ترجمة الإمام الغزالي الأشعري الصوفي
ترجمة الإمام الغزالي الأشعري الصوفي
ترجمته
هو الشيخ الكبير والعالم النحرير، الفقيه النَّظار جامع أشتات العلوم والمبرز في المعقول منها والمفهوم، حجة الفقهاء والمتصوفين أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي. ولد بطوس من أرض خراسان سنة خمسين وأربعمائة للهجرة في بيت فقير متواضع حيث كان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له بطوس فدرجت عليهم تسمية الغزالي.
نشأ الشيخ الغزالي يتيمًا في كنف بعض المتصوفة من أصحاب أبيه الذي أوصى لما حضرته الوفاة به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل العلم والخير وقال له: «إن لي لتأسفًا عظيمًا على عدم تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديَّ هذين فعلمهما ولا عليك أن ينفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما» فلما توفي أقبل الصوفي على تعليمهما واعتنى بهما عناية عظيمة وكان لهما سندًا وعونًا في بلوغهما مرتبة رفيعة ودرجة عالية كبيرة في أنواع العلوم وأغراض المعارف، فكان أبو حامد فارس ميدانه وجهبذ زمانه فقيهًا كبيرًا متصوفًا جليلًا مدرسًا وشامخًا ومناظرًا في سبيل الدفاع عن دين الله.
مناقبه
والغزالي رحمه الله عالمٌ من أكابر علماء المسلمين درج عليه لقب حجة الإسلام فكان واحدًا من أعظم الفقهاء المسلمين وأغزرهم كتابة وتحريرًا في نصرة المذهب الشافعي، وله فضلٌ كبيرٌ أيضًا في تثبيت مذهب الأشاعرة على لسان إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه.
قدم نيسابور ولازم إمام الحرمين عبد الملك الجويني وجد واجتهد حتى برع في حفظ المذهب ووضع كتابه الذي أسماه بـ«المنخول في الفقه» وعرضه على شيخه الجويني فأعجبه كثيرًا وقال له عندئذ كلمته «لقد دفنتني وأنا حي» ثم قرأ بعد ذلك الحكمة والخلاف ففاق أقرانه وتصدى للرد على الفلاسفة وإبطال دعاويهم الفاسدة فأجاد في ذلك إجادة كبيرة حتى حجزهم في أقماع السماسم وصنف في هذه الفنون كتبًا يرد فيها على أصحاب تلك الأهواء فجاء رده محكمًا واضحًا مفحمًا للمخاصم.
ثم إنه خرج بعد وفاة الجويني رحمه الله قاصدًا الوزير نظام الملك فناظر في مجلسه ونافح حتى علا كلامه على الخصوم وظهرت حجته على أصحاب البدع المردية، فاعترف العلماء بقدره ومرتبته وتلقاه الوزير بالترحاب والتبجيل فولاه التدريس في مدرسته النظامية ببغداد فقدمها سنة أربع وثمانين وأربعمائة واستمر فيها بمهنة التدريس مدة فأعجب الناس حسن كلامه وفصاحة لسانه ونكته الدقيقة وإشاراته اللطيفة، فأحبوه وأكرموه حتى قيل فيه «أهلا بمن أصبح لأجلّ المناصب أهلا» وقد ساعد الغزالي على ذلك شدة ذكائه وفرط إدراكه فكان بعيد الغور غواصًا إلى المعاني الدقيقة والعبارات السديدة النافعة، جهبذًا محجاجًا ومنافحًا مناظرًا وصفه إمام الحرمين فقال: الغزالي بحر مغرق.
