شيخ المشايخ أبو مدين
أَبُو مَدْيَنَ شُعَيْبُ بنُ حُسَيْنٍ الأَنْدَلُسِيُّ الزَّاهِدُ، شَيْخُ أَهْلِ الـمَغْرِبِ، وسيد العارفين وقدوة السالكين في عصره. واشتهر بشيخ المشايخ، كَانَ مِنْ أَهْلِ العمل وَالاجتهَاد، مُنْقَطِع القرِيْن فِي العِبَادَةِ وَالنُّسك.
قال الشيخ أبو عبد الله التلمساني في كتابه: النجم الثاقب فيما لأولياء الله تعالى من المناقب: كان الشيخ سيدي أبو مدين فردًا من أفراد الرجال وصدرًا من صدور الأولياء الأبدال جمع الله له علم الشريعة والحقيقة.اهـ
من مناقبه
وذكر التادَلي وغيره أنه خرّج على يده ألف شيخ من الأولياء أولي الكرامات.اهـ
وقال التادلي: كان مبسوطًا بالعلم مقبوضًا بالمراقبة كثير الالتفات بقلبه إلى الله تعالى حتى ختم له بذلك.اهـ
وقال أبو الصبر كبير مشايخ وقته: كان أبو مدين زاهدًا فاضلا عارفًا بالله تعالى خاض بحار الأحوال ونال أسرار المعارف خصوصًا مقام التوكل لا يشق غباره ولا تجهل آثاره. اهـ
نشأته وطلبه العلم:
كَانَ مِنْ أَهْلِ حِصنِ مَنتُوجَبْ، مِنْ عَمل إِشْبِيْلِيَة، بالأندلس، جَال، وَسَاح، وَاسْتَوْطَنَ بِجَايَة مُدَّة، ثُمَّ تِلِمْسَان. جال في رحلته لطلب العلم، في المغرب وزار سبتة وطنجة بالشمال، واشتغل مع الصيادين ثم انتقل إلى مراكش بالجنوب وانخرط في سلك الجندية وفيها عرض أمره وغايته على من رآه نصوحًا فقال له: عليك بفاس.اهـ وفاس مدينة في بلاد المغرب.
يقول أبو مدين:” سرت إليها ( أي إلى مدينة فاس ) ولازمت جامعها ورغبت في من علمني أحكام الوضوء والصلاة ثم سألت عن مجالس العلماء فسرت إليها مجلسًا بعد مجلس”. اهـ
وفي هذه المجالس أخذ عن شيوخ ولازمهم، ومال عن آخرين، وممن لازم وأخذ عنهم، الشيخ أَبُو يَعْزَى يلنور، (ت سنة 572هـ )، والشيخ أبو الحسن علي بن حِرْزِهِم، بكسر الحاء المهملة وسكون الراء وبعدها زاي، المشهور بابن حرازم رضي الله عنه(ت سنة 559 هـ). وقرأ عليه “الرعاية للمحاسبي”.
ومن الشيوخ كذلك الذين أخذ عنهم، الشيخ أبو الحسن بن غالب، فقيه فاس؛ أخذ عنه كتاب السنن للترمذي، والشيخ أبو عبد الله الدقاق وأخذ عنه التصوف.
ذكر عنه رضي الله عنه أنه قال: كنت في أول أمري وقراءتي على الشيوخ إذا سمعت تفسير آية أو معنى حديث قنعت به، وانصرفت لموضع خال خارج فاس، أتخذه مأوى للعمل بما فتح به علي، فإذا خلوت به تأتيني غزالة تأوي إلي وتؤنسني، وبقيت كذلك مدة وأخبار سيدي أبي يعزى ترد علي وكراماته يتداولها الناس وتنقل إلي فملأ قلبي حبه، فقصدته مع جماعة الفقراء، وشاهدت في الوقت عجائب من بركاته، ثم استأذنته في الانصراف بنية أداء الفريضة ( أي الحج) فأذن لي.اهـ
فتوجه الشيخ أبو مدين للشرق، وأنوار الولاية عليه ظاهرة، فأخذ عن العلماء واستفاد من الزهاد والأولياء، وتعرف في عرفة بالشيخ عبد القادر الجيلاني فقرأ عليه في الحرم الشريف كثيