حكم زيارة قبر النبي والتوسل والتبرك به
إعلم رحمك الله بتوفيقه أن أناسا يكفرون من قصد قبر الرسول أو غيره من الأولياء للتبرك وهؤلاء جهلوا معنى العبادة التي هي غاية الخشوع والخضوع ونهاية التذلل وخالفوا ما عليه المسلمون لأن المسلمين سلفا وخلفا لم يزالوا يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأولياء للتبرك وليس معنى الزيارة للتبرك أن الرسول أو الوليّ يخلق لهم البركة بزيارتهم لقبره إنما الله هو الذي يخلق والدليل على ذلك ما رواه الحافظ البيهقي عن مالك الدار وكان خازن عمر – وهو رجل ثقة لأن عمر لا يتخذ خازنا إلا أن يكون ثقة(1)- قال أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل-أي من أصحاب النبي – إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام-أي رأى الرسول في الرؤيا- فقال له أقرىء عمر السلام وأخبره أنهم يسقون وقل له :عليك الكيس الكيس فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال : يارب ما ءالو إلا ما عجزت. اهـ وقد جاء في تفسير هذا الرجل أنه بلال بن الحارث المزنيّ الصحابي ,فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول للتبرك واستغاث به وطلب منه ما لم تجر به العادة فلم ينكر عليه عمر ولا غيره فبطل دعوى من قال إن هذه الزيارة شركية قال الحافظ ولي الدين العراقي في حديث أبي هريرة أن موسى قال:رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر,وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر , :فيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها .اهـ وقال الحافظ الضياء حدثني سالم التل قال : ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر.اهـ
قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي الذي هو من أعمدة المذهب الحنبلي إنه مما يستحب قوله عند زيارة قبر النبي : اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما وإني قد أتيت نبيك تائبا مستغفرا فاسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمه يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي.اهـ فبعد هذا كيف يقول بعضهم إن زيارة قبر النبي للتبرك به والتوسل به زيارة شركية فما ابعد هؤلاء عن الحق
ثم إن الحافظ سراج الدين بن الملقن والذي توفي بعد ابن تيمية بنحو ستين سنة وهو من الفقهاء الشافعيين ذكر في كتابه طبقات الأولياء عن نفسه فقال : ذهبت إلى قبر معروف الكرخيّ وقفت ودعوت الله عدة مرات فالأمر الذي كان يصعب عليّ ينقضي لما أدعو الله هناك عند قبره اهـ وهذا معروف الكرخيّ من الأولياء البارزين المشهورين معروف عند العامة والخاصة يقصدون قبره للتبرك
وقد ذكر الحافظ الكبير الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد عن الحسن بن إبراهيم الخلآّل أنه قال :ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب اهـ
وذكر الحافظ البغدادي عن بعض أكابر السلف ممن كان في زمن الإمام أحمد واسمه ابراهيم الحربي وكان حافظا فقيها مجتهدا يشبه بأحمد بن جنبل وكان الإمام أحمد يرسل ابنه ليتعلم عنده الحديث أنه قال :قبر معروف الترياق المجرب . والترياق هو دواء مركب معروف عند الأطباء القدامى بكثرة منافعه, وقد شبه الحافظ الحربي قبر معروف بالترياق في كثرة الانتفاع به فكأنه يقول :أيها الناس إقصدوا قبر معروف تبركا به من كثرة منافعه .
وذكر الحافظ الخطيب عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري أنه قال : سمعت أبي يقول قبر معروف الكرخي مجرب لقضاء الحوائج ويقال : إنه من قرأ عنده مائة مرة قل هو الله أحد وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته.
وذكر الحافظ البغدادي عن أبي عبد الله المحاملي أنه قال : أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة ما قصده مهموم إلا فرج الله همه .
وقال الحافظ البغدادي: قال الشافعيّ : إني لأتبرك بأبي حنيفة و أجيء إلى قبره في كل يوم-يعني زائرا- فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد حتى تقضى.
وذكر الحافظ الجزري شيخ القراء في كتابه الحصن الحصين وكذلك في مختصره قال :من مواضع إجابة الدعاء قبور الصالحين .اهـ وهذا الحافظ جاء بعد ابن تيمية بنحو مائة سنة ولم ينكر عليه أحد من العلماء المعتبرين.
وقد قال الإمام مالك للخليفة المنصور لما حجّ فزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسأل مالكا قائلا يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله قال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك ءادم عليه السلام إلى الله تعالى بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله .ذكر ذلك القاضي عياض في كتاب الشفا.