عقيدته
اعلم أن المطالع لكتب الغزالي يجد فيها كلامًا عظيمًا من جواهر الحكم في تنزيه الله عن الجهة والمكان مما يؤكد عند القارئ ما كان عليه هذا الشيخ الذي لم تخلُ كتبه مع ذلك من الدس، وها نحن نورد جملة من كلامه في الإحياء تحت عنوان: «من كتاب قواعد العقائد في لوامع الأدلة» فيقول في جملة من مقاله بأنه يجب: «العلم بوجود الله تعالى وقِدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصًا بجهة ولا مستقرًا على مكان» ثم يقول في سياق ءاخر: «وهو العلم بكونه حيًا عالـمًا قادرًا مريدًا سميعًا بصيرًا متكلمًا منزهًا عن حلول الحوادث» ومن ثم يتطرق إلى الكلام عن أفعال العباد فيثبت أنها مخلوقة لله تعالى وأن ليس للعباد إلا الكسب، ويذهب في الكلام عن السمعيات إلى إثبات الحشر والنشر وسؤال الملكين منكر ونكير وعذاب القبر والميزان وخلق الجنة والنار وتفضيل الأربعة الراشدين على حسب ترتيب إمامتهم إلى ءاخر ذلك مما هو من أصول مذهب أهل السنة مما يعتمد ويعتد به ويُسلم لقائله بأنه حق ثابت لا يرده عاقل ولا يزيغ عنه إلا هالك.
براءته من الدس
اعلم بعدما تقدم إليك نصه من مقالة للغزالي في العقائد، أن الرجل كان موحدًا منزهًا من مشايخ الأشاعرة المقدمين وعلمًا من أعلام الدين، وقد صح عنه من كلام خالص في التنزيه وتوحيد الله عزّ وجلّ وتأييد مسلك الأشاعرة وعليه فاعلم أن ما تجده بعد ذلك منسوبًا للغزالي من عبارات وإشارات تخالف معتقد الحق فهو باطل زائف نبرئ منه الشيخ الغزالي ونرى أنه دُس عليه إذ يبعد بعد هذا البيان أن ينسب للشيخ الغزالي الشك في وجود الله أو في صفاته حيث ربما تجد ذلك في كتب الفلسفة أو غيرها من التراجم والتواريخ، فهذا وغيره مما ينسب إلى الشيخ الغزالي، يبعد صحته عنه والذي يظهر أنه دس على الرجل.
ثم إنه من المعلوم قديمًا أن الفقهاء الشافعيين وأهل الكلام من علماء عصره ومشايخ أوانه اعتدوا به ولم يثبت على لسان عالم معتبر مقال صحيح يطعن فيه بعقيدته وسكوت الأئمة المعاصرين عنه بل واعتدادهم بفقهه حجة إبطال ما ينسب إليه زورًا وبهتانًا، علمًا أنه لم يثبت في مخطوط للغزالي كلام يقدح في عقيدته أو يرميه بزندقة أو شك في الله عز وجل وصفاته.
ثم إنه مما يقوي احتمالات الدس على الغزالي ويدعم صحة ما نقول وما نرى في تبرئة الشيخ أن الغزالي احترقت كتبه ومخطوطاته في فترة من الفترات، وعليه فلا يبعد بعد ذلك أن يكون تولى إعادة خط مصنفاته من أدخل إليها الحشو والدس الذي لم يره الغزالي ولم يعلم به أصلًا ، إذ توفاه الله قبل هذا، فقد حدث أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد المنعم العبدري قال: رأيت بالإسكندرية فيما يرى النائم كأن الشمس طلعت من مغربها فعبر ذلك بعض المعبرين ببدعة تحدث فيهم قال: فوصلت بعد أيام فأُخبرت بإحراق كتب الغزالي بالمرية.
إذا عرفت هذا فالزم الصواب وإيّاك ونسبة ما لا يصح إلى الشيخ الغزالي، وكن أخي المسلم على حذر فلا تهرف بما لا تعرف وخذ ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ودع طرق الغي وإن كثرت فالحق أحق أن يتبع.
مصنفاته
للغزالي كتب كثيرة عظيمة النفع والفائدة نذكر منها مثلاً: «البسيط»، «والوسيط» و«الخلاصة»، و«المنخول»، و«الرد على الباطنية»، و«المستصفى»، و«منهاج العابدين»، و«إحياء علوم الدين»، وغيرها من مهمات الكتب.
وفاته
بعد عودة الغزالي من دمشق رجع إلى المدرسة النظامية بنيسابور ودرس بها مرة أخرى ثم رجع إلى طوس واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية ووزع أوقاته على وظائف جليلة من ختم القرءان والتدريس، وعكف في أواخر عمـره على طلب الحـديث مكـثرًا من الجد والعبـادات حتى أدركه الأجـل إذ توفي رحمه الله يوم الاثنين في الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائـة عـن خمس وخمسين سنة من عمـره ودفـن بطـوس رحمه الله وجزاه خيرًا.