رسالة في بطلان دعوى أولية النور المحمدي
رسالة في بطلان دعوى أولية النور المحمدي
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد، وعلى ءاله الطاهرين، وصحابته الطيبين.
من المفاسد التي انتشرت بين بعض العوام ما درج عليه بعض قُرَّاء المولد النبوي الشريف وبعض المؤذّنين وغيرهم من قولهم: “إن محمدًا أوَّل المخلوقات”، وما ذاك إلا لانتشار حديث جابر الموضوع بينهم وهو: “أوَّل ما خلق الله نور نبيّك يا جابر” وفيما يلي نورد ردَّنا بالأدلَّة العقلية والنقلية الشافية:
نقول: هذا الحديث موضوع لا أصل له وهو مخالف للقرءان الكريم، وللحديث الصحيح الثابت.
أما مخالفته للقرءان قال الله تعالى:﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء/30].
وأما مخالفته للحديث فقد روى البخاري والبيهقي من حديث عمران بن حصين أنَّ أناسًا من أهل اليمن أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جئناك يا رسول الله لنتفقه في الدين فأنبئنا عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: “كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شىء ثم خلق السموات والأرض”، فهذا نص صريح في أنَّ أول خلق الله الماء والعرش لأن أهل اليمن سألوه عن بدء العالم.
فقوله عليه الصلاة والسلام: “كان الله ولم يكن شىء غيره” إثبات الأزلية لله أي أنه تعالى لا ابتداء لوجوده، وقوله: “وكان عرشه على الماء” معناه أنَّ هذين أولُ المخلوقات، أما الماء فعلى وجه الإطلاق وأما العرش فبالنسبة لما بعده كما أفاد ذلك قوله عليه السلام: “على الماء” وذلك يدل على تأخر العرش عن هذا الأصل.
وروى ابن حبّان وصححه من حديث أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شىء، قال: “كل شىء خلق من الماء”، وفي لفظ: “أن الله تعالى خلق كل شىء من الماء”.
وروى السُّدّي في تفسيره بأسانيد متعددة عن جماعة من أبناء الصحابة: “إنّ الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء”. ففي الحديث الأوّل نصّ على أنّ الماء والعرش هما أوّل خلق الله، وأما أنّ الماء قبل العرش فهو مأخوذ من الحديثين التاليين.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: “قال الطيبي: هو فصل مستقل لأن القديم من لم يسبقه شىء، ولم يعارضه في الأولية، لكن أشار بقوله: “وكان عرشه على الماء” إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهما خلقا قبل خلق السموات والأرض ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء” اهـ.
وفي تفسير عبد الرزّاق عن قَتادة في شرح قوله تعالى:﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ [سورة هود/7] ما نصّه: “هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض”.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء﴾ [سورة هود/7] قال: “قبل أن يخلق شيئًا”.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أوّل ما خلق الله تعالى نور نبيّك يا جابر، خلقه الله من نوره قبل الأشياء”؟، فالجواب: أنه يكفي في ردّ هذا الحديث كونه مخالفًا للأحاديث الثلاثة الصحيحة السابقة، وأما عزو هذا الحديث للبيهقي فغير صحيح إنما ينسب إلى مصنّف عبد الرزّاق ولا وجود له في مصنّفه بل الموجود في تفسير عبد الرزاق عكس هذا، فقد ذكر فيه أنَّ أوّل الأشياء وجودًا الماء كما تقدّم.
وقال الحافظ السيوطي في الحاوي: “ليس له ـ أي حديث جابر ـ إسناد يُعتمد عليه”. اهـ.
قلت: وهو حديث موضوع جزمًا، وقد صرّح الحافظ السيوطي في شرحه على الترمذي أنّ حديث أولية النور المحمّدي لم يثبت.
وقد ذكر عصريّنا الشيخ عبد الله الغماري محدّث المغرب أن عزو هذا الحديث الموضوع إلى مصنّف عبد الرزّاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنّفه، ولا جامعه ولا تفسيره، والأمر كما قال.
كما أنّ محدّث عصره الحافظ أحمد بن الصدّيق الغماري حكم عليه بالوضع محتجًا بأنّ هذا الحديث ركيك ومعانيه منكرة.
قلت: والأمر كما قال، ولو لم يكن فيه إلا هذه العبارة: “خلقه الله من نوره قبل الأشياء” لكفى ذلك ركاكة، لأنه مشكل غاية الإِشكال، لأنّه إن حُمِلَ ضمير من نوره على معنى نور مخلوق لله كان ذلك نقيض المدعى لأنه على هذا الوجه يكون ذلك النور هو الأوّل ليس نور محمّد بل نور محمّد ثاني المخلوقات، وإن حُمِلَ على إضافة الجزء للكل كان الأمر أفظعَ وأقبحَ لأنّه يكون إثبات نور هو جزء لله تعالى، فيؤدي ذلك إلى أن الله مركب والقول بالتركيب في ذات الله من أبشع الكفر لأنّ فيه نسبة الحدوث إلى الله تعالى. وبعد هذه الجملة من هذا الحديث المكذوب ركاكات بشعة يردّها الذوق السليم ولا يقبلها.