وروى الدّارقطنيّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال “من زار قبري وجبت له شفاعتي” ورواه أيضا الحافظ السّبكيّ وصحّحه، ومعناه أنّ من زار قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان مسلما ومخلصا في نيّته لله تعالى فإنّه يحظى في الآخرة بشفاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم شفاعة إنقاذ من العذاب بإذن الله.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال “ليهبطنّ المسيح ابن مريم حكما مقسطا وليسلكنّ فجّا حاجّا أو معتمرا وليأتينّ قبري حتّى يسلّم عليّ ولأردّنّ عليه” في هذا الحديث والّذي قبله دليل على استحباب زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّها قربة إلى الله تعالى. وفي الحديث الثّاني دليل على نزول عيسى من السّماء قبل القيامة وهذا النّزول من العلامات الكبرى لقيام السّاعة وعرف من الأحاديث الصّحيحة ومن قول الله تعالى “وإنّه لعلم للسّاعة” قال ابن عبّاس نزول المسيح من السّماء إلى الأرض. وقوله “حكما مقسطا” فيه أنّ عيسى سيحكم في الأرض بالعدل. وقوله “وليسلكنّ فجّا” أي طريقا. وقوله “وليأتينّ قبري” فيه دليل على استحباب قصد قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لزيارته والسّلام عليه وفي هذا ردّ على المانعين من السّفر بقصد زيارة قبر النّبيّ وهم بذلك خالفوا هذا الحديث والإجماع، ونون التّوكيد في قوله “وليأتينّ” فيها إشارة إلى تأكيد قصده قبر النّبيّ لزيارته والسّلام عليه. وقوله “حتّى يسلّم عليّ” فيه دليل على استحباب السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقوله “ولأردّن عليه” فيه دليل على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيّ في قبره يسمع سلام المسلّمين عليه ويردّ عليهم بإذن الله، وفي ذلك ردّ مفحم للجفاة المانعين للتّوسل الّذين أشار بعضهم بيده إلى قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ما هنا إلا جيفة وقال ءاخر ماذا تفعل بهذا العظم الرّميم، وهذا القول القبيح في حقّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعتبر سبّا مخرجا من الملّة، قال تعالى “من كان عدوّا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين”.
وممّا يؤكّد عود أرواح الأنبياء إلى أجسادهم في قبورهم وأنّ لهم حياة برزخيّة متميّزة عن سائر النّاس ما رواه الحافظ البزّار والحافظ البيهقيّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال “الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون” وصلاتهم هذه ليست الصّلاة التّكليفيّة الّتي يصلّيها الإنسان قبل موته إنّما هي صلاة يتلذّذون بها، وقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم “حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم وتعرض عليّ أعمالكم فما وجدت من خير حمدت الله وما وجدت غير ذلك استغفرت لكم”رواه الحافظ البزّار، ففي قوله “حياتي خير لكم ومماتي خير لكم” دليل على أنّ النّبيّ ينفع في حياته وبعد مماته، وقوله “تحدثون ويحدث لكم” معناه تعملون أشياء فينزل الحكم بها، أي من حيث الجواز أو الحرمة أو غير ذلك، وقوله “وتعرض عليّ أعمالكم” فيه تأكيد حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قبره، وقوله “وما وجدت غير ذلك استغفرت لكم” فيه دليل على نفع النّبيّ أمّته بعد وفاته بإذن الله وفيه الرّدّ على نفاة التّوسّل القائلين إنّ الإنسان لا ينفع بعد موته ولو كان نبيّا أو وليّا.
أجمع علماء الإسلام على استحسان التّبرّك بالنّبيّ في حياته وبعد مماته ومعنى التّبرّك طلب البركة والبركة الزّيادة من الخير.
وروى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا حلق شعره في حجّة الوداع أمر الحلاق أبا طلحة الأنصاريّ بتقسيم شعره بين الصّحابة. قال الحافظ النّوويّ في شرح مسلم :من فوائد الحديث التّبرّك بشعره صلى الله عليه وسلم وجواز اقتنائه للتّبرّك اهـ. وقال مثله الحافظ ابن حجر في فتح الباري. ولا شكّ أنّ هذا التّوزيع للشّعر للتّبرّك بالشّعر إذ الشّعر لا يؤكل، قال الزّرقانيّ: إنّما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ليكون بركة باقية لهم وتذكرة لهم اهـ.
وروى البخاريّ عن أبي بردة قال قدمت المدينة فلقيني عبد الله بن سلام فقال لي انطلق إلى المنزل فأسقيك في قدح شرب فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتصلّي في مسجد صلّى فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال فانطلقت معه فسقاني وأطعمني تمرا وصلّيت في مسجده.
فانظر ياطالب الحقّ والهدى كيف كان الصّحابة يتبرّكون بالنّبي وءاثاره واقتد بهم وانبذ كلّ ما يخالف ذلك.
