَعَلَ شيئاً من محرماتِ الإحرامِ الثمانيةِ التى ذكرناها فعليه الإثم وعليه الفدية إلا فى النظرِ بشهوة وعقدِ النكاح فلا فديةَ فيهِما كما سبق.
والفديةُ شاةٌ أو التَّصُدُّقُ بثلاثةِ ءَاصُعٍ لستَةِ مساكين أو صومُ ثلاثَةِ أيام ، فهو مُخَيـَّر بين هذه الأمور الثلاثة.
أما فديةُ قتلِ الصيد فهى ما كان شبيهاً له من الأنعام الثلاثة كما مَرَّ. وهو مُخيَّـرٌ بين ذبحِهِ وتوزيعِهِ على الفقراء – أى فقراء الحرم -، أو أن يطعِمَهُم قمحاً بقيمَتِهِ ، أو يصومَ عن كلِّ مدٍ يوماً ، يُقَدِّر كم يكون قيمة هذا الطعام فيصومُ عن كلِّ مُدٍّ يوماً. يعنى إذا قتلَ المحرِمُ نعامةً مثلاً فإما أن يذبَحَ إبلاً ويوزِعَهُ على فقراءِ الحرَم ، وإما أن يُقَدّر كم يساوِى هذا الإبل قمحاً أى كم تكون قيمته قمحاً فيوزعُ هذا القمحَ على الفقراءِ ، أو إن شاء يصومُ بَدَلَ كل مد من أمداد القمح هذه يوماً ، فلو كان قيمة هذا الجمل ألفا مُدٍ من القمح صام ألفَى يومٍ.

قال المؤلف رحمه الله: ويزيدُ الجماعُ بالإفسادِ ووجوبِ القضاءِ فوراً وإتمامِ الفاسِدِ. فمَنْ أفسدَ حجَّه بالجماعِ يمضِى فيه ولا يقطَعُهُ ، ثم يقضِى فِى السَّنَةِ القَابِلَةِ.

الشرح: أنَّ من جامَعَ فِى الحجِ وهو مُحْرِمٌ قبلَ التَحَلُّلِ الأول فَسَدَ حَجُّهُ. ويجب عليه أن يُكْمِلَ هذا الفاسدَ أى أن يمضِى فيه مع أنه فَسَدَ ، وأن يقضِىَ هذا الحج فوراً أى فى السَّنَةِ القابلة إن استطاع. ويجبُ عليه أن يَدْفَعَ كفارةً ، والكفارةُ بَدَنَة – أى إبل -، فإن لم يجد فبقرة ، وإلا فَسَبْعٌ من الغنم.
أما إذا جامع بعد التحلُّلِ الأول وقبلَ التحللِ الثانِى فهنا لَم يَفْسُدْ حجُّهُ لكن عليه إثم ولزمَتْهُ الفدية.
والفديةُ هى مثلُ فديَةِ مُقَدِمَاتِ الجماعِ ، يعنى شاةً أو التصدُقَ بثلاثَةِ ءَاصُع على ستة مساكين أو صومَ ثلاثة أيام.
والتحلُّلُ الأول يحصُلُ بفعل اثنينِ من ثلاثة: طوافِ الفرض ، والحلقِ أو التقصيرِ ، ورمىِ جَمْرَةِ العَقَبَة. فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة يكونُ تحلَّلَ التحلُّلَ الأول.
فلو لَم يجد الذى أفسدَ حجَهُ بالجماع سبعَ شياه فإنه عند ذلك يُوَزِعُ طعاماً على فقراء الحرَم بقيمة البَدَنَة أى الإبل. فإن عَجَزَ صامَ بعَدَدِ الأمدادِ. وهذه الكفارةُ تَلْزَمُهُ كلما أفسدَ حجَّهُ بالجماع ، يعنى لو أفسدَ حجَّهُ أولَ سَنَة بالجماع ثم فى السنةِ التالية ذهبَ ليَقْضِىَ فأفسد حجه بالجماع صار عليه كفارة ثانية ، ثم فى السنة الثالثة إذا ذهب ليقضِىَ فأفسد حجه بالجماع صار فى ذمته كفارة ثالثة وهكذا ، فلو تكرر هذا منه عشرَ مرات كان عليه عشرُ كفارات وقضاءٌ واحد.

واجباتِ الحج ومحرمات

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ:
(1) أنْ يُحرِمَ مِنَ المِيقَاتِ. والميقاتُ هو الموضعُ الذِى عَيَّنَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُحْرَمَ منه، كالأرضِ التِى تُسَمَّى ذا الـحُلَيفَةِ لأهلِ المدينةِ ومَنْ يَمُرُّ بطريقِهِم.

الشرح: أن المؤلف رحمه الله ونفعنا به شرَعَ فى ذكرِ واجباتِ الحج وهى ما ينجَبِرُ بالدم إذا تُرِكَ ، ولا يُفْسِدُ تركُهُ الحجَّ وإن كان فيه إثم. فمن واجباتِ الحَجِّ أنْ يُحْرِمَ من الميقات يعنى أن لا يتجاوزَ الميقات من غير إحرام. والمواقيت أماكن عيَّنَهَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى لا يتجاوَزَهَا مُريدُ الحجِ من غيرِ إحرام.
فميقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن يَمُرُّ بطريقِ المدينة إلى مكة هو: ذُو الحُلَيفَة ، ويقال له اليوم: ءابار علىّ.
وميقاتُ أهلِ الشام ومِصر والمغرب ومن يمر بطريقهم: الجُحْفَة أو رابغ.
وميقاتُ أهلِ اليمن ومن يمرُّ بطريقهم يَلَمْلَم.
وميقاتُ أهلِ العراق ومن يمرُّ بطريقهم: ذاتُ عِرْق.
وميقاتُ أهلِ نجد ومَن يمرُّ بطريقهم: قَرْن الثعالب. فمَن جاوزَ إحدى المواقيت مُتوجهاً إلى مكة بقصدِ النُسُك ثم أحرم من بعد الميقات لَزِمَهُ الدَّمُ.

قال المؤلف رحمه الله: (2) وفىِ الحجِّ مَبيتُ مُزْدَلِفَةَ على قولٍ.

الشرح: أنه يجبُ أنْ يكونَ الحاجُّ فى مزدلفة ولو للحظة بعد منتصَفِ ليلة العيد ، يعنى الليلة التى تسبق يوم العيد ، سواءٌ كان فى مزدلفة قائماً أو قاعداً أو نائماً. وهذا قولٌ فى المذهب.
والقول الثانى: أنه سُنَّة ليس واجباً. فعلَى القول الثانى من تركَه فليس عليه إثم ولا فدية.

قال المؤلف رحمه الله: (3) ومِنًى على قولٍ ولا يجبَانِ على قولٍ.

الشرح: أنه يجبُ المبيتُ فى مِنَى أغلَبَ الليل ، أى فى ليالِى أيامِ التشريق ، أى يبيت هناك الليلةَ الأولى والليلةَ الثانية إذا نَفَرَ من مِنًى قبل غروب شمس اليوم الثانى من أيام التشريق وإلا يَـبيتُ ليلةً ثالثة حتى يرمِىَ فى اليوم الثالث. وهذا المبيت أيضاً هو سُـنَّة على قولٍ للإمام الشافعىّ ، وعليه فمن ترَكَه فليس ءاثماً ولا عليه فدية.

قال المؤلف رحمه الله: (4) ورمىُ جَمْرَةِ العَقَبَةِ يومَ النحرِ.

الشرح: أن من واجبات الحج رَمىَ جمرةِ العقبة يومَ العيد بسبْعِ حَصَياتٍ. وجمرَةُ العقبة هى الأقربُ إلى مكة من بين الجمرات الثلاث. ويدخل وقت الرمى بمنتصف ليلِ العيد ، ويستمرُ إلى ءاخر أيام التشريق.

قال المؤلف رحمه الله: (5) ورمىُ الجَمَراتِ الثلاثِ أيامَ التشريقِ.

الشرح: أن الحاج يرمِى ثلاثَ جَمَرَاتٍ فى كلِّ يومٍ من أيام التشريق ، يَرمِى كلَّ جمرةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. فواحدةٌ من الجمرات تَلِى مسجدَ الخَيْف ، وواحدة تلى مكة كما ذكرنا وهى جمرة العقبة والوسطى بينهما. ولا بد أن يرمِىَ الشخصُ بنفسِهِ إلا لعذر ، وأن يرمِىَ الحصَياتِ مُتَفَرّقَاتٍ. فلو رمى الحصيات معاً دفعة واحدة حُسِبَت جميعها حصاةً واحدة.

قال المؤلف رحمه الله: (6) وطوافُ الوداعِ على قولٍ فى المذهبِ.

الشرح: أنه بعد أن ينفرَ الحاجُّ من مِنًى ( إمّا فى اليوم الثانى من أيام التشريق قبلَ غروبِ الشمس أو إذا غربت عليه الشمس وهو فى منى ففى اليوم الثالث بعد الرمى )، يجب عليه أن يطوف بالكعبة إذا كان يريدُ الرجوعَ إلى وطنه أو إذا أراد أن يقصِد مسافةَ قصرٍ أى يجب عليه أن يطوفَ سَبْعَ مراتٍ بالكعبة. وعلى قولٍ هذا الطوافُ سُنَّةٌ وليس واجباً.
فَتَلَخَصَ من ذلك أن هناك أموراً سِتَّةً هى واجبة فى الحج ، من تركَ واحداً منها لم يَفْسُدْ حجُّهُ ، لكن عليه دم.

كما قال المؤلف رحمه الله:
وهذه الأمورُ الستَّةُ منْ لَم يأتِ بها لا يفسُدُ حجُّهُ إنما يكونُ عليهِ إثمٌ وفديةٌ ، بخلافِ الأركانِ التِى مَرَّ ذِكرُهَا فإن الحجَّ لا يَحْصُلُ بدونِهَا ، ومَنْ تَرَكَهَا لا يَجْبُرُهُ دَمٌ أَى ذبحُ شَاةٍ.

الشرح: أنّ من ترك واجباً من واجبات الحج فعليه فدية ، وهى: ذبح شاة ، فإن عجز صام عشرة أيام ، ثلاثة فى الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال المؤلف رحمه الله: ويحرُمُ صيدُ الحَرَميْنِ ونباتُهُما على مُحْرِمٍ وَحَلالٍ. وتَزيدُ مكةُ بوجوبِ الفديةِ. فلا فديةَ فى صيدِ حَرَمِ المدينةِ وقَطعِ نباتِهَا. وحَرَمُ المدينَةِ ما بَينَ جَبَلِ عَيْرٍ وَجَبَلِ ثَوْرٍ.

الشرح: أن مِنْ أحكامِ الحرَمَيْنِ الخاصةِ بهما أنه لا يجوزُ قطعُ نباتِهِمَا ، أى لا يجوز قطعُ الشجرِ فيهما ولا قلعُهُ. ولا يجوزُ صيدُ ما فيهما من الصيد ، فمن اصطاد فى حرم المدينةِ فعَلَيهِ إثمٌ لكن بلا فدية. وكذا من قَلَعَ نباتَ المدينَةِ أو وادى وَجٍّ فى الطائفِ لما رُوِىَ عن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فى ذلك. وأما من اصطادَ صيدَ مكة أو قَلَعَ نباتَ مكة فعليه الإثم وعليه الفديةُ أيضاً. وفديةُ الصيد هى ذبحُ واحدٍ من الأنعام الثلاثة الأشبه بالحيوان الذى اصطادَهُ ، يذبَحُهُ فِى أرضِ الحرَمِ ويوزعُه لمساكينِ الحرم. وأما قطعُ الشجرةِ التى فى الحرم فإذا كانت كبيرة ففيها بَدَنَة ، وإن كانت صغيرةً حَجْمُهَا يُقاربُ سُبُعَ الكبيرة ففيها شاة ، فإن كانت أصغر من ذلك ففيها القيمة.
ويحسُنُ أن نختِمَ الكلامَ على الحجِ بذكر سُنّـِيَّـةِ زيارةِ قبرِ رسول الله ، فإنها سُنَّـةٌ بالإجماع ، بل قال بعضُ العلماءِ: هى واجبة. وروى الدارَقطنىُّ أن رسولَ اللهِ قال:[ مَنْ زارَ قَبْرِى وَجَبَت لَه شفاعَتِى.ي وهو حديث حَسَنٌ لِغَيْرِهِ. وما ذَكَرَهُ ابنُ تيمية مِنْ أنَّه يَحْرُمُ إنشاءُ السفر لأجل زيارة القبر فلا عبرة به بل هو مخالفٌ لشرعِ اللهِ عزَّ وجلّ ، فإنه أساءَ تفسيرَ حديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ لا تُشَدُّ الرّحَالُ إلا إلى ثلاثَةِ مَسَاجِدَ.] فقال إنه يَحْرُمُ أن يُنْشِئَ الإنسانُ السَفَرَ لزيارَةِ قبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَقَ الإجماع بذلك. وإنما معنى الحديثِ أنه لا ينبغى أن يُنشِئَ الإنسانُ سفراً إلى مسجدٍ لأجلٍ أن يُصَلّـِىَ فيه إلا إذا كان أحدَ هذه المساجدِ الثلاثة ، وذلكَ لأنَّ الصلاةَ لا يُضاعَفُ ثوابُهَا إلا فى هذه المساجد الثلاثة. والذى يزيد الأمرَ وضوحاً الروايةُ الأخرى التى رواها أحمدُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ لا ينبغِى للمَطِىّ أن تُعْمَلَ لمسجدٍ تُبتَغَى الصلاةُ فيه إلا أن يكونَ أحدَ هذه المساجدَ الثلاثة.] فهذه الرواية صريحةٌ فى المراد فلا التفات بعد ذلك لشذوذ ابن تيمية ومن تبعه فى بدعته.

كتاب المعاملات
على مذهب الإمام الشافعي
الـبـيـوع

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على كلِّ مسلِمٍ مُكَلَّفٍ أنْ لا يدخُلَ فِى شىءٍ حتى يعلمَ ما أحلَّ اللهُ تعالى منهُ وما حرَّمَ لأن اللهَ سبحانَهُ تَعَبَّدَنَا أَى كَلَّفَنَا بأشياءَ فلا بدَّ من مُراعاةِ ما تَعَبَّدَنَا.

الشرح: أنه على العبدِ أن يُطيعَ خالقَهُ سبحانَهُ بأداءِ ما أمر واجتنابِ ما حرَّم ، لأنَّ اللهَ سبحانه أهْلٌ لأَن يُطَاعَ. وسواءٌ فى هذا ما عَقِلْنَا الحكمةَ منه وما لم نَعْقِل ، لأن بعضَ الأشياء التى تَعَبَّدَنَا اللهُ بهَا أى أَمَرَنَا بها أو نهانا عنها نعرف الحكمةُ منها وأشياءُ أخرى لا نعرِفُ الحكمة منها. وهذا ابتلاءٌ أى اختبار من اللهِ عزّ وجلّ للعباد حتى يظهرَ العبدُ المُسْرِعُ بالطاعة والعبدُ المُبْطِىءُ فى الطاعة أى حتى يَتَمَيـَّزَا. فيجبُ علينا أن نُسَلّـِمَ لخالِقِنَا فى كلِّ ما أمر به وما نهى عنه سواء عَقَلْنَا الحكمةَ من ذلك أم لم نعقِل.

قال المؤلف رحمه الله: وقَد أحلَّ اللهُ البيعَ وحرَّم الرِبا ، وقد قَيَّدَ الشرعُ هذا البيعَ بآلةِ التعريفِ لأنه لا يَحلُّ كُلُّ بَيْعٍ إلا ما استوفَى الشروطَ والأركانَ ، فلا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا.

الشرح: أن البيعَ فى اللُّغَةِ هو مقابلةُ شىءٍ بشئ كما قال الشاعر:
ما بعتُكُم مُهْجَتِى إلا بِوَصْلِكُمُ ولا أُسَلّـِمُهَا إلا يَـدًا بيـدِ
هذا فى اللغة ، أما شرعاً فهو مقابلةُ عينٍ بمالٍ مخصوص بشروطٍ مخصوصة. لذلك لَمَّا ذَكَرَ ربنا عزّ وجلّ فى القرءانِ البيعَ الذى أحلَّهُ وعرَّفَهُ [ بأل العَهْدِيّةِ ] عَرَفْنَا أن المرادَ بالبيعِ فى هذه الآيةِ هو البيعُ المعهودُ فى الشرعِ بالحِل أى البيعُ الذى استوفَى الشروطَ والأركانَ وليس كُلَّ بَيْع ، وذلك فى قولِهِ تعالى:{ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.} سورة البقرة / 275.ولصحةِ البيعِ شروطٌ منها: الطهارةُ فى الثَمَنِ والمُثْمَنِ ، وأن لا يكونَ المَبِيعُ مَعدُومَـاً كبناءٍ لم يُبْنَ بعد ، إلا ما كان من قِبَلِ بيعِ السَّلَمِ بشروطِهِ المذكورة فى كتب الفقهاء.

قال المؤلف رحمه الله: فعلَى من أرادَ البيعَ والشراءَ أن يتعلمَ ذلك وإلا أكلَ الرّباَ شاءَ أم أَبَى. وقد قال رسولُ الله :[ التاجرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ يومَ القيامَةِ معَ النَبيينَ والصّـِدّيقِينَ والشهداءِ.] وما ذاكَ إلا لأجلِ ما يلقَاهُ مِنْ مُجاهدةِ نفسِهِ وهواهُ وقهرِهَا على إجراءِ العُقُودِ على ما أمرَ اللهُ. وإلا فلا يَخْفَى ما أعدَّ اللهُ لمِنْ تَعَدَّى الحدودَ.

الشرح: أنه لَمَّا لم يكن كلُّ بيعٍ حلالاً وإنما البيعُ الحلال هو ما استوفى الشروطَ والأركان التى جعلَهَا الله تعالى فى الشرع كان لا بد لِمَن يريدُ تَعاطِىَ البيعِ والشراء أن يتعلمَ أحكام البيع والشراء حتى لا يقع فى ما حرَّم اللهُ تعالى ، وإلا فإنه يقعُ فى المحرمات شاءَ أمْ أَبـَى عَرَفَ ذلك أو لَم يَعْرِفْ. وقد كان سيدُنا عُمَر لأهمية هذا الأمر يَمُرُّ فى السوقِ فيَمْتَحِنُ التُّجَار ، فإنْ وَجَدَ واحداً منهم ليس عندَه معرفةٌ كافيةٌ بأحكامِ البيعِ والشراء أقَامَهُ مِنَ السوقِ ، وكان يقول:[ لا يَقْعُدْ فِى سوقِنَا مَنْ لَم يَتَفَقَّهْ.] إهـ. يعنى لا يقعدْ فى السوق ليبيعَ الناس. وأما الإنسان الذى تَعَلَّم تلك الأحكام وطَـبَّقَهَا فاتَّقَى الله عزّ وجلّ ، أى اجتنب ما حرَّم الله من أنواع المعاملات ، فاجتنب الخيانة، واجتنبَ الحَلِفَ الكاذِب ، واجتنبَ التَّدليس فى البيع ( التدليسُ مثلُ أن يشترِىَ بضاعةً بمِائة ثم يَهَبَها لإنسانٍ ثم يَشْـتَرِيها منه بألف ويسامِحُهُ هذا الثانى بالألف ، فإذا جاء مُشْتَرٍ ليشتَرِىَ منه هذا الغَرَض يُفْهِمُهُ أنه اشتراه بألف وأنه يبيعه إياه بألف ومائة فيكون ربْحُه عشرة بالمائة فقط ويورد ذلك بطريقة يوهمه بها أن الألف هو السعر الرائج لذلك الشىء فى السوق. هذا يقال له تدليس وهو حرام لأنه من الغِشِّ ، ومن استَحَلَّه فهو كافر ). التاجرُ الصَّدُوقُ الذى يجتنبُ هذه المحرمات يحشر يومَ القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء ، كما ثبتَ فى حديثِ الترمذى وغيرِهِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . وهذه بِشَارَة للتاجر الصدوق بأنه يومَ القيامةِ يكون من الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ، أى يكون يوم القيامة من أهل النجاة. وأعلَمَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث أيضاً أن من لم يكن كذلك يستحقُ عذابَ الله.

قال المؤلف رحمه الله: ثم إنَّ بَقِيَةَ العقودِ منَ الإِجَارَةِ والقِراضِ والرَهْنِ والوِكَالَةِ والوَدِيعَةِ والعَارِيـَّةِ والشَّرِكَةِ والمُسَاقَاةِ كذلك لا بدَّ مِنْ مُراعَاةِ شروطِهَا وأركَانِهَا.

الشرح: أن هذه المعاملاتِ المذكورةَ لا بدَّ أيضاً من مراعاةِ شروطِهَا وأركانِهَا. فمن أراد تعاطِيَها لا بدَّ أن يتعلم أحكامَها الشرعية. فمن هذه المعاملاتِ:
الإجارةُ: وهى: تمليكُ منفعةٍ مُباحةٍ بعِوَض ، أى ليس تمليك عَيْن بل منفعةٍ مباحةٍ ليست محرمةً مقابل عِوَض. فلا يصح استئجارُ ما لا منفعةَ معتبرة فيه. لذلك المُغَنّـِى والمغنّية لا يملكانِ ما يأخذانِ من المال على أنه أجرة.
ويكون الاستئجارُ بالمدةِ أو بالعملِ. مثال ذلك: إذا أراد شخصٌ أن يستأجِرَ إنساناً لحراثَةِ أرضِهِ، إما أن يُحَدِّدَ له المِساحة التى يريدُهُ أن يحرُثَهَا ويستأجِرَهُ مقابل أجرة معينة على أن يحرثَ كل هذه المساحة المعينة من غيرِ أن يحدد له المدة لفعلِ ذلك. وإما أن يستأجِرَهُ لحراثةِ الأرض بأجرة معينة مقابل كلِّ يومٍ يعمَلُ فيه ، يقول له مثلاً: تعمَلُ عندى أربعةَ أيامٍ فى حراثة الأرض مقابل أجرة كذا لكل يوم من غير أن يحدِّدَ له مِساحة يشترط عليه أن يحرِثَهَا فى الأيام الأربعة ، إنما يحدد له الأجرة. فإن جَمَعَ عليه الشرطين بطلَ ذلك العقد ، كأن يقول له استأجرتك على أن تحرُثَ لى هذا الحقل كلَّه فى ثلاثة أيام مقابل كذا من المال ، فإن هذا باطل.
القِراضُ: وهو أن يُفَوّضَ لإنسانٍ أن يَعْمَلَ فى مالِهِ بالتجارةِ مقابل أن يكونَ لكل منهما حصة من الربح. مثلاً يقول له خذ هذا المال واتَّجِرْ لى به والربح بيننا مناصفة. ولا بد لصحتِهِ من أن يكون مالُ القِرَاضِ نقداً يعنِى إما ذهباً أو فضة. فلو أعطاه عُمْلَةً ورقية أو نُحاسِيّة وقال له خذ هذا المال واتَّجِرْ لِى به والربح بيننا مناصفة لَم يصح ، وهذا مذهبُ إمامِنا الشافعىّ رضى الله عنه. وقال بعضُ السلفِ من الأئمةِ وهو عبدُ الرَّحمنِ بنُ أَبِى لَيلَى: يجوز بغير النقد من العملات أيضاً.
الرهن: وهو جَعْلُ عينٍ ذاتِ قيمة مالية وثيقةً بدَين أى مربوطةً بدَين بحيثُ يستوفَى منها الدين إذا تعذر أن يَفِيَهُ المستدينُ. فإذا رُهِنَ شىءٌ بدين لم يَجُزْ لصاحبه أن يبيعه ولا أن يهبه حتى يَسُدَّ الدين. ويجوز أن يستعمل المرهون فى حاجاته.ومنها
الوِكالة: وهى تفويض شخص لغيره أن يتصرف تصرفاً خاصاً فى أمر خاص. فلا يصح أن تكون الوكالة مطلقة ، بل لا بد أن يكون فيها تقييد للمتصرف على وجه مخصوص ، فلا يصح أن يقول له وكلتك بكل أمورى ، ويصح أن يقول له وكلتك ببيع أموالى ، لأن الوكالة فى الحال الأولى مطلقة وفى الحال الثانية هى على وجهٍ مخصوص.
الوديعة: وهى ما يودَعُ عند غير مالكه لحفظه كما هو. ويشترط فيها أن تكون محترمة يُنْتَفَعُ بها فلا يصح أن يستودعَ إنسانٌ إنساناً ءاخر ءالةَ لهوٍ محرمةً.
العاريّة: وهى أن يُبيحَ إنسان لإنسان ءاخر الانتفاعَ بشئ مع بقاءِ عين ذلك الشئ.
الشَّرِكة: وهى عقد يتضمن ثبوتَ حق لاثنين أو أكثر فى شئٍ ما على وجهٍ مَشَاعٍ. يعنى أن يكون لاثنين أو أكثر حق فى بيت أو دكان مثلاً من غير أن يكون للواحد منهما أو منهم جزء معين بل على وجه الشيوع. والشركة الصحيحة فى مذهب الإمام الشافعىّ يشترط أن تكون مبنية على خلط مالين أو أكثر. ولا بد أن يكون هذان المالان مِثْلِيَّيْنِ ، يعنى يمكن ضبط كل منهما بالوزن أو بالكيل أو بالصفة أى يحصر بالكيل أو بالوزن وينضبط أيضاً بالصفة. فإن أردت أن تشارك شخصاً ءاخر فى بيت يأتى كل منكما بدنانير مثلاً ثم تُخلطان هذه الدنانير وتشتريان بها البيتَ فتكون حصة كل منكما فى البيت على حسب نسبة حصته فى الدنانير المخلوطة. هذه هى الشركة الصحيحة فى الشرع. أما الشركة المبنية على غير خلط مالين أو أموالٍ فهى شركة فاسدة وذلك مثل أن يقول لشخصٍ خذ هذه السيارة واستعملها فى نقل الناس مقابل أجرة على أن تُعْطِيَنِى نصفَ الربح فالسيارة مِنّى والعمل منك والربح بيننا مناصفة ، فهذه شركة باطلة.
المساقاة: وهى أن يعاملَ مالكُ الشجرِ عاملاً على أن يتعهد هذا العامل الشجر بالسقى والجِداد والتنقيةِ ونحوِ ذلك مقابل أن يأخذ هذا العامل جزءاً من الثمرِ. ولا تصح إلا فى شجر النخل والعنب ولا تصح فى غيرهما من الأشجار أى فى مذهب الإمام الشافعى.
وأما المخابرة فتعنى أن تكون الأرض من المالك والبذر والعمل من العامل ويكون الثمر مناصفة ، فعلى قولٍ تصح وعلى قولٍ لا تصح.

فـصـل
الـنـكاح

قال المؤلف رحمه الله: وعقد النكاح يحتاج إلى مزيد احتياط وتثبت حذراً مما يترتب على فقد ذلك.

الشرح: أن معرفة أحكام النكاح أكثرُ أهمية من معرفة كثير من الأحكام الأخرى ، لأن من جهل أحكام النكاح قد يظن أنَّ ما ليس نكاحاً نكاحٌ فيتفرعُ من ذلك مفاسد أخرى. لذلك النكاح جدير بمزيد تثبت واحتياط لأن حفظ النسب – أى أن يُحفظ النسب من الزنا – من القواعد الخمس التى اتفقت عليها كل شرائع الأنبياء. وهى:[ حفظ النفس والمال وحفظ العقل وحفظ النسب وحفظ العِرْضِ.] والعِرْضُ هو محل المدح والذم من الإنسان.
وللنكاح شروط وأركان حتى يصح. فلا يصح النكاح إلا بولىٍ وشاهدين وخاطب وصيغة. هذه هى أركان النكاح. فلا يصح أن تُزَوِّجَ امرأةٌ نفسَها بغير ولى عند الإمام الشافعى ، ولا بد فيه من صيغة كزوجتك بنتى هذه فيقول الخاطب قبلت زِواجها والشاهدان حاضران فى المجلس. ويشترط أن لا يكون هذا النكاح مؤقتاً لمدة معينة فلو قال الولى للخاطب زوَّجْتُك بنتى لسنةٍ فالعقد فاسد. أما لو نوى الخاطب أن يمكث معها سنة ثم يُطَلّـِقُها ولم يُدْخَلْ ذلك فى صُلْبِ العقد فإنه يصح. ولا بد فى العقد أيضاً من المهر سواءٌ ذُكِرَ فى العقد أو لم يُذْكَرْ فإن ذُكِرَ ثبت لها المهر المذكور ، وإن لم يُذْكَرْ ثبت لها مهر مثلها أى يُنْظَرُ إلى قريباتها من نساء عصباتها ماذا يأخذن مهراً فى العادة فَيُعْطَى لها مثلُهُ.
ومن المهم أيضاً معرفة أحكام الطلاق لأن كثيراً من الناس يطلقون زوجاتهم ولا يعلمون أن هذا طلاقٌ فيعاشروهن فى الحرام بعد ذلك.
والطلاق نوعان صريح وكناية. فالصريح ما لا يحتاج فيه إلى نيةٍ ليكون طلاقاً كطَلَّقْتُكِ وسَرَّحتُكِ وما شابه من الألفاظ الصريحة. وكذا لو قال نعم فى جواب من قال له طلَّقتَ زوجتك؟ أى إن قال:[ نعم.] طَلُقَتْ إِن كان لم يُرِدِ الإخبار عن الماضى.
وأما الكناية فهو ما لا يكون طلاقاً إلا بنية أى أنّ لفظه يحتمل معنى الطلاق ومعنى ءاخر قريباً. هنا يُنْظَرُ إلى النية فلا يكون هذا طلاقاً إلا إذا كانت نية القائل طلاقاً. مثال ذلك إذا قال الرجل لزوجته اعتَدِّى ، أو قال لها تستَّرِى ، أو لا حاجة لى فيك ، أو أنت وشأنك ، أو تخاصما فقال سلام عليك ، ففى هذه الأحوال إذا كانت نية الإنسان الطلاق وقع الطلاق. أمّا من أتى باللفظ الصريح فقد أَوْقَعَ الطلاقَ سواء نوى به الطلاق أم لم ينوِ. فإن طَلَّقَ زوجته مرة أو مرتين فله أن يَرُدَّها فى العدة من غير عقدٍ جديد. أما إن مضت العدة وأراد أن يُرجعها فلا بد من عقدٍ جديد. فإن طلقها ثلاثاً لم تَحِلَّ له حتى تُمْضِىَ العدةَ ثم يتزوجَها ءاخرُ زِواجاً صحيحاً ، ثم يدخلَ بها ، ثم يفارقَها أو يموتَ عنها ، ثم تُمْضِىَ العدةَ منه ، ثم إن شاء يعقد عليها الأول من جديد إن قبلت. ويقع الطلاق الثلاث فى مجلسٍ واحد أو مجالسَ متعددةٍ بلفظٍ واحدٍ أو بألفاظ متعددة.

قال المؤلف رحمه الله: وقد أشار القرءان الكريم إلى ذلك بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.} سورة التحريم / 6. قال عطاءٌ رضى الله عنه: أن تتعلم كيف تصلى وتصوم، وتتعلم كيف تبيع وتشترى، وتتعلم كيف تطلق وكيف تنكح.

الشرح: أن هذه الآية تعنى أن من أهمل أن يعلّـِم نفسه وأهلَه الضرورىَّ من علم الدين فإنه أهلك نفسه وأهلك أهله أى لم يحفظ نفسه ولا حفِظ أهله من نار جهنم. سيدنا علىٌّ رضى الله عنه فسّر هذه الآية فقال:[ علّـِموا أنفسَكم وأهليكم الخير.] رواه الحاكم. فهذا هو طريق الوقاية من النار. ومثل هذا قال عطاء رضى الله عنه وهو عطاء بن أبى رباح ، كان أبوه عبداً مملوكاً إما نوبياً وإما حبشياً ثم صار ولده عطاءٌ من سادات التابعين ، أخذ العلمَ من عبد الله بن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم وغيرِهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو شيخ أبى حنيفة الذى تخرَّج به.

