بيان سجود الخلق لله
بيان سجود الخلق لله
وأنَّ الخلقَ مفتقرونَ للخالق وأنَّ الله خالق كل شىء
يقولُ الله تبارك وتعالى: ﴿وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ {15} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {16} أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ {17}﴾. سورة الرعد.
أخبرَنا اللهُ تباركَ أنه يسجُدُ له مَنْ فِي السَّمٰواتِ أي الملائكةُ ومَنْ فِي الأرضِ أي المؤمنينَ مِنْ أهلِ الأرض فإنهم يسجدونَ سجودَ تَعبُّدٍ وانقيادٍ للهِ الواحِدِ القهَّار الذي لا يستَحِقُّ أحدٌ غيرُهُ أن يُتذلَّلَ له نِهايةَ التذلُّلِ والخضوعِ والخشوع، ويسجدُ لـه المنافقونَ والكافرون فِي حالِ الشدّةِ والضّيقِ كَرْهًا، وظِلالُهُم أيضًا تسجُدُ للهِ ﴿بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ أي العشايا، فظلالُهُم تسجُدُ للهِ في أوَّلِ النهارِ وءاخرِهِ، وظلُّ المؤمنِ يسجدُ طوعًا وهو طائعٌ وظلُّ الكافرِ يسجدُ كَرْهًا وهو كارِه، وقد قيلَ ظلُّ كلِّ شىءٍ يسجُدُ لله.
وأمرَ اللهُ نبيهُ أنْ يُبيّن لَهم أي للمُشركين ويُذَكِّرَهم بأنَّ اللهَ ﴿رَّبُّ السَّمٰوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ فهو سبحانَهُ مالِكُ كلِّ شىءٍ على الحقيقة، وقال لهم أَبَعْدَ أنْ علمتُم أنَّ اللهَ ربُّ السمٰواتِ والأرضِ اتّخذتُم مِنْ دونِهِ ءالِهَة فعبَدتم ما لا يَملكُ لنفسِهِ نفعًا ولا يدفعُ عنها ضررًا فكيفَ يستطيعونَهُ لغيرِهم وقد ءاثرتُموهُم على الخالقِ الرَّازقِ المُثيبِ المعاقِب فما أبينَ ضلالتَكم.
وبيّنَ لَهم أنه لا يَستوي الكافرُ والمؤمن ولا يستوي مَنْ لا يُبصرُ شيئًا ومَنْ لا يخفى عليهِ شىء وهو اللهُ سبحانه، وأنه لا يستوي مِلَلُ الكُفرِ والإيمان، وأنكَرَ عليهم عبادتَهُم لِمَن لا يَقدِرُ عل خَلْقِ شىء وتركِهِم عبادَةَ اللهِ الخالِقِ لكُلِّ شىء، خالِقِ الأجسَامِ والأعراض ولا خالِقَ سواه ولا يستقيمُ أن يكونَ لهُ شريكٌ في الخلقِ سبحانه وهوَ الواحِدُ الذي لا يقبَلُ الانقسَام لأنه ليسَ جسمًا، المنفردُ بالألوهيةِ الذي لا شريكَ له، القهَّارُ الذي لا يُغالَب وما عَدَاهُ مربوبٌ ومقهور.
وهو سبحانه ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء﴾ أي مِنَ السَّحابِ الذي في السّماء ﴿مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ﴾ وهي المواضِعُ التي يسيلُ فيها الماءُ بكثرةٍ ﴿بِقَدَرِهَا﴾ أي بِمِقدارِها الذي علِمَ اللهُ أنه نافِعٌ للمَمطُورِ عليهم غيرَ ضارٍّ ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ﴾ أي رَفَعَ ﴿زَبَدًا﴾ وهو على ما على وجهِ الماءِ مِنَ الرَّغوةِ ﴿رَّابِيًا﴾ أي مُنتَفِخًا مُرتَفِعًا على وجهِ السَّيل، ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ﴾ ينشأُ زبَدٌ مِثلُ زَبَدِ الماء ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ﴾ ثابتًا ﴿فِي النَّارِ﴾ يبتغونَ ﴿حِلْيَةٍ﴾ أي زينةً مِنَ الذَّهبِ والفِضَّة، أو مَتاعًا مِنَ الحديدِ والنحاسِ والرَّصَاص يتخذونَ منها الأوانيَ وما يُتمَتعُ به في الحضَرِ والسفر، وأخبرَ بأن لِهذهِ الفِلِزَّاتِ إذا أُغلِيت زبدٌ مِثلُ زَبَدِ الماء.