ثم هناك علّة أخرى وهي الاضطراب في ألفاظه، لأن بعض الذين أوردوه في مؤلفاتهم رووه بشكل وءاخرون رووه بشكل ءاخر، فإذا نُظِرَ إلى لفظ الزرقاني ثم لفظ الصاوي لوجد فرق كبير.
فالحديثان الأولان لا حاجة إلى تأويلهما لأجل حديث غير ثابت بل حديث موضوع لركاكته وهو حديث أولية النور.
فلا حاجة لما ذكره بعض من حمل حديث أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر على الأولية المطلقة لغرض إثبات أولية النور المحمدي.
وأمّا حديث: “أوّل ما خلق الله العقل” فليس له طريق يثبت كما قال الحافظ ابن حجر، ففي كتاب إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين للحافظ محمد مرتضى الزبيدي ما نصّه: “ثم قال العراقيّ: أما حديث عائشة فرواه أبو نعيم في الحلية قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن يحيى بن معاوية الطلحي بإفادة الدارقطني، عن سهل بن المرزبان بن محمّد التميمي، عن عبد الله بن الزبير الحُميدي، عن ابن عُيينة، عن منصور، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أوّل ما خلق الله العقل” فذكر الحديث، هكذا أورده في ترجمة سفيان بن عيينة ولم أجد في إسناده أحدًا مذكورًا بالضعف، ولا شكّ أنّ هذا مركب على هذا الإِسناد ولا أدري ممّن وقع ذلك، والحديث منكر.
قلت: ولفظ حديث عائشة على ما في الحِلية قالت عائشة: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أوّل ما خلق الله العقل، قال: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: ما خلقت شيئًا أحسن منك، بك ءاخذ وبك أعطي.
قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان ومنصور والزهري لا أعلم له راويًا عن الحميدي إلا سهلًا، وأراه واهيًا فيه”. انتهت عبارة مرتضى الزبيدي.
وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء بعد إيراده هذا الحديث ما نصه: “رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي أمامة، وأبو نعيم من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين” انتهى كلام العراقي.
أما حديث أولية القلم قال الحافظ ابن حجر في الجواب عنه ما نصه: “فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة، أي أنه قيل له اكتب أول ما خلق، وأما حديث: “أول ما خلق الله العقل”، فليس له طريق يثبت وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو تأويله والله أعلم” اهـ.
وأمّا قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية ونصه: “أما أولية القلم نسبية وأما أولية النور المحمدي فهي مطلقة”. ا.هـ،
فهذا التأويل مخالف للحديث الصحيح، ومخالف للقاعدة الحديثية أنّ الضعيف إذا خالف الحديث الثابت فلا حاجة إلى التأويل، بل يعمل بالثابت ويترك الضعيف، وذلك مقرّر في كتب المصطلح وفي كتب الأصول.
فإن قيل: أليس قال الرسولُ: “كنتُ أوّل النبيين في الخلق وءاخرهم في البعث”، وقال أيضًا: “كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين”، و: “كنت نبيًّا ولا ماء ولا طين”.
فالجواب:أن الحديث الأوّل ضعيف كما نقل ذلك العلماء، وفيه بقية بن الوليد وهو مدلّس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف، ثمّ لو صحّ لم يكن فيه أنّه أوّل خلقِ الله وإنما فيه أنه أوّل الأنبياء، ومعلومٌ أن البشر أولهم ءادم الذي هو ءاخر الخلقِ باعتبار أجناس المخلوقات.
وأمّا الثاني والثالث فلا أصل لهما، ولا حاجة لتأويل قول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء/30 ] والحديث الصحيح لخبر واهٍ ضعيف أو موضوع لا أصل له كما فعل ذلك بعض المتصوّفة حيث أَوَّل الآية بحديث جابر السابق الذكر وقال: إنّ للآية معنًى مجازيًّا.
أما حديث ميسرة الفجر أنه قال: يا رسولَ الله متى كنت نبيًّا، قال: “كنت نبيًّا وءادم بين الروح والجسد”، فهو حديث صحيح رواهُ أحمد في مسنده، وقال الحافظ الهيثمي بعد عزوه لأحمد وللطبراني أيضًا ما نصه: “ورجاله رجال الصحيح” اهـ.
وأمّا معناه فلا يدلّ على أوّليّته صلى الله عليه وسلم بالنسبة لجميع الخلق، وإنما يدلّ على أنّ الرسول كان مشهورًا بوصف الرسالة بين الملائكةِ في الوقتِ الذي لم يتم تكوُّنُ جسدِ ءادم بدخولِ الروح فيه.
وقد أخرج أحمد والحاكم والبيهقي في الدلائل عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتمُ النبيّين، وإن ءادم لمنجدل في طينته”. قال البيهقي: “قوله صلى الله عليه وسلم: “إني عبد الله وخاتم النبيين وإن ءادم لمنجدل في طينته”، يريد به أنّه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم”. ا.هـ.
ثم إنَّ الأفضلية ليست الأسبقية في الوجود بل الأفضلية بتفضيل الله، فالله تعالى يفضّل ما شاء من خلقه على ما شاء، فالله تعالى جعل سيدنا محمدًا أفضلَ خلقه على الإطلاق وأكثرهم بركة.