الـرّبَـا

قال المؤلف رحمه الله: يَحْرُمُ الرّبَا فعلُهُ وأكلُهُ وأخذُهُ وشَهادَتُهُ وهو:
بيعُ أحدِ النقدينِ بالآخرِ نَسِيئَةً. والنقدانِ هما الذهبُ والفضةُ مضروبَيْنِ سِكَةً أَمْ لاَ والحُلِىُّ والتِبِرُ.
أو بغيرِ تقابُضٍ أى افتراقِ المتبايعَينِ قبلَ التقابُضِ.
أو بجنْسِهِ كذلكَ أى الذهبِ بالذهبِ أو الفضةِ بالفضّةِ نسيئَةً أو بغير تقابضٍ.
أو متفاضلاً أى بيعُ الذهبِ بالذهبِ أو الفضّةِ بالفضةِ معَ زيادةٍ فى أحدِ الجانبينِ على الآخَرِ بالوزنِ.
والمطعوماتُ بعضُها ببعضٍ كذلك ، أى لا يَحْلُ بيعُهَا مع اختلافِ الجنسِ كالقمحِ مع الشعيرِ إلاَّ بشرطينِ:
انتفاءِ الأجلِ ، والافتراقِ قبلَ التقابضِ.
ومع اتحادِ الجنسِ كالبُرِّ بالبُرِّ يُشْتَرَطُ هذانِ الشرطانِ معَ التماثُلِ. فلا يَحِلُّ بَيعُ شعيرٍ بشعيرٍ إلا مِثلاً بمثلٍ كَيلاً مع الحلولِ والتقابضِ قبلَ الافتراقِ.

الشرح: أنّ هذا الفصلَ معقودٌ لبيان أنواعٍ محرمةٍ من البيوعِ والمعاملات. بَدَأَهُ المؤلف رحمه الله بذكرِ الرّبا. وأكثرُ أنواعِهِ شُيُوعاً هو رِبَا القَرض. ويَجْمَعُ مسائِلَهُ الحديثُ الذى رواه البيهقىُّ:[ كُلُّ قَرْضٍ جَرّ منفعةً فهو ربا.] يعنِى أنّ كُلَّ قرضٍ كان فيه شرطُ جَرّ المنفعة للمُقرض وَحْدَهُ أو له وللمقترض فهو ربا. فإذا أقرضَ الشخصُ إنساناً ءاخرَ مالاً إلى مدةٍ معلومة على أنّه إذا تأخرَ فى ردِّ المال عن تلك المدة يرُدُّهُ له مع زيادة فهذا هو رِبَا القَرْضِ. وكذلك لو أقرَضَهُ مبلغاً من المال على أنه يرُدُّهُ له وقتَ كذا معَ زيادة. وكذلك لو أقرضَهُ مبلغاً من المال على أن ينتَفِعَ بِبَـيْـتِهِ مجاناً إلى أن يرُدَّ له المال، فإن هذا ربا أيضاً ، ولو لَم يُشْتَرَط فيه زيادةٌ لأنّ فيه شرطَ جَرِّ منفعةٍ إليه. وأما باقِى مسائلِ الرّبا فيُبَـّيِنُهَا حديثُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذى رواه مسلمٌ وغيرُه:[ الذهبُ بالذهبِ والفضةُ بالفضةِ والبُرُّ بالبرِ والشعيرُ بالشعيرِ والمِلْحُ بالمِلْحِ والتمرُ بالتمرِ رِبا إلا مِثلاً بمثل يداً بيد سواءً بسواء. فإذا اختَلَفَت هذه الأصنافُ فَبِيعُوا كيفَ شِئْـتُم إذا كان يداً بيدٍ.] معنى ذلك أنّ الإنسانَ إذا أراد أن يبيعَ ذَهَباً مقابِلَ ذهب أو فضةً مقابل فضة فلا بدّ أن يكونَ القَدْرُ الصافِى من النقد متساوياً من الجانبين. ولو كان أحدُهُمَا مشغولاً والآخرُ غيرَ مشغول فلا بدّ فيهما من التساوِى. ولا بد أيضاً أن يَتِمّ التقابضُ فِى المجلِسِ ، من غير أن يكونَ العقدُ مُتَضَمِناً لتأجيلِ التسلِيمِ ولو لمدةٍ قَصِيَرة. فلو قال شخصٌ لآخر: بعتُكَ هذا الرِطل من الذهب بذاك الرِطل الذى معك على أن أُسَلّـِمَكَ ما معِى بعدَ نصفِ ساعة فالعقدُ فاسد وهو رِبا. وكذا لو لم يشترط التأجيل بل قال له: بعتُكَ هذا الرِطل الذى معى بهذا الرطل الذى معك لكن افترقا من المجلس قبل أن يتقابضا ، أو واحد منهما قبض والثانى لم يقبض، فإنّ هذا أيضا ربا. وكذلك لو قال له: بعتك هذا الرطل من الذهب غير المغشوش برطلٍ ونصف من الذهب المغشوش مما معك فهو ربا إن لم يُعْلَمْ تساوِى الصافِى من الجانبين. فالمثالُ الأخيرُ من الربا وهو بيعُ الذهبِ بالذهبِ مُتفاضلاً أى مع الزيادة فى أحد الجانبين يقال له: ربا الفَضل أى ربا الزيادة. والمثالُ الثانِى الذِى فيه الافتراقُ من غيرِ تقابضٍ يقال له: ربا اليد لأنه لم يتمَّ التقابضُ يداً بيد. والمثالُ الثالثُ الذى فيه اشتراطُ التأجيلِ يقال له: ربا النَّسَاء ( والنَّساءُ هو التأجيل ). ومثل بيعِ الذهب بالذهب والفضة بالفضة فى الحكم بيعُ المطعومِ بجنسه أى بيعُ القمحِ بالقمحِ أو الشعير بالشعير أو الذُّرَة بالذرة أو العدس بالعدس وهكذا. أما لو باعَ ذهباً بفضة فلا يُشترطُ التماثُلُ فى الجانبين لأن الجنسين مختلفان. لكن يُشترَطُ أن يتمَّ التقابُضُ فى المجلسِ من غيرِ اشتراطِ التأجيلِ. ومثل ذلك بيعُ أحدِ المطعوماتِ بجنسٍ ءاخر من المطعوماتِ. أما لو باعَ مطعوماً بذهب أو فضة كشعيرٍ بذهبٍ أو فضةٍ فهُنا لا يُشترَطُ التماثل ولا يشترط التقابُضُ فى المجلس بل يجوزُ أيضاً اشتراطُ التأجيل. فيجوز بيعُ مِائَةِ رِطلٍ من القمحِ بدينارين مؤجلَين إلى شهرٍ مثلاً. وما كان يُوزَنُ فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالعبرةُ للتساوِى فيه الوزنُ كالذهبِ والفضّةِ. وما كان يُكَالُ فى زمنِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام فالعبرَةُ فيه بالكيل كالقمح والشعير ونحوِهِمَا.

مِنْ البيوعِ المحرمةِ

قال المؤلف رحمه الله: ويَحْرُمُ بيعُ ما لَم يَقْبِضْهُ.

الشرح: أن مِنْ أنواعِ البيوعِ المحرمةِ بيعَ شىءٍ قبل أن يَقْبِضَهُ الشخْصُ ، وذلك شاملٌ للطعامِ وغيرِهِ. ويحصُلُ القَبْضُ بتمكِينِ المُشْتَرِى من العَقَارِ ، أو بتفريغِ البيتِ له وتسلِيمِهِ مفاتِيحَهُ ، أو بنقلِهِ فى الشىء الذى يُنْقَل ، أو بأخذِهِ باليدِ فى نحوِ كتابٍ وثوبٍ وما شابَهَهُمَا.

قال المؤلف رحمه الله: واللحمِ بالحيوَانِ.

الشرح: أنه يحرمُ بيعُ اللحمِ بالحيوان وذلك لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعِ اللحمِ بالحيوانِ. رواه البيهقىّ و غيره. وسواءٌ كان اللحمُ من جِنْسِ هذا الحيوان أم مُخْتَلِفًا فهو حرام.

قال المؤلف رحمه الله: والدَّينِ بالدَّينِ ، كأن يَبِيعَ دَيْنًا له علَى زيدٍ لِعَمْرٍو بثمنٍ مُؤَجَّلٍ إلى شَهْرٍ مَثلاً.

الشرح: أن بيعَ الدَّين بالدَّين من البيوع المحرمة ، وله صُوَرٌ مُتَعَدّدَة. من ذلكَ أن يكونَ لزيدٍ دينٌ فى ذِمَّةِ عمرو ، فيقول زيد لإنسان ثالث بعتُكَ دَينِى الذى لِى على عمرٍو بكذا من المال تُعْطِينـِى إياه بعد يوم أو بعدَ يومين ، فهذا حرام نَهَى عنه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال أحمد:[ إجماع أنَّه لا يجوزُ بيعُ الدّينِ بالدّينِ.]

قال المؤلف رحمه الله: وبيعُ الفُضُولِىِّ ، أَى بيعُ ما ليس له عليه مِلْكٌ ولا ولايةٌ.

الشرح: أن الفضولَّى هو الشخصُ الذى يبيعُ ما ليس مِلكاً له ولا له عليه ولايةٌ بالتصرُفِ ، أى ليس له عليه ولاية بطريقٍ شرعِى. ومثلُ هذا البيعِ لا يَقَع. أما مَنْ له ولاية على مال غيرِه كولِىٍّ على مالِ يتيم فإنه يجوزُ له أن يبيعَ من مالِ اليتيم لمصلَحَتِهِ أى لمصلحة اليتيم.

قال المؤلف رحمه الله: وما لَم يَرَهُ. ويُجُوزُ علَى قولٍ للشافِعَىِّ مَعَ الوصفِ.

الشرح: أنه إذا كانت العينُ التى يَجْرِى التعاقد عليها غيرَ مشاهدةٍ للبائعِ والمشترى أو لأحدِهِمَا ، لا يَرَيـَانِهَا الآن ولا رَأَيَاهَا مَن قبل ، كأن قال إنسانٌ لآخر: بعتُكَ ما فى هذا الكيس وهو مُغلَقٌ ، والمشترِى لا يعرِفُ ماذا فيه ، ما رءاهُ من قبل ولا هو يراه الآن ، فالبيعُ فاسِد. وعلى قولٍ فى المذهبِ يجوزُ إذا وُصِفَ وصفاً يَخْرُجُ به عن الجهالَةِ. وجمهورُ الأَئِمّةِ يُجَوّزُونَهُ على أن يكونَ للمشتَرِى خِيَارُ الردّ لَمَّا يراه.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يَصحُّ بيعُ غيرِ المُكَلَّفِ وعليهِ ، أَى لا يصحُ بيعُ المجنونِ والصَبِىِّ. ويجوزُ بيعُ الصبىِّ المميّـِزِ فِى مذهبِ الإمامِ أحمدَ.

الشرح: أنَّ المجنونَ لا يصِحُّ أن يبيعَ مالَهُ مِنْ غيرِهِ ولا يصِحُ أن يشتَرِى. وكذلك الصَبِىُّ الذِى لم يَبْلُغْ بعدُ ولو كان مُمَـيّـِزاً، إلا أنه يجوزُ فى مذهب الإمام أحمد للصَبِىِّ المميّزِ أن يشتَرِىَ بإذْنِ وَلِيّهِ.

قال المؤلفُ رحمه الله: أو لا قدرةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

الشرح: أنَّ من البيعِ المحرَّمِ أن يبيعَ ما لا يقدِرُ على تسلِيمِهِ للمشتَرِى. لكن إن كان المشترى قادراً على أن يَتَسَلَّمَهُ من غيرِ كَبيرِ مؤْنةٍ صَحَّ البيع. مثال ذلك إذا إنسان كان عنده بيت فَغُصِبَ وهو لا يقدِرُ على إخراجِ الغاصِبِ منه فبَاعَهُ إلى مَن يَقْدِرُ على ذلك هنا صَحَّ البيعُ. ويَدْخُلُ تحتَ هذا الباب ، أى ما لا قدرة على تسليمه ، بيعُ ما فِى بُطُونِ البهائِمِ على انفرَادِهِ ، وبيعُ اللَّبَن وهو ما زالَ فى ضَرْعِ الحيوانِ ، وبيعُ السمك وهو فى البحر ، وبَيْعُ الطيرِ فى السماء ، والبَعيرِ النَادّ ، وما شابَهَ ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ومَا لا مَنْفَعَةَ فِيهِ.

الشرحُ: أنَّه لا يجوزُ شِراءُ ما لا منفعةَ فيه ، أى ما ليس فيه منفعةٌ حسية أو ما ليس فيه منفعة شرعية. مثال ذلك الخُبْزُ المحتَرِق لا يصحُ بيعُهُ للأكلِ ، لأنه ليس فيه منفعَةٌ حَسِيّة ، ومثالٌ ءاخرُ بيعُ الصُّلبانِ فإنَّه لا يصح ، لأنه لا منفعةَ شرعيةً فيها ولو كان حِسّاً فيها منفعة. ومثلُهَا ءالاتُ اللّهو المحرمة ، والحشرات الصغيرة ، كالنملةِ وما شابهها. وإن كان أصحابُ الخصائص يذكرون لها منافع ، إلا ما كان له منفعَةٌ مُعتَبَرَةٌ فى الشرع ، كالعَلَقِ لامتصَاصِ الدم.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يَصِحُّ عندَ بَعْضٍ بلا صِيغَةٍ ، ويكفِى التراضِى عندَ ءاخَرِينَ.

الشرح: أن الإمامَ الشافِعِىَّ رَضِى الله عنه نَصّ علَى أنه شَرْطٌ لصحَةِ البيع الصيغةُ من الجانبينِ ، كأن يقولَ المشتَرِى للبائِعِ: اشتريتُ منك هذا بكذا فيقول له البائع: بعتُكَ أو قبِلْتُ. لكن اختار بعضُ أصحابِ الشافعىِّ رضى الله عنه صِحَّةَ البيعِ بالمعاطاةِ من غيرِ لفظٍ أى بِكُلِّ ما يُفْهَمُ منه البيعُ ولو كان من غيرِ لفْظٍ.

قال المؤلف رحمه الله: وبيعُ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ المِلْكِ كَالحُرِّ والأَرْضِ المَوَاتِ.

الشرح: أنه يحرم بيع ما ليس مملوكاً ، فلا يصحُ بيعُ الإنسانِ الحُرِّ ، ولا يصحُّ بيعُ البحرِ لأنه لا يدخل تحت المِلكِ ، ولا بيعُ الأرضِ المَوَاتِ قبلَ إحيائِهَا أى قبل أن يتملكها بالطريق الشرعىّ.

قال المؤلف رحمه الله: وبيعُ المَجْهُولِ.

الشرح: أن من شروطِ صحة البيعِ أن لا يكون المَبِيعُ مجهولاً، وأن لا يكونَ الثَمَنُ مجهولاً. مثالُ البيعِ المجهول الذى لا يصح أن يقول له: بعتُك إحدى سيارَتَىَّ هاتينِ من غيرِ تحديدِ واحدة منهما ، أو أن يقولَ له: بعتُكَ عَشْرَةَ صناديقَ من هذه البِضَاعَةِ التى عندى من غيرِ تعيين العشرة له.
قال المؤلف رحمه الله: والنَّجِسِ كالدَّمِ.

الشرح: أن بيعَ النجَّسِ لا يَصِحُّ.

قال المؤلف رحمه الله: وكُلِّ مُسْكرٍ.

الشرح: أنَّ كُلَّ ما يُغَـيّرُ العقلَ مَعَ نَشْوَةٍ وطَرَب يحرم بيعه ، سواء كان مصنوعاً من عِنَبٍ أو شعيرٍ أو عسلٍ أو تَمْرٍ أو غيرِ ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ومُحَرَّمٍ كالطُّنـْـبُورِ، وهوَ ءالةُ لَهْوٍ تُشْبِهُ العُودَ.

الشرح: أنَّ مِنَ البيوعِ المحرمةِ كلَّ ءَالةِ لَهْوٍ محرّمة ، كالعُودِ والكُوبَة وهو الطبل الضيقُ الوَسط والنَّرْد ، إلا أنَّه مع حُرْمَةِ بيعِ النَّرد يصحُ ذلك إذا كان يصلُحُ بيادِق للـّشِـطْرَنْجِ ، فيكونُ عليه معصية بشرائِهِ لكنَّ البيعَ صحَّ.

قال المؤلف رحمه الله: وَيَحْرُمُ بيعُ الشىءِ الحلالِ الطاهرِ على مَنْ تَعْلَمُ أنَّه يُريدُ أن يَعْصِىَ به كالعِنَبِ لمن يُرِيدُهُ للخَمْرِ والسلاحِ لمن يَعتَدِى به على الناسِ.

الشرح: أن بيعَ الشىءِ الحلالِ الطاهر حرام إذا كان البائعُ يعلم أنَّ المشترِىَ يريدُ أن يستعمِلَهُ فى معصيةِ الله ، لأن فى ذلك إعانةً على المعصية وربُّـنَا قال:{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.} سورة المائدة / 2. فيحرُمُ بيعُ العنب لمن يريد أن يعصرَهُ خمراً ، وبيعُ السلاحِ لمن يريدُ أن يعتَدِىَ به على الناس بغير حق ، وبيعُ الخشب لمن يتّخِذُ منه ءالةَ لهوٍ مُحَرَّمَة. روى الطبرانى فى المعجم الأوسط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ حَبَسَ العِنَبَ أَيام القِطَافِ حتى يَبِيعَهُ ممن يتّخِذُهُ خمراً فقد تَقَحَّمَ النارَ على بَصِيرة.]

قال المؤلف رحمه الله: وَبَيْعُ الأشياءِ المُسْكِرَةِ.

الشرح: أن ذلك حرام سواءٌ كان للشربِ أو لغيرِ الشربِ من أمور الاستعمال ، كالذى يشترى الإسبيرتو ليستَعْمِلَهُ وَقُودًا ، فإن هذا البيعَ حرام ولو كان لا يريدُه للشُربِ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إنَّ اللهَ ورسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخمرِ والمَيْتَةِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ والأصنامِ.] قيل يا رسولَ اللهِ أرأيتَ شحومَ الميتَةِ تُطْلَى بها السفن ويَستصبِح بها الناسُ ( يعنى إذا باعها الإنسان لأجل ذلك هل يجوز )؟ فقال:[ لا هو حرام.] رواه البخارىُّ ومسلم. وهو شاهدٌ لحُرمَةِ بيعِ الإسبيرتو ونحوِه ولو لغير الشرب.

قال المؤلف رحمه الله: وَبيعُ المَعِيبِ بِلاَ إِظهارٍ لِعَيْبِهِ.

الشرح: أن الإنسان إذا أراد أن يبيعَ شيئاً فيه عيب وهو يعرف أن هذا العيبَ فيه يجبُ عليه أن يُخْبِرَ المُشْـتَرِىَ عن هذا العَيْب قبل أن يَبِيعَهُ ، فإن كَتَمَ العيبَ فهو ءاثم وصَحَّ البيعُ ، لكن المشتَرِى له خِيَارُ الرّد لَمَّا يَرَى العيب.

قال المؤلف رحمه الله:
فائدةٌ: لا تَصحُّ قِسمةُ تَرِكَةِ مَيّتٍ ولا بَيْعُ شىءٍ منهَا مَا لَمْ تُوَفَّ دُيونُهُ ووصاياهُ وتُخْرَج أُجرةُ حَجةٍ وعُمرَةٍ إِنْ كانَا عليه ، إلاَّ أنْ يُبَاعَ شىءٌ لقضاءِ هذه الأشياءِ. فالتركَةُ كمرهونٍ بذلكَ ، كَرَقِيقٍ جَنَى ولو بأخذِ دَانِقٍ لا يصحُ بيعُهُ حتى يؤَدّىَ ما بِرَقَبَتِهِ أو يأذنَ الغَرِيمُ فِى بيعِهِ.

الشرح: أن الإنسانَ إذا مات قبلَ أن تُقَسَّمَ تَرِكَتُهُ على الوَرَثَة يُنظَرُ هل كان عليه ديون أم لا. فإن كان عليه دُيون يُبْدَأُ بتوفِيَةِ الديون. فإن زادت التركة عن ديونِه يُنظَر هل ترك وصايا أم لا. فإن ترك وصايا وَجَبَ إنفاذُهَا ، إلا ما كان لا يجبُ إنفاذُهُ شرعاً. ثم يُنظَر فإذا كان لم يَحُجَّ ولم يَعْتَمِر قبل موتِه مع كونِهِ كان قادراً على ذلك يُعْزَلُ من التركة أُجْرَةُ حَجَّةٍ وعمرة. ثم بعد ذلك يُقَسَّمُ ما بَقِىَ من التركة. لكن يجوز بيع شىء من التركة لقضاء الديون أو لأجرَةِ حجةٍ وعمرة أو نحو ذلك. فالتركةُ قبلَ إنفاذ هذه الأشياء تكون مثلَ الشىء المرهون ، لا يتقاسَمُها الورثة ولا يبيعونها إلا بعد إنفاذ هذه الأشياء. ويكونُ أمرها شبيهاً بالعبد الذى سرقَ لإنسان دَانِقًا وهو سُدُسُ درهم ، فمع كونِ هذا المبلغِ صغيراً ليس لسيدِ العبد أن يبيَع العبد إلا إذا وفَّى للمسروق ما سرَقَهُ العبد أو يأذنَ الغريمُ فى بيعِهِ ، فتكونُ التركة حالُها مثل حال هذا العبد ، لا يتصرف فيها الورثة حتى يُنْفِذُوا هذه الأشياء.

قال المؤلف رحمه الله: وَيَحْرُمُ أَنْ يُفَتّـِرَ رَغْبَةَ المشتَرِى أو البائِعِ بعدَ استقرارِ الثَّمَنِ لِيَبِيعَ عليهِ أو لِيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ.

الشرح: أنه إذا اتفق اثنانِ على إيقاع بيعٍ ، واتفقا على الثمن ، ثم قبل أن يُوقِعَا البيع عَرَفَ إنسانٌ ثالث بالأمر فقال للبائع: لا تبعْهُ ، أنا أشترِى منك بأغلَى ، أو قال للمُشترِى: لا تشترِ من ذلك الإنسان أنا أبيعُك بأرخص ، أو أبيعُك خيراً منه بمثلِ سعرِهِ ، فهذا حرام لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السَّوْمِ على سَوْمِ أخيه. والحديثُ رواه البخارىّ.

قال المؤلف رحمه الله: وبَعْدَ العَقْدِ فِى مُدَّةِ الخِيَارِ أَشَدُّ.

الشرح: أن العقدَ إذا تَمَّ بين البائع والمشترى ، لكن اشْتَرَطَا مدةَ خِيَار لكلَيهِمَا أو لواحدٍ منهما ، ثم جاء ثالث ليفتّـِر رغبة مَن له الخيار ليفسخ البيع فيبيعَه هو أو يشترىَ منه فهو ءاثم ، لحديث البخارىِّ فى تحريم البيع على بيع أخيه أى إلا إن أذِنَ من يَلْحَقُهُ الضرر فلا إثم عند ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يَشْتَرِىَ الطعامَ وقتَ الغلاءِ والحاجةِ ليحبسَهُ وَيَبِيعَهُ بأَغْلَى.

الشرح: أَنَّ هذا هو الاحتكار المحرم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خاطئ.] أى ءاثم. ومعنى ذلك أن يشتَرِىَ الطعامَ فى وقتِ الغلاءِ والحاجةِ أى عندما يكونُ سعرُ الطعامِ عالياً والناسُ فى حاجةٍ إليه وذلك ليحبِسَهُ حتى يَبِيعَه بأغلى. هذا هو الاحتكارُ المُحَرَّم ، وقال بعضُ الشافعيةِ: كلُّ ما تَعُمُّ حاجةُ الناسِ إليه هو مثلُ الطعام يحرم احتكاره ، وقَصَرَ بعضهم تحريم الاحتكار على القوتِ.

قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ يَزِيدَ فِى ثَمَنِ سِلْعَةٍ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ.

الشرح: أن هذا هو النَّجَشُ الذى نهى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:[ “ولا تَنَاجَشُوا.] والحديث متفق عليه – أى رواه البخارى ومسلم كلاهما – ومعناه أن يزيدَ فى ثمنِ السّلعَة حتى يُوهِمَ المشترِىَ أنّ ثَمَنَهَا فى السوقِ أعلى وهو ليس كذلك. مثال ذلك أن يتفقَ معَ إنسان فيقولَ له كُلَّمَا رأيتَ إنساناً جاء يشترِى مِنّـِى البَضَاعة تبذُل أنت ثمناً أغلى فى البِضاعة حتى يظنَّ المشترِى أنها تساوى ذلك الثمن الأعلى ( وهى لا تساوى ) فهذا هو النَّجَشُ المُحَرَّم. ومثلُه فى التحريم إذا مدح السلعة بالكذِبِ لِيُرَوِّجَهَا.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يُفَرّقَ بينَ الجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا قَبلَ التَّمييزِ.

الشرح: أن الإنسان إذا كان يملِك امرأةً أى أَمَةً وولدها ، فلا يجوز له أن يفرّقَ بينهما بالبيع أو بالهِبَةِ ، طالما أنَّ الطفلَ لم يبلُغْ سنَ التمييزِ بعد ، لقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم :[ مَن فَرَّقَ بينَ جارِيَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بينَهُ وبينَ أَحِبَّائِهِ يومَ القيامة.]
قال المؤلف رحمه الله: وأَنْ يَغُشَّ أو يَخُونَ فِى الكَيْلِ والوزنِ والذَرْع والعَدّ أو يَكْذِبَ.

الشرح: أن الغش حرام فى البيع ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ منْ غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا.] رواه مسلم. فالذى يخون فى الكيل أو الوزن أو الذرع – أى القياس بالأذرع – أو يخونُ فى العد كأن يوهم المشترى أنه يعطيه عشر بيضات وهى فى الحقيقة تسعة أو ثمانية فهو واقع فى الإثم. وقد قال تعالى:{ وَيْلٌ لِّلمُطَفِّفِينَ.}سورة المطففين /1. والويلُ هو الهلاكُ الشديد ، والمطفّـِف هو الذى له مِكيَالان يَستوفِى بمكيال تام ويبيع بمكيال ناقص ، أو له عياران للوزن يَستوفى بعيار تام ويبيع بعيار ناقص ، فالله تعالى تَوَعَّدَ هؤلاء بالويل أى أنهم يستحقون بذلك عذاب النار. وهذا يدلُّ على أن هذا الفعلَ من كبائر الذنوب.

قال المؤلف رحمه الله: وأنْ يبيعَ القطنَ أو غيَرُه منَ البَضَائِعِ وَيُقْرِضَ المشتَرِىَ فَوقَهُ دَرَاهِمَ ويزيدَ فِى ثَمَنِ تلكَ البِضَاعةِ لأجلِ القَرْضِ. وأنْ يُقْرِضَ الحائِكَ أو غَيْرَهُ من الأُجَرَاءِ ويستخدِمَهُ بأقلَّ منْ أجرةِ المِثْلِ لأجلِ ذلك القرضِ ، أَى إنْ شَرَطَ ذلك، ويسمُّونَ ذلكَ الرَّبْطَةَ. أو يُقْرِضَ الحَرَّاثِينَ إلى وقتِ الحَصَادِ ثم يَبِيعُونَ عليهِ طعامَهُمْ بأوضَعَ مِنَ السعرِ قليلاً ، ويسمُّونَ ذلكَ المَقْضِىَّ.

الشرح: أن كلَّ هذه أمثلةٌ لقاعدةٍ سبق ذكرها فى الكلام عن ربا القرض ، أى أنّ كل قرض كان فيه شرطُ جرِ المنفعة للمُقرِض أو للمُقرِض وللمقترِض فهو ربا.

قال المؤلف رحمه الله: وكَذَا جُمْلَةٌ مِنْ معاملاتِ أهلِ هذا الزمانِ ، وأكثرُهَا خارجةٌ عن قانونِ الشرع.

الشرح: أن كثيراً جداً من معاملاتِ أهلِ هذا الزمن لا توافقُ شرعَ الله عزّ وجلّ. فمن أراد رِضَا اللهِ تعالى فعليه أن يَتَجَنَّبَهَا. ولا يستطيعُ أن يَتَجَنَّبَهَا إلا إذا تعلَّم ما يحتاج إلى تَعَلُّمِهُ من علمِ الدين مما يَتَعَلَّق بالمعاملات كما قال المؤلف رحمه الله:

فَعَلَى مريد رِضا اللهِ سبحانَهُ وَسَلاَمَةِ دِينِهِ وَدُنْياهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحِلُّ ومَا يَحْرُمُ مِنْ عَالِمٍ وَرِعٍ نَاصِحٍ شَفَيقٍ عَلَى دِينِهِ فإِنَّ طَلَبَ الحَلاَلِ فَرِيضَةٌ علَى كُلِّ مُسْلِمٍ.

الشرح: أن الإنسانَ لا بدَّ أن يتلقَى علمَ الدِّين الذى يُعرَفُ به الحلالُ والحرام من أهل المعرفة والثقة. فلا يجوز استفتاءُ العالِمِ الفاسِق ، ولا يجوز استفتاءُ مَنْ لَيسَ له كَفَاءَةٌ فِى العلم. قال الإمامُ التابِعِىُّ الجليلُ محمّدُ بنُ سِيرِين رضى الله عنه:[ إنَّ هذا العلمَ دينٌ فانظروا عمَّن تأخذون دينَكم.] رواه مسلم فى مقدمة الصحيح.
ومعنى قول المؤلف:[ إنَ طلبَ الحلالِ فريضةٌ على كل مسلم.] أنه لا يجوزُ تناوُلُ رِزْقٍ من حرام. ليس معناه أنّه لا يجوز للإنسان أن يبقَى من غير عمل يحصّل منه معيشته على الإطلاق ، لا. لو أن الشخص ما كان غنياً ولم يكن عليه نفقة واجبة لغيرِهِ فلَمْ يَعْمَلْ ثِقَةً باللهِ عزّ وجلّ ، من غيرِ أن يكون مُتَطَلّعَاً فى نفْسِه إلى ما فِى أيدِى الناس من الأموال ليحصل عليها بالغش والخداع ونحو ذلك ، جازَ له ذلك ولا إثمَ عليه. روى الترمذىُّ أن رجلاً شكَا أخاهُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه لا يَحْتَرِفُ مَعَهُ. قال له: أَخِى يَلْزَمُ المسجد ولا يعمل وأنا أعمل وأصرِفُ عليه. فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :[ لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ.] وَجْهُ الدليلِ فى هذا الحديث أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لم يَذُمَّ ذلك الإنسان الذى تَرَكَ العمل. والحديث صحيحٌ رواه الترمذىُّ.

النَفَقَة الواجبة

قال المؤلف رحمه الله: يجبُ على المُوسِرِ نَفَقَةُ أُصُولِهِ المعْسِرينَ أى الآباءِ والأمهاتِ الفقراءِ وإن قَدَرُوا على الكسبِ.

الشرح: أنَّ مَن كان له أُصُولٌ معْسِرُون وكان هو قادراً على الإنفاقِ عليهم ، يَجِبُ عليه أن يُنفِقَ عليهم حتى ولو قَدَرُوا على الكسب. يعنِى إذا كان والداه فقيرَينِ أو كان أجدادُه فقراء وليس لهم أولادٌ يستطيعون إعالَتَهُم ، على وَلَدِ الوَلَد أن يَتَوَلَّى ذلك. يَعنِى أَنْ يُنْفِقَ عليهم بقَدْرِ الحاجة، من غيرِ تقديرٍ بِحَدٍّ مُعَـيّن ، لأن مقدار الحاجة يتغير من شخصٍ إلى شخص. فلو كان لا يَمْلِكُ أملاكاً كافيةً لينفِقَ عليهم يجبُ عليه أن يعمل لأجل ذلك، وليس له أن يُلْجِىء والديه للعمل ولو كانا قادِرَين. الوالد أى الأَبُ والأُم حقُه على ولده عظيم ، إلى حَدِّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ رِضَا اللهِ فِى رِضا الوالد وسخطُ اللهِ فى سَخَطِ الوالِد.] يعنى إذا أَسْخَطَهُ بِتَعَدٍّ. وَوَرَدَ فى حديثِ ابن حبان:[ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقًّا على الرجُلِ أُمُّه.] ويُرْوَى عن بعض السلف أنه من بِرّهِ بأمه كان إذا طلبت منه باقَةَ بَقُول يشترِى حِملاً منها حتى يَنْتَقِىَ خيرَها فيعطِيها لأُمّـِهِ. ويروى عن ءاخر أنه حصل منه شئ أزعج والدَيهِ فناما وهما منـزعجَانِ منه فأمضَى الليلَ واقفاً بقربِ سريرِهِمَا حتى أفاقا ليُرضِيَهُمَا. ما طاوَعُهُ قلبُهُ أن يتركَ المكان ووالداهُ غيرُ راضيَين عنه، لماذا؟ لأن برَّ الوالدين شىءٌ عظيمٌ.
من جملةِ حقِ الوالدِ على الولد أن ينفقَ عليه إذا كان الولد مستطيعاً والوالدُ فقيراً ، فإن ترك والدَيه لِيَضِيعَا فهو ءاثمٌ إثـماً عظيماً.