ففي هذا إعلام بأنّ السّلف والخلف كلّهم مجمعون على استحسان التّبرّك بكلّ ما ذكر فماذا يكون بعد هذا قول من شذّ فحرّم ذلك أو وصف الفاعل بالمبتدع أو المشرك والعياذ بالله، فيكون ذلك من هذا الشّاذّ نعتا للصّحابة ومن بعدهم من المسلمين بالشّرك والبدعة المنكرة وأعظم بذلك افتراء، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “ما رءاه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رءاه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح” ولمّا ثبت أنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة لقوله صلى الله عليه وسلّم: “لا تجتمع أمّتي على ضلالة” ثبت أنّ ما أجمعت عليه الأمّة من جواز التّبرّك بآثار نبيّها صلى الله عليه وسلّم هو الحقّ وأنّ من ضلّلهم وكفّرهم هو الضّالّ لأنّ “من قال قولا يتوصّل به إلى تضليل الأمّة فهو مقطوع بكفره” قاله القاضي عياض المالكيّ والنّوويّ الشّافعيّ وغيرهما.
ومعنى التّبرّك طلب البركة والبركة الزّيادة من الخير
العبادة هي غاية الخشوع والخضوع ونهاية التذلل
العبادة نهاية التذلل. هذا هو المراد في نحو قول الله تعالى *(ايّاك نعبد)* وكذلك هو المراد في قول المشركين *(ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى)* لأن هؤلاء كانوا يتذللون غاية التذلل لأوثانهم وهذه هي العبادة التي هي شرك. وقد تطلق العبادة بمعنى القربة من القرب كالصلاة والذكر وذلك كحديث <<الدعاء مخ العبادة>> المعنى أن الدعاء أي الرغبة الى الله في طلب حاجة أو دفع شّر من أعظم ما يقرّب الى الله وليس معنى هذا الحديث ما تدعيه الوهابية من ان التوسل بالرسول والولي من عبادة غير الله التي هي شرك.هم يحتجون بهذا الحديث الدعاء مخ العبادة لتحريم قول المسلم يا رسول الله أغثني أو اللهم أسألك بجاه رسول الله كذا وكذا يقولون هذا كقول المشكرين*(ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى)* وكذبوا فان اولئك كانوا يتذللون للاوثان غاية التذلل ويقولون نحن نعبد هؤلاء أي نخضع لهم ونتذلل غاية التذلل ليقربونا الى الله وفرق كبير بينهم وبين المسلم الذي لا يتذلل غاية التذلل الا لله ويستغيث بالانبياء والاولياء ليقضي الله حاجاته او يدفع عنه الكرب لان هؤلاء ما تذللوا غاية التذلل للانبياء والاولياء انما يتشفعون بهم الى الله .ولو عرفت الوهابية معنى العبادة في لغة العرب لما قالوا ذلك لكنهم جاهلون لأن زعيمهم محمد بن عبد الوهاب لم يكن عالما فقيها ولا محدثا ولا مفسرا.
فهذا قليل من كثير مما تحويه كتب الحفاظ والمؤرخين من قصد المسلمين قبور الأنبياء والصالحين للتبرك من غير إنكار من أحد منهم ولو تتبع ما في كتب التاريخ والحديث وطبقات المحدثين والزهاد من هذا الباب لجاء مجلدات عديدة ,ومع ذلك تجرأ أناس على تحريم ذلك وتكفير من يفعل ذلك والحكم عليه بالشرك ومعلوم أن من كفر مسلما بغير حق هو الكافر , والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
1_ قول بعض الجهال إن مالك الدار مجهول يرده أن عمر لا يتخذ خازنا إلا خازنا ثقة , ومحاولتهم لتضعيف هذا الحديث بعد ما صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني لغو لا يلتفت اليه. ويقال لهذا المدعي : لا كلام لك بعد تصحيح الحفاظ أنت ليس لك في اصطلاح أهل الحديث حق. على أن التصحيح والتضعيف خاص بالحافظ وأنت تعرف نفسك أنك بعيد من هذه المرتبة بعد الارض من السماء فما حصل من هذا الصحابي استغاثة وتوسل . وبهذا الاثر يبطل أيضا قول نفاة التوسل إن الاستغاثة بالرسول بعد وفاته شرك . وقد قال الحافظ الفقيه اللغوي علي بن عبد الكافي تقي الدين السبكي إن التوسل والاستغاثة والتوجه والتجوه(يعني الطلب بالجاه) بمعنى واحد . ذكر ذلك في كتابه شفاء السقام , والسبكي محدث حافظ فقيه لغوي كما وصفه بذلك الحافظ السيوطي في الذيل.