خبر سعود الوهابي وطغيانه واستيلائه على المدينة ونهبه ما في الحجرة الشريفة
وقد تجرأ على هذه العظيمة، سعود الوهابي، حين استولى بالقهر على أقطار الحجاز سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف، فأخذ جميع ما اجتمع في الحجرة الشريفة من قناديل الذهب والفضة والمباخر والقماقم والجواهر الثمينة واللؤلؤ ونحو ذلك، الواردة بعد ذلك من الملوك والسلاطين وغيرهم، على تعاقب الأيام والسنين، وملك المدينة وأخرج منها أهلها حتى فر منهم جماعة تركوا أولادهم وعيالهم، وكان ذلك هو سبب ارتحال الوالد رحمه الله تعالى منها، حتى اتصل بسواد العراق كما مرت الإشارة إليه، وهدم جميع القبب بالبقيع وغيره، كقبة أهل البيت وقبة الأزواج الطاهرات أمهات المؤمنين وقبة بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ومال إلى هدم القبة الخضراء، وأخذ هلالها لظنه أنه من الذهب، فصرفه الله عن ذلك ولم يقدر عليه، وتعطل المسجد الشريف أياما من الأذان والإقامة والصلاة، وأقام بالمدينة مدة، وكسر من تلك القناديل شيئًا كثيرًا، وفرقها على جماعته المرابطين في سبيل الشيطان، في القلعة وأبراج السور وغيرها، وأعطى منها لبعض أهل المدينة من الذوات المشخصة، وإنما قبلوه خوفا منه، وسك الباقي مشاخص، سكها له رجل من أهل المدينة يسمى أحمد حبيب، وكان صائغًا، وكان قد جبره على ذلك، وكانت تلك المشاخص لا تفرق عن المشاخص الأصلية وكانت تصرف بالحجاز.(ثم أراد الله تعالى) هتكه وإنزال النقمة به وبأولاده، فجهز عليه المرحوم محمد علي باشا والي مصر المحروسة، بأمر المبرور السلطان محمود خان، جيشا عظيما وجعل عليه ابنه المرحوم طوسون باشا، وبرز سعود المذكور من المدينة لقتالهم، فاجتمع الفريقان بقرية الخيف على طريق المدينة المنورة، وقاتلا قتالا شديدا ولم يظفر أحدهما بالآخر، فرجع طوسون باشا بجيشه إلى ينبع البحر، وسعود إلى المدينة المنورة، وغره الشيطان بذلك، فترك ولده عبد الله على الجيش بها، وسافر هو إلى بلاده الدرعية، …. المنية فيه …. فأهلكه الله بها، بعد وصوله بأيام، فلم يطق ولده المذكور القرار بالمدينة المنورة، إذ من محاسنها أنها تنفي الخبث، فنفاه الله تعالى منها كما نفى والده منها، فسافر إلى الدرعية، وخلف جيشًا عظيمًا بالمدينة داخل السور والقلعة، وأخرج أهل المدينة ممن بقى بداخل السور إلى خارجه، فاجتمعوا في بيوت المناخة خارج السور، منتظرين فرج الله تعالى، وهم داخل السور لهم الدوى طول الليل في الأبراج وقلوبهم مملوءة بالخوف والازعاج، …..فلم يفطنوا إلا وقد جهز عليهم محمد علي باشا المذكور جيشًا أعظم من الأول، فأحاط بهم وهم داخل القلعة والسور، وكان لله في دهره نفحات، ولبرق اليسر مع العسر وميض ولمحات، فهدموا عليهم السور عند صلاة الفجر، وهم في [سكْرَتِهِمْ يَعْمَهونَ] {الحجر:72}، وتلا لسان الحال: [أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ] {الأعراف:97} فأوقعوا فيهم الذبح بكل مرصد وشحذوا برقابهم كل صقيل مهند، فلم يبقى منهم أحد إلا وسقى كأس حمامه، سوى من التجى منهم إلى القلعة، وبقى من أيامه، ثم طلبوا الأمان وشمروا للهرب، ……، وشردوا هنالك ولحقوا حال هربهم بجيش أتاهم فازعًا، ولجيش القاهرة منازعًا، فاحتاروا عند ذلك وضاقوا ذرعًــا، وندموا على فرارهم وبقوا في حسراتهم صرعى، فلم يفطنوا إلا وقد أحاطت بهم جيوش القاهرة من كل جانب وهجموا عليهم أفظع الهجوم وانقضوا عليهم انقضاض شعل النجوم للرجوم، فمنهم من اختار فراره وجلاه، ومنهم من وقفت به لحينه رجلاه، فلم يزل يسقوهم من صاب البأس كأس المنية، حتى حاصروهم في بلادهم الدرعية، ثم فتحها الله على أيديهم بعد شهور أربعة، فضاقت عليهم الوجوه والمذاهب، ولم يكن إلا قدر فواق، حتى صاروا كأمس الذاهب، وغلبوا هنالك، وانقلبوا صاغرين [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {آل عمران:54} (وأسر عبد الله) بن سعود وجماعة منهم وحملوا مقيدين إلى مصر القاهرة، ثم بعثوا الى الأستانة العلية، فقتلوا فيما بلغني بعد ثلاثة أيام، [فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الأنعام:45} ولهم وقعة عظيمة وفتنة جسيمة يمل الخاطر عن إملائها، ويكل اللسان من بيانها.اهـ