قال المؤلف رحمه الله: وَنَفَقَةُ فُرُوعِهِ أى أولادِه وأولادِ أولادِهِ إذا أَعْسَرُوا وعَجَزُوا عن الكسب لصِغَرٍ أو زَمانةٍ أى مَرَضٍ مَانِعٍ مِنَ الكَسْبِ.

الشرح: أن نفقةَ الفروع ذُكوراً كانوا أو إناثاً إذا كانوا لم يَـبْلُغُوا بعدُ ولا مالَ لهم فرضٌ على الأصل أى فرضٌ على الوالد. وكذلك أولادُه البالغون أو أولادُ أولادِه إذا لم يكن ءاباؤهم قادرين على كفايَتِهِم يجبُ أن يَكْفِيَهُم إذا أعسروا ، أى إن لم يكونوا يستطيعون أن يعملوا بحيث يُحَصّلون كفايتَهُم إما لصِغَر وإما لزمانةٍ أى لمرضٍ.
والنفقةُ الواجبةُ هى الكِسوةُ والسُكْنَى اللائقةُ بهم والقوتُ والإِدَامُ اللائقُ بهم. ويجبُ فى الطعامِ أن يطعمَهُم بحيثُ يَصِلُونَ إلى الشّـِبَع وإن كان لا يجب أن يبالغ فى إشباعهم. ويجبُ على الولدِ كذلك أن يُزَوّجَ أباهُ الفقيرَ المحتاجَ إلى الزِواج.

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ على الزوجِ نفقةُ الزوجة.

الشرح: أن الزوجةَ إن كانت مُمَكّـِنةً فَنَفَقَتُها واجبةٌ على الزوج ، وأما الناشز فلا تجب لها نفقة. والنُّشُوزُ كأن لا تُطِيعَهُ فى الجماعِ بغيرِ عذرٍ أو أن تَخْرُجَ من بيتِهِ بغيرِ إذنه. فيجب للممكنة مَسْكَنٌ لائِقٌ ، وكِسوَةٌ للصيف وكسوةٌ للشتاء ، وما زاد على ذلك من الثياب فهو من الإحسان إليها.
ويجبُ لها ما تَنامُ عليه وما تَتَغَطَّى به ، وءالةُ تنظيف ، وما تَلْبَسُهُ فى رجلِها.
ويجبُ عليه لها مُدٌّ من غالب قوتِ البلد إن كان فقيراً ، ومدٌ ونصف إن كان متوسطاً ، ومُدان إن كان غنياً بفجرِ كُلِّ يَومٍ. وعليه أن يَخْبِزَ هذا المقدار ، فإن اشترى مقداراً موازياً من الخُبْزِ يُجزِئ ، وعليه من الطبيخ ما يأكله أمثاله.
ولها عليه خادمٌ إن كانت ممن يُخْدَمُ فى بيت أهلِهَا وكان يستطيع أن يُخْدِمَها ، إلا إن أسقطت عنه ذلك. ومما ذكرناه من نفقة الزوجة على الزوج ما يختلف باختلاف الفصول والبلاد وأحوال الأشخاص. وأمّا أجرة القابلة فقال المالكيةُ هى على الزوج ، أما الشافعية فلا نعلمُ لهم كلاماً فى هذه المسئلة.

قال المؤلف رحمه الله: ومَهْرُهَا ، وعليه لها مُتْعَةٌ إن طَلَّقَهَا. والمتعةُ مالٌ يُعْطَى للمُطَلَّقَةِ بغيرِ سَبَبٍ مِنْهَا.

الشرح: أنَّ المهرَ حقُ الزوجةِ على الزوجِ ، حتى لو طَلَّقَهَا قبلَ أن يُعْطِيَهَا مهرَهَا فالمهْرُ ما زالَ لها عليه. والمهرُ قد يكونُ مالاً وقد يكونُ مَنْفَعَةً مَقْصُودة. فَيَصحُّ أن يكونَ ذهباً أو فضةً أو عُملةً أو بيتاً أو سيارةً أو مَتاعاً. ويصحُّ أن يكونَ تَعليمَ سورة من القرءانِ أو تعليمَ علمٍ نافعٍ. فإذا تَمَّ العقدُ على مهرٍ معـيَّن ثبتَ هذ المهرُ فى ذِمّتِهِ. فإن لم يحصل ذلك أى إن لم يُعَيَّنِ المهرُ فى العقد وَجَبَ لها مهرُ المِثل. فإن طلَّقَهَا الزوجُ من غيرِ سببٍ من قِبَلِهَا يجبُ عليه أيضاً أن يُعْطِيَهَا مُتْعَةً كقسم من أثاث البيت مثلاً وذلك لِجَـبْرِ خاطرِها.

قال المؤلف رحمه الله: وعلى مالِكِ العبيدِ والبهائِمِ نَفَقَتُهُم، وأَنْ لا يُكَلّـِفَهُم مِنَ العَمَلِ ما لا يُطِيقُونَهُ ، ولا يَضْرِبَهُم بغَيرِ حَقٍّ.

الشرح: أن مَنْ كان يَمْلِكُ عبيداً أو يَملِكُ بهائم يجب عليه الإنفاقُ عليهم. ولو كان العبد كافراً فليس له أن يُكَلّـِفَ عبدَه ما لا يُطِيق. وحتى البهائم ليس له أن يُكَـلّـِفَهُم مِنَ العمل ما لا يطيقون، مثل أن يُحَمّـِل البهيمةَ أكثر مما تُطِيق فإن هذا حرام. ولا يجوز له أن يَضْرِبَ عبدَه بغيرِ حق. ولا يضرب البهيمة إلا إذا أساءت ، فالحمار مثلاً لا يُضْرَب إلا إذا أساء ، وحتى لو ضُرِبَ الحمار لا يُضرَب فى وجهِهِ. وقد جاء فى الحديث أن من فَعَلَ ذلك أصابَتهُ اللّعنة. روى البخارىّ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال عن العبيد:[ إخوانُكُم خَوَلُكُم. مَلَّكَكُم اللهُ إياهُم. فَمَنْ كانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَليُطْعِمْهُ مما يأكُل ، ولـيُلبِسْهُ مما يَلْبَس ، ولا يُكَلّـِفْهُ مِنَ العَمَلِ ما يَغلبُهُ. فإن كَلَّفتموهم فأَعِينُوهُم.]

مما يجبُ على الزوجةِ

قال المؤلف رحمه الله: ويجبُ على الزوجَةِ طاعَتُهُ فِى نَفْسِهَا إِلاّ فِى ما لا يِحِلُّ ، وأَنْ لا تَصُومَ النفلَ ، ولا تَخْرُجَ من بيتِهِ إلا بإذنِهِ.

الشرح: أنه يجبُ على الزوجةِ أن تُطِيعَ زَوْجَهَا فيما هو حقٌ له عليها. وذلك كأن يَطْلُبَ الاستمتاعَ ببدنِهَا ، فليس لها أن تمنَعَهُ ذلك بغيرِ عذرٍ. وإن طَلَبَ منها أن تَتَزَيَّنَ له فيجبُ عليها أن تفعل ، لكن هو يَشْتَرِى لها ما تَسْتَعْمِلُهُ لذلك ، وليس شراؤه عليها. ويجبُ عليها أن لا تصومَ النفل وهو حاضر – أى وهو غيرُ مسافر – إلا بإذنِهِ. أما الواجب كرمضان فتصومُهُ رَضِىَ أو لم يَرْضَ ، لأنَّ اللهَ أحقُّ أنْ يُطَاعَ. ولا يجوز لها أن تُوطِئَ فراشَهُ من يكره ، يعنى لا يجوز لها أن تأذن بدخولِ بيته لمن يكره ولو كان قريباً لها ، حتى لو كان أباها أو أُمَّها. ولا يجوز لها أن تخرُجَ من بيتِهِ من غير إذنه إلا لضرورة ، كأن خافت انهيارَ البيت عليها ، أو إذا لم يأذن لها بالخروجِ لطلبِ علمِ الدين ولا هو عَلَّمَهَا أو جَلَبَ لها من يعلمُهَا أى الفرضَ العينِىَّ فيجوز لها عندئذ الخروجُ من بيته بغير إذنه لهذا الغرض. هذا فى حالِ كون البيت له فإن كان البيتُ لها فالحكمُ يَخْتَلِف ، فلها أن تخرج لو لم يأذن. ويجبُ عليها أن تترُكَ ما يُعَكّـِرُ عليه الاستمتاع من الروائح الكريهة. إن كانت تُضايقُهُ رائحةٌ كريهة فتعكر عليه الاستمتاع بها كرائحة الثؤم أو التُّتُنِ يجب عليها أن تَتْرُكَ ذلك.

كتاب المعاصي
على مذهب الإمام الشافعي
الواجباتُ القلبيةُ

قال المؤلف رحمه الله: مِنَ الواجباتِ القلبيّةِ الإيمانُ باللهِ وبما جاءَ عَنِ اللهِ ، والإيمانُ برسولِ اللهِ وبما جاءَ عَن رسولِ اللهِ.

الشرح: أن هناك واجباتٍ هى من واجبات القلب، كما أن هناك معاصِىَ هى من معاصِى القلب. والقلبُ سريعُ التَّقَلُّبِ ، فينبغِى على الشخص أن يراقبَ قلبَهُ فى تقلبَاتِهِ حتَى يستمرَ قلبُهُ على الحالِ التِى تُرضِى اللهَ تبارك وتعالى. فإن الأمر هو كما قال النبىُّ عليه الصلاة والسلام:[ إِنَّ فى البدنِ مُضغةً إذا صَلَحَت صلَحَ الجسَدُ كُلُّه وإذا فَسَدَت فَسدَ الجسدُ كلُّه أَلاَ وهِىَ القلب.] والحديث رواه مسلم. فمن واجباتِ القلبِ الإيمانُ بالله وبالرسولِ عليه الصلاة والسلام ، بل هذا أصلُ الواجبات ، أى الاعتقاد الجازم من غيِر شكٍ بوجودِ الله تبارك وتعالى وَوَحْدَانِيَتِهِ ، وأنه عزّ وجلّ موجودٌ لا يُشبِهُ الموجودات ، موجودٌ بلا كمية وبلا كيفية وبلا مكان. والاعتقادُ الجازمُ بأنَّ محمّداً عليه الصلاة والسلام مرسَلٌ من ربّه إلى كلِّ الإنسِ والجن ليبلّـِغَهُم عن الله عزّ وجلّ. وهذا يستلزمُ الإيمانَ بكلِّ ما جاء عن الله وبكلِ ما جاء عن رسولِ الله ، أى بالقرءان وبما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم مُـبَلّـِغـاً عن ربّـِه.

قال المؤلف رحمه الله: والإخلاصُ وهوَ العملُ بالطاعةِ للهِ وحْدَهُ.

الشرح: أن من أعمالِ القلوبِ الواجبةِ الإخلاصَ لله تبارك وتعالى فى العمل. ومعنى ذلك أن لا يقصدَ بعملِه محمَدَةَ الناس. ليس معنى ذلك أن لا يَشْعُرَ قلبُه بالسرور فيما لو مدحَهُ الناس على عَمَلٍ حَسَن، لأن الإنسان مَجْبُولٌ على الفَرَح فيما لو مُدِحَ. إنما الخطر أن يعملَ العمَل وقَصْدُه من ذلك أن يمدَحَهُ الناس وينظروا إليه بعينِ الإجلال ، فإنه فى هذه الحال واقع فى ذنبٍ من الذنوبِ الكبيرةِ. ومِن عُظْمِ هذا الذنب شبَّهَهُ الرسولُ بالشرك. وقد قال الله عزّ وجلّ:{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.} سورة الكهف / 110. فمعنى:{ وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أحَداً.} أى أن لا يُرائِى أى أن لا يقصد بعبادتِهِ مَحمَدَة الناس. فليس المقصودُ بهذه الآية الشركَ الأكبر ، إنما المقصود الرياء، لأن الذى يقصِدُ بفعلِ الطاعةِ رضا إنسان من البشر يكون فعلُه شبيهاً بالذى يعبُدُ غيرَ الله ، ولذلك شَبَّهَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن حبان بالشرك بقوله:[ اتقوا الرياء فإنه الشرك الأصغر.] ولم يقصد أنه كفر.

قال المؤلف رحمه الله: والندمُ على المعاصِى.

الشرح: أن من الواجبات القلبية التوبةَ من المعاصِى إن كانت كبيرةً وإن كانت صغيرةً. والركنُ الأعظمُ من أركانِ التوبة هو الندم ، لذلك جاء فى الحديثِ:[ النَّدَمُ تَوبَة.] ليس معناه أن الندمَ وحدَه كافٍ لحصولِ التوبة ، إنما معناه الركنُ الأعظم فى التوبةِ هو الندم على المعصية. والحديث رواه الترمذىّ. ويجب أن يكون الندمُ لأنه عصى الله ليس لأجلِ الفضيحةِ بين الناس مثلاً. يعنى مَنْ نَدِمَ فقال: أنا كيف فعلتُ هذا الأمر أنا الآن أنفضِحُ بين الناس فكان هذا كُلَّ ما شَغَلَ بالَهُ ، أى ما كان ندمه لأجل أنه عصى ربه فهذا لا يكون نَدَماً مُعْتَبَراً فى التوبة.

قال المؤلف رحمه الله: والتوكُّلُ على اللهِ.

الشرح: أن التوكُّلَ على اللهِ معناهُ الاعتمادُ على الله ، يعنى ثقةَ القلبِ بالله أنه لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله ، لا أحد يَضُرُّكَ بشىءٍ لم يُرِدْهُ الله ولا أحد ينفعُكَ بشىء لم يَكْتُبْهُ اللهُ لك ، فيكون اعتمادُ الشخص فى قلبه على الله فى أمورِ الرزق والسلامةِ من الآفَاتِ وما شابه ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: والمراقبةُ للهِ.

الشرح: أن مِنْ واجباتِ القلبِ المراقبةَ للهِ ، يعنى أن يَستَدِيمَ الشخصُ فى قلبِهِ خوفَ اللهِ عزّ وجلّ على نحوٍ يمنَعُهُ من إهمالِ الواجب أو إتيانِ المُحَرَّم. ومما يساعد على هذا أن يستحضِرَ الشخصُ فى مختلف أحواله أنَّ الله يراه وأنَّ اللهَ عالِمٌ به. بعضُ السلَفِ لما كان صغيراً جداً أحدُ أقاربِهِ من أكابرِ الأولياء نصحَهُ أن يردِد:[ اللهُ يرانِى اللهُ عالمٌ بى. قال: فَرَدَّدتُهَا سَنَة ، ثم بعد سنة قال لى: الذى يَعْلَمُ أن الله يراهُ وأن الله عالمٌ به هل يعصِيهِ؟ لا تعْصِ الله طَرْفَةَ عين. قال فانتفعت بذلك انتفاعاً عظيماً.] إهـ. وكان عمرُهُ أقل من سبع سنوات عند ذلك!!.

قال المؤلف رحمه الله: والرِضا عن اللهِ بمعنَى التسليمِ له وتركِ الاعتراضِ.

الشرح: أنه يجب على المكلفِ أن يرضَى عن الله أى أن لا يعترض على الله لا باطناً ولا ظاهراً. فيرضى عن الله عزّ وجلّ فى تقديره سبحانه للخير والشر. وفى تقديره سبحانه للحُلوِ والمر والسَّهْلِ والحَزَن وللراحة والألم ، فلا يعترضُ على الله فى أى شأنٍ من ذلك. والذى يجب أن يَرضَى به العبدُ تقديرُ الله. أما المقْدُورُ أى ما يحصُلُ بتقديرِ الله من الشرور فلا يجبُ أن يرضى به بل ينكِرُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: وتَعظيمُ شعائِرِ اللهِ.

الشرح: أنه يجبُ أن يُعظّـِمَ الإنسان أعلامَ الدين. وأعلام الدين هى شعائرُ الدين فالأمور المشهورة بأنها من الدين يجبُ تعظيمُهَا ، مثل الأذان والحج والوقوف بعرفة وما شابَه ذلك. فيحرُمُ عليه أن يَستَهِينَ بشىءٍ منهَا.

قال المؤلف رحمه الله: والشُكْرُ على نِعَمِ اللهِ بمعنَى عَدَمِ استعمالِهَا فِى مَعْصِيَةٍ.

الشرح: أن الشكرَ قسمان شُكرٌ واجب وشكرٌ مندوب. أما الواجب فهو بأن لا يستعمِلَ نعمةَ الله فى معصيةِ الله. ليس الشكرُ الواجبُ مُجَرَّدَ أن يقولَ الإنسانُ بلسانه الشكرُ لله أو الحمدُ لله. فلو قال بلسانه عشرة ءالاف مرة فى اليوم الشكر لله ثم هو يستعمل يدَه فى معصيةِ الله ورجلَهُ فى معصية الله ولسانَه فى معصية الله ، هذا لا يكون شاكراً لله عزّ وجلّ الشكرَ الواجب. إنما الشكرُ الواجبُ أن لا تستعملَ نعمةَ الله فى معصيته. وأما الشكرُ المسنون فهو مِثْلُ أن تدعُوَ لمن أحسَنَ إليك.

قال المؤلف رحمه الله: والصبرُ على أَدَاءِ ما أَمَرَ اللهُ ، والصبُر عما حَرَّمَ اللهُ ، وعلى ما ابتلاكَ اللهُ بِهِ.

الشرح: أن من واجباتِ القلب الصَّبْرَ. والصبرُ ثلاثةُ أنواع:
صبرٌ على أداءِ الواجب ، لأن الإنسانَ يَشُقُّ عليه فى بعضِ الأحيان أداءُ الواجب فيحتاجُ إلى الصبر حتى يَتَحَمَّلَ هذه المشقة. كما لما يتوضأُ الإنسان بالماء البارد فى الصبيحةِ الباردة ليصلىَ الصبح ، فإنه يحتاجُ إلى الصبر فى هذه الحال.
والنوع الثانى الصبرُ عن المعصية أى أن يَكُفَّ نفسَهُ عن معصيةِ الله مع أن نفسَه تدعوه إلى ذلك. فى هذه الحال يحتاجُ إلى الصبر. كأن كان فى ضِيقِ عَيش وحالِ فَقر وعَرَفَ أنه يستطيعُ أن يحصّل مالاً كثيراً من طريقٍ حرام فدعته نفسه إلى ذلك فامتنع لله تعالى مُؤْثِراً شدة الفَقرِ على أكل ما حرَّم الله. فإن هذا يحتاج إلى صبرٍ بلا شك.
والنوعُ الثالثُ هو الصبرُ على البلاء ، فلا يَجُرُّه البلاءُ إلى معصيةِ اللهِ. مثالُ ذلك أن يتعرَّضَ من مسلمٍ ءاخَرَ للإيذاء وللإهانة كُلَّ يوم وهو يعرف أنه لو قَتَلَ ذلك الشخص يرتاحُ من هذه الإهانات المتكررة. هنا يحتاجُ أن يصبرَ على هذا البلاء حتى لا يقعَ فيما حرَّم الله عزّ وجلّ. بعضُ الناس إذا ابتُـلُوا لا يصبرون حتى إنهم قد يكفرون. لما يَظْهَر الدّجال يحصُلُ ضيق شديد للمسلمين ، يحصل بين المسلمين مجاعة ، أما مَنْ تَبِعَ الدجال فإن أَرْضَهُم تُنْبِت والسماءَ تُمطِرُ عليهم ، فإذا لم يُعَوّد الإنسان نفسَه على الصبر على البلاء قد يكفر إذا صار فى مثل تلك الحال. نسأل الله أن يحفَظَنَا.
فائدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ قال الله تعالى: ما لعبدِى عندى إذا قبضتُ خَلِيلَهُ أو صَفِيَّهُ فَصَبَرَ واحْتَسَبَ ذلكَ عِنْدِى من جزاءٍ إلا الجنة.] أى من غير عذاب ، وفى رواية:[ وما لعبدى المؤمن.] رواه الترمذىّ.

قال المؤلف رحمه الله: وبغضُ الشيطان.

الشرح: أنه يجب على المكلفينَ بغضُ الشيطان لأن الله تبارك وتعالى قال:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.}سورة فاطر / 6. والشيطانُ هو الكافرُ من الجن ، وجَدُّهُم الأعلى ورئيسُهُم هو إبليس اللعين.

قال المؤلف رحمه الله: وبغضُ المعاصِى.

الشرح: أن من واجباتِ القلبِ بغضَ المعاصِى سواءٌ صدرت منَ الشخصِ أو من غيرِه فى حضرَتِهِ أو فى غَيبَتِهِ. أى إذا عَلِمَ بمعصيةٍ من المعاصى لا بد أن يَكْرَهَهَا بقلبِهِ.

قال المؤلف رحمه الله: ومحبةُ اللهِ ومحبةُ كلامِهِ ورسولِه والصحابةِ والآلِ والصالحين.

الشرح: أنه يجب على المكلفِ مَحَبةُ اللهِ عزّ وجلّ، يعنِى محبةَ التعظيمِ التى تليقُ بالله عزّ وجلّ. وكذلك يجب محبةُ كلامِ الله عزّ وجلّ أى القرءان ، أى بتعظيمِهِ التعظيمَ اللائقَ به. ويجبُ محبةُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام ، أى تعظيمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على ما يليقُ به ، بالإيمانِ به واعتقادِ أنَّه عليه الصلاة والسلام أفضلُ رُسُلِ اللهِ عزّ وجلّ ، من غيرِ الغُلُوّ فى ذلك ومجاوزَةِ الحدّ المطلوبِ شرعاً أى من غيرِ وصفِه عليه الصلاة والسلام بما لا يجوز أن يوصَفَ به. كما فعل بعضُ الناس فإنهم بالغوا فى تعظيمِ النبىّ صلى الله عليه وسلم حتى قالوا بأنه يَعْلَمُ كلَّ ما يعلمُهُ اللهُ عزّ وجلّ وهذا كفر. وكذلك يجبُ محبةُ كلامِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لأن هذا تابعٌ لتعظيمِ النبىّ صلى الله عليه وسلم . يُروَى عن مالكٍ رضى الله عنه أنه كان إذا أتاه طلاّبُ الحديث الذين يطلبون تعلُّمَ حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وسماعَهُ منه ، كان يتوضأُ ويلبَسُ مِن أحسنِ الثيابِ ويتطيبُ ويأمرُ بالعُودِ أو ما شابه من البَخُورَات أن يوضَع فى المجلس ، ثم تُطْرَحُ له وِسَادة فيقعُدُ عليها ساكناً عليه الوقارُ والهيبةُ. فلا يتحركُ ولا يتنحنحُ ما دام حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُقْرَأُ عليه إجلالاً لحديث النبىّ ومحبةً فيه.
كذلك يجب محبةُ الصحابة. والصحابىُّ هو مَن لَقِىَ النبىَّ صلى الله عليه وسلم على سبيلِ العادةِ مُصَدِّقاً به ثم مات على ذلك. فالأنبياءُ الذين صَلَّوْا خلفَ النبىّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراءِ لا يُعَدُّون من صحابتِهِ لأن لقياهم له ما كان على الطريق المعتاد بل كان بطريق خَرقِ العادة. فيجب محبةُ الصحابةِ لأنهم أنصارُ دينِ الله عزّ وجلّ ، لا سيما السابقونَ الأولونَ منهم من المهاجرين والأنصار. كذلك يجبُ محبةُ ءالِ النبىّ صلى الله عليه وسلم . والآل يُطْلَقُ بأكثرَ من معنًى. إن أُرِيدَ بالآلِ الأتباعُ الأتقياء فتجبُ محبتُهُم لأننا مأمورون بمحبةِ الصالحينَ ، و قولنا فى الصلاة:[ السلام علينا وعلى عبادِ الله الصالحين.] فهذا إشارة إلى تعظيمهم ووجوبِ محبَّتِهِم. وإن أُرِيدَ بالآلِ أَقْرِبَاءُ الرسول عليه الصلاة والسلام فهؤلاء أيضاً تجبُ محبتُهُم. أزواجُه وأقرباؤه المؤمنون تجب محبتهم لِمَا خُصُّوا به من الفضلِ. أليس ربنا عزّ وجلّ قال:{ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.}سورة الأحزاب / 33. بعضُ العلماءِ قال الرجسُ معناه الشرك ، وبعضُ العلماءِ قال: معناهُ العذاب. ثم إن رسول الله بَـيَّن ذلك فقال:[ تركتُ فيكم شَيئَينِ ما إنْ تَمَسَّكْتُم بهِمَا فلَن تَضِلُّوا أبداً: كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِى أَهْلَ بَيْتِى.] معنى ذلك أن علماءَ أهلِ البيت النَبَوىّ يكونون متمسكين بسنةِ النبىّ صلى الله عليه وسلم وبمنهاجه.

معاصِى القلبِ

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصِى القلب الرياءُ بأعمالِ البرّ وهو العمل لأجل الناس أى ليمدَحُوه ويُحبِطُ ثوابَها.

الشرح: أن من معاصى القلب التى هى من كبائر الذنوبِ الرياءَ بأعمال البر. فلو قَصَدَ الشخصُ محمدةَ الناس بأعمالِ البرّ كالصلاةِ والصيامِ والحجِ والزكاةِ وقراءةِ القرءانِ والإحسانِ إلى الناسِ وتعليمِ الناس ، أو قصدَ بذلك الثوابَ مِنَ اللهِ ومحمدةَ الناس كِلَيهِمَا فلا أجرَ له. فإن زاد على ذلك قصًدَ أن يَظُنَّ فيه الناسُ التقوى ليبَرُّوه بعطاياهم وهداياهُم فإنه يكون ازداد فى الشرِ ، وَأَكْلُهُ لمثل ذلك المال حرامٌ.

قال المؤلف رحمه الله: والعُجْبُ بطاعةِ الله ، وهو شهودُ العبادةِ صادرةً مِنَ النفس غائباً عن المِنَّة.

الشرح: أن بعضَ الناسِ لما يؤَدّى الطاعات يحصُلُ له عُجبٌ بهذه الطاعات ، فلا يستحضر أن الله هو الذى أقدره على الطاعة. فَيُعْجَبُ بنفسه ويظن فى نفسه العلو على غيره بأداءِ هذه الطاعات ناسياً أن هذا فضلُ اللهِ عليه. وهذا معصية من معاصى القلب. أهلُ الإخلاصِ يكونون مشغولِين بتخليصِ طاعاتِهِم من الرياء وبشكرِ الله على نِعَمِه ، يستحضرون أن ما يفعلونه من طاعةٍ نعمةٌ من الله. رُوِىَ أنّ الجُنَيدَ فى مرض موتِه قبل أن تخرج روحُهُ بقليل كان يُصلّـِى ، فدخلَ عليه شخصٌ وهو على هذه الحال وكانت رجلُه ثَقُلَت فما عاد يستطيع الوقوف فمدَّ رجلَه وكَبَّرَ أى دخل فى الصلاة ، فلما أنهى قال له هذا الإنسان ما هذا؟ يعنى ما هذه الحال التى أنت فيها؟ فقال له الجنيد:[ نِعَمُ الله.] يعنى أنّ الله متفضل علىّ بنعم عديدة فى هذه الحال التى أنا فيها الآن. ثم كَبَّرَ لأنه أراد أن يستغل ءاخر أوقاته فى الدنيا فى الصلاة لله عز وجل.

قال المؤلف رحمه الله: والشكُّ فى الله.

الشرح: أن الشكَّ فى الله من معاصِى القلب وهو كفر ولو لم يستمرَّ هذا الشكُّ طويلاً. لكن هذا لا يعنى أن مجرد الخاطر الذى يَخْطُرُ على قلبِ الإنسان بغيرِ إرادةٍ منه ويكرَهُهُ الإنسان ويردُهُ ويطرُدُه يكون كفراً ، لا. لأن هذا الخاطر لم يؤَثّر فى قلبِهِ شكاً ولا تردداً ، إنما هو مجرد وَسوسةٍ وخاطر خبيث رده هو وطرده فلا يكفر بذلك ولا إثم عليه بل له ثوابٌ عند الله. إنما الذى يؤثر الشكُّ والتردُدُ فى الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: والأمنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ ، والقنوطُ مِنْ رحمةِ اللهِ.

الشرح: أنَّ مِنْ معاصى القلبِ الأمنَ مِنْ مكرِ الله. يعنى أن يسترسل الإنسان فى المعصية معتمداً على رحمةِ الله ، فيقول: الله لا يُعذبُنِى بل يرحمُنِى ويعفو عنى فيسترسل فى المعاصِى لذلك. هذا حرام. ومن ناحية ثانية القنوطُ من رحمة الله ذنبٌ عظيمٌ أيضاً. معنى القنوط من رحمة الله أن يعتقد الشخص أن الله عزّ وجلّ لا يغفرُ له ولا يسامحُهُ لكثرةِ ذنوبِه التى لم يتب منها. كِلاَ الأمرَينِ ذنبٌ. والسلامةُ أن يكون الإنسانُ فيما بينهما ، يعنى أن يخافَ عقابَ اللهِ وأن يرجُوَ رحمةَ الله. هذان الأمران للمؤمن كالجناحين للطائر ، لا يطيرُ الطائرُ إلا بجناحيه وسبيلُ النجاةِ للمؤمن بأن يَجمَعَ بين هذين الأمرين الخوفِ من عذابِ الله والرجاءِ لرحمة الله.

قال المؤلف رحمه الله: والتكبُّرُ على عبادِهِ ، وهو رَدُّ الحقِ على قائِلِهِ واستحقارُ الناس.

الشرح: أن من معاصى القلبِ الكِبْرَ. والكبر نوعان كما ثبت فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ الكِبْرُ ردُّ الحقِ وغَمطُ النَّاس.] رواه الترمذى.

النوع الأول وهو رد الحق ، يعنى أن يعرف أن ما يقوله الآخر حقٌ ومع ذلك يردُه ويرفُضُهُ لعنادٍ أو لكونِ الآخر أقلَّ جاهاً أو أقلَّ مالاً أو نحو هذا.
والنوع الثانى وهو غمط الناس يعنى أن ينظر إلى نفسه بعين التعظيم وإلى غيرِهِ بعين الاحتقار ، بسبب ما رَزَقَهُ الله من مال أو قوة أو غير ذلك من نعم الله. والكبرُ ذنب عظيم. وقد ثَبَتَ فى الحديث أن المتكبرين يُحشرون يوم القيامة على صور بَنِى ءادم ، لكن أحجامُهُم كأحجام النمل الصغير يطأُهُم الناس بأقدامِهم فَيُعاقَبون يوم القيامة عقاباً متناسباً مع الذنب الذى فعلوه فى الدنيا. أجارنا الله من ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: والحقدُ ، وهو إضمارُ العدواةِ ، إذا عَمِلَ بمقتضاهُ ولم يكرهه.

الشرح: أن من معاصِى القلبِ الحِقدَ. والحقد هو إضمار العداوة للمسلم فى القلب بحيث يحمِلُهُ ذلك على السعىِ لإيذاءِ المسلم باللسان أو بالجوارح. يعنى إذا لم يكرَه هذا الأمرَ فى قلبه إنما عَمِلَ بمقتضاه فسعَى ليَضُرَّ أخاه المسلم فإنه يكون ءاثماً.

قال المؤلف رحمه الله: والحسَدُ، وهو كَرَاهِيَةُ النعمةِ للمسلمِ واستثقالُهَا وعَمَلٌ بمقتضاها.

