اَلتَّمسكُ بالقُرءانِ الْكَرِيم
إنَ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونَستعينُهُ وَنَستهديهِ ونشكرُهُ وَنعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَ له ومَنْ يُضْللْ فلا هَادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ولا مثيلَ له ولا ضدَّ ولا نِدَّ له ولا شكلَ ولا صورةَ ولا أعضاءَ لهُ ولا جَوَارِحَ ولا جِسْمَ وَلا حَيِّزَ ولا مكانَ لهُ، جلَّ ربِّي لا يُشبِهُ شيئًا ولا يُشبِهُهُ شىءٌ ولا يحلُّ في شىءٍ ولا ينْحَلُّ منهُ شىءٌ، ليس كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ. يا رب، ياربي اجعَل أولَ هذا النهارِ فلاحًا وأوسطَه نجاحًا وءاخرَه سلامًا يا ربَّ العالمين. وأشهدُ أن سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعينِنا محمّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلى الله عليه صلاةً يقضِي بها حاجاتِنا ويفرجُ بها كرباتِنا وسلَّم عليه وعلى ءالِه سلامًا كثيرًا.
أما بعدُ فَيَا عِبَادَ اللهِ أُوصِي نَفْسِي وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ العليِّ العظيمِ، يقولُ اللهُ تبارك وتعالى في محكمِ التنـزيلِ: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾ سورة البقرة/2.
لا يُوجَدُ كِتَابٌ في الدنيا أَعَزُّ عَلَى المُسلِمِ من كتابِ اللهِ الذي أنزلَه اللهُ تعالى على نَبِيِّه مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَمَلَ على أَنْوَاعِ البَرَاهِينِ وَالأَدَلَّةِ والأَخْبَارِ الماضِيَةِ وَذِكْرِ الأُمَمِ الْهَالِكَةِ وَقَصَصِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَمَواعِظِهم وَصَبْرِهِم، وَصِفَاتِ اللهِ تعالَى وَمَا يَجُوزُ عليه سبحانَه وما يَستَحِيلُ عليهِ، وَصِفَاتِ الملائكةِ الكرامِ وأخبارِهم، وفِيهِ السِّيَرُ والمواعِظُ وَأَخْبَارُ الدَّارِ الآخِرَةِ وأَحْوَالُ المُعَذَّبِينَ وَالمُتَنَعِّمِينَ، وَمَحَاسِنُ الآدابِ والشِّيَم، وفيهِ كَشْفُ أَسْتَارِ المُنَافِقِينَ وَفَضْحُهُمْ، وَفِيهِ ذِكْرُ الأَحْكَامِ مِنْ حَلالٍ وحرامٍ.
يقولُ اللهُ تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرءان﴾ سورة النساء/82، وَالتَّدَبُّرُ إخوةَ الإِيمانِ أَنْ نَشْغَلَ قُلوبَنا بِالتَّفَكُّرِ في معنَى مَا نَتَلَفَّظُ بهِ، فَتَأَمَّلْ معِي أَخِي المسلم قولَ اللهِ تعالى ﴿الذي خلق سبع سموات طباقًا﴾ سورة الملك/2، أي أَوجَدَ وَأَبْرَزَ مِنَ العَدَمِ إلَى الوُجودِ سَبْعَ سماواتٍ بعضها فوقَ بعضٍ. يقولُ ربُّنا: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفَاوُت﴾ سورة الملك/3، أي لا ترَى يا ابنَ ءادمَ في خَلقِ الرحمنِ العَزيزِ الحَكِيمِ مِنْ تفاوُتٍ، لا ترَى يا ابنَ ءادمَ في شَىْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ مِنَ اعْوِجَاجٍ ولا تَنَاقُضٍ وَلا عَيْبٍ وَلا خَطَأ. فَحَرِيٌّ بنا إِخْوةَ الإيمانِ أن نتمسَّكَ بِهذَا الكِتَابِ العَظِيمِ الذي جَعَلَهُ اللهُ تعالى أفضلَ الكتُبِ السماويةِ.
فعن أبِي نجيحٍ العرباضِ بنِ ساريةَ رضي اللهُ عنه قالَ: “وعظَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغةً وَجِلَتْ منهَا القُلُوبُ وَذَرَفَتْ منهَا العُيون، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: كأنَّها مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قالَ: “أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليهَا بِالنَّواجِذِ” رَوَاهُ أبو داودَ والترمذيُّ، وقالَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
فهذا حَثٌّ أَكِيدٌ من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِهِ على التَّمَسُّكِ بِسُنَّتِه أي بشَرِيعَتِه صلى الله عليه وسلم. وقتُنا هذا ينطبِقُ على الحديثِ الذي ذَكَرَ فيه الرسولُ أنه يحصُلُ فَسَادٌ في الأمةِ، وقد تَحَقَّقَ ذلك وهو ظَاهِرٌ كالشَّمْسِ في الشَّرقِ والغَرْبِ فَهَنِيئًا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِكِتابِ اللهِ أي تمسَّكَ بالعَقِيدَةِ الحَقَّةِ التِي تُوافِقُ كتابَ اللهِ تعالى، ودافَعَ وناضَل عنها وثبتَ عليهَا إلَى الممَاتِ.