كذلكَ يضرِبُ الله مَثَلَ الحقِّ والباطل ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء﴾ أي مُتلاشِيًا وهو ما تَقذِفُهُ القِدْرُ عندَ الغلَيان والبحرُ عندَ الطُّغيان، ﴿ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ﴾ مِنَ الماءِ والحُلِيِّ والأوانِي ﴿فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ فيثبتُ الماءُ في العيونِ والآبارِ والحبوبِ والثمار، وكذلك الجواهِرُ تبقَى في الأرضِ مُدَّةً طويلة.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ﴾ لِيُظهِرَ الحقَّ مِنَ الباطِل، وقيلَ هذا مَثَلٌ ضربَهُ اللهُ للحقِّ وأهلِهِ والباطِلِ وحِزبِهِ فمَثَّلَ الحقَّ وأهلَهُ بالماءِ الذي يَنْزِلُ مِنَ السَّماء فتسيلُ به أودِيةُ الناسِ فيحيَونَ به وينفَعُهم بأنواعِ المافِع وبالفلِزِّ الذي ينتفعونَ به فِي صَوغِ الحُليِّ منه واتخاذِ الأوانِي والآلاتِ المختلِفات وذلكَ ماكِثٌ في الأرضِ باقٍ بقاءً ظاهرًا يثبُتُ الماءُ في منافعِهِ، وكذلك الجواهرُ تبقى أزمِنَةً متطاولة. وشبَّهَ الباطِلَ في سُرعَةِ اضمحلالِهِ ووشَكِ زوالِهِ بزبَدِ السَّيلِ الذي يُرمى به وبِزَبدِ الفِلزِّ الذي يطفو فوقَهُ إذا أذيب، قال الجمهور: وهذا مَثَلٌ ضربَهُ اللهُ تعالى للقرءانِ والقلوبِ والحقّ والباطل، فالماءُ القرءانُ نزلَ لِحياةِ الجَنان كالماءِ للأبدان، والأوديةُ للقلوب، ومعنى ﴿بِقَدَرِهَا﴾ بقَدْرِ سَعَةِ القَلبِ وضيقِهِ والزَّبَدُ هواجِسُ النفس ووسَاوِسُ الشيطان، والماءُ الصَّافِي المُنتَفَعُ به مَثَلُ الحقِّ، فكما يذهبُ الزَّبدُ باطِلاً ويبقَى صفوُ الماء كذلك تذهَبُ هواجِسُ النفسِ ووساوِسُ الشَّيطان ويبقى الحقُّ كما هو، وأمّا حِليَةُ الذَّهبِ والفِضَّة فمثَلٌ للأحوالِ السَّنيّةِ والأخلاقِ الزكية، وأما متَاعُ الحديدِ والنُّحاسِ والرَّصَاصِ فمَثَلٌ للأعمَالِ المُمَدَّةِ بالإخلاصِ المُعَدَّةِ للخَلاص، فإن الأعمالَ جالِبَةٌ للثَّوابِ دافِعَةٌ للعقاب، كما أنَّ تلكَ الجواهرَ بعضُها أداةُ النفعِ للكَسب وبعضُها ءالةُ الدَّفعِ في الحربِ، وأمّا الزَّبَدُ فالرياءُ والخَلَلُ والمَلَلُ والكَسَل.
اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا واختم لنا بخيرٍ يا أرحم الراحمين ونَجنا من الفتن يا أكرم الأكرمين إنك على كل شىء قدير