الشرح: أن من معاصِى القلبِ أن يَحسُدَ المسلمُ أخاه ، يعنى أن يستثقل فى قلبه أنّ أخاه المسلم مُتَّصف بنعمةٍ من النّعَم أو حائز على نعمةٍ من النّعم إلى حد أن يحمِلَهُ ذلك على العمل حتى يُسْلَبَ ذلك المسلمُ تلك النعمة وتنتقِلَ إليه. وسواءٌ فى ذلك النعمةُ الدينيةُ والدنيويةُ. فلو أن شخصاً من المسلمين أنعم اللهُ عليه بمالٍ فحَسَدَهُ شخصٌ ءاخر وسَعَى حتى يخسرَ المسلم مالَه وينتقلَ هذا المال إليه يكون وقع فى ذنب الحسد. أما مجرد أن يُحِبَّ الشخصُ أن يكون عنده مثلُ ما عند ذلك المسلم من غير أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن ذلك المسلم و من غير أن يسعَى فى ذلك ، فهذا ليس محرماً. كما أنّ مجردَ أن يخطُرَ ببالِ الشخصِ استثقالُ النعمةِ لأخيه المسلم من غير أن يَسعَى لأجلِ سَلْبِهَا منه، إنما خطرَ له هذا الخاطر فردَّه فهذا لا إثم فيه أيضاً. لكن لو عَزَمَ بقلبه على إتيان المعصية كُتِبَ ذلك ذنباً عليه ، وأما ما دونَ العَزْم فليس عليه فيه ذنبٌ. وهذا ينطبق على أغلب المعاصى أى لو تردد الشخصُ فى فعل السرقة أو الكذب من غير أن يجزِمَ بقلبِه أى من غير أن يعزِمَ بقلبه أنه يفعل تلك المعصية لم تُكْتَب عليه ، فإن عزم كتبت سيئةٌ واحدة. وإنما قلنا أغلب المعاصى لأن هذا لا ينطبقُ مثلاً على أمرِ التردُّد فى الإيمان بالله فإن مجرد التردد أو الشَّكِّ في ذلك كُفر يُكتَبُ على الإنسان.
قال المؤلف رحمه الله: والمنُّ بالصدقةِ ، ويبطِلُ ثوابَها. كأن يقول لمن تصدَّقَ عليه ألم أُعْطِكَ كذا يومَ كذا وكذا.

الشرح: أن من معاصى القلبِ أن يُعَدّد شخصٌ لإنسانٍ ءاخر ما أَحْسَنَ به إليه ونيتُه أن يَكْسِرَ قلبَه بذلك. هذا يقالُ له المنُّ بالصدقَةِ. وذلك كأن يقول له أمام الناس حتى يكسِر قلبَه: تَذكُر لما أعطيتك كذا وكذا ، تذكر لَمّا لم تكن مستطيعاً أن تشترىَ طعاماً لأهل بيتك فجئتَنى ورجوتَنى حتى أعطِيَك مالاً ففعلتُ؟. وأما لو قال له إنسان هو كان أحسن إليه: أنت ما أحسنت إلىّ قط ، فأجابه: أليس فى يوم كذا فعلت لك كذا وكذا. لِيُذَكّـِرَهُ لا ليكسر قلبه فهذا لا يكون حراماً. ثم هذا المنُّ يُبطِلُ الثواب أى يَخْسَرُ به الإنسان ثوابَ ذلك العمل لأن الله تبارك وتعالى قال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى.}سورة البقرة / 263. فمن مَنَّ بالصدقة بطل ثواب صدقته تلك.

قال المؤلف رحمه الله: والإصرارُ عَلَى الذنبِ.

الشرح: أن من المعاصى الاستمرارَ فى إتيان المعصية بعد المعصية إلى حد أن تزيدَ معاصيه على حسناته فإن هذا كبيرة. ففى اللحظة التى تزيد سيئات الإنسان فيها على حسناته يصير هذا الأمرُ كبيرةً أى يكون وقع الإنسان فى معصية الإصرار علىالذنب التى هى كبيرة. إذاً الأمر مربوط بزيادةِ عدد سيئاته على حسناته ، لكن عُدَّتْ مع معاصى القلب لأن منشأ العصيان العزمُ بالقلب، ففى هذه الحال يكون قلبُه فيه علة دفعته إلى العصيان مرة بعد مرة حتى زادت سيئاتُه على حسناتِه ، ولذلك عُدَّت مع معاصِى القلب.

قال المؤلف رحمه الله: وسوءُ الظنِّ باللهِ.

الشرح: أن من معاصى القلبِ سوءَ الظنِّ بالله عزّ وجلّ. وذلك بأن يعقد قلبه على أن الله لا يرحمُهُ بسب ما فعل من المعاصى، وهذا سَبَقَ بيانُهُ فى شرح القنوط من رحمة الله.

قال المؤلف رحمه الله: وبعبادِ الله.

الشرح: أن من معاصى القلبِ أن يُسِىءَ إنسانٌ الظنَّ بالمسلمين بواحدٍ أو أكثر من غيرِ قرينةٍ مُعْتَبَرَة. وذلك كأن يُسْرَقَ لإنسانٍ مالٌ فيقول بقلبِه لا بد أن فلاناً هو الذى سرَقَهُ لِى من غير أن يكون هناك أيةُ قرينة تدُلُّ على ذلك. وأما لو اعتمد على قرينة معتبرة كأن كان هذا الشخص معروفاً بالسرقة وَوُجِدَ على حال مُرِيبةٍ فى المكان الذى حَصَلَت السرقُة فيه فقال فى قلبه كأنَّ فلاناً هو الذى أخذ المال فلا إثمَ عليه. وكثيرٌ من الناس يقعون فى إساءة الظن ، وذلك لأن كثيراً من الناس إذا كرهوا إنساناً يصيرُ سهلاً على قلوبهم أن يَنْسِبُوا إليه المعَايب من غير تحقق. فإذا رأوا منه تصرفاً يحتمل وجهاً حسناً ويحتمل وجهاً سيئاً يحملونَه على الوجه السىء من غير أية قرينة معتبرة ، إنما بسبب ما فى قلوبهم من الكراهة له فيقعون فى إساءة الظن عافانا الله منها. ءامين.

قال المؤلف رحمه الله: والتكذيبُ بالقدر.

الشرح: أنّ من معاصى القلبِ التكذيبَ بالقدرِ وهو كفرٌ. ومعنى القدر الذى هو صفة الله تدبيرُ الأشياء على وجهٍ مطابقٍ لعلمِ الله ومشيئَتِهِ الأَزَلِيـين. فإذا كذّب إنسان بالقدر فقال عن شىء من الأشياء إنه يحصلُ بغير قدر الله فهو كافر ، كما نصَّ على ذلك الإمام مالك وغيرُه.

قال المؤلف رحمه الله: والفرحُ بالمعصيةِ منه أو مِنْ غيرِهِ.

الشرح: أن الفرَحَ بالمعصيةِ معصيةٌ سواءٌ صدرت من الشخصِ أو من غيرِه فى حضرتِهِ أو فى غَيْبَتِهِ. فإذا علم بها فَفَرِحَ لصدورِهَا فهو ءاثم. وقد سبق الكلام فى هذا الأمر.

قال المؤلف رحمه الله: والغدرُ ولو بكافرٍ كأن يؤمّـِنَه ثم يقتُلَهُ.

الشرح: أن رسولَ الله حرّمَ الغدرَ حتى بالكافرِ. فلو أمّنَ شخصٌ إنساناً مثلاً ثم غدر به فقتلَه فهذا حرامٌ. ولو كان هذا المؤمَّنُ فى الأصل كافراً حربياً ثم قال له مسلم:[ تعالَ إلينا أنت ءامنٌ.] فجاء بسبب ذلك الأمان فَغَدَرَ به ذلك المسلم فقتله فهو ءاثم. فكيف إذا كان الغدرُ بمسلم؟ وهذا الغدرُ يَشْمَل فيما لو عامل إنساناً بمعاملة من بيع وشراء ونحو ذلك فغشَّه ولو كان كافراً.

قال المؤلف رحمه الله: والمكرُ.

الشرح: أن من معاصى القلبِ المكرَ. وهو والخديعةُ بمعنى واحد ، ومعناه إيصال الضرر إلى المسلم بطريقةٍ خفيّة. وقد ذَمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمرَ بقوله:[ المَكْرُ والخِدَاعُ فى النار.] رواه الترمذىُ.
قال المؤلف رحمه الله: وبغضُ الصحابةِ والآلِ والصالحينَ.

الشرح: أن من معاصى القلبِ بغضَ أصحابِ رسولِ الله ، واسم الصحابة يشمل الذين ارتدوا منهم بعد وفاة الرسولِ ثم رجعوا إلى الإسلام و ماتوا عليه. وكل الصحابة عدول فى النقل عن رسول الله لا يكذبون في ذلك ، سواء طالت صحبة الواحد منهم لرسول الله أم لم تطل.
كذلك من معاصى القلبِ بغضُ الآل أى أزواجِ النبى وأقاربِهِ.
وكذلك بغض الصالحين وهذا سبق بيانُه. لكن يَحْسُنُ أن نُشِيرَ إلى أنه إذا كان بغضُ الصالحين الذين لم يصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حراماً ، فكيف بالذى يُبْغِضُ أبا بكرٍ أوعمر أو عثمان أو علياً أو سائر العشرة أو السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. فإنّه لو أبغض واحداً من العشرة المبشرين بالجنة فهو فاسق. نسأل الله أن يعافيَنا من ذلك وأن يجعلنا ممن يَتَّبِعُ أصحاب النبى على خير. ءامين.

قال المؤلف رحمه الله: والبُخْلُ بما أوجَبَ اللهُ ، والشُّحُّ ، والحِرْصُ.

الشرح: أن هذه المعاصِىَ الثلاثَ منشأُها شدةُ تعلُّقِ القلبِ بالمال ولو أَدّى ذلك إلى وقوعِ الشخصِ فى المعصية. المعصيةُ الأولى هى البخل. والبخل هنا معناه عدمُ دفعِ الحق الذى فى المال ، وذلك كنفقةِ الأولاد الواجبة ونفقةِ الزوجة والزكاةِ وما شابه ذلك. فإذا زاد هذا البخل يقال له شُحّ ، يعنى إذا كان الشخصُ يمتنعُ من دفعِ الزكاة يقال عنه بخيل لكن إذا امتنع من دفع الزكاة ومن دفع النفقة الواجبة عليه يقال عنه شحيح أى أنَّ بخله زائد. فإذا ازداد تعلق قلب الإنسان بجمع المال بحيث لا يهتم إن جمعه من حلال أو من حرام ، يعنى لا يـتأخر عن جمع المال من حرام ليتوصلَ به إلى أمورٍ محرّمة كالفخر والترفع على الناس وليُنفقَه فى شهوات النفس فهذا حِرْصٌ. فأصلُ المعاصِى الثلاثِ شدةُ تعلقِ القلبِ بالمال بطريقٍ فيه عصيان الله عزّ وجلّ. ولذلك أهلُ الصلاح يعوّدون أنفسهم الزهد فيكونون أقوى على اجتناب المحرمات. وأما من جمع المال من حلال بنيّةٍ صالحة أى لِيُعِفَّ نفسه ولينفقَ على أهل بيته وليحسنَ إلى أقاربه ويبذُلَ المال فى المصالح يكون ماله هذا هو المال الذى مدحَهُ نبىّ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:[ نِعْمَ المالُ الصَّالِحُ للرجُلِ الصَّالِح.] رواه الإمام أحمد. فهذا الحديث هو فى المال الذى ذكرناه أى الذى يجمعه الإنسان من حلال لينفقه فيما هو ذُخْرٌ له فى الآخرة. وفرق كبير بين هذا وبين حال الشحيح الذى إذا وصل إلى يده الدرهم أو الدينار يقول له: كم درتَ من يدٍ إلى يد، الآن حان أن تستقر.

قال المؤلف رحمه الله: والاستهانةُ بما عظَّم اللهُ ، والتصغير لما عظَّم اللهُ من طاعة أو معصية أو عِلْمٍ أو جنةٍ أو نارٍ.

الشرح: أن من معاصى القلبِ قلةَ المبالاةِ بما عظّم اللهُ تعالى من طاعة أو معصية أو جنة أو نار. مثال ذلك أن يحمل الإنسانُ المصحف على غير طهارة فإن هذا معصيةٌ منشأُها إخلالٌ بالتعظيم فى القلب. ومثال ذلك أيضاً الاستهزاءُ بالجنة ، كأن يَحتَقِرَ الجنة وهذا كفر. كأن يقول مثلاً:[ الجنةُ لُعبةُ الصبيان.] بعض دجاجلة المتصوفة على يزعمون أنهم وصلوا إلى درجة عالية إلى حَدِّ أنَّ قلوبهم استغرقت فى محبة الله بحيث صاروا يعتبرون الجنةَ لا شىء ، فيقولون:[ أمثالكم قلوبهم تتعلق بالجنة ، الجنة خَشْخاشة الصبيان ، أما نحن قلوبُنا معلقة بالله.] فقولهم هذا كفر لأنه استخفاف بالجنة. الله مدح أهلَ التقوى فقال:{ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً.}سورة الأنبياء / 90. يعنى يدعونَ الله راغبين فى الجنة خائفين من النار ، فقول هؤلاء الدجاجلة تكذيبٌ لهذه الآية. حفظنا الله من ذلك.

معاصِي البطن
قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصِى البطنِ أَكْلُ الربا والمكسِ والغصبِ والسرقةِ وكلِّ مأخوذٍ بمعاملة حرمها الشرعُ.

الشرح: أن هذا الفصلَ متعلقٌ بمعاصى البطن. وهو أحد الجوارحِ السبعة التى سنتكلمُ إن شاء الله تعالى عن المعاصى المتعلقة بها ، يعنى العينَ والأذنَ واليدَ والرجلَ واللسانَ والفرجَ والبطنَ. فمن معاصى البطن أن يأكل الإنسان أىَّ شىء حرم الله تعالى أكله. والأكل لا يراد به هنا مجرد الإدخال من الفم إلى البطن إنما يشمَل الانتفاع بما حرمَهُ الله تعالى. مثالُ ذلك: أكل مال الربا والسرقةِ والغصبِ ( أى المال الذى يؤخذ من المسلم بالقوة بغير وجه حق ) والمكسِ وما شابه ذلك. وقد جاء فى الحديث أن أول ما يُنْتِنُ من الإنسانِ بطنُهُ فى القبر. فإذا كان هذا مَئَالُ البطن ، فلا ينبغى للإنسان أن يترك بطنَه يسوقُهُ إلى ما حرَّم الله. وقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:[ كُلُّ لَحمٍ نَبَتَ من سُحتٍ فالنار أَوْلَى به.] رواه البيهقىّ. والسُحتُ الحرام. فأخذُ المال بالحرام وصرفُه فيما حرم الله من كبائر الذنوب. نسأل الله أن يحمينا من ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وشُرْبُ الخمرِ ، وحدُّ شاربها أربعون جلدةٍ للحرّ ، ونصفُها للرقيق. وللإمام الزيادةُ تعزيرًا.

الشرح: أن الذى يشربُ الخمرَ ما قلَّ منها أو ما كَثُر سَكِرَ أو لم يَسْكَر فحدُّه أن يُجْلَدَ أربعينَ جلدةً إن كان حرًا ، أى يَجْلِدُهُ الخليفة أو من يقوم مقامه أربعين جلدة. وأما العبد فحدُّه على النصفِ من حدِّ الحرّ. الله خَففَ عنه. وللخليفةِ أن يزيدَ على الأربعين من بابِ التعزير ، فله أن يزيد إلى الثمانين إذا رأى مصلحةً فى ذلك. ومثل هذا حصل فى زمن سيدِنا عمر. زاد شُرْبُ الخمرِ بالنسبةِ إلى العصورِ السابقةِ زيادةً كثيرة لكثرة الفتوحات ولكثرة ما دخل فى الإسلام من الناس ، فزاد عمر عند ذلك الجلد فى شرب الخمر إلى الثمانين لزجرِ الناس عن ذلك.
والخمر لها تعريف ذكره سيدنا عمر رضى الله عنه فيما رواه عنه البخارى فى الصحيح قال:[ الخمرُ ما خَامَرَ العقل.] إهـ. يعنى الشرابَ الذى يُغَيّرَ العقلَ ويُعطِى نشوةً وطرباً. فكلّ شرابٍ يُعطِى ذلك كثيرُه أو قليلُه فهو خمر محرمة. لو كان القدر الذى يُسْكِرُ منه ستة عشر رِطلاً فالقليل ملء الكف منه حرام ، ولو كان المقدارُ القليل لا يُسْكِرُ عادة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ ما أَسْكَرَ الفَرَقُ منه فَمِلءُ الكَفِّ منه حرام.] رواه أبو داود. والفَرَقُ وعاء كبير يسع ستة عشر رِطْلاً.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها أكلُ كُلِّ مُسْكِرٍ.

الشرح: أن هذا سبق بيانُه. لكن يحسُنُ الإشارةُ هنا إلى أن ما يُخَدّرُ العقل وإن كان لا يُعطِى نشوةً وطرباً فهو حرامٌ أيضاً. فهو وإن كان لا يُسمَّى خمراً لكنه حرام.

قال المؤلف رحمه الله: وكل نَجِسٍ ومستَقْذَرٍ.

الشرح: أن أكلَ النجاسات من معاصِى البطن ، كالدَّمِ أى الدم السائل المسفوح ولحمِ الخنـزير والمَيتَة. وكذلك كلُّ ما هو مستقذر فى عرف الناس. فما استقذره العرب فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم واستخبثوه فلا يحلُّ أكلُه. لذلك يَحْرُمُ أكل البُزّاق وكذلك البُصَاقُ والمنىُّ والمخاطُ وإن كانت طاهرةً. و كذا يحرم أكلِ ما يَضُرُّ البَدَن كالسُّم.

قال المؤلف رحمه الله: وأكلُ مالِ اليتيمِ أو الأوقافِ على خلافِ ما شَرَطَ الواقِفُ.

الشرح: أن أكلَ مالِ اليتيم من معاصِى البطنِ. والمراد باليتيم هنا من مات أبوه وهو دونَ البلوغ. حتى إنّ اليتيم لو أعطى الفقير من مالِه بطيبِ نفسٍ منه لا يجوزُ للفقيرِ أن يأخُذَ منه ، لأنَّ الله تبارك وتعالى قال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا.}.سورة النساء / 10. وهذا يَدُلُّ أنه ذنبٌ من الكبائر.
ومن معاصِى البطنِ أكلُ مالِ الوقف على خلافِ ما شَرَطَ الواقف. والوَقْفُ هو شىءٌ يخرجُهُ الإنسان من مُلكِه ويرصُدُه لوجهٍ مُعَـيّن فيه نفع جائز مع بقاءِ عينه أى يُنْتَفَعُ به مع بقاء عينِهِ مثل بناء مسجد. فإذا وقف بقعة أرض لتكون مسجداً معناه أخرجَ هذه الأرضَ من مُلكِهِ وجعلها مخصصةً للصلاة فيُنتَفَعُ بها فى هذا الأمر من غير أن تذهب هذه الأرض بالانتفاع بها. فلا يصح أن يَقِفَ الإنسان طعاماً أى لا يصح أن يقول وقَفْتُ هذا الطعامَ للفقراء ، لأنَّ انتفاعهم به يكون بأكله فلا تبقى عينُه ، فمثل هذا لا يسمى وقفاً. أمّا لو وُقِفَت أرضٌ لدفن موتى المسلمين ، فإن هذه المنفعة تتحصل مع بقاء الأرض فيكون ذلك وقفًا صحيحًا. فإذا شرط الواقف مثلاً أن يكون البناء الذى وقفه مسجداً فلا يجوز بعد ذلك لإنسان أن يُلغِىَ الانتفاع به كمسجدٍ ليحوله داراً لسكنى الفقراء مثلاً. وإذا وَقَفَ إنسانٌ داراً لتكونَ مدرسةً للحنفية لا يجوزُ لإنسانٍ أن يحوِلَهَا مدرسةً للشافعية. ولو وقفَ شخصٌ بستاناً ليعودَ رَيْعُهُ على ذريتِه لا يجوز لهؤلاء الذرية أن يتفقوا فيبيعوه ويتقاسموا المال فيما بينهم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ المسلمونَ عندَ شروطِهِم.] يعنى أن الشروطَ المعتبرة شرعاً لا بد من مراعاتها. والحديث رواه البيهقىّ.

قال المؤلف رحمه الله: والمأخوذِ بوجهِ الاستحياءِ بغَيرِ طِيبِ نفسٍ منه.

الشرح: أنه لو أحرج إنسانٌ إنساناً ءاخر فى موقفٍ مُعَـيّن حتى أعطاه مالاً بغير طيب نفسٍ منه، إنما حياءً ، وهو يعرف أنه أعطاه المال حياءً فإنه لا يحل للآخذ أن يأكل هذا المال بل ما زال هذا المالُ فى مِلك الأول ، لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:[ لاَ يَحِلُّ مالُ امرِئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه.] رواه الدارقطنىُّ والبيهقىّ.
معاصِى العينِ

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصى العين النظرُ إلى النساءِ الأجنبياتِ بشهوة إلى الوجه والكفين ، وإلى غيرهما مطلقاً ، وكذا نظرُهُنّ إليهم.

الشرح: أن من معاصِى العينِ أن ينظرَ الرجلُ إلى أى جزءٍ من بدن المرأةِ الأجنبيةِ بشهوةٍ ، وكذا بدون شهوة إلا الوجهَ والكفين. والمراد بالأجنبية هنا غيرُ المحرم ، يعنى غيرَ النساء اللواتى لا يجوز له الزِواج منهن بأية حال ، كأمه وأخته وعمتِه وخالتِه وأمِه من الرَّضَاع وجَدَّتِه من الرَّضاع وأُختِهِ من الرَّضاع وبنتِ أختِهِ من الرَّضاع وهكذا. وأما الوجهُ والكفّانِ فيجوز له أن ينظرَ إليهما إن كان نظرُهُ بغيرِ شهوةٍ. وأما مع الشهوةِ فحرام ، إلا بالنسبةِ للزوجةِ ونحوِها أى أَمَتِهِ غير المتزوجة. ويفهم من هذا أن وجه المرأة ليس عورةً ، وهذا إجماع. فلا عبرةَ بقولِ بعض المتأخرين الذين زعموا أن وجه المرأة عورة فإنّ قولَهم مخالف للإجماع. وقد نقل هذا الإجماعَ أكثرُ من واحدٍ من العلماء منهم القاضى عياضٌ المالكىُّ وابنُ حجر الهيتَمِىُّ الشافعىُّ وغيرُهُمَا.
ويحرُمُ على المرأةِ النظرُ إلى ما بين السرةِ والركبةِ من الرَّجُلِ ، سواءٌ كان ذلك بشهوةٍ أم بغير شهوة. وأما سائرُ بدَنِهِ فيجوزُ لها ذلك إن لم يكن بشهوة. وما قالَه بعضُ الشافعيةِ من أنها لا تنظرُ منه إلا ما ينظرُ منها فهو قول غير معتمد.
قال المؤلف رحمه الله: ونظرُ العوراتِ.

الشرح: أنه سبق بيان قسم من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر. وبقِىَ أن نذكر أنه يحرُمُ على الرجل أن ينظرَ أيضاً إلى ما بين السرةِ والركبةِ من رجل ءاخر. والمرأةُ مع المرأةِ كذلك. وأما أمام الكافرةِ فلا تكشُفُ المسلمةُ إلا ما يظهرُ منها عادة عند العمل فى البيت ، أى كالشعر والساعد والقدم والرقبة ونحو ذلك. فليس معنى ذلك أن تكشِفَ فَخِذَهَا أمامَها ولو كانت عادتها هى أن تلبَس سراويل قصيرة عند العمل فى البيت ، بل ليس للمرأة أن تكشِفَ فخذها حتى أمام أُمّـِهَا وأُختِهَا ونحوهما.

قال المؤلف رحمه الله: ويحرُمُ على الرجُلِ والمرأةِ كشفُ السوأَتَينِ فى الخَلوةِ لغيرِ حاجَةٍ.

الشرح: أنه لا يجوز للشخص أن يكشِفَ سوأَتَيهِ إذا كان خالياً من غير حاجة. فإذا كان وحدَه فى البيت ليس معه أَىُّ إنسان ءاخر لا يجوز له أن يكشف سوأتيه إلا لحاجة ، ولو لم يكن يراه أحدٌ ءاخر. ومقتضى ذلك أنه يجوز له أن يكشِفَهُمَا فى الخلوة للحاجة كأن يريد التبرد أو تغيير الثياب أو الاغتسال أو ما شابه.

قال المؤلف رحمه الله: وَحَلَّ مع المَحْرَمِيَّةِ أو الجنسيَّةِ نظرُ ما عدا ما بينَ السرةِ والركبةِ إذا كان بغيرِ شهوة.

الشرح: أن هذا سبق بيانُه أنه يجوزُ للرجل أن ينظرَ إلى بدن الرجل الآخر إلاّ ما بين سرته وركبته ، وأنه يجوزُ للمرأةِ المسلمة أن تنظُرَ إلى بدن المرأة إلا ما بين سرتها وركبتها. ولكن نزيدُ أنه يجوز للرجل أن ينظرَ إلى بدنِ مَحْرَمِهِ أيضاً وللمرأة أن تنظرَ إلى بدن محرمهَا أى الرجل إلا ما بين السرة والركبة منهما إن كان بغير شهوة ، وأما بشهوة فلا يحل. ومقتضى قولنا:[ ما بين السرة والركبة.] أَنَّ نفس السرة ونفس الركبة ليسا عورة ، إنما العورةُ ما بينهما. لكن لا بد من ستر شىءٍ منهما على الأقل حتى يُتَيَقَّنَ مِنْ سَتْرِ ما بينهما.

قال المؤلف رحمه الله: ويحرمُ النظرُ بالاستحقارِ إلى المسلمِ.

الشرح: أن هذا سبق بيانه فى معاصى القلب لما تكلمنا عن الكِبْرِ. لكن أُعِيدَ هنا لبيان أن له علاقةً بالعين أيضاً.

قال المؤلف رحمه الله: والنظرُ فى بيتِ الغيرِ بغيرِ إذنهِ ، أو شىءٍ أخفاهُ كذلك.

الشرح: أن من معاصى العين أن ينظر الإنسانُ إلى داخل بيتِ الغير بغير إذنه مما يتأذى ذلك الغيرُ عادةً لو نظرَ الإنسانُ إليه. وذلك كأن يكونَ صاحبُ الدارِ مكشوفَ العورة أو أن يكونَ أحدُ أهلِهِ مكشوفَ العورَةِ. وكذلك لو أخفَى إنسان شيئاً يتأذّى باطّلاع غيره عليه ، حرامٌ على ذلك الغير أن يَطَّلعَ عليه بغير إذنه.

معاصي اللسان

الشرح: أن هذا الفصل معقودٌ لبيان معاصى اللسان. وهى أكثر المعاصِى التى يفعلُها ابن ءادم كما ثبت فى الحديث:[ أكثرُ خطايا ابنِ ءادَمَ مِنْ لِسَانِهِ.] والحديث صحيح رواه الطبرانى عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله.

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصى اللسان:
الغِيبة وهى ذكرك أخاكَ المسلمَ بما يكرهُه مما فيه فى خلفه.

الشرح: أن من محرمات اللسان الغيبة. والغيبةُ كما عَرَّفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هى أن تقولَ عن مسلمٍ فى خلفِهِ أى فى غِيْرِ حَضرَتِهِ كلاماً لا يحبُ أَنْ يقالَ عنه مما فيه ذمٌّ أى مما فيه نسبة نقصٍ إليه مما هو فيه. ومثالُ ذلك أَنْ يقولَ الشخصُ عَنْ ءاخر:[ فلانٌ قصيرٌ ، أو فلانٌ سَىّءُ الخُلُقِ ، أو فلانٌ وَلَدُه قَليلُ الأدبِ ، أو فلانٌ لا يرى لأحدٍ فَضْلاً ، أو فلانٌ تحكمُهُ زوجتُه ، أو فلانٌ كثيرُ النومِ أو كثيرُ الأكلِ ، أو وَسِخُ الثيابِ ، أو بيتُهُ غيرُ مرتبٍ ، وما شابه ذلك. فلو تَعَلَّقَتْ مثلُ هذهِ الألفاظِ بنفسِ المسلمِ الآخرِ أو بأحدٍ من عائلتِهِ أو ببيتِهِ أو بثوبِهِ أو بنحوِ ذلك فهى غيبةٌ محرمةٌ. لكنَّ بعضَ مثلِ هذه الألفاظِ قد تُستعملُ أحياناً للمدحِ فلا تكونُ غيبةً كأَنْ يقالَ أثاثُ بيتِ فلانٍ عتيقٌ ويرادُ بذلك وصفُهُ بالزهدِ وعدمِ التعلقِ بالدنيا. فهنا لا يكونُ هذا ذمًّا بل يكونُ مدحًا فلا يعتبر غيبةً.
والغيبةُ قد تكونُ كبيرةً وقد تكونُ صغيرةً. فإذا كانَ المغتابُ – أى الشخصُ الذى يُغْتابُ أى يُتَكَلَّمُ عنه بالغيبةِ – تقياً فغيبتُه كبيرةٌ من الكبائرِ. أما إذا كانَ المُغْتَابُ فاسقاً فلا تعتبرُ غيبتُه كبيرةً ، إلاّ إذا وصلَ الأمرُ إلى حدِّ التفاحشِ فى غيبتِه بحيث يغتابُهُ كثيراً فهنا تصيرُ كبيرةً ، لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:[ إِنَّ مِنْ أَربَى الرّبَا اسْتِطَالةَ الرجلِ فى عِرْضِ أَخِيهِ المسلمِ.] ومعنى الاستطالةِ أَنْ يكثرَ من ذمّهِ ، فيكون هذا ذنباً كبيراً هو مثلُ ذنبِ الربا بل هو مشابِهٌ لأربى الربا أى لأشدِّ الربا. والحديث رواه أبو داود. كلُّ هذا إذا كانَ الكلامُ الذى يقالُ فى ذَمِّ ذلكَ المسلمِ فيه. فإن كان كذباً فالمعصيةُ أشدُّ ، وتسمى البهتانَ. وكما يحرمُ أن يتكلمَ الشخصُ بالغيبة يحرمُ عليه أن يسكتَ عن إنكارها مع القدرة. وأما التحذيرُ من أهلِ الفسادِ والغِش فلا يدخُلُ تحت الغيبة المحرَّمة ، وإنما يدخلُ فى باب الغيبةِ الواجبةِ. وذلك مثلُ أنْ يَعْرِفَ أن عاملاً يعمل عند شخص ويخونُه ، فهنا لا بد أن يُبَـيّن لصاحب العمل. كذلك لو عَرَفَ أن إنساناً يتصدرُ للتدريس وهو ليس أهلاً ففى هذه الحال لا بد أن يُحذّر منه.

قال المؤلف رحمه الله: والنَّميمةُ ، وهى نقلُ القولِ للإفسادِ.

الشرح: أن النَّميمةَ معناها أن ينقل كلاماً بين اثنين من واحد لآخر ومن الآخر للأول وهكذا حتى يُفْسِدَ ما بينهما. فهذا حرام من الكبائر. وقد صح فى الحديث:[ لا يدخُلُ الجنةَ قَـتَّات.] والقتات النمّام. يعنى لا يدخُلُها مع الأولين ، إنما يدخلها بعدَ عذابٍ مع الآخِرين ، والحديث فى البخارى وغيرِه. والنميمةُ من أكثر أسباب عذاب القبر. ومثلُ النميمة فى تسبيب عذاب القبر بعضُ الذنوب الأخرى كالغيبة وعدمِ التنـزهِ من البول.

قال المؤلف رحمه الله: والتحريشُ من غيرِ نَقْلِ قولٍ ، ولو بينَ البهائم.

الشرح: أن من حَرَّشَ بين اثنين بقول أو بغير نقل قول بينهما فهو ءاثم. أى إن حرك كلاًّ منهما حتى يعادِىَ الآخرَ ويخاصِمَهُ ويؤذيَهُ. وكذلك التحريش بين البهائم حرام ، مثل أن يحرّش بين دِيكين أو جَدْيَيْنِ ليتقاتلا ، فإن هذا حرام لا يجوز فى الشرع ، ولو لم يصاحِبْهُ رهانٌ على مال.

قال المؤلف رحمه الله: والكذبُ، وهو الكلامُ بخلافِ الواقِع.