فمَهْمَا تبدَّلتِ الأَحْوَالُ والظُّروفُ فَعلَينا الثَّباتُ على التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ العظيم، والحَمْدُ للهِ الذِي حَفِظَ القُرْءَانَ مِنَ التَّحرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ فَلا يَدْخُلُهُ التَّحْرِيفُ. بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ علَى مَرِّ العُصورِ. يقولُ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ سورة الحجر/9.
إخوةَ الإِيمان، لَقَدْ حَثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه على قِرَاءَةِ القُرءَانِ وَعَدَمِ الانقِطَاعِ عن ذلكَ، فقد قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: “مَثَلُ المُؤمِنِ الذِي يَقْرَأُ القُرْءَانَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ رِيحُها طَيِّبٌ وَطَعْمُها طيِّبُ ومَثَلُ المؤمِنِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرءَانَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُها طَيِّبٌ وَلا رِيحَ لَها”. والأُتْرُجَّةُ فَاكِهَةٌ تُشبِهُ الحامضَ لَوْنُها أَصْفَرُ منَ الخارِجِ، فالمؤمنُ الذي صَدَّقَ بقلبِه ويقرأُ القرءانَ يكونُ جمعَ بينَ شيئينِ الشىءِ الباطنيِّ الذي هو الإيمانُ بالقلبِ، والشَّىْءِ الظَّاهِرِيِّ الذِي هو قراءةُ القرءانِ، فلذلكَ شبَّهَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الفَاكِهَةِ الطيبةِ، وقد وردَ عنِ ابنِ عباسٍ أنهُ قالَ: “أديمُوا النَّظَرَ في المصحفِ”.
وهذا ثابتٌ البنانيُّ التابعيُّ الجليلُ كانت تُسمعُ تلاوةُ القرءانِ من قبرِه، اللهُ تعالى أكرمَه بهذا الأمرِ العظيمِ لأنهُ تمسَّكَ بكتابِ اللهِ وتعلَّقَ قلبُه بطاعةِ اللهِ. وقال ابنُ رجب في كتابِه “أهوالُ القبور”: “روَى أبو نُعَيْمٍ بإسنادِه عن محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ قالَ حدَّثَنِي إبراهيمُ بنُ الصمةِ المهلبيُّ قالَ: حدثني الذينَ كانوا يمُرونَ بالجِصِّ بالأسحارِ قالوا: كنا إذا مرَرْنا بجَنَباتِ قبرِ ثابِتٍ البنانيِ رضي الله عنه سمِعنا قراءةَ القرءانِ.
وبإسنادِه عن سيارِ بنِ حسنٍ عن أبيهِ قالَ: أنا والذي لا إله إلا هو أدخلتُ ثابِتًا البنانيَّ لَحْدَه ومعي حميد ورجلٌ غيرُه فلما سوَّينا عليهِ اللبِنَ سقطَتْ لبِنَةٌ فنـزَلْتُ فأخذتُها من قبرِه فإذا به يصلِّي في قبرِه، فقلتُ للذي معِي ألا تراهُ؟ قالَ أُسكتْ، فلما سوَّيْنا عليه الترابَ وفرَغْنَا أتينَا ابنتَه فقلنا لها: ما كانَ عملُ ثابِتٍ، قالت وما رأَيْتُم، فأخبرناها، فقالت كانَ يقومُ الليلَ خمسينَ سنةً فإذا كانَ السَّحَرُ قالَ في دعائِه: اللهمَّ إن كنتَ أعطيتَ أحدًا من خلقِك الصلاةَ في قبرِه فأعطِنيها، فما كانَ اللهُ ليرُدَّ ذلك الدعاءَ” اهـ .
ولا بد أيها الأحبةُ بعدَ هذا الكلامِ عنِ التمسُّكِ بكتابِ اللهِ والحثِّ على الإقبالِ على تلاوتِه منَ التَّنبيهِ أنه لا بد لمن أرادَ قراءةَ القرءانِ أن يتعلَّمَ مِنْ أهلِ المعرفَةِ ولا يكفِيهِ مجردُ الاعتمادِ على نفسِه من غيرِ تلقٍّ من أهلِ المعرفةِ فإنَّ منِ اعتمدَ على نفسِه من غيرِ تَلَقٍّ من أهلِ المعرفةِ فهو مصحفيٌّ وليسَ بقارئٍ واللهُ تعالى يقولُ: ﴿يتلونه حق تلاوته﴾ سورة البقرة/121. هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.
الخُطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُه ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ .
عبادَ اللهِ أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ: ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدَنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيهَا الناسُ اتقُوا ربكُم إنَّ زلزلةَ الساعَة شَىء عظِيم يومَ تروْنها تذهلُ كُل مرضعةٍ عمَّا أرضعَت وتضعُ كُل ذَات حملٍ حملَها وترَى الناس سكارَى وما هم بسكارَى ولكنّ عذابَ الله شدِيد﴾، اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللّـهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ اللّـهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللّـهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ.عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون .اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.