الشرح: أن من معاصى اللسان الكذبَ. والكذب معناه أن يخبّـِرَ الإنسانُ عمداً بما يَعْلَمُ أنه خلافُ الواقع أى وهو يعرف أن الواقع غيرُ ذلك. هذا هو الكذب المحرَّم. أما إن لم يكن يعلم أن الأمرَ على خلاف ما هو أخبر بل اعتقد أنه الواقع فهذا ليس الكذب المحرم. والكذبُ معصيةٌ سواءٌ كان فى جِدٍّ أو فى مزح. وهو مراتبُ منه ما يَبْلُغُ درجةَ الكفر ، ومنه ذنبٌ كبير دون الكفر ، ومنه ما هو من صغائر الذنوب. وقد يَحِلُّ الكذب فى بعضِ الأحيان ، وذلك كأن يُريدَ شخصٌ قتلَ مسلم ظلماً فيختبئ المظلوم عندك ، فيأتى الشخصُ الذى يريد إيذائَه فيقول لك هل فلان عندك وأنت لا تقدِر على منعه من إيذائه لو قلت نعم فإنه ليس لك أن تقول فى هذه الحال نعم هو عندى ، إنما تَحْمِى أخاك المسلم من الظلم ولو بالكَذِب.

قال المؤلف رحمه الله: واليمينُ الكاذِبَة.

الشرح: أن من معاصى اللسان اليمينَ الكاذبةَ وهى من كبائر الذنوب. ويقال لها اليمينُ الغَمُوسُ ، لأنها تغمِسُ صاحبَهَا غَمْساً فى الذنب. وأما إذا حلف الشخص باللهِ أو بصفاتِهِ وهو صادق فلا إثم فى ذلك. فإذا حلف صادقاً بغيرِ الله تعالى كأن حلف بالنبى أو بالكعبة فقد اختلف علماء الأمة فى ذلك. منهم من قال – كالشافعى – مكروه كراهة شديدة ولا يصل إلى درجة الحرمة. ومنهم من قال – كالإمام أحمد – هو حرام. واليمين الكاذبة عُدت من كبائر الذنوب لأن تَجَرُّءَ الإنسان على أن يَحْلِف بالله مع كونه كاذباً أى تَجَرُّؤَهُ على أن يورد اسم الله أو صفة من صفات الله فى الحلف الكاذب فيه تهاونٌ فى تعظيم الله عزّ وجلّ ، ولذلك هى من كبائر الذنوب.

قال المؤلف رحمه الله: وألفاظُ القذفِ، وهى كثيرةٌ حاصلها كلُّ كلمةٍ تنسِبُ إنساناً أو واحداً من قرابته إلى الزنـى. فهى قَذْفٌ لمن نُسِبَ إليه إِمَّا صريحاً مطلقاً أو كنايةً بنيةٍ.

الشرح: أن من معاصى اللسان قذفَ المسلمِ بالزنى ، سواء كان ذلك صريحاً أوكناية بنية. مثال ذلك أن يقولَ شخصٌ لآخر يا زانٍ ، أو أن يقول له يا ابن الزانى أو يا ابن الزانية ، أو أن يقول له يا لائِطُ، وكل هذا صريح. كذلك لو قال له يا فاجرُ ونيتُه بكلمة فاجر نسبَتُهُ إلى الزنا فهو أيضاً قذف ، أو قال له يا فاسق ومرادُه نسبته إلى الزنا فهذا أيضاً يُعَدُّ قذفاً. والقذف من كبائرِ الذنوب وفيه الحد أى فيه عقوبة مبينة ومحددة فى الشرع. أما لو عَرَّضَ تعريضاً به فهذا وإن كان حراماً فلا حَدَّ فيه. وذلك كأن يقولَ بقصدِ أن يطعن به: يا ابن الحلال ونيتُه عكسُ ذلك ، أو كأن يقول: أما أنا فلستُ بزانٍ ونيتُه أنك أنت زانٍ. هذا يقال له تعريض وهو حرام ، لكن لا حَدَّ فيه فكل ما مَرّ من القذف هو ذنب كبير. لكن فى الحالة الأخيرة لا حدَّ فيه. إنما فيه التعزير ، أى عقوبةٌ يراها الحاكم مناسبة لزجره.

قال المؤلف رحمه الله: وَيُحَدُّ القاذفُ الحُرُّ ثمانينَ جلدةً والرقيقُ نصفَها.

الشرح: أن حدَّ القذف ثمانون جلدةً بالسوط ، هذا إذا كان القاذف حراً فحدُّه ثمانونَ بالإجماع. وأما العبدُ فحدُّه على النصف من ذلك أى أربعونَ جلدة. ويستثنى من الحد قاذفُ ولدِه فلا يُحدُّ.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها سبُّ الصحابة.

الشرح: أن من معاصى اللسان سبَّ الصحابة. فإن سَبَّهُمْ شخص كُلَّهُمْ أى إن شَمَلَهُم كلَّهم بالسب والاستهزاء فهو كافر ، لأنه بهذا يهدِمُ الدين، لأن أحكام الدين ما وصلتنا إلا من طريقهم. فالذى ينسب إليهم كلّـِهِم عدمَ العدالة يكون مُؤَدَّى كلامه رفعَ الثقة بالشرع الذى نقلوه وتكذيبَ ءاياتِ القرءان وهذا كله كفر. قال الله تعالى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان:{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.}سورة التوبة / 100. فمَن زعم أن كلَّ الصحابةِ مذمومون فقد كذَّب هذه الآية. أما الذى يشتُمُ واحداً من أتقياءِ الصحابة فهو ءاثم بلا شك. وليس من الانتقاص للصحابةِ أن يقال إن من قاتل عليّاً كان باغياً. وذلك لأن بعضَ الصحابة وقفوا فى صفِّ من قاتل عليّاً ، والإمام علىّ كان خليفةً راشداً واجبَ الطاعة. فمن خرج عن طاعته وقاتله فهو ءاثم ، وذلك مثل معاويةَ بنِ أبى سفيان فإنه بَغَى بقتاله للإمامِ علىّ. وقد نبَّهَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمرِ قبلَ حصولِهِ بقوله:[ ويحَ عمارٍ تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ ، يدعوهُم إلى الجنةِ ويدعُونَه إلى النّار.] وهذا حديثٌ صحيحٌ بل هوَ متواترٌ رواهُ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نحو عشرينَ منَ الصحابةِ ومنهُم معاويةُ نفسُهُ. ثم قُتِلَ عمّار فى صِفّـِين قتَلَهُ جنودُ معاوية. فإذا قال إلانسان بأن من حاربوا سيدنا عليّاً كانوا بغاةً فهو إنما يقول ما قاله رسول الله ، وأىُّ حرجٍ فى ذلك؟ لا حرج. لكن مع أنه وُجِدَ بين الصحابةِ من أتى بعض الذنوب الكبيرة، فإنهم من حيث الإجمال كانوا على خيرٍ عظيمٍ جداً. قرنُهم خير القرون. مِنْ مَزِيَّةِ قَرْنِهِمْ أنه لم يكن هناك اختلافٌ فى العقائد فيما بينهم. ذلك العصر ما كان هناك اختلاف فى العقائد بين أهله ، كلهم كانوا يعتقدون أن ربَّنا عزّ وجلّ واحد لا شريك له قادر على كل شىء لا يعجزه شىء ، وأنه لا يحصُلُ شىءٌ إلا بمشيئتِهِ ، فالخير والشر كلاهما بمشيئة الله ( وإن كان الله لم يأمر بالشر ) وأن الله عالم بكل شىء ، وأن ربَّنا عز وجل لا يشبه الخلق ، لا يشبه الإنسان ولا يشبه الملائكة ولا يشبه الجن ولا يشبه الروح ولا يشبه الضوء ولا الظلمة ، وأنَّ كلَّ ما كان من صفات الخلق فالله غيرُ موصوفٌ به لأنه لا يليقُ به – لم يكن فيهم أحد يعتقد أن الله جسم كما نحن أجسام. ثم إنهم كلَّهم كانوا يعلمون أن التغيُّرَ من صفات الخلق فكانوا ينـزهون الله عنه ، ما كان أحد فيهم يعتقد أن الله يُغَـيّرُ مشيئته ، ولم يكن فيهم من يعتقد أن الله عزّ وجلّ ينتقل من مكان إلى مكان أى يُفْرِغُ مكاناً ليملأ مكاناً ءاخر ، لأن الذى يتحرك يكون مُتغيّراً ويكون جسماً له حجم ، وما له حد وحجم لا يكون إلهاً بل يكون مخلوقاً. لذلك قال سيدُنا علىٌّ رضى الله عنه:[ مَن زَعَمَ أن إلَـهَنَا محدود فقد جَهِلَ الخالِقَ المعبود.] يعنى الذى يزعم أن الله جسم له حجم وكمية وهيئة فهو غير عارف بربه أى هو كافر به.رواه أبو نُعَيم الأصبهانى عنه. الصحابة ما كانوا يختلفون فى هذه الأصول. ثم إنهم من حيث الغالبُ كانوا على محبةٍ وَوِئَامٍ فيما بينهم لا سيما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. كانت المحبة بينهم أكيدةً جداً. مثال ذلك أنَّ سيدَنا علياً رَزَقَهُ الله من السيدة فاطمة بنتاً كانت تُسَمَّى أمَّ كُلْثُوم. ثم سيدُنا عمر رَغِبَ أن يتزوجَ من أهلِ بيتِ الرسول ليُحَصّـِلَ بركةً بذلك ، فخَطَبَ إلى علىٍّ بنتَه أمَ كلثوم ، يعنى بنتَ بنتِ رسولِ الله ، فزوجَهُ علىٌّ إياها رَغْمَ أن سِنَّهَا عند ذاك كان تِسْعَ سنين. قال له هى صغيرة لكن إن أعجبتك أُزوجُك إياها. قال لها اذهبى إلى عمر فقولى له هل أعجبتك الحُلَّة؟ والحلة فى الأصل الثوبُ لكن يُطلق من باب الكناية على المرأة. فذهبت إليه فقالت له: يقول لك أبى هل أعجبتك الحلة؟ فقال لها: قولِى نعم. فزوجَهُ علىٌّ إياها ، وكان عُمَرُ فى ذلك الوقت خليفة بين الخمسين والستين. وهى كانت وَاسِعَةَ الفَهْم رغم صغر سنها. ومثالٌ ءاخرُ أنَّ سيدَنا علياً كان تَزَوَّجَ أسماء بنتَ عُمَيس ، وكان تزوجَهَا قبلَهُ أخوه جعفر ثم بعد موتِهِ سيدُنا أبو بكر. وكلٌّ منهما وُلِدَ له وَلَدٌ منها سماه محمداً. ثم بعد موتِ أَبِى بكر تزوجَهَا علىّ. فيوماً افتخر ولَدَاها محمد بنُ جعفر ومحمد بنُ أبى بكر ، كل واحد قال: أنا خيرٌ وأقربُ أباً. فقال لها علىّ: احكمِى بينهما ، فقالت: ما رأيتُ شابًّا أكرَمَ من جعفر ولا شيخاً أكرمَ من أبِى بكر ، فصار علىّ يَضحَك وقال: ماذا تركتِ لنا؟

قال المؤلف رحمه الله: وشهادةُ الزُّورِ.

الشرح: أن من معاصى اللسانِ شهادةَ الزور. والزورُ معناه الكذب وهو أكبر الكبائر. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبّهَها بالشرك من عُظْمِهَا من غير أن تكون كفراً.
قال المؤلف رحمه الله: ومطلُ الغَنِىِّ ، أى تأخيرُ دفعِ الدّيْنِ مع غِناَهُ أى مقدِرَتِهِ.

الشرح: أن مَطْلَ الغنىِّ من جملةِ معاصِى اللّسان لأنه يتضمّنُ الوعدَ بالقول بالوفاء أى يَعِدُهُ أنه يَفِى له ثم يُخْلِفُ. فمن هذه الحيثية له علاقة باللسان، فمن فعلَ ذلك جازَ للحاكم أن يعاقبه حتى يفِىَ بالدّين وأن يُحَذَّرَ منه ، وذلك لحديث أبى داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ لَىُّ الواجدِ مَطْلٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ.] والواجد يعنى الذى عنده ما يدفَعُ به الدين ، واللَّىُّ يعنى المطل والتأخير. يعنِى إذا كان يستطيع السَّدَاد وحان الأجل فَتَمَنَّعَ عن دفع الدين جاز أن يُذَمّ للتحذير منه وحلَّ أن يعاقَب أى بالحبسِ والضرب ونحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: والشتمُ واللّعنُ.

الشرح: أن من معاصى اللسان شتمَ المسلم بغير حق ، وهو ذنب كبير ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فُسُوق ، كما روى ذلك مسلم. ومثل ذلك لعنُهُ من غير عذرٍ شرعىٍ ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام شبَّهَهُ من عُظْمِهِ بقتل المسلم بقوله صلى الله عليه وسلم :[ لَعْنُ المسلمِ كَقَتْلِهِ.] رواه مسلم وغيره. وأما لعذر شرعى فهو جائز وذلك إذا كان فاسقاً للتحذير منه أو لزَجْرِهِ عن معصيتِه. وزعمَ بعضُ الفقهاء أنه لا يجوزُ لعنُ أحدٍ مُعَيـَّنٍ مسلمٍ ولا كافرٍ إلا إذا عَلِمنَا موتَه على الكفر كإبليس وأبِى لهب ونحوِهِما. وقولهم غير صحيح ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن المرأةَ التى تمنَعُ زوجَهَا حقه من الجماع وتبيتُ وهو عليها غضبان تلعنها الملائكة حتى تُصبح كما روى ذلك ابن حبان. فلو كان لا يجوز لعن أحد إلا من عُلِمَ موتُه على الكفر كما قال هؤلاء العلماء ما كانت الملائكة تلعَنُهَا. لكن الرسول أخبرنا أنهم يفعلون. وقد لَعَنَ عَلىٌّ زينُ العابدين المختارَ عند الكعبة. وسُئِلَ أحمدُ بنُ حنبل عن لَعْنِ يزيد بنِ معاوية فقال: جائز إهـ. وكل هذا لعنٌ لأناسٍ معيَّنين.

قال المؤلف رحمه الله: والاستهزاءُ بالمسلمِ ، وكلُّ كلامٍ مُؤْذٍ له.

الشرح: أن مِنْ جُملةِ معاصِى اللسانِ الاستهزاءَ بالمسلمِ أى التحقيرَ له. وكذلك كلُّ كلامٍ مؤذٍ له أى بغيرِ حقٍ. ومثل الكلام المؤذى للمسلم الفعلُ والإشارةُ اللذان يتضمنانِ ذلك. فقد يُهينُ الشخص شخصاً ءاخرَ بمجرد الإشارة بيده أو برجله فيكسر قلبه بذلك ، هذا مثل الكلام المؤذى حرام.

قال المؤلف رحمه الله: والكذبُ على اللهِ وعلى رسَولِهِ.

الشرح: أن من معاصى اللسان الكذِبَ على الله عزّ وجلّ وهو من كبائرِ الذنوب. ومثل ذلك فى كونِه كبيرةً الكذبُ على الرسول. ثم هذا الكذب قد يَصل إلى درجةِ الكفر وقد لا يصل. وذلك مثلُ الذين كذَبُوا على الله فزَعَمُوا أن الملائكةَ بناتُ الله ، هذا كذبٌ على اللهِ وهو كفرٌ. ومثلُ ذلك فى كونه كفراً مَنْ يَضَعُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً يعلم أنَّ فيه تكذيب لشريعةِ الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد جاء فى الزَّجْرِ عن الكذبِ على الرسول عليه الصلاة والسلام حديثٌ متواتِرٌ رواه البخارىُّ وغيرُه:[ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمّـِداً فَليَتَبَوّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النار.] وهذا زجرٌ بَلِيغٌ عن الكذب على الرسول عليه السلام حتى لو كَذَبَ الإنسان لترغيبِ الناس فى فعل طاعة فهو كبيرةٌ من الكبائر ، مثلُ أن يقولَ ” قال رسولُ الله من صلَّى صلاة الوتر فله كذا وكذا من الثواب “، وهو يعرف أن الرسول ما قال هذا الكلام. فهذا من كبائر الذنوب.

قال المؤلف رحمه الله: والدَّعوى الباطلةُ.

الشرح: أن من جملةِ معاصى اللسانِ أن يدَّعِىَ شخصٌ أنّ له على شخصٍ مالاً أو حقاً وهو ليس له عليه هذا المالُ أو هذا الحقُ، سواءٌ كان ذلك اعتماداً على شهادةِ الزور أو اعتماداً على جاهِهِ أو غير ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: والطلاقُ البِدْعِىُّ ، وهو ما كان فى حالِ الحيضِ أو طُهْرٍ جَامَعَ فيه.

الشرح: أن من معاصى اللسانِ الطلاقَ البدعىّ. وهو أن يطلّـِقَ زوجتَهُ وهى فى الحيض أو فى النفاس ، أو أن يُطَلّـِقَها فى طُهْرٍ جامعَهَا فيه أى أن يُطلّـِقها بعد أن جامعها فى طهر قبل مُضِىِّ ذلك الطُّهر. هذا هو الطلاقُ البِدعِى وهو حرام لكنه يقع.
فالطلاقُ ثلاثةُ أنواع: سُنّـِى ، وبِدْعِى ، ولا ولا ، يعنى لا سُنىٌّ ولا بدعىٌّ.
* النوعُ الأول أى السنىّ هو أن يطلقَ زوجته فى طهرٍ لم يجامعها فيه.
* والنوعُ الثانى أى البدعى هو ما تقدم شرحُهُ.
*والثالث هو لا ولا أى لا سُنّىّ ولا بدعِىّ وهو طلاقُ الصغيرة التى لم تحِض بعد أو الآيِس التى انقطع عنها دمُ الحيضِ أو الحامل. وقولنا ” سُـنّى ” لا يعنِى أن له ثواباً فى الطلاق على الإطلاق ، إنما المعنى أنه وافَقَ الحال التى أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يوقَعَ الطلاق فيها.
قال المؤلف رحمه الله: والظّـِهَارُ ، وهو أن يقول لزوجته أنت عَلَىَّ كظهرِ أُمّـِى أى لا أُجَامِعُكِ. وفيه كفارةٌ إن لم يطلّـِقْ بعدَه فوراً. وهى عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة سليمة ، فإن عجز صام شهرين متتابعين ، فإن عجز أطعم ستين مسكيناً ستين مداً.

الشرح: أن من معاصى اللسانِ الظّهارَ. وهو أن يقولَ لزوجتِهِ:[ أنتِ عَلَىَّ كظهرِ أُمّـِى.] معنى ذلك التزمْتُ أن لا أجامِعَكِ كما لا أجامِعُ أُمّـِى. وكلُّ ما يُعْطِى مِثْلَ ذلك المعنَى هو ظِهَار ، كما لو قال لزوجتِهِ أنت عَلَىَّ كظهرِ أُخْتِى أو كبطنِ أُمّـِى. وليس شرطاً أن يستعملَ كلمة الظهر لكن هى أكثرُ العباراتِ استعمالاً ولذلك سُمّـِىَ ظِهاراً. وكانوا فى الجاهليةِ يعتبرونَ الظهار طلاقاً. أما فى الشريعَةِ المحمدية فلا يُعْتَبَرُ طلاقاً إلا إن نوى به القائلُ الطلاق. وهو من الكبائر ، وَوَصَفَهُ ربُّـنَا عزّ وجلّ فى القرءانِ بأنه زُورٌ لأن فيه تشبيهَ الزوجةِ بالأُمّ من حيثُ حُرْمَةُ جِمَاعِهَا. فإن طَلَّقَ الزَّوجُ فوراً بعد الظهار فلا كفارة عليه أى إن أَتْبَعَ الظهارَ بالطلاقِ فوراً. فإن لم يفعل ثَبَتَت عليه الكفارة. ولا يحلُّ له أن يجامِعَهَا حتى يدفَعَ الكفارة وهى:
عِتْقُ رَقَبَةٍ مؤمنةٍ سليمةٍ من العيوب المُضِرَّةِ بالعمل ، فإن لم يكن عنده عبدٌ يشتريه ثم يُعْتِقُهُ. ولا يُشْتَرَطُ أن يكون هذا العبد ذكراً بالغاً ، بل لو كان أنثى أو كان طِفلاً صغيراً أَجْزَأَ.
فإن عجز أى لم يكن عندَه عبيد ولا عنده مال ليشترِىَ به عبداً يصومُ شهرين متتابعين.
فإن عجز بحيث عَرَفَ من نفسه أنه لا يستطيعُ صيامَ شهرينِ متتابعين لأجل المرض مثلاً فإنه يطعم ستين مسكيناً ستينَ مُدًّا ، لكل مسكين مُدّ من غالبِ قوتِ البلد.
ولا يُجْزِئُ أن يُطعِمَ ثلاثينَ مسكيناً لكل مسكينٍ مُدَّين ، بل لا بد أن يكونوا ستين مسكيناً.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها اللَّحنُ فِى القرءانِ بما يُخِلُّ بالمعنَى أو الإعرابِ وإن لم يُخِلَّ بالمعنى.

الشرح: أنه يحرم إذا قَرَأَ الشخصُ القرءان أن يَلْحَنَ فيه أى أَن يُغَيّر فى القرءان بأن يغير لفظَ الكلمة عمّا أنزلت عليه ، سواء كان هذا اللَّحن يُغيّر المعنى أو لا يغير المعنى. ولذلك ينبغى للشخص أن يقرأَ القرءانَ على معلم يُحْسِنُ القراءةَ قبلَ أن يقرأ وحدَه.

قال المؤلف رحمه الله: والسؤالُ للغَنِىِّ بمالٍ أو حِرْفَةٍ.

الشرح: أنّ من معاصى اللسان أن يَشْحَذَ الإنسانُ المكتَفِى. وفى صحيح البخارى أنّ الذى يفعلُ ذلك يأتِى يومَ القيامةِ وليس على وجهِه مَزْعَةُ لَحْم ، وذلك لأنه أَرَاقَ ماءَ وجْهِهِ فِى الدُّنيا بالشّـِحاذَةِ فكان عقابُه يومَ القيامة مناسباً لذلك. يومَ القيامة هذا الوجه الذى قابلَ به الناس ليشحذَ منهم موهماً إياهم أنه محتاج مع كونِه عنده الكفاية لا يكون عليه مزعة لحم. أما مَن كان من أَهْلِ الفَقْرِ وليس له سبيل ليكفىَ حاجاتِهِ إلا بالسؤال فسأل فلا إثم عليه. وإن صبرَ وتَعَفَّفَ فهو خيرٌ له. الله مدح فى القرءان فقراءَ المهاجرين الذين كان الناسُ يحسَبونَهُم من التعفُّف أغنياء. قال الله تعالى:{ يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ.} سورة البقرة / 273.

قال المؤلف رحمه الله: والنذر بقصد حرمان الوارث.

الشرح: أن من معاصى اللسان أن ينذُرَ الرجلُ نذراً يقصد به أن يَحرِم وارثه. كأن ينذر ماله قبل الوفاة لشخص غيرِ الوارثِ ويُشْهِدَ على ذلك ليطالب هذا الشخصُ بالمال عند وفاة صاحب المال مستعيناً بالشهود ليحكم له القاضى بذلك ، ويكون قصدُ صاحب المال من هذا الأمر حرمان الوارث. فلو وقع ذلك من شخص لم يصحَّ ذلك النذر.ومثله أن ينذر أموالَه لبناته لأنه ليس له أولاد ذكور حتى لا يرث إخوته من هذا المال مثلاً ، فإنّ هذا حرام والنذر غير ثابت.

قال المؤلف رحمه الله: وتَرْكُ الوصية بدَين أو عين لا يعلمهما غيره.

الشرح: أن من معاصى اللسان تركَ الوصية بدين على الشخص أو عينٍ لغيره عنده بطريق الوديعة أو نحوها لا يَعْلَمُ بها غيره. فيجب على من عليه أو عنده ذلك أن يُعْلِمَ به شخصاً من غير الورثة يَثبت بقوله ولو واحداً ظاهرَ العدالَةِ أو يَرُدَّهُ حالاً خوفاً من خيانة الوارث. فإن عَلِمَ بها غيرُه كانت الوصيةُ مندوبة فى حقه عندئذ لا واجبة. ويشمَلُ ما ذُكر ما كان دَيناً لله كزكاةٍ أو لآدمىٍّ. وتسن الوصية لغير المذكور لحديثِ:[ ما حَقُّ امرئٍ مسلمٍ يَبِيتُ ليلتينِ إلا ووصِيَّتُهُ مَكتوبةٌ عندَه.] رواه البخارىّ.

قال المؤلف رحمه الله: والانتماء إلى غير أبيه أو إلى غير مواليه أى من أعتقه. كأن يقول أنا أعتقنى فلان ، يسمّـِى غيرَ الذى اعتقه.

الشرح: أنَّ من معاصى اللسانِ أن ينتمىَ الرجل إلى غير أبيه ، أو أن ينتمىَ المُعْتَقُ إلى غير مَوَاليه أى الذين لهم عليه وَلاَءُ عِتَاقهِ لأن فى ذلك تضييعَ حقٍّ. لأن الولاء يثبت به شرعاً أحكام ، ومنها أن المعتِقَ يرثُ المعتَقَ إن لم يكن له ورثة من الأقارب. فإذا ادّعى هذا المُعْتَقُ أنّ شخصاً ءاخر أعتقه يَضِيعُ هذا الحق. وكذلك من الأحكام المتعلقة بهذا الأمر أنه يكون ولِىَّ مُعتَقَتِهِ إن لم يكن لها ولىٌّ للنكاح فى أقاربها. فلو سَمَّتْ هذه المُعْتَقَةُ شخصاً ءاخر غير مُعتِقِهَا على أنه مولاها المُعْتِقُ يضيع هذا الحق.

قال المؤلف رحمه الله: والخِطْبَة على خِطبة أخيه.

الشرح: أن من معاصى اللسان أن يخطِبَ الرجل على خطبة أخيه أى أخيه فى الإسلام. وإنما يحرم ذلك بعد الإجابة ممن تعتبر منه من وَلِىٍّ مُجْبِر أو غير مجبر بدون إذن الأول ، أى لو أجاب الولىّ أو مَن تُعتَبر منه الإجابة بقبول الخطبة يحرم أن يخطِبَ شخص ءاخر يعلم بهذا الأمر نفسَ المرأة بدون إذن الخاطب الأول. فأما إن أذن فلا حرمة فى ذلك. وكذلك إن أعرض الأول أى غيَّرَ رأيَهُ ولم يعد يريد الزواج منها فهنا تزول الحرمة. ولو كان الخاطب الأول كافراً ذِمّـيّاً خطب كتابيّة امتنع أن يخطِبَ المسلمُ على خِطبته. وإنما حرمت الخِطبة على خِطبة أخيه لِمَا فى ذلك من الإيذاء والقطيعة.

قال المؤلف رحمه الله: والفتوى بغير علمٍ.

الشرح: أَنَّ من معاصى اللسان أن يُفتىَ الشخص بفتوى بغير علم. فمن أفتى فإن كان مجتهداً أفتى على حسب اجتهاده ، أى إن تَحَلَّى بصفات المجتهد ، ومنها أن يكون حافظاً لآيات الأحكام ، وأحاديث الأحكام ، عارفاً بلغة العرب والمطلق والمقيد والعام والخاصّ والناسخ والمنسوخ ، وأن يكون مسلماً مجتنباً للكبائر غيرَ مُصِرٍّ على الصغائر محافظاً على مروءة أمثاله ، وأن يكون وَقّاد القريحة. فمثلُ هذا إن أفتى يُفتِى على حسب اجتهاده. فإذا لم يكن الشخص مجتهداً اعتمد على فتوى إمام مجتهد أو استخرج الفتوى من نص صاحب المذهب إن كان أهلاً لذلك. ويجوز أن ينقل فتوى غيرِ مذهب المسئول والسائل. فإن نقَل مِن نسخة كتاب يشترط أن تكون النسخة موثوقاً بصحتها ، أو رأى لفظها منتظماً وهو خبير فطن يدرك السقطَ والتحريف. فإن لم يُحَصّـِلْ ذلك قال للسائل وجدتُ كذا فى نسخة من كتاب كذا بلا جزم بِنِسْبَتِهِ للمؤلف. فمن سُـئِلَ عن مسألة ولم يكن عنده علم بحكمها فلا يُغْفِلْ كلمة لا أدرى ، فقد جاء عن مالك رضى الله عنه أنه سُئِلَ ثمانية وأربعين سؤالاً ، فأجاب عن ستة وقال عن البقية: لا أدرى، روى ذلك عنه صاحبه هيثم بن جميل. ورُوِىَ عن سيدنا عَلِىّ أنه سُئِلَ عن شئ فقال: وابَرْدُهَا على الكبدِ أن أُسْأَلَ عن شئٍ لا علم لى به فأقول لا أدرى ، رواه الحافظ ابن حجر فى تخريجه على مختصر ابن الحاجب الأصلىّ. وقد رَوى إمامُنا الشافعىّ رضى الله عنه عن مالك عن محمد بن عجلان قال: إذا أغفَلَ العالِمُ لا أدرِى أُصيبت مقاتِلُه إهـ. ولا عبرةَ بفتاوى كثيرٍ من الناس بقولهم ” رأيُنا كذا وكذا ” ممن لم يصلوا إلى درجةِ الاجتهاد المطلق ولا إلى درجة أصحاب الوجوه فى المذهب. فإنه إذا كان بعضُ أقوال بعضِ المجتهدين لا تُعتبر لمخالفَتِها النصوصَ الصريحة فكيف بقولِ ورأَىِ من لم يبلُغ درجة الاجتهاد ممن تَسَوَّرَ مرتَبَةً ليس هو أهلاً لها. نسأل الله أن يحفظَنا من ذلك. بعضُ أعضاءِ حزبِ التحرير قال:[ الاجتهاد سهل هذه الأيام يشترِى الإنسان صحيح البخارى ومسلم وبقية الكتب الستة وعنده المصحف ، هذه الأيام الحصول على الكتب الستة سهل بسبب المطابع فيستحصلُ الشخص عليها ويجتهد.] هذا مثلُ الذى يقول أشترِى خمسةَ خيول من أفضلِ الخيول فأصير فارسَ البلد. ومنشأ هذا الزللِ الجهلُ والعُجْبُ والغرورُ. نسأل الله العصمة من ذلك.

قال المؤلف رحمه الله:وتعليمُ وتعلُّمُ علم مضر لغير سبب شرعىّ.

الشرح: أن من معاصى اللسان تعليمَ الشخصِ لغيره كلَّ علم مضر شرعاً كالسحر وما شابه ذلك ، مثلُ علم التنجيم الذى فيه الحكم على الأمور التى تحصل مستقبلاً بناءً على النظر فى النجوم ، فإنه أيضاً حرام. ومن جملة المحظورات تعليمُ السفهاء مسائل الرُّخَص ليتخذوها طريقاً لارتكاب المحرمات وتركِ الواجبات.

قال المؤلف رحمه الله: والحكم بغير حكم الله.

الشرح: أن من معاصى اللسانِ أن يحكم الحاكمُ بحكمٍ مخالفٍ لشرعِ الله تعالى وهو من كبائر الذنوب. ولا يصل إلى حد الكفر إلا إذا زَعَمَ فاعِلُهُ أن هذا الحكمَ أفضلُ من حُكْمِ الله أو مساوٍ له. ومن هنا يُعلَم أن ما قالَه سيدُ قُطبٍ من تكفيره الحكّامَ فى بلاد المسلمين لأنهم يحكمون بغير الشرع ومن تكفير الرَّعيّة لأنهم لا يثورون على هؤلاء الحكّام هو باطلٌ مخالفٌ لدين الله تعالى. يكفِى فى ردِّ ذلك أن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام نهانا عن مقاتلة الخليفة لخلعِه إذا ظلمَ ما لم يكفُر كُفراً بواحاً كما روى ذلك مسلم وغيرُهُ. ولم يوافق سيد قطب فى هذا الكلام أحداً من أئمةِ أهل السُّنة ، إنما سَلَفُهُ طائفةٌ من طوائف الخوارج يقال لها البَيْهَسِيَّة ، وكفى بالمرء خسراناً أن يكون ذَنَباً للخوارج.

قال المؤلف رحمه الله: والندب والنياحة.

الشرح: أن من معاصى اللسانِ النّدبَ. والندب معناهُ ذكْرُ محاسن الميت برَفْعِ الصوت مع الصُّراخ مثل وَاكَهْفَاه ( يعنِى يا مَلْجَئِى ) وما شابه ذلك. خطاب الميت بهذه الطريقة التى فيها رفع الصوت مع ذكر محاسنِه هو الندب. والنياحةُ هى الصّياح على صورةِ الجَزَع أى فقدان الصبر لأجل مصيبة الموت هذا هو النياحة. فإذا زيد على ذلك نَشْرُ الشعرِ وتمزيقُ الثّياب كان زيادةً فى الإثم أى إن كان عن اختيار لا عن غلبة.

قال المؤلف رحمه الله: وكلُّ قول يحثُّ على مُحرَّمٍ أو يُفَتّـِرُ عن واجب ، وكلُّ كلام يقدح فى الدِّين أو فى أحد من الأنبياء أو فى العلماء أو القرءان أو فى شىءٍ من شعائر الله.

الشرح: أن هذه قاعدةٌ عظيمةُ النّفع سبَقَ بيانُها فى مواضعِ مُتفرّقةٍ من هذا الكتاب ، لكن يناسب التذكير هنا بأن النهىَ عن الواجب حرام والحثَّ على المعصية حرام ، وكثيراً ما يقع الإنسان فى ذلك بسبب أولاده أو أمواله. أحياناً من شدةِ محبة الشخص لأولاده يَغْلِبُ ذلك عنده إلزامَهُمْ بطاعةِ الله تبارك وتعالى فينساقُ معهم إلى ما يريدون من المعاصى. ومثلُ هذا داخل تحت قول الله تعالى:{يا أيها الذين ءامنوا إنَّ مِنْ أزْوَاجِكُم وَأوْلاَدِكُم عَدُوًّا لَكُم.} سورة التغابن / 14. وقوله تعالى:{ إِنّمَا أمْوَالُكُم وَأوْلاَدُكُم فِتنَةٌ.} سورة التغابن / 15. وعلى مثلِ ذلك ينطبق حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الولد:[ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ.] رواه البزار ، مبخلةٌ يعنى سبب للبخل ومجبنة أى سبب للجبن. وذلك مثلُ الذى لا يدفع الزكاة حتى يُجَمّـِع المال لأولادِه ، أو لا يدفع ما يجبُ عليه دفْعُهُ فِى سَدِّ الضرورات كمثلِ مكافحة الكفر لأجلِ أن يُجمّعَ لأولادِه المال. رُوِى أنّ واحداً من السلف باعَ أرضاً له بمالٍ عظيم ، فلَمّا عرَفَت زوجتُه بذلك قالت له: لو أنك تُعْطِى هذا المال لإنسان يتاجر لنا فيه فيدخل علينا منه مال نتوسع به فى المعيشة. فى اليوم الثانى جاءها وقال لها: وضعتُ المال فى موضع لا نخسَرُ فيه بل على الأقل الربح عشرة أضعاف ، فَفَرِحَت ثم كلَّ مدة كانت تسألهُ عن ذلك المال ، فقال لها بعد وقت إنه تصدق به كله.
ويُرْوَى عن أحدِ الصالحين أنه كان قَبْلَ أن يخرُجَ من بيتِه تقولُ له بنتُهُ: يا أَبِـى اِتقِ الله فينا ولا تُطْعِمْنَا إلا من حلال إهـ.
قال المؤلف رحمه الله: ومنها التزمير.

الشرح: أن من معاصى الفم التزميرَ أى الضربَ بالمزمار بكافة أنواعه ، ما يستعملُ فى الحروب وما يستعمل فى البوادى وما يستعمل فى الأعراس وغيرُ ذلك ، قال القرطُبِىُّ:لم أسمع عن أحد ممن يُعْتَبرُ قولُه أنه يُبيحُ المِزْمَار إهـ. فما قاله بعض الشافعيةِ وبعض الحنفيةِ فى حِلِّ ذلك هو قول شاذ لا يلتفت إليه.

قال المؤلف رحمه الله: والسكوتُ عن الأمرِ بالمعروف والنهىِ عن المنكر بغير عذر.

الشرح: أن من معاصى اللسان السكوتَ عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلا عذر شرعىّ. يعنى أن يسكت عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو ءامِن على نفسه ونحو ماله معَ قدرته على الأمرِ أو الإنكارِ. فإذا تعـيَّن الأمرُ والنهىُ عليه ثم لم يأمُر ولم ينهَ فهو ءاثم. فإن كان فرضَ كفاية وقام به غيرُه بحيث سُدَّت الكفاية فلا إثم عليه. وهنا ينبغى الانتباه إلى أمر مهم وهو أنه يُنْكَرُ المُجْمَعُ علىكونه منكراً. وأما المختلفُ بين أهلِ الاجتهاد فى كونه منكراً فلا ينكر على من يعتَقِدُ حِلَّهُ ، إنما يجوز أن يُقَالَ له ” خيرٌ لك أن لا تفعل هذا الأمر “، لكن لا يُقَالُ له ” أنت ءاثم بما تفعل ” لأن الأمر مختلف فيه فيجوز له أن يقلدَ هذا المجتهد كما يجوز له أن يقلدَ ذاك المجتهد. إنما يُنكَر المنكرُ المُخْتَلَفُ فيه على من يفعلُه وهو يعتَقِدُ حُرمَتَهُ.
وتركُ الأمرِ بالمعروف والنهىِ عن المنكر كبيرةٌ من الكبائر.

قال المؤلف رحمه الله: وكتمُ العلم الواجب مع وجود الطالب.

الشرح: أن من معاصى اللسان أن تعرِفَ طالباً يطلُبُ منك أن تدرّسه الفرض العينىّ من علم الدين ثم مع ذلك تهمل هذا الأمر ، لا تطلب من غيرك أن يُدَرِّسَهُ ولا أنت تُدَرِّسُهُ. هذا ذنبٌ من معاصى الفم. وقد روى ابن ماجه والحاكم وغيرهما عن رسولِ الله :[ من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه أَلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة.] وقد ذكر الفقهاء أن تعليم العلم يكون فىحال فرض عين وفى حال فرض كفاية. فمثالُ فرضِ العَيْنِ أن تَعْرِفَ أنه لا يوجد غيرُكَ لتعليم الطالب ما أوجب الله عليه معرفَتَهُ من أمور دينه فهنا تعليمُهُ فرضُ عين عليك.
فائدة: تأهيل قسم من الناس ليبلُغوا مرتبة الفتوى من فروض الكفاية.

قال المؤلف رحمه الله: والضَّحِكُ لخروج الريح أو على مسلم استحقاراً له.
الشرح: أن من معاصى الفَم الضَحكَ على مسلم إذا أخرج الريح ، أى إذا لم يكن الضاحكُ مغلوباً أى إذا لم يخرج منه الضحك بغير إرادته. لأن الضحك على المسلم لأجل أنه أخرج الريح يكسِرُ قَلْبَهُ فهو حرام. ومثله أَىُّ ضَحِكٍ فيه إيذاء للمسلم ، كما لو ضحك استحقاراً له.

قال المؤلف رحمه الله: وكتم الشهادة.

الشرح: أنَّ من جملةِ معاصى اللسان كتمَ الشهادةِ الواجبةِ. وذلك فيما إذا طَلَبَهُ القاضى للشهادَةِ، فأما إِنْ لم يطلُبْه القاضى للشهادة فليس له أن يبادرَ ليشهد ، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَمَّ الذين يشهدون قَبْلَ أن يُسْتَشْهَدُوا كما رواه الترمذىُّ وغيره. وهذا فى غيرِ شهادَةِ الحِسْـبَة ، مثلَمَا إذا عرَفَ شخص أن رجلاً ءاخر طَلَّقَ زوجَتَهُ طلاقاً بائناً بالثلاث بحيث لا تَحِلُّ له بعد ذلك وهو مع ذلك ما زال يعاشرُها. فى هذه الحال لو لم يُرْفَع عند القاضى دعوى يجوز له أن يذهب إلى القاضى فيشهد و يقول له الحال كذا وكذا أنا أشهد على ذلك. هذا يقال له شهادةُ الحِسْبَة. أما فى غيرِ نحو ذلك فلا يفعل إلا إذا طلبَه أحد الخصمين فيشهد عند ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وتَرْكُ ردّ السلام الواجبِ عليك.

الشرح: أن من معاصى اللسان تركَ ردِّ السلام الواجب عليك عَيْنِـيّـاً ردُّه ، وذلك بأن يصدُرَ ابتداءُ السّلام من مسلمٍ مكلف على مسلمٍ بعينه ، ففى هذه الحال لا بد من رد السلام عليه. وبقولنا مسلم أخرجنا الكافر فلا يجبُ ردُّ السلام عليه بل يَحْرُمُ. فإذا قال الكافر السلام عليكم يحرم أن يقال له: وعليكم السلام. وبقولنا المكلف أخرجنا غيرَ المكلّف فلا يجب ردُّ السّلام على المجنون ، ولا يجبُ ردُّ السلام على الطفل الذى لم يبلغ بعد. أما لو صَدَرَ السّلامُ من مسلمٍ على جماعةٍ مكلفين فرَدُّه فرضُ كفاية فلو ردّ البعض منهم سقط الحرجُ عن الباقين. ولو سلَّمت شابةٌ على أجنبىّ لم يجب الردُّ عند ذلك ، وإن كان جائزاً ليس حراماً. وما ذكره بعض المتأخرين من أنه يحرم ابتداء الرجلِ المرأةَ بالسلام أو بالعكس فليس بجيدٍ أى أنّ إطلاقَهُم هذا الأمرَ ليس بجيد. وقد ثبت أن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام سَلّمَ على بعضِ النسوَةِ ، كما روى ذلك أبو داود وغيره.

قال المؤلف رحمه الله: وتحرم القُبلةُ المحرّكة للمُحرِم بنُسُكِ حجٍ أو عُمرَة ، أو لصائم فرضاً ، أو من لا تحل قبلته.

الشرح: أن من معاصى الفم أن يُقَبّـِلَ الشخصُ من لا يَحِلُّ له تقبيلُهُ. ويَشْمَلُ ذلك تقبيل الزوج زوجَتَهُ إذا كان محرماً بحجٍ أو عمرة وكانت القبلة محركةً للشهوة. وكذلك إذا كان صائماً صيامَ فرض فقبَّلها قبلة محركة. وأما لو قَبَّلَهَا قُبلَةً غير محركة للشهوة أى قبلة شفقة فلا يحرم ذلك. وممن يحرم قبلتُه الأجنبيةُ – أى غير الأم والأخت ونحوهما من المحارم-سواءٌ كان ذلك بشهوة أم بغير شهوة. وشَذَّ فى هذ الزمن طائفةٌ أَضَلَّهُم الله تعالى يقال لهم حزب التحرير فزَعموا أنه يجوزُ تقبيلُ الأجنبية. قالوا:[ القُبلة عبارة عن تحريك الشفتين وتحريكُ الشفتين ليس محرماً:] ومن اعتقد مثلَ هذا فهو كافر بلا شك. قولهم هذا يقال له الاجتهاد بخلافِ النّص ولا يقام له وزن. وقد عدّ بعضُ الفقهاءِ فى جملةِ المعاصى نسيانَ القرءان بعد أن تعلَّمَهُ الشخصُ. وهذا غيرُ صالح ، لأن النسيان لا إثمَ فيه. وحديث أبى داودَ:[ عُرِضَتْ عَلَىَّ ذنوبُ أُمَّـتِى فلم أرَ ذنباً أعظمَ من ءايةٍ أوتِيَها رجل فنسيَها.] غيرُ صحيح. وَحَمَلَ بعضُ الفقهاءِ النسيانَ فى هذا الحديث على معنى تركِ العمل ، لا على معنى أن يَغِيبَ الأمر عن الذهن ، أى أَوَّلُوا هذا الحديث ، ورُوِىَ هذا التأويل عن أبى يوسف تلميذ أبى حنيفة وهو سائغ لغةً لأنه فى لغة العرب يقال نَسِيَهُ بمعنى ترَكَهُ ، كما فى قوله تعالى:{ فَاليَوْمَ نَنسَاهُمْ.} سورة الأعراف / 51. ومعناه نتركهم فى النار. وعلى كل حالٍ الحديثُ غيرُ صحيح فلا يُحْتَجُّ به لتحريم مجرد نسيان القرءان.

معاصي اليدين

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصى اليدين التطفيفُ فى الكَيل والوَزن والذَّرْع.

الشرح: أن بعض الناس لَمّا يشترِى بِضَاعَةً من غيره يَستوفِى الكيلَ أو الوزن أو العدّ أو القياس بالأذرع. فيأخذ ما جرَى عليه العقد كاملاً ، لكن لَمّا يَبيع يوهمُ المشترِى أنه أعطَاه كلَّ ما يستحق وفى الحقيقة يكون أنقص من ذلك ، فهذا هو التطفيف. ولفعله طرق عديدة من الاحتيال لكن كلُّها من كبائر الذنوب. قال ربُّنا عز وجل:{ وَيْلٌ لِلمُطَفِفِينَ.} سورة المطففين / 1. يعنى أَن المطففين يَسْتَحِقُونَ العذابَ الأليم. والويل هو شدة الهلاك.

قال المؤلف رحمه الله: والسَّرِقةُ ، ويُحَدُّ إن سَرَق ما يساوى ربعَ دينار من حرزِه بقطع يده اليمنى ، ثم إن عاد فرجلُهُ اليُسرَى ثم يده اليُسرَى ثم رِجْلُه اليمنى.

الشرح: أن السرقةَ ذنبٌ مجمعٌ على تحريمه ، حرمَتُهُ معلومةٌ من الدِين بالضرورة. وأصلُ معناها أخذُ مالِ الغير خُفْيَةً ، ليس اعتماداً على القوة. فحدُّ السّرِقَةِ إذا سَرَقَ الشخصُ ما يساوى ربعَ دينارٍ ذهباً من حرزِه ، أى من المكان الذى يُحفظُ فيه مثلُ هذا الشئ ، أن تُقطعَ يدُه اليمنى من الكوع ( ويُعْمَلُ له ما يُوقَفُ به النـزيفُ فوراً كأن يُغْمَسَ محلُّ القطعِ فى الزيتِ المُغْلَى )، ثم إن عاد إلى السرقة بعد ذلك تقطع رجلُه اليسرى ، ثم إن عاد فيَدُهُ اليسرى ، ثم إن عاد فرجلُه اليمنى ، ثم إن عاد يُعَزَّرُ ولا قَطْعَ عليه. وأما إن سرقَ أقلَّ من ربعِ دينار فإنه يُعَزَّرُ ولا يُقْطَع. وكذلك لو سَرَقَ مالاً من غيرِ حِرْزِهِ أى من غير المكان الذى يُحفَظُ فيه ذلك المالُ عادةً ، فإن السارق لا يقطَعُ بذلك وإنما يعزر. ويكونُ حرزُ المثل فى بعض الأحوال صندوقاً يُقْفَل بمفتاح داخل البيت.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها النهب والغَصب والمَكس والغُلول.

الشرح: أن من معاصى اليدِ أخذَ المال بطريقةٍ حرَّمَها الشرع ، سواء كانت هذه الطريقة أخذَ مال الغير بغير حق اعتماداً على الهرب ، أو كان ذلك اعتماداً على القوة ، أو كان ذلك بالمكسِ الذى يؤخَذُ من التجار بغير وجه حق على بضائِعِهِم ، أو كان ذلك بأخذ ما لا يحلُّ للشخص من مال الغنيمة ، كأن يأخُذَ الشخص من مال الغنيمة شيئاً لنفسه قبل أن تُقْسَم الغنائِم القسمة الشرعية. وهذا الأخير يقال له الغلول وهو من الكبائر ، ولو كان الشئ الذى غلَّهُ الشخص قيمتُهُ قليلة. كان رجل على ثَقَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعضِ الغزوات فمات فى المعركة فقال النبىُّ عليه الصلاة والسلام:[ إنه فى النار.] فنظروا فوجدوه قد غَلَّ شَمْلَةً من الغنائم. والشملة قطعة قماش لا قيمة لها كبيرة ومع ذلك النبىُ صلى الله عليه وسلم قال:[ إنه فى النار.] والحديث رواه البخارى وغيره.

قال المؤلف رحمه الله: والقتلُ ، وفيه الكفارة مطلقاً. وهى عتق رقبةٍ مؤمنةٍ سليمة ، فإن عجز صام شهرين متتابعين. وفى عمده القِصاص إلا إن عفا عنه الوارث على الدِّيَةِ أو مجّاناً. وفى الخطإ وشِبْهِهِ الديةُ ، وهى مائة من الإبل فى الذكر الحر المسلم ، ونصفُها فى الأنثى الحرة المسلمة. وتختلف صفاتُ الدية بحسب القتل.

الشرح: أن من معاصى اليدين قتلَ مسلمٍ عمداً ، يعنى بغير حق. وهذا أكبرُ الذنوبِ بعد الكفرِ بالله عزّ وجلّ. فإن قَتَلَهُ لإسلامِهِ أى قتله لأنه مسلم فهو كافر. فإن لم يرجع إلى الإسلام ومات على ذلك خَلَدَ فى نار جهنَّم. وهذا معنى قولِ الله تعالى:{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمّـِداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيَهَا.} سورة النساء / 93. يعنِى إذا تعمّدَ قتلَه لإيمانه أى قتله لأنه مسلم. وأما قَتْلُ المسلم لأجل الدنيا فهو ذنبٌ كبير لا يصلُ إلى حدّ الكفر. ومِثْلُ قَتْلِ المسلم فى كونِهِ كبيرةً قتلُ الذمىِّ فى عهدِهِ. ثم من أحكام الدنيا بالنسبة للقتل أن من قَتَلَ على الإطلاق عمداً أو خطأً أو شِبْهَ خطإ يجبُ عليه الكفارة ، وهِىَ:
عِتْقُ رقبةٍ مؤمنةٍ سليمةٍ من العيوب المضرةِ بالعمل ، فإن عَجَزَ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ ، ولا إطعام هنا. قال الله تعالى:{ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيِرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.} سورة النساء / 92. ففى العمد أولى. ثم إن القتل ثلاثة أنواع: إِما عَمْد وإما خطأ وإما شبْهُ العمد ، ويُسَمَّى الأخيرَ أيضاً شبه الخطإ لأنه من ناحيةٍ يشبهُ العمدَ ومن ناحية يشبه الخطأَ.
فالأول أى العمد مثلُ أن يَعْمَدَ إلى ضربه بما يقتُلُ فى الغالب قاصداً قتلَهُ ، فهذا قتلٌ عمد. كأن يَضْرِبَه بالسيف على أُمِّ رأسه قاصداً قتلَه فيقتُلَه ، فهذا قتلُ عَمْد.
والثانِى أن يُريدَ غيرَه ، كأن يُريدَ اصطيادَ بهيمة فيُصيبَ السلاح مُسلِماً خطأً فيقتُلَه ، فهذا يقال له القتل الخطأ.
والثالث شبه العمد أى أن يضربَهُ عمداً أى يقصده بالضرب لكن بما لا يقتُلُ غالباً فيموت ، كأن يغرُزَ إبرةً فى فخِذِهِ فيموت.
ففى الحال الأولى أى القتل العمد عقوبَتُه القِصاص أى أن يُقْتَلَ ، إلا إن عفا عنه أهل القتيل إما على دِيَةٍ أو مجاناً فلا يقتل عند ذلك. فإن لم يعفوا عنه يُمَكّـِنُ الحاكمُ ورثةَ القتيل من قتله ، فيكون الأمر تحت إشراف الحاكم حتى لا يؤدىَ إلى ثاراتٍ وسفكِ دماءٍ بغير حق.
وأما فى غير حالِ القتل العمد فلا قِصاص وإنما الدية. والديةُ مِائَةٌ من الإبل فى الرجل الحر المسلم ، ونصفها فى الأنثى.
وتختلف صفات الدية بحَسَبِ صفات القتل. ففى القتل العمد تكون حالَّـةً فى مال القاتل مُثلَّثةً ، يعنى أن الإبل تكون ثلاثةَ أنواع ثلاثين حِقَّة وثلاثين جَذَعَة وأربعين حوامل فى بطونها أولادُها.
أما فى حال شبهِ العمد فالديةُ مثلَّثةٌ كذلك ، لكنها مؤجَّلة.
وأما دية الخطأ فهى مُخَمَّسَة: عشرون بنتَ لبونٍ وعشرون بنتَ مَخَاضٍ وعشرون حِقَّةً وعشرون جَذَعَةً وعشرون ابنَ لبونٍ. تكون مخمّسة على العاقلة ليس فى مال القاتل ، ومؤجلةً فى ثلاث سنين.
ويثبت القِصاص أيضاً فى الجِراحات ، فيثبت القِصاص لو قطع إنسان لإنسان ءاخرَ يدَهُ ، وفى نحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها الضربُ بغير حق.

الشرح: أن من معاصى اليد ضربَ المسلمِ أو الذمىِّ بغيرِ حق. وقد روى أبو داود وغيرُه فى الحديث الصحيح:[ إنَّ الله يُعَذّبُ الذينَ يُعَذِّبـُونَ الناسَ فى الدنيا.] يعنى الذين يعذبون الناس بغير حق فى الدنيا يستحقون فى الآخرة عذابَ الله عزّ وجلّ. ومثلُ الضرب ترويعُ المسلم بغير حق ، والإشارةُ إليه بنحو سلاح أى رفعُ السلاح فى وجهِهِ لأن هذا يُرَوّعُهُ. وقد صح فى الحديث الذى رواه ابن حبان أن الملائكة تلعنُ الذى يفعل ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وأخذُ الرِّشوة وإعطاؤها.

الشرح: أن من معاصى اليد أن يأخذ الإنسان رِشوةً وكذا أن يُعْطِيَها. والرِّشوة هى المال الذى يُعْطَى لإنسان لإبطال حق أو لإحقاق باطل. ففى هذه الحال الآخذُ والمعطِى عاصيان. أما لو منعك إنسان ما هو حق لك ولا تستطيع أن تصل إليه إلا إذا دفعتَ له مالاً ففعلتَ لأخذ حقك ، فهذا ليس معصية منك ، وأما هو فآثم.

قال المؤلف رحمه الله: وإحراقُ الحيوان إلا إذا ءاذَى وتَعَيَّنَ طريقاً فى الدفع.

الشرح: أن من معاصى اليد إحراقَ الحيوان أى ما فيه روح ولو كان مؤذياً ، إلا إذا كنت لا تستطيعُ أن تَحْمِىَ نفسك من أذاهُ إلا بالحرق ، وذلك لحديث:[ لا يُعَذِّبُ بالنارِ إلا ربُّها.] رواه أبو داود.

قال المؤلف رحمه الله: والمُثْلَةُ بالحيوانِ.

الشرح: أنَّ من معاصى اليد التمثيلَ بالحيوان، أى أن يُقْطَعَ أنفُهُ وتُشْرَمَ أُذُنُهُ ونحو ذلك من التشويه.

قال المؤلف رحمه الله: واللعِبُ بالنَّرْد ، وكلِّ ما فيه قمار ، حتى لعِبُ الصبيان بالجَوْز والكِعَاب.

الشرح: أن من معاصى اليد اللعبَ بالنردِ وما شابَهَهُ من الألعاب التى تعتمدُ على الحَزْرِ والتخمينِ لا على الحساب. وقد روى مسلم والطبرانِىُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ مَن لَعِبَ بالنردَشِيرِ فكأَنما غَمَسَ يدَهُ فِى لَحمِ خنـزيرٍ ودمِهِ.] يعنى أنه ءاثم بذلك. ويؤخذ من ذلك حُرْمَةُ اللعب بهذه الأوراق المزَوّقة التى تسمى بالعامية فى بعض البلاد ( شَدَّة ) لأنها تعتمد على الحزر والتخمين لا على الحساب. والمعنَى فى تحريمها أنها تؤدّى إلى تخاصمٍ بلا غاية ، لذلك حُرّمت. أما ما يَعتمِدُ على الحساب مثلُ الشّـِطْرَنْجِ فهو جائز مع الكراهة. فلا يجوزُ تمكينُ الأولاد الصغار غير البالغين من أمثال هذه الألعاب والألعابِ التى فيها مقامرة ، فمن مَكَّنَهُمْ من ذلك فهو ءاثم.

قال المؤلف رحمه الله: واللعبُ بآلات اللهو المحرمةِ كالطنبور والمزمار والرَّباب والأوتار.

الشرح: أنه سبق شرح هذا الأمر فى فصل معاصى الأذن. وقد روى البخارىّ فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ ليكونَنَّ فى أمتى أناس يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف.]

قال المؤلف رحمه الله: ولمسُ الأجنبية عمداً بغير حائل أو به بشهوة ولو مع جنسٍ أو محرميَّة.

الشرح: أن من معاصى اليدين أن يَمَسَّ الإنسانُ ببشرته بشرةَ أجنبيةٍ سواء كان ذلك بشهوةٍ أو بغيرِ شهوة. وكذا لمسُ سائرِ أجزاءِ بَدَنِهَا كشعرها وسنّـِها وظفرها ، وذلك لحديث رسولِ اللهِ :[ واليدانِ زناهُمَا البطشُ.] أى اللمس ، و الحديث رواه مسلم. والحكمُ مجمعٌ عليه. هذا إذا كان اللمسُ بغير حائل ، أما لو كان حائلٌ فصافح رجلٌ امرأةً وهو يلبَسُ قفازاً أو هى تَلْبَسُ قفازاً فلا حرمةَ لوجودِ حائلٍ بينهما. لكن إذا حَصَلَ مثلُ ذلك بشهوةٍ فهو حرام ولو كان بحائل. وقد رُوِىَ عن سيدنا عمر أنه صافح بعض النساء اللاتى جئن ليبايعن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أى بحائلٍ ولكن لم يثبت ذلك. ويَحْرُمُ التَّضَامُّ والتلاصُقُ بين الرجال و النساء الأجانب ولو كان بحائلٍ. ويحرم مسُّ جلدِ الرَّجُلِ للرجل والمرأة للمرأة إذا كان بشهوة ، وكذلك الحكم بين المحارم.

قال المؤلف رحمه الله: وتصويرُ ذِى رُوْحٍ.

الشرح: أن من معاصى اليدِ تصويرَ ذِى روحٍ سواءٌ كان مجسَّماً أو لا. فتمثالُ ذِى روح حرامٌ فى مذهب الإمام الشافعىّ رضى الله عنه سواءٌ كان مجسماً أو لا ، أى حرامٌ فعلُه واتخاذُه ، وسواء كان ذلك منقوشاً فى سقف أو جدار أو نحو ذلك. وهو كذلك فى مذهبِ أبِى حنيفةَ وأحمدَ أيضاً. وأجاز المالكيةُ ذلك إن لم يكن مجسّماً. وعليه أى على المجسَّم حملوا النهىَ الوارد فى الحديث. ويُشْتَرَطُ لتحريم استبقاءِ الصورةِ أن تكون الصورةُ بهيئةٍ يعيشُ عليها الحيوان فإن كانت من غير رأس مثلاً جازَ استبقاؤها. ولا اعتبارَ لِمَا قالَه بعض الشافعيةِ من ” أن القولَ بجوازِ استبقاءِ ما ليس مجسماً قولٌ مردود ” لأن جواز استبقائه هو مذهب مالكٍ رضى الله عنه وغيرِهِ.

قال المؤلف رحمه الله: ومنعُ الزكاة أو بعضِها بعد الوجوب والتمكن ، وإخراجُ ما لا يجزئ أو إعطاؤها من لا يستحقها.
الشرح: أنَّ مَن وَجَبَت عليه الزّكاةُ وتمكن من إخراجِهَا يجبُ عليه أن يُخْرِجَهَا على الوجه الذى أمر الله تبارك وتعالى به. فلا يجوز له منعُها ، ولا يجوزُ له أنْ يُؤَخّـِرَها بدون عذر شرعى ، ولا يجوز له أن يَدْفَعَ ما لا يكونُ مجزئاً. فإذا كان الفرض عليه أن يخرج جملاً فأخرج شاةً ، مثلاً أو كان الفرض عليه أن يخرج شاةً فأخرج عُمْلَةً فإنه لا يجزئه ولو كانت قيمة ما أخرجه أكثر من قيمة ما وجب عليه. ولا يجوز ولا يجزئ ولا تبرأ ذمتُه إذا أَعْطَى الزكاةَ لمن لا يستحقُها أى لغير الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله فى القرءان ، كالذى يدفعُ الزكاةَ فى بناء مسجدٍ ، فإنّ الزكاة ما زالت فى ذمتِه ، والمال الذى دفعَه هو فى غير محله ليس له فيه أجر ، بل وعليه فيه إثم.
ومنع الزكاة من كبائر الذنوب كما صَحَّ فِى الحديث أن لاوِىَ الصدقَةِ ملعونٌ على لسانِ الرسول صلى الله عليه وسلم . رواه ابن حبان.

قال المؤلف رحمه الله: ومنعُ الأجيرِ أُجرَتَه.

الشرح: أن من معاصى اليد تركَ إعطاءِ الأجيرِ أُجرتَه. يعنى إذا أَدّى العملَ المتفقَ عليه فلم يدفع له المستأجِرُ الأجرة المتفَق عليها فالمستأجِر ءاثم. وذلك لحديث البخارىِّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:[ ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القيامَةِ ومَن كُنتُ خَصْمَه خَصَمْتُهُ ]- يعنى أنَّ الحجة قائمة عليه [ رجلٌ أَعْطَى بِىَ العهدَ ثم غَدَرَ ، ورجلٌ باعَ حراً فأكل ثمنه ] يعنى هو يعرف أنه حر فباعَه على أنه عبدٌ وأكل ثمنَهُ [ ورجلٌ استأجَرَ أَجيراً فاستَوفَى منه ] يعنى استوفى العمل من الأجير [ ولم يعطِهِ أجرَه.]

قال المؤلف رحمه الله: ومنع المضطرِ ما يسُدُّه ، وعدمُ إنقاذِ غريقٍ من غيرِ عذرٍ فيهما .

الشرح: أن من معاصى اليدِ منعَ المضطرِ ما يَسُدُّ حاجَتَهُ من غير عذرٍ فى ذلك. ولا فَرْقَ فى هذا بين القريبِ وغيرِهِ. ويَشْمَلُ المضطرُ أيضاً من اضطُر لكِسوةٍ أو طعامٍ لدفع الهلاكَ عن نفسه ، فمَن قَصّرَ فى ذلك فهو ءاثم. فإن كان عنده طعام يَحْتَاجُ فيما بعد إليه لكن هو غيرُ محتاج إليه الآن يجب عليه أن يسُدَّ حاجةَ من هو مضطرٌ إليه الآن. فالمسلمون ينبغى أن يكونوا كالجسد الواحد إذا مرضَ منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمَّى ، كما صح فى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
كذلك من معاصى اليد عدمُ إنقاذِ غرِيق من غيرِ عذر فيه. العذر مثل أن لا يستطيعَ السِبَاحة ، ولا يجد ما يُنْقِذُهُ به ، ولا يستطيع ذلك من غير أن يسبَح.

قال المؤلف رحمه الله: وكتابةُ ما يحرُمُ النطقُ به.

الشرح: أن القلم كلسانٍ ثانٍ للإنسان ، فيجبُ أن يصونَه الشخصُ عما يصون منه لسانَهُ. فكما يَحْفَظُ لسانَه عن الغيبة يجبُ أن يحفَظَ قَلَمَهُ عن الغيبة ، وكما يصونُ لسانَه عن الكفر عليه أن يصونَ قلمه عن الكفر وهكذا.

قال المؤلف رحمه الله: والخيانة وهى ضد النصيحة. فتشمل الأفعالَ والأقوالَ والأحوالَ.

الشرح: أن من المعاصى الخيانةَ. والخيانة هى ضدُّ الأمانة ، كما لو ائْتَمَنَكَ إنسانٌ على مال يجب عليك أن تحفظَه له. فلا تصرِفَ هذا المال على نفسِكَ ولو كان فى نيتِكَ أن تعوّضَ له فيما بعد، إنما تحفَظُهُ كما هو فى المكان الذى يُحفظ فيه مثله. وإذا ائْتَمَنَكَ إنسانٌ على عمله فلا يجوزُ أن تخونَهُ ، وإذا استنصحَك فليس لك أن تخونَه فى النصيحة. وكذلك إذا صَلَّيتَ عليك أن تُرَاعِىَ الأمانَةَ فى ذلك فلا تدخلُ فى الصلاة من غير طهارة. فكل هذه وأمثالُهَا وجوه للأمانة ، وتضييعُ الأمانة فيها وجوه من الخيانة. مثل الشخص الذى يُظْهِرُ نفسَه أنه هو أهل ( لو لم يقل ذلك لكن بتصرفاته يُظْهِرُ نفسَه أنه أهل ) لتحمُّل عِبء وظيفة معينة وهو يعلم أنه ليس أهلاً لها ، فهذه خيانة فى الأحوال.والخيانة من أرذَلِ الصفات ، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له.] رواه ابن حبان من حديث أنسٍ. يعنى أنّ الذى لا يحافظُ على الأمانة لا يكون إيمانه كاملاً، ومعنى [ لا إيمان ] أى لا إيمان كاملاً له أى أن هذا ذنبٌ ليس بالهين.
فائدة: اعترض أحد الملاحدة على حكمِ قطعِ اليدِ فى الشريعة فقال بيتاً من الشعر:
يدٌ بخمسِ مِئِينَ عَسْجَداً وَدِيَتْ ما بالُها قُطِعَتْ فى رُبْعِ دينارِ
العسجد معناه الذهب ، ووُديت فعل مبنى للمجهول من وَدَى يَدِى. ومراده أنّ اليد إذا قطعها إنسان ظلماً لإنسان ءاخر قد يدفع له مقابل ذلك دِيَتَهَا خمسَمائة دينار ذهباً. يقول فكيف إذا سرق ربع دينار تقطع وقيمتُها لما تُدفَع ديتُها قد تبلغ خمسمائة دينار؟ كيف هذا؟ يعترض على الشريعة. فأجابه بعض العلماء ببيت مُفْحِم من الشعر أيضاً فقال:
عِزُّ الأمانةِ أغلاها وأرخَصَهَا ذُلُّ الخيانةِ فافْهَمْ حِكمةَ البارِى
أغلاها يعنى جَعَلَها غاليةً أى قيمتَها عالية. يعنى لما كانت أمينة لم تَسرِق قيمتُها كانت غالية عالية ، فلما خانت سقطت قيمتها بحيث قُطِعت فى ربع دينار ، فافهم حكمة البارى أى اللهِ الخالقِ فى ذلك.

معاصي الفرج

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصى الفرج الزنى وهو إدخال الحَشَفَة فى القُبُل ، واللّـِواطُ وهو إدخال الحشفة فى الدبر.

الشرح: أن من معاصى الفرج الزنى وهو عند الإطلاق إدخال الحشفة فى الفرج. فهذا هو الزنى الذى يعد من أكبر الكبائر ويجب فيه الحد. أما ما يطلق عليه الزنى مقيداً مما هو دون ذلك كزنى العين واليد وما شابه ذلك فليس فيه حدٌّ.
وكذلك من معاصى الفرج اللواط وهو إدخال الحشفة فى الدبر. وهذا أيضاً من الكبائر وفيه الحد ، إلا فى تلوط الرجل بامرأته فهو وإن كان حراماً لكن لا حدَّ فيه.

قال المؤلف رحمه الله: وَيُحَدُّ الحرُّ المحصَنُ ذكراً أو أنثى بالرجم بالحجارة المعتدلة حتى يموت ، وغيرُهُ بمائةِ جلدة وتغريب سنةٍ للحر. وَيُنَصَّفُ ذلك للرقيق.

الشرح: أن الخليفة أو من يقوم مقامه إذا ثبت عنده شرعاً أن شخصاً زنى أو لاط يجب عليه إقامة الحد على هذا الشخص. والحد يختلف بين المحصن وبين غير المحصن. والمحصن هو من جامع فى نكاح صحيح ، فإذا زنى يكون حدّه الرجم بالحجارة المعتدلة حتى يموت، لِما ثبت فى الحديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ورجم المرأة الغامدية ( من بنى غامد )، وكلاهما كان محصناً. روى ذلك البخارىُّ. ومعنى أن تكون الحجارةُ معتدلةً أى أن تكون مِلْءَ الكف ، ويَحْرُمُ أن يُضْرَبَ المرجُومُ بالحجارَةِ المُذَفّـِفَة أى التى يقتل واحِدها بمفرده عادة.
وأما غير المحْصَن وهو الذى لم يطأ فى نكاحٍ صحيح فإنه إذا زنى لا يُرْجَم ، إنما حدُّه أن يُجْلَدَ مائةً وأن يُغَرَّبَ سَنَةً، أى يُبْعَد عن البلد إلى مسافة القصر على الأقل. والمراد بالسَّـنَةِ السَـنَةُ القمرية. وأما اللواطُ فحدُّ فاعله حدُّ الزانى ، وحدُّ المفعول به جلدُ مائة وتغريبُ عام ، وهذا هو المعتمد. وما ذُكِرَ هو الحد فى الزنا واللواط للحر المكلف ذكراً كان أم أنثى ، وأما العبد فحده على النصف من حدّ الحر ، أى أنّ حدَّهُ خمسون جلدة وتغريبُ نصف عام حتى لو كان محصناً لأن الرجمَ لا يُنَصّف. والأفضل لمن ابتُلى بمثل هذا الذنب أن يسترَ على نفسه كما فى باقى الذنوب. لكن إن اعترف للحاكم وثبت على اعترافه وجب على الحاكم أن يقيم عليه الحد. ولا بدّ فى الإقرار أى إذا أقرّ على نفسه بالزنا وفى الشهادةِ على ذلك من أن يكون كلٌّ منهما مُفَصّلاً ، فلا يكتفى الحاكم بأن يقولَ شخصٌ أنا زنيت حتى يقيمَ عليه الحد لأن بعض الناس لا يعرفون ما هو الزنى ، فيظنون ما دون الزنى من التقبيل أو المعانقة ونحو ذلك أنه زنى ، وهو وإن كان حراماً لكنه ليس الزنى الذى يقام فيه الحدّ، لذلك لا يكتفى الحاكم بمجرد قول الشخص عن نفسه أنا زنيت بل يطلب إقراراً مفصّلاً. وكذلك فى الشهادة ، يعنى أن الحاكم يطلب على الزنا شهادة مفصلة.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها إتيان البهائم ولو ملكَه ، والاستمناءُ بيدِ غير الحليلة الزوجةِ ، وَأَمَتِهِ التى تحل له مثلُها.

الشرح: أن كِلاَ هذين الأمرين حرام لأنهما داخلان تحت قول الله تبارك وتعالى:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم فَإِنْهُمْ غَيْرُ مَلُوُمِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العَادُونَ.} سورة المؤمنون / 5-6-7. والمعنى أنّ الذين يحفظون فروجَهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أَيْمَانُهُم أى الإماء اللواتى يملكونهن ، فلا لوم عليهم. أما الذى يبتغى غيرَ ذلك أى لا يحفظُ فرجَهُ عمّا سوى الزوجةِ والأمةِ فأولئك هم العادون الواقعون فى الإثم. فدخل فى ذلك جماعُ البهائم ، ودخل فى ذلك الاستمناء بيد غير الحليلة وما شابه.

قال المؤلف رحمه الله: والوطءُ فى الحيض أو النفاس ، أو بعد انقطاعهما وقبل الغسل ، أو بعد الغسل بلا نية من المغتسِلَةِ ، أو مع فقدِ شرط من شروطه.

الشرح: أن من محرمات الفرج أن يطأ الرجل زوجته أى أن يجامعها فى الحيض أو فى النفاس. وقد نص ربنا عزّ وجلّ فى القرءان على حرمة الجماع للحائض بقوله تعالى:{ فاعتزلوا النساء فى المحيض.}سورة البقرة / 222. ومعنى اعتزلوا لا تجامعوهن ، ليس معناه احبسوهن أو لا تمسوهن. إنما المراد عدم الجماع. وحرمة جماع الحائض معلومة من الدين بالضرورة ، لذلك قال بعض الشافعيةِ: من أَحَلَّ جماع الحائض فهو كافر. وحَرُمَ جماع الحائض لأنه يزيد المرأة أذًى ، ولأنه قد ينشأ عنه أمراضٌ لهما أو لأحدهما ، ولأن هذا قد يتسبب فى اختلاف لون الولد عن أهله فتُتهم المرأة بسبب ذلك بالزنى. ويُروى أن رجلاً جامع زوجته فى الحيض ثم ولد لهما ولد لونُه مختلف عن لونهما ، فانزعج الزوج انزعاجاً عظيماً ، وكان له شيخٌ يتردد إليه ، وكان هذا الشيخُ وَلِـيّـاً من الأولياء. فلما صار فى هذه الحال من الانزعاج ذهب إلى ذلك الشيخ ، فلما دخل مجلسه نظر إليه هذا الولىُّ – من غير أن يخبره هو شيئاً عما جرى – ثم قال:[ يجامعُ أحدُهم زوجتَه وهى فى الحيض ثم يُرْزَقُ بسبب ذلك بولدٍ يخالف لونُه لونهما فلا يلومن فى ذلك إلا نفسه.] فَعَرَفَ ذلك الرجل أن الله أَلْهَمَ هذا الولىَّ هذا الأمرَ حتى لا يَتَّهِمَ زوجته بغير وجه حق.
وكما يَحْرُمُ الجماع فى الحيض والنفاس يحرم الجماعُ بعد انتهاء الحيض والنفاس قبلَ الغسل الصحيح. فإذا لم ترفع الزوجة الحدث بغُسلٍ صحيح كأن اغتسلت بلا نية فكأنها ما اغتسلت ، وكذا لو اغتسلت مع فَقْدِ شرط من شروط الغسل.
ويحرم أن يستمتع الرجلُ بغير الجماع بما بين السرةِ والركبة من زوجتِهِ الحائض بغير حائل. أما الجماع فيحرم بحائل أو بغير حائل.

قال المؤلف رحمه الله: والتكشُّفُ عند من يحرم نظره إليه ، أو فى الخلوة لغير غرض.

الشرح: أنه كما يحرم النظرُ إلى عورةِ الغير يحرُمُ كشفُ العورةِ أمام من لا يحل أن ينظر إليها. وكذا يحرم التكشف فى الخلوة لغير غرض ، وقد سبق بيانُ ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: واستقبالُ القبلةِ أو استدبارها ببول أو غائط من غير حائل. والحائل ما يكون أمامه من شىء مرتفع بقدر ثُلُثَىْ ذراع فأكثر ، أو كان وُجد الحائل لكن بَعُدَ عنه أكثر من ثلاثة أذرع ، إلا فى المعدِّ لذلك أى إلا إذا كان المكان مهيأً لقضاء الحاجة كالمرحاض ، فإنه يجوز استقبال القبلة واستدبارها فيه.

الشرح: أن الإنسان إذا كان يَقضِى الحاجةَ من بول أو غائط حَرُمَ أن يستقبل القبلة بصدره أو أن يستدبرها بظهره فى ذلك الحال ، إلا أن يكون هناك حائل بينه وبين القبلة مرتفع ثلثى ذراع فأكثر ويبعد عنه ثلاثة أذرع أو أقل. ففى هذه الحال يجوز. وكذا إذا كان يقضِى الحاجة فى بيت الخلاء فيجوز ذلك مع الكراهة.

قال المؤلف رحمه الله: والتغوُّط على القبر.

الشرح: أن من جملة المعاصِى التغوطَ على قبرِ المسلم ، لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:[ لأن يَجْلِسَ أحدُكُم على جمرةٍ فتُحرِقَ ثيابَهُ وتخلُصَ إلى جلده خيرٌ له من أن يجلِسَ على قبر.] والمراد بالجلوس على القبر فى هذا الحديث الجلوسُ للتغوط وقضاء الحاجة وليس مجرد القعود على القبر ، والحديث رواه مسلمٌ.

قال المؤلف رحمه الله: والبولُ فى مسجدٍ ولو فى إناء وعلى المعظَّم.

الشرح: أن من جملةِ تعظيم المسجد صونَه عن أن يُـبَالَ فيه. فمن بَال فى المسجد سواءٌ بَالَ على أرضه أو فى إناءٍ ضمن المسجد فهو ءاثم. وكذلك إذا قضَى الحاجة على شئ معظَّم كورقة علم شرعى ( وهذا كفر ). وكذلك إذا بال أو تغوّط فى موضع نُسُكٍ ضيق أى فى مكان ضيّق يُعمل فيه نسك من مناسك الحج كالجمرة مثلاً. وكما يحرم البول فى المسجد يحرم تقذيره بشىء طاهر كالبصاق.
قال المؤلف رحمه الله: وتركُ الختانِ للبالغ ، ويجوزُ عند مالك.

الشرح: أن من محرمات الفرجِ فى مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه تركَ الختان للبالغ سواءٌ كان ذلك البالغُ ذكراً أو أنثى. يعنِى أن الشخص إذا لم يُختن قبل البلوغ وبلغ وهو غير مختون حرامٌ عليه أن يُهمل ذلك الأمرَ بعدَ البلوغ. والمرادُ بذلك قطعُ مكانٍ مخصوصٍ معلومٍ من فرج الذكر ومعلومٍ من فرج الأنثى. وقد صَحَّ فى الحديثِ أن سيدَنَا إبراهيم لما أُمِر بالختان كان عمرُهُ ثمانين سنة ، فاختتن بالقَدُّوم إسراعاً فى طاعة الله عزّ وجلّ. وقال مالكٌ رضى الله عنه الختان سُـنَّـةٌ ليس واجباً إهـ. وقاله غيره من الأئمة. فمَن ترك الختان أخذاً بمذهب مالك فلا إثم عليه.

معاصي الرِّجْلِ

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصى الرِّجْلِ المشىُ فى معصيةٍ. كالمشى فى سعايةٍ بمسلمٍ أى للاضرارِ به عند الحاكمِ أو نحوِهِ أو فى قتلِهِ أى المشىِ لقتلِ مسلم أو للإضرارِ به بغيرِ حق.

الشرح: أن السعاية بالمسلم فيها أذى كبير لأنه يحصل بها إدخالُ الرعب إلى المسعىِّ به وإرجافُ أهله وترويعُهم بطلب السلطانِ. وهذا إذا كانت السعايةُ به بغير حق ، وأما السعايةُ بحقٍ فهى جائزةٌ. ومثل السعاية فى كونها معصيةً المشىُ بالرجل لأجل فعل معصيةٍ كالمشى للسرقةِ أو المشى للزنا بامرأةٍ أو للتلذذ بامرأة لا تحل له بما دون الزنا. فإن مجردَ ذلك المشىِ معصيةٌ.

قال المؤلف رحمه الله: وإباقُ العبدِ والزوجة ، ومن عليه حقٌ عمّا يلزَمُهُ من قِصَاصٍ أو دينٍ أو نَفَقَةٍ أو بِرِّ والديهِ وتربيَةِ الأطفال.

الشرح: أن من معاصى الرجل إباقَ العبد المملوك أى هرَبَهُ من سيدِهِ ذكراً كان العبدُ أو أنثى. ومثل ذلك هربُ الزوجةِ من بيتِ زوجها. وكلا الأمرين من كبائر الذنوب ما لم يكن عذرٌ. وكذلك يحرم الهرب من أداء الحقِّ الواجبِ على الشخص كأن لزمَه قِصاصٌ فهربَ حتى لا يُقتَصَّ منه بالطريق الشرعىّ ، أو لزمه دينٌ أو نفقةٌ على الزوجةِ أو الوالدين أو الأطفال فهرب حتى لا يدفع ذلك. وهذا أى الهروب من النفقة الواجبةِ هو من كبائر الذنوب كما روى ذلك الترمذىُّ وغيره.

قال المؤلف رحمه الله: والتبخْتُرُ فى المشى.
الشرح: أن من معاصى الرِّجْلِ التبخترَ فى المشى وذلك بأن يمشِىَ مِشيَةَ الكِبْرِ والخُيَلاءِ. وقد ذكر حديث البخارِىِّ فى الرَّجُلِ الذى كان يمشى متبختراً فبلعته الأرض.

قال المؤلف رحمه الله: وتَخَطّـِى الرقاب إلا لفُرجة.

الشرح: أن من معاصى الرِّجْلِ تخطّـِىَ الرقاب إن لم يكن ذلك لأجل سدِّ فُرجةٍ. أى إذا كان ذلك على وجه الإيذاء. وأما إن لم يكن على وجه الإيذاء فهو مكروهٌ.

قال المؤلف رحمه الله: والمرورُ بين يدىِ المصلّى إذا كَمَلَت شروطُ السُّترة.

الشرح: أن من جملةِ معاصى الرِّجل المرورَ بين يدى المصلّـِى مَعَ حصول السترة المعتبرة بأن قرُب منها ثلاثةَ أذرُعٍ فأقل بذراع اليد المعتدلةِ وكانت مرتفعةً ثلُثَى ذراعٍ فأكثرَ. فإن وُجدت هذه السترةُ سُنَّ للمصلِى أن يمنع الذى يريد المرور بينه وبين السترةِ. وإن لم توجد هذه السترةُ فليس للمصلى أن يزعجَ المارَّ بين يديه ولو قرُب منه ذراعاً أو نحوَ ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ومَدُّ الرِّجْلِ إلى المصحف إذا كان غيرَ مرتفعٍ.

الشرح: أن من محرمات الرجل مدَّها إلى المصحف أو إلى كتاب علمٍ شرعىٍّ إذا كان غيرَ مرتفعٍ على شىءٍ لأنَّ فى ذلك إهانةً له. هذا إذا لم يكن المصحفُ فى خِزانةٍ تحجبه فإنه لا يحرُمُ عند ذلك. وكذلك يحرُم كتابةُ المصحف بنجاسة ومسُّه بعضوٍ متنجسٍ سواء كانت النجاسة التى على العضو رطبة أو جافة. وما ذُكِر فى بعض كتب الحنفية من جوازِ كتْبِ الفاتحة بالبول للاستشفاءِ إن علم فيه الشفاءَ فهو كفرٌ مخالف لأصول مذهبهم.

قال المؤلف رحمه الله: وَكُلُّ مَشْىٍ إلى مُحَرَّمٍ ، وَتَخَلُّفٍ عن واجبٍ.

الشرح: أن من معاصى الرجل المشىَ بها لارتكاب معصيةٍ مما حرم الله. ومثلُ ذلك المشىُ بها إلى ما فيه إضاعة واجبٍ، كأن يمشىَ بها مشياً يُخرج به الصلاةَ عن وقتها عمداً.

معاصي البدن

قال المؤلف رحمه الله: ومن معاصي البدن عقوق الوالدين.

الشرح: أن من معاصى البدن – أى من المعاصى التى لا تختص على الدوامِ بجارحة دون سواها من الجوارح – عقوقَ الوالدينِ أو أحدِهما مهما علا ولو وُجِدَ أقربُ منهم. وقد قال بعض الشافعية فى ضبطِ العقوق: هو ما يتأذّى به الوالدانِ أو أحدُهُما تأذّياً ليس بالهينِ عُرفاً. إهـ. وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ ثلاثة لا يدخلون الجنة ( أى مع الأولين ): العاقُّ لوالديه والدَّيُّوثُ ورَجُلَةُ النساء.] رواه ابن حبان. أى إن لم يتوبوا ، وأما إن تابوا فيُغفَر ذَنْبُهم.

قال المؤلف رحمه الله: والفِرار من الزحفِ ، وهو أن يفِرَّ من بين المقاتلينَ فى سبيل الله بعد حضورِ موضِعِ المعركة.

الشرح: أن من جملة معاصى البدن الفرارَ من الزحفِ وهو من الكبائر إجماعاً. فإذا لَقِىَ المسلمون ضعفَهم من العدوِ أو أقلَّ حرُمَ عليهم الفرارُ إلاَّ متحرفين لقتالٍ أو متحيزين إلى فئةٍ. وإن كان الكفار أكثر من ضعفهم ففرُّوا لم يستوجبوا السخطَ من اللهِ عندها.

قال المؤلف رحمه الله: وقطيعةُ الرَّحِمِ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ قطيعةَ الرحِم وهى من الكبائر بالإجماع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ لا يدخل الجنة قاطع.] أى لا يدخُلُها مع الأولين. والحديث رواه البخارىُّ. وتحصُلُ قطيعة الرَّحِمِ بتنفير رَحِمِهِ منه إما بترك الإحسان بالمال إليهم فى حالِ حاجاتهم إليه ، وإما بترك الزيارةِ أى إن كان ذلك بلا عذرٍ. والرحِمُ هم كلُّ قريبٍ إن كان من جهة الأب أو من جهة الأم.

قال المؤلف رحمه الله: وإيذاءُ الجار ولو كافراً له أمانٌ أذًى ظاهراً.

الشرح: أن من معاصى البدنِ إيذاءَ الجارِ إيذاءً ظاهراً ولو كان الجارُ كافراً له أمانٌ. وذلك بأن يسُبَّهُ أو يَضرِبَهُ بغير سببٍ شرعىٍ ، أو يبنِىَ ما يؤذيه مما لا يأذَنُ له به الشرعُ. وإيذاء الجارِ أشدُّ وِزراً من إيذاء غيرِهِ. وقد صحَّ فى الحديثِ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:[ ما زال جبريلُ يوصِينى بالجارِ حتى ظَنَنتُ أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.] إهـ.
قال المؤلف رحمه الله: وخضبُ الشعرِ بالسواد. وأجازَهُ بعضُ الأئمةِ إذا لم يكن يُؤَدِّى إلى الغَش والتلبيس.

الشرح: أن من معاصى البدن خضبَ الشَعرِ بالسوادِ للرجل والمرأة على السواءِ على القول المختارِ فى مذهبِ الشافعىِّ ، لحديث ابن ماجَهْ:[ يكون قومٌ فى ءاخِر الزمان يخضِبون شعورَهم بالسوادِ، ليس للهِ بهم حاجة.] إهـ. وقال بعض الشافعيةِ: يجوز للمرأة أن تَخْضِبَ بالسوادِ بإذن زوجها.

قال المؤلف رحمه الله: وتشبُّه الرجالِ بالنساءِ وعكسُهُ، أى بما هو خَاصٌّ بأحَدِ الجِنْسيْنِ فى المَلْبَسِ وغيرِه.

الشرح: أن من معاصى البدن تَشَبُّهَ الرجال بالنساء وبالعكس ، لكنَّ تَشَبُّهَ النساء بالرجال أشدُّ إثماً. فما كان خاصاً بأحد الصنفين من الزىِّ فهو حرامٌ على الصنف الآخر. وقد روى أبو داودَ عن عائشة رضى الله عنها قالت: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرجُلَ عن أن يَلْبَسَ لُبْسَةَ المرأةِ والمرأةَ عن أن تَلبَسَ لُبسةَ الرجلِ.إهـ.

قال المؤلف رحمه الله: وإسبالُ الثوبِ للخُيَلاَءِ ، أى إنزالُه عن الكَعْبِ للفخْرِ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ تطويلَ الثوبِ للخيلاءِ أى للكِبْرِ. فمن أنزلَ إزاره إلى ما تحت الكعبين للبطَرِ فقد وقع فى ذنبٍ كبير وإلا فهو مكروهٌ. والطريقةُ المستحسنةُ شرعاً أن يكونَ الإزارُ ونحوُهُ إلى منتصف الساقين.

قال المؤلف رحمه الله: والحِنَّاءُ فى اليدينِ والرِجلينِ للرَّجُلِ بلا حاجةٍ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ استعمالَ الحناءِ أى الخِضَابَ به فى اليدين والرجلين للرَجُلِ بلا حاجةٍ إليه ، وذلك لأن فيه تشبُهاً بالنساءِ.

قال المؤلف رحمه الله: وقطعُ الفرض بلا عذرٍ.

الشرح: أَنَّ من معاصى البدن قطعَ الفرضِ أداءً كان أو قضاءً من غير عذرٍ، وسواءٌ كان صلاةً أو غيرَها. وأما إنْ قَطَعَهُ لعذرٍ فهو جائزٌ. وخرج بقولنا الفرضِ النفلُ فيجوزُ قطعُهُ ولو بلا عذرٍ لأنه ليس واجباً. وقد قال رسول الله :[ الصائم المتطوع أميرُ نفسِهِ إن شاء صام وإن شاء أفطر.] رواه البيهقى وغيره. إلا إذا كان النفلُ نفلَ حجٍ أو عُمرةٍ.
كما قال المؤلف رحمه الله: وقطع نَفْلِ الحج والعمرة.

الشرح: أن من معاصى البدن قطعَ نفلِ الحجِ والعمرةِ وذلك لأنه يصيرُ واجباً بالشروع فيه فيجب إتمامُهُ عند ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ومحاكاةُ المؤمن استهزاءً به.

الشرح: أن من معاصى البدن محاكاةَ المؤمن فى قول أو فعل أو إشارةٍ على وجه الاستهزاء به لقول الله تعالى:{ يَا أَيّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ.} سورة الحجرات / 11. وقد تكون المحاكاة بالضحك على كلامهِ إذا تخبط فيه وغلِطَ ، أو على صَنْعَتِهِ وقُبْحِ صورَتِه.

قال المؤلف رحمه الله: والتجسُّسُ على عورات الناس.

الشرح: أن من معاصى البدن التجسسَ على عورات الناسِ أى التطلُعَ على عوراتهم والتتبُعَ لها. قال تعالى:{ ولا تَجَسَّسُوا.} سورة الحجرات / 12. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ من تَتبَّع عوراتِ الناسِ تَتَبَّع الله عورَتَهُ ، ومن تتبَّعَ اللهُ عورَتَهُ يفضَحهُ فى جوفِ دارِهِ.] رواه الترمذىُّ.

قال المؤلف رحمه الله: والوشمُ.

الشرح: أن من معاصى البدن الوشمَ. وهو غرزُ الجلد بالإبرَةِ حتى يخرجَ الدمُ ، ثم يُذَرُّ عليه ما يُحشَى به المحلُّ ليَزْرَقَّ مثلاً أو يَسْوَدَّ. وهو من كبائر الذنوب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواشمةَ والمستوشمة.

قال المؤلف رحمه الله: وهجرُ المسلمِ فوقَ ثلاثٍ إلا لعذرٍ شرعىٍّ.

الشرح: أن من معاصى البدن أن يهجُرَ المسلمُ أخاهُ المسلمَ بغيرِ عذرٍ شرعىٍّ ، فيترُكَ حتى السلام عليه. وهو حرامٌ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاثِ ليالٍ يلتقيانِ فَيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا. وخيرُهُما الذى يبدأُ بالسلام.] رواه البخارىُّ. فَأَفْهَمَ الحديثُ أنَّ إثمَ الهجرِ يرتفعُ بالسلام.

قال المؤلف رحمه الله: ومجالَسَةُ المُبْتَدِعِ أو الفاسِقِ للإيناس له على فِسْقِهِ.

الشرح: أن من معاصى البدن مجالسةَ المبتدعِ بدعةً اعتقاديةً أو الفاسقِ فِسقاً عملياً للإيناس له على فِعلِه المنكَرَ كَشُرْبِ الخمرِ ونحوِهِ. وقد صَحَّ فى الحديثِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدةٍ يُدَارُ عليها الخمرُ.] رواه البخارىُّ.

قال المؤلف رحمه الله: ولُبسُ الذهبِ والفضةِ و الحريرِ ، أو ما أكثَرُه وزناً منه للرجل البالغ إلا خاتمَ الفضةِ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ لُبْسَ الذهبِ مُطلقاً للرجلِ البالغِ. وكذا لُبْسُ الفِضَةِ غيرَ الخاتَمِ منها ولُبْسُ الحريرِ الخالصِ أو ما أكثرُه وزناً منه. وأما خاتَمُ الفضة فجائزٌ لبسُهُ للرجل لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لَبِسَهُ. وخَرَجَ بالرجل المرأةُ لأنه يجوز لها لُبْسُ الذهبِ والفضةِ والحرير. وأما الصبىُّ فقد اختُلِفَ فى جواز إلباسِه الذهبَ والفضةَ إلى البلوغ.

قال المؤلف رحمه الله: والخَلوةُ بالأجنبية بحيثُ لا يراهما ثالثُ يُستَحى منه من ذكرٍ أو أنثى.

الشرح: أن من معاصى البدن خَلْوَةَ الرجل بالمرأة الأجنبيةِ بأن لم يكن معهما ثالثٌ بصيرٌ يُستحى منه رجلاً كان أو امرأةً. وذلك حرام لحديثِ البخارِىِّ:[ ولا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطانُ ثالثَهُما.] ولا يحرُمُ خَلوةُ رجلين بامرأةٍ على الصحيح. وإن خالَفَ بعضُ الشافعيةِ فى ذلك فإن كلامَهم مردودٌ بحديثِ مسلمٍ أنه صلى الله عليه وسلم قال:[ لا يدخُلَنَّ رجلٌ على مُغِيبَةٍ إلا ومعَهُ رجلٌ أو رجلانِ.] والمُغِيبَةُ هى المرأةُ التى غاب زوجُها.

قال المؤلف رحمه الله: وسفرُ المرأة بغير نحو محرَمٍ.

الشرح: أن من معاصى البدن سَفَرَ المرأةِ من غير نحو مَحْرَمٍ ، لحديثِ أبى داودَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافرَ المرأةُ بريداً من غير محرمٍ يكون معها. والبريدُ مسيرةُ نصف يوم. وورد فى بعض الرواياتِ ذكر مسيرة يوم ، وفى بعضِها غيرُ ذلك. فدلَّ على أن المقصودَ تحريمُ كلِّ ما يُسمى سفراً على المرأةِ إذا كان بدون المحرم أو الزوج. وهذا إن لم يكن ضرورةٌ ، وأما إن كانت مسافرةً لضرورةٍ ولم تجد محرماً يذهبُ معها فلا حرَجَ عليها.
قال المؤلف رحمه الله: واستخدام الحُرِّ كُرهاً.

الشرح: أنّ من جملة معاصى البدن استخدامَ الحر كُرهاً بأن يُقهَرَ الحُرُّ من غيرِه على عملٍ يعمله بغير رضاه.

قال المؤلف رحمه الله: ومعاداةُ الولىّ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ معاداةَ ولِىٍّ من أولياء الله تعالى. والولىُّ هو المؤمِنُ المؤدّى للواجباتِ المجتنبُ للمحرماتِ والمكثرُ من النوافلِ. وأما معاداةُ خواصِّ الأولياء والصّدّيقين كالخلفاء الأربعةِ فهى أشدُّ إثماً من معاداةِ الأولياء الذين هم دونهم فى الرُّتبة.

قال المؤلف رحمه الله: والإعانةُ على المعصية.

الشرح: أن من معاصى البدن الإعانةَ على المعصيةِ وذلك لقول الله تعالى:{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } سورة المائدة / 2. فيُعلم من ذلك حرمةُ أخذِ إنسانٍ إلى معابد الكفار ليؤدِىَ شعائرَ الكفرِ ، ولو كان ذلك الإنسانُ زوجةً أو والداً.

قال المؤلف رحمه الله: وترويجُ الزائِفِ.

الشرح: أن من معاصى البدن ترويجَ الزائِفِ لأنَّه داخلٌ فى الغَشِّ وأكلِ أموال الناسِ بالباطلِ.

قال المؤلف رحمه الله: واستعمالُ أَوَانِى الذَّهَبِ والفِضَّةِ واتّخَاذُها.

الشرح: أن من معاصى البدن استعمالَ أوانِى الذهب والفضةِ بالأكلِ أو الشربِ فى أوانيهِما أو نحوِ ذلك. وكذلك يحرُمُ اتخاذُ أوانيهِما أى اقتِنَاءُ أوانِيهِما بِلا استعمالٍ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ إن الذى يأكلُ ويشرَبُ فى ءانيةِ الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِرُ فى بطنه نار جهنم.] إهـ. وذلك إن لم يكن عذرٌ لاستعمال هذه الأوانى.

قال المؤلف رحمه الله: وتركُ الفرضِ ، أو فعلُهُ مع تركِ رُكنٍ أو شرطٍ ، أو مَعَ فِعلِ مُبْطِلٍ له ، وتركُ الجمعة معَ وجوبها عليه وإن صلّى الظهر ، وتركُ نحوِ أهل قريةٍ الجماعاتِ فى المكتوبات.

الشرح: أن من معاصى البدن تَرْكَ الفرض من صلاةٍ أو غيرها ، وكذا فعلُ الفرض صورةً مع الإخلال بركنٍ أو شرطٍ أو مع فعل مبطلٍ له ، وكذلك ترك الجمعةِ بلا عذرٍ فى حق من وجبت عليه وإن صلى الظهر بدَلَها ، وكذلك تركُ نحوِ أهلِ بلدٍ إن كانت مدينةً أو قريةً صغيرةً الجماعةَ فى المكتوبات الخمسِ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ ما من ثلاثة فى مِصْرٍ أو قريةٍ لا تقام فيهمُ الجماعةُ إلا اسْتَحْوَذَ عليهمُ الشيطانُ. وإنما يأكلُ الذِئْبُ مِنَ الغَنَمِ القاصِيَةَ.] رواه أبو داود.

قال المؤلف رحمه الله: وتأخيرُ الفرضِ عن وَقْتِهِ لِغَيرِ عُذْرٍ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ تأخيرَ الفرضِ عن وقته بغير عذرٍ. فمن تهاون بالصلاةِ حتى أخرجها عن وقتها فقد وقع فى ذنبٍ عظيم. قال ربنا تبارك وتعالى:{ فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون.} سورة الماعون / 4-5. وثبت عن عمر رضى الله عنه أنه قال:[ من جمع بين صلاتين من غير عذرٍ فقد أتى باباً من أبواب الكبائر.] رواه أبو داود.

قال المؤلف رحمه الله: وَرَمْىُ الصيدِ بالمثَقَّلِ المُذَفّـِفِ ، أى بالشئ الذى يقتل بِثِقَلِهِ كالحجر.

الشرح: أن من معاصى البدن رمْىَ الصيد بالمثقَّلِ – أى ما يقتل بثقلِه – المُذَفّـِفِ أى المسرع لإزهاق الروح. وعلى هذا فإذا مات الصيدُ ببندُقِ الرصاصِ ، فإنه لا يحلُّ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذى سأله عن المِعراضِ:[ ما قَتَلَ بحدّهِ فكُلْ وما قَتَلَ بعَرْضِهِ فلا تأكُلْ.] إهـ.

قال المؤلف رحمه الله: واتخاذُ الحيوان غَرَضًا.

الشرح: أن من معاصى البدن اتخاذَ الحيوان غرضاً ، أى كالشئ الذى يُنصَبُ ليُتَمَرَّن بالرمايَةِ إليه ، سواءٌ كان ذلك للَّهْوِ أو لتعلُّمِ الرّماية.

قال المؤلف رحمه الله: وعدمُ ملازَمَةِ المعْتَدَّةِ للمَسْكَنِ بِغَيرِ عُذْرٍ.

الشرح: أن من معاصى البدن أن تبيت المرأةُ إن كانت فى العدة خارج بيتها بغيرِ عذرٍ. لكن يجوز لها أن تخرج لتستأنس ببعض جاراتها ثم تعودَ إلى البيت للمبيت. وأما إن كان عذرٌ كخوفها على نفسها فلا يحرم ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وترك الإحداد على الزوج.

الشرح: أن من معاصى البدن تركَ الزوجةِ المتوفَّى عنها زوجُها الإحدادَ على الزوجِ. ومعنى الإحدادِ اِلتزامُ تركِ الزينةِ والطّـِيب إلى نهايةِ العِدةِ. وليس من الإحدادِ الواجبِ عليها تركُ مكالمة الرجال غير المحارم. ويحرم الزيادةُ على هذه المدةِ المشروعَة فى الإحداد أى تركُ الزينة بنية الإحداد بعد انتهاء العدة. كما يحرُم على غير الزوجةِ من النساء الزيادةُ على ثلاثةِ ايامٍ. وأما الرجال فقد نصَّ بعض الشافعية على تحريم الإحداد عليهم مطلقاً. وإنما يجوز لهم التحزُّن. فلا يجوز للرجل أن يترك الطيب والزينةَ إذا كان بنية الإحداد.

قال المؤلف رحمه الله: وتنجيسُ المسجدِ، وتقذيرُهُ ولو بطاهرٍ.

الشرح: أن من معاصى البدن تنجيسَ المسجدِ وتقذيرَه ولو بطاهرٍ. فيحرُمُ تنجيسُه ببولٍ أو دمٍ أو غيرِ ذلكَ من النجاسات. وكذلك يحرُمُ تقذيرُهُ بغير النجاسةِ كالبُزَاقِ والمخاطِ ، لأن حِفظَ المسجد من ذلك داخلٌ فى تعظيم شعائر الله. وقد رَوَى ابن حبانَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:[ البصاق فى المسجدِ خطيئة.] إهـ. أى ذنب.

قال المؤلف رحمه الله: والتهاونُ بالحج بعد الاستطاعةِ إلى أن يموت.

الشرح: أن من معاصى البدن تأخيرَ أداء الحج بعد حصول الاستطاعةِ إلى أن يموت الشخص قبل أن يَحُج. فوجوب الحج ، وإن كان على التراخى عند الإمام الشافعى وءاخرين ، إذا تساهل فيه الشخص المستطيعُ حتى ماتَ قبل أن يحُج فإنه يُحكَمُ عليه بالفسقِ.

قال المؤلف رحمه الله: والاستدانةُ لمن لا يرجو وفاءً لدَيْنِه من جهةٍ ظاهرةٍ ولم يَعْلَمْ دائِنُهُ بذلك.

الشرح: أن من معاصى البدن الاستدانةَ لمن ليس بحال اضطرار إن كان لا يرجو وفاءً لدينه من جهةٍ ظاهرةٍ ولم يَعْلَمِ الدائن بذلك. فإن استدان فى مباحٍ وهو يرجو الوفاء من جهةٍ ظاهرةٍ ثم عجَزَ واستمر عجزُهُ إلى الموتِ فلا عقوبةَ عليه فى الآخرة لأن هذا ليس ذنباً.

قال المؤلف رحمه الله: وعدمُ إنظارِ المعسِرِ.

الشرح: أن المستدينَ الذى أعسرَ فلم يعُد قادراً على الوفاء بالدينِ يجبُ إنظارُهُ. أى يجبُ على الدائنِ أن يُنْظِرَه لقضاء ما عليه من الدين إذا علِمَ بحاله. فيحرُم عليه عندئذٍ ملازمَتُهُ أو حبسُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: وبذلُ المال فى معصيةٍ.

الشرح: أن من معاصى البدن دَفْعَ المالِ وبَذْلَهُ فى معصيةٍ من المعاصى كبيرةً كانت أو صغيرةً. فمن فعل ذلك أى بذل المال فى المعصيةِ فقد دخل تحت حديثِ البخارىِّ وغيرِه:[ إن أناساً يتخوضون فى مال الله بغير حق فلهم النارُ يوم القيامة.] إهـ.

قال المؤلف رحمه الله: والاستهانةُ بالمصحف وبكل علمٍ شرعىٍّ، وتمكينُ الصبىّ غير المميّز منه.

الشرح: أن من معاصى البدن فِعلَ ما يُشعِرُ بترك تعظيم المصحفِ كأن يحملَهُ على غير طهارةٍ. ويحرُم كذلك فعلُ ما يُشعرُ بترك تعظيم كتب العلم الشرعىِّ الفقهِ والحديثِ والتفسير وغير ذلك ، وذلك كمدِّ الرجلِ إليها. ويدخلُ فيما ذُكر تمكينُ الصبى المميّزِ من حمل المصحفِ على غير طهارةٍ من غير حاجةِ الدراسة. أما لحاجة الدراسةِ فلا يَحْرُمُ. فيجوز تمكينُهُ منه مع الحدَثِ لحملِهِ للتعلُّمِ فيه ، ولنقلِهِ إلى موضعِ التعلُّم. وأما غير المميز فلا يجوز تمكينه من حمل المصحف. فلا يجوز أن يحمل الخادم غير المميز المصحف لسيده مثلاً. وأما ما وصل إلى حدِّ الاستخفاف فإنه كفرٌ ، كالذى يدوسُ على المصحف عمداً أو يَبزُقُ عليه عمداً أو يفعل نحوَ ذلك مما فيه استهزاء واستخفاف بالمصحف.

قال المؤلف رحمه الله: وتغييرُ منارِ الأرض ، أى تغييرُ الحد الفاصل بين مِلكه ومِلك غيره.

الشرح: أن من معاصى البدنِ أن يغيرَ حدودَ الأرضِ فيُدخِلَ أرضَ جارِهِ أو قسماً منها ولو شبراً واحداً فى حد أرضِهِ. فإن ذلك من الذنوب الكبيرةِ لحديث علىٍّ رضى الله عنه:[ ملعونٌ من غَيَّرَ منارَ الأرضِ.] رواه مسلم.

قال المؤلف رحمه الله: والتصرفُ فى الشارع بما لا يجوز.

الشرح: أن من معاصى البدنِ التَّصرفَ فى الشارِعِ أى الطريقِ النافِذِ بما يضرُّ بالمارةِ فيه. وأما الطريقُ غيرُ النافِذِ فلا يجوزُ التصرف فيه بما لم يأذن فيه أهلُهُ.

قال المؤلف رحمه الله: واستعمالُ المعارِ فى غيرِ المأذون له فيه ، أو زاد على المدةِ المأذون له فيها، أو أعارَه لغيره.

الشرح: أن من معاصى البدن استعمالَ العارِيَةِ فى غيرِ ما أَذِنَ فيها مالكُها. كأن يستعير حصاناً للرُّكوبِ أى أذِن له مالكُهُ باستعمالِهِ فقط فى الركوبِ فاستعمَلَه فى نقل الحجارةِ ، فإنه لا يجوزُ. وكذلك يحرُمُ أن يزيدَ على المدةِ المأذون له فيها فإن قال المُعِيرُ: استعملْ هذا الغرض لمدةِ شهرٍ. فيحرم على المستعير استعمالُهُ زيادةً على هذه المدة. وكذلك يحرُمُ عليه إعارَتُهُ لغيرِه بلا إذنٍ من المالِكِ.
قال المؤلف رحمه الله: وتحجيرُ المباح ، كالمرعى ، والاحتطابِ من الموات ، والملحِ من معدِنه والنقدينِ وغيرِهِمَا أى أن يَسْتَبِدَّ بهذه الأشياءِ ويَمنَعَ الناسَ من رَعْىِ مواشيهم ، والماءِ للشربِ من المُسْتَخْلَفِ وهو الذى إذا أُخِذَ منه شىءٌ يخلُفه غيره.

الشرح: أن من معاصى البدن تحجيرَ المباح أى منعَ الناسِ من الأشياءِ المباحةِ لهم على العموم والخصوص. كأن يمنعَ الناسَ عن أن يرعَوْا مواشيَهُم فى أرضٍ ليست مِلكاً لأحدٍ ، أو أن يمنعَهُم من الاحتطاب أى أخذِ الحطبِ من هذه الأرض ، أو يمنعَهُم من أخذِ الملحِ من معدِنِهِ المباحِ ، أو يمنعَهُم من الشربِ من الماء المباحِ الذى إذا أخذ منه شىءٌ يخلُفُهُ غيرُه. ومثل هذا منْعُهم مِنِ الانتفاع بالنارِ التى اتقدت فى المباحِ من الحطبِ لحديثِ أبى داودَ وغيره:[ المسلمون شركاءُ فى ثلاثة: الماءِ والكلإ والنارِ.].إهـ.

قال المؤلف رحمه الله: واستعمال اللُّقَطَةِ قبل التعريف بشروطه.

الشرح: أن الشخصَ إذا وجدَ لُقَطةً أى شيئاً ضاع من مالِكِهِ فى نحوِ الشارِعِ بحيثُ لا يُعرَفُ من هو مالكُهُ ، لا يجوزُ لمن التقطَهُ أن يستعملَهُ قبلَ أن يتملكَهُ بشرطِهِ ، وهو أن يعرّفه سنةً. فإذا فعل ذلك جاز له أن يتصرف فيه بعد ذلك بنيةِ أن يَغْرَمَ لصاحبِهِ إذا ظهر.
قال المؤلف رحمه الله: والجلوسُ مَعَ مشاهدةِ المنكرِ إذا لم يُعْذَر.

الشرح: أن من معاصى البدن الجلوسَ فى محلٍ فيه منكرٌ من المحرمات من غير أن يكون معذوراً فى جلوسِهِ فيهِ. فإن أمكَنَهُ أن يُغيّرَ هذا المنكر بنفسِهِ أو بغيرِهِ يفعَلُ ، وإن لم يمكنه ذلك أنكر بقلبهِ وفارَقَ المجلس.

قال المؤلف رحمه الله: والتطفُّلُ فى الولائمِ ، وهو الدخولُ بغيرِ إِذْنٍ أو أَدخلُوهُ حَياءً.

الشرح: أن من معاصى البدنِ أن يَحضُرَ الولائم التى لم يُدْعَ إليها أو التى دُعِىَ إليها أو أُدْخِلَ إليها حياءً ، لحديث ابن حبانَ:[ لا يحِل لمسلمٍ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسٍ منه.] إهـ.

قال المؤلف رحمه الله: وعدمُ التسويةِ بين الزوجاتِ فى النفقةِ والمبيتِ. وأما التفضيلُ فى المحبةِ القلبيةِ والمَيْلِ فليس بمعصية.

الشرح: أن من معاصى البدن تركَ العدلِ بين الزوجات بأن يُرَجّـِحَ واحدةً أو أكثر من الزوجاتِ على غيرِها ظلماً فى النفقةِ أو المبيتِ. ولا يجب عليه أن يُسَوِّىَ بين الزوجاتِ فى المحبةِ القلبيةِ والجماعِ. فإذا أدى الزوج النفقة الواجبة عليه للجميعِ وقَسَم المبيتَ بينهن بالعدل ، فليس عليه أن يسوّى بينهن فيما وراء ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وخروجُ المرأة إن كانت تمرُّ على الرجال الأجانب بقصدِ التعرُضِ لهم.

الشرح: أن من معاصى البدن خروجَ المرأةِ من بيتِها لِتَفْتِنَ الرجالَ الأجانب متزينةً كانت أم لا ومتعطرةً أم لا. وأما إذا خرجت متزينةً أو متعطرةً مع ستر ما يجبُ عليها سترُهُ من بدنها من غير قصدِ الفتنةِ فلا يحرُمُ ذلك ، وإن كان هذا الفعلُ مكروهاً كراهةً تنـزيهية. وأما حديثُ:[ أيُّما امرأة خرجت من بيتها متعطرةً فمرتْ بقوم ليجدوا ريحها فهى زانية.] فمعناهُ أنها إذا قصدت بخروجها فتنةَ الرجال الأجانب فإنها تكونُ شبيهةً بالزانيةِ لأن فعلها هذا مقدِّمةٌ للزنى. فإن لم تكن نيتُها ذلك فلا حُرمةَ فى خروجها متطيبةً ، وإنما فعلُها مكروهٌ.

قال المؤلف رحمه الله: والسحرُ.

الشرح: أن من معاصى البدن السحرَ بأنواعِهِ ، فمنه ما هو كفرٌ ومنه ما لا يصلُ إلى حدِّ الكفرِ. لكنه كبيرةٌ على كل حال ، كما صح ذلك عن رسول الله فى حديث الترمذىِّ وغيره.

قال المؤلف رحمه الله: والخروجُ عن طاعة الإمام ، كالذين خرجوا على عَلِىٍّ فقاتلوه. قال البيهقىُّ: كل من قاتل عليًّا فهم بغاة.إهـ. وكذلك قال الشافعى قبله ، ولو كان فيهم مَن هم مِنْ خيار الصحابة ، لأن الولىَّ لا يستحيل عليه الذنب ، ولو كان من الكبائر.

الشرح: أن من معاصى البدنِ الخروجَ عن طاعةِ الإمامِ لحديثِ مسلمٍ:[ ليس أحد من الناس يخرج من السلطان شبراً فمات عليه إلاّ مات ميتة جاهلية.] ولذلك نص الشافعى وغيره على أن كل من قاتل علياً فى خلافته فهو ءاثم. وما حصل من طلحةَ والزُّبيرِ رضى الله عنهما من حضورِهِما فى المعسكر المضادِّ لعلىٍّ فهو ذنبٌ تابا منه قبل موتِهِمَا ، لأن الله كتب لهما السعادةَ والمنـزلةَ العاليةَ ، فاقتضى ذلك أن لا يموتا وهما متلبسان بالمعصية.
قال المؤلف رحمه الله: والتولّـِى على يتيمٍ أو مسجدٍ أو لقضاءٍ أو نحوِ ذلك معَ علمِهِ بالعَجْزِ عن القيامِ بتلك الوظيفةِ.

الشرح: أن من معاصى البدن أن يتولى الشخصُ ولايةً من الولايات مع علمه من نفسِهِ بالعجزِ عن القيامِ بتلك الوظيفة على ما يجب عليه شرعاً. كما لو تولى على مال يتيمٍ أو على وقفٍ أو وظيفةٍ تتعلق بمسجدٍ معَ علمِهِ بالعَجزِ عن القيام بذلك. ويحرم عليه طلبُ ذلك العمل لنفسِهِ ، وبالأَوْلى بذلُ مالٍ للحصول على تلك الوظيفة.

قال المؤلف رحمه الله: وإيواءُ الظالم ، ومنعُه ممن يريد أخذَ الحق منه.

الشرح: أن من معاصى البدن إيواءَ الظالمِ للحيلولةِ بينَه وبين من يريدُ أخذ الحق منه لحديثِ مسلمٍ عن علىٍّ عن النبى صلى الله عليه وسلم وفيه:[ لَعَنَ اللهُ مَنْ ءَاوَى مُحدِثاً.] أى الجانِىَ الذى ظلم.

قال المؤلف رحمه الله: وترويعُ المسلمين.

الشرح: أن من معاصى البدن ترويعَ المسلم بنوعٍ من أنواع الترويعِ ، كأن يشير إليه بحديدةٍ أو نحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وقطعُ الطريق. ويُحَدُّ بحسب جنايته إما بتعزير ، أو بقطع يدٍ ورجلٍ من خِلافٍ إن لم يَقْتُلْ ، أو بقتلٍ وصلبٍ أى إن قَتَلَ.

الشرح: أن من معاصى البدن قطعَ الطريقِ على المؤمنين وذلك من الكبائرِ. فإذا جنى قاطع الطريقِ بإخافةِ السبيل فقط من غير أخذِ مالٍ ولا قَتْلٍ فعقوبتُهُ التعزير. وإن جنى بالإخافةِ وأخذ المالِ دون القتل فعقوبتُهُ أن تُقطَعَ يدُه اليمنى ورجلُه اليسرى. وإن كانت جنايته بأخذ المال والقتل فعقوبتُه بأن يقتلَ ثم يُصلَب. وإن كانت جنايتُه القتلَ بلا أخذِ مالٍ فعقوبتُه بأن يُقْتَلَ بلا صَلبٍ. ولا يسقُطُ هذا القتلُ بعفو الولىّ.

قال المؤلف رحمه الله: ومنها عدمُ الوفاءِ بالنَّذرِ.

الشرح: أن من معاصى البدنِ تركَ الوفاء بالنذرِ ، وذلك إذا كان المنذورُ قربةً غيرَ واجبةٍ. فلا ينعقد نذر القربة الواجبةِ ، ولا نذرُ المعصيةِ ، ولا النذرُ فى فعل مباح ، أى ما يستوى فعلُهُ وتركُهُ.
قال المؤلف رحمه الله: والوِصَالُ فى الصوم ، وهو أن يصومَ يومين فأكثر بلا تناول مُفطّـِرٍ.

الشرح: أن من معاصى البدن أن يصوم الشخص يومين فأكثر من غيرِ تناول مطعومٍ عمداً بلا عذر لِنَهْىِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وأخذُ مجلس غيره ، أو زحمتُهُ المؤذيةُ ، أو أخذُ نَوْبَتِهِ.

الشرح: أن من معاصى البدن أن يأخذ مجلس غيرِهِ إذا سبق ذلك الغيرُ إليه سواءٌ كان من شارعٍ أو غيرِهِ. فمن سَبقَ لمحلٍّ من المسجدِ لصلاةٍ فهو أحقُّ به حتى يفارقَهُ. فإن فارقه لعذرٍ كتجديد وضوءٍ ونوى العودةَ لم يبطُل حقه كما روى مسلمٌ فى الصحيح:[ من قام من مجلسهِ ثم رَجَعَ إليه فهو أحقُّ به.] ويحرم أيضاً أن يزاحمَ غيرَهُ مزاحمةً مؤذيةً لذلك الغيرِ ، أو أن يأخذ نوبَتَهُ ، كأن أراد قومٌ سَقْىَ أراضيهم من ماءٍ مباحٍ لا يتَّسعُ للكلِّ ، ففى هذه الحال يُسقَى المُحْيَى أولاً فأول. ويحرُمُ على من وقع إحياؤه بعدَهُ أخذُ نَوْبَتِهِ.

فائدة
بيان فى تمييز الكبائر

إعلم أن أهل الحق اتفقوا على أن الذنوبَ كبائرُ وصغائرُ لقول الله تعالى:{ الَّذِينَ يَجْتَنَبُوْنَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الَمغْفِرَةِ.}سورة النجم / 32. ولقوله صلى الله عليه وسلم فى الصحيح:[ الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائِر.] ولم يثبت فى حديثٍ حصرُها بعددٍ معينٍ. روى عبد الرزاق فى تفسيره عن مَعْمَرٍ عن ابن طاوس عن أبيه قيل لابن عباس: كم الكبائر أهى سبعٌ؟ قال: هى إلى السبعين أقرب.إهـ. وقد عُرّفت الكبيرة بألفاظ متعددةٍ ، ومن أحسن ما قيل فى ذلك:[ كل ذنبٍ أُطْلِقَ عليه بنصِ كتابٍ أو سنةٍ أو إجماعٍ أنه كبيرةٌ أو عظيمٌ أو أُخبر فيه بشدة العقابِ أو عُلّـِقَ عليه الحدُّ وشُدّدَ النكيرُ عليه فهو كبيرة.]
والفرق بين الكبيرة والصغيرة أن الصغيرة إذا فعلها الإنسان ثم فعل حسنة بعدها تُمْحَى الصغيرة. فإذا عمل ذنباً صغيراً ثم قال لا إله إلا الله بنية صحيحة أو بعد ذلك تصدق على الفقير بنية صحيحة أو صلى أو توضأ تمحى عنه تلك الصغيرة.
أما الكبيرة فلا يشترط أن تُمْحَى بذلك ، فأحياناً تُغْفَرُ الكبيرةُ بحسنة يعملها الإنسان ، وأحياناً لا تغفر بذلك حتى يتوب منها.
ومن الكبائر الكفر بالله تعالى وهو أكبرها.
وقد أوصل تاج الدين السبكى عدد الكبائر إلى خمس وثلاثين من غير أن يَدَّعِىَ أنه حصرها كلَّها. ونظَمها السيوطىُّ فى ثمانية أبيات من الشعر ليسهل حفظها فقال:

كَالقَتْلِ والزّنَى وَشُرْبِ الخَمْرِ وَمُطلَقِ المُسْكِرِ ثُمَّ السّحْرِ
يعنى أن من الكبائر القتلَ والزنى وشربَ الخمر وشربَ أىِّ مسكرٍ والسحرَ.

والقذفِ واللواطِ ثم الفِطْرِ …
يعنى أن يفطر فى رمضان من غير عذر ، وأما القذف واللواط فقد مر بيانهما.

وَيَأْسِ رحمَةٍ وأَمْنِ المكْر …
يعنى أن اليأسَ من رحمة الله والأمنَ من مكر الله كلاهما من الكبائر.

والغَصْبِ والسِّرْقَةِ والشَّهَادَةِ …
يعنى أن أَخْذَ مال مسلم ظلماً اعتماداً على القوة ( أى الغصبَ ) والسرقةَ ( أى أخذ مال الغير من حرز مثله خفية ) والشهادةَ بالزور والرشوة ( أى المال الذى يُدْفَعُ لإبطال الحق أو لإحقاق باطل ) والقيادةَ ( أى جلب الزبائن للمومسات )، كل هذا من الكبائر.
مَنْعِ زَكَــاةٍ وَدِيَاثَةٍ فِـرَارْ خِيَانَةٍ فِى الكَيْلِ والوَزنِ ظِهَارْ
يعنى أن منع الزكاة بعد الوجوب والتمكن من غير عذر ، والدياثة ( أى أن يسهل الزنى لأهله أو أن يَعلَم الزنى فى أهله ويسكت عليه وهو قادر أن يمنع ولا يمنع ) والفرارَ من الزحف والخيانةَ فى الكيل أو الوزن والظهارَ ( وهو أن يقول لامرأته أنت علىّ كظهر أمى ) كلُّ هذا من الكبائر.

نَمِيمَةٍ كَتْمِ شهادةٍ يَمِينْ فَاجِرَةٍ عَلَى نَبِيّـِنَا يَمِينْ
معنى ذلك أن النميمة من الكبائر، وكَتْمَ الشهادة من الكبائر ، واليمينَ الفاجرةَ ( أى الحَلِفَ بالله كذباً ) من الكبائر ، ومعنى قوله:[ على نبينا يمين.] أى يكذب أى أنّ الكذبَ على الرسول عليه السلام هو أيضاً من كبائر الذنوب.

وَسَبّ صَحْبِهِ وَضَرْبِ المُسْلِم سِعَايَةٍ عِقّ وَقَطْعِ الرَّحِمِ
يعنى أن سبَّ الصحابة من الكبائر ، وضربَ المسلم بغير حق من الكبائر ، والسعايةَ إلى الحاكم ليضر المسلم ظلماً أيضاً من الكبائر ، وعقوق الوالدين من الكبائر ، وقطعَ الرحم أى أن يترك زيارة رحمه أى أقاربه بحيث يُحِسُّونَ أنه جافاهم هذا أيضاً من الكبائر.

حِرَابَةٍ تَقْدِيمِهِ الصَّلاَةَ أَو تأخيرِهَا وَمَالِ أَيْتَامٍ رَأَوا
معنى ذلك أن الحِرابة أى قطع الطريق على المسلمين وتقديمَ الصلاة على وقتها أو تأخيرها بغير عذر إلى أن يخرج وقتها وأكلَ مال الأيتام كلُّ هذا من الكبائر.

وَأَكْلِ خِنْزِيرٍ وَمَيْتٍ وَالرّبَا والغَلِّ أو صَغِيرةٍ قد وَاظَبَا
معناه أن أكل الخنـزير من الكبائر ، وأكلَ الميتة من الكبائر ، وأكلَ الربا من الكبائر ، والغَلَّ ( وهو أن يأخذ من الغنيمة شيئاً لنفسه قبل أن تقسم القسمة الشرعية )، والإصرارَ على فعل المعصية الصغيرة حتى يَزيد عدد صغائره على عدد حسناته من كبائر الذنوب.

ومن الكبائر أيضاً إهمالُ تعلم الفرض العينىّ من علم الدين ولو كان يؤدى صُوَرَ الأعمال. فإذا لم يتعلم أركان الوضوء وأركان الصلاة وشروط الوضوء وما شابه ذلك من الأمور التى يحتاجها كل مسلم فهو ءاثم إثماً كبيراً ولو كان يؤدى صورة الوضوء وصورة الصلاة و نَحْوَ ذلك.

ومن الكبائر تشبُّهُ النساء بالرجال وتشبُّهُ الرجال بالنساء وقد مر. وكذلك نشوز الزوجة أى خروجها من بيت زوجها بغير إذنه ، وكذا لو ءاذته بطلب الطلاق منه من غير عذر.
ومن الكبائر أيضاً ترقيق الحاجب لأجل الحُسْن ، أى الأخذُ من شعر الحاجب نفسِه ليس مما هو حوله لأجل ترقيقه لأجل الحسن فهو أيضاً من الكبائر. ومثل ذلك الوشم ، ووصل الشعر بشعر ءادمى ءاخر. وَيَحْسُنُ عَدُّ الجماعِ للحائض من الكبائر.

الـتـوبـة

قال المؤلف رحمه الله: تجب التوبة من الذنوب فوراً على كل مكلف. وهى الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود إليها. وإن كان الذنبُ تركَ فرضٍ قضاه ، أو تبعةً لآدمىٍّ قضاه أو استرضاه.

الشرح: أن هذا الفصل معقود لبيان التوبة وشروطها. فالتوبة واجبة من الذنب الكبير فوراً وكذلك من الذنب الصغير على الفور لأن الله تعالى قال:{ يَا أَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلىَ اللهِ تَوبَتاً نَصُوحاً.}سورة التحريم / 8. وللتوبة أركان منها الندم أسفاً على عدم رعاية حق الله. أما إذا ندم لأمرٍ دنيوي كأن يندم على قتله لولده لأنه ولده ، ليس أسفاً على عدم رعاية حق الله ، أو نَدِمَ لأجل الفضيحة بين الناس أو نحو ذلك ، فهذا ليس الندمَ الذى هو ركن التوبة. ولا يكون ذلك توبة معتبرة أى ليست هى توبة صحيحة فى حكم الشرع. فالندم هو الركن الأعظم فى التوبة. لذلك قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:[ الندم توبة.] معناه الركن الأعظم للتوبة هو الندم.
الركن الثانى للتوبة هو الإقلاع عن الذنب فى الحال أى ترك الذنب الذى يتوب منه فى الحال. فإذا إنسان ندم فى قلبه على ارتكابه الذنب لكن ما تركه إنما هو بَعْدُ منغمس فيه لا يكون ندمه هذا توبة.
والركن الثالث للتوبة هو العزم فى قلبه على أن لا يعود إلى هذا الذنب بعد ذلك أبداً ، أى أن ينوى جزماً أن لا يفعله بعد ذلك. أما إذا قال فى قلبه الآن أندم وأترك الذنب ثم بعد شهر أو بعد سنة أو بعد عشرِ سنين أو بعد مائة سنة أرجع إلى هذا الذنب فهذه توبة غير صحيحة. فلا بد من اجتماع هذه الأركان الثلاثة لصحة التوبة. فإذا تاب الإنسان توبة مجزئة غُفِرَ ذنبُهُ كما صح فى حديث ابن ماجه:[ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.] إهـ. ثم إن رجع إلى ذلك الذنب بعد أن تاب توبة مجزئة لا يُكتب عليه الذنب الأول من جديد ، إنما يكتب عليه الذنب الجديد فقط. ولو كانت المعصية تركَ فرض لا بد من أن يقضيه ، كأن كان الذنب ترك فرض الصلاة فإن توبته لا تصح حتى يقضىَ هذا الفرض. وإن كان الذنب ترك زكاةٍ أو كفارة أو نذر فيجب عليه الدفع فوراً إن كان مستطيعاً فإن لم يكن مستطيعاً ينوى بقلبه جزماً دفعَ ذلك عندما يستطيع. وإن كان الذنب تَبِعَةً لآدمى يقضى له هذه التبعة أو يستسمحه. فإن غصب له مالَه مثلاً يرد عين المال إن كان باقياً فى يده وإلا يرد بدله للمالك أو لنائب المالك أو للورثة إن كان مات، إلا إن سامحه صاحبُ الحق. وقد صح فى الحديث الذى رواه مسلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:[ من كان لأخيه عندَه مظلمة فى عِرضٍ أو مالٍ فليَسْتحلَّه اليومَ قبلَ أن لا يكون دينارٌ ولا درهم.] إهـ. يعنى أن من كان لأخيه عليه حق مظلمة فى عِرض كأن سبه بغير حق أو مالٍ كأن أخذ ماله بغير حق فليستحله الآن أى فى الدنيا قبل أن لا يكون دينار ولا درهم أى قبل الحساب يوم القيامة. وإن كان الحق الذى عليه يتضمن قِصاصاً مثل أنه قتل مسلماً ظلماً ، هنا صار من جملة ما عليه لتصح توبته أن يُمَكّـِنَ أهل القتيل من نفسه أى يذهب إلى ولىّ القتيل ويقول له ها أنا ذا أمكنك من نفسى إن شئت أن أُقْتَلَ قِصاصًا لا أهربُ وإن شئتَ فَاعْفُ فإن لم يفعل ذلك بل هرب من القِصاص لم تصح توبته.
ولا يشترط لصحة التوبة الاستغفارُ باللسان أى قول أستغفر الله مثلاً. وقول بعض الناس إنه شرط غلط سواء أطلقوا ذلك فى كل الذنوب أو قيدوه ببعض الذنوب ، فإنه فى الحالين غلط ، والله تعالى أعلم.

سبــحانَ ربّـك ربِّ العِــزَّة عما يصــــفـون
وسـلامٌ على المـــرسـلين
والحمد لله رب العالمين.

Prev Post

CD Madih Time is Passing عم يمضي الزمان

Next Post

دين الله ليس بالرأي

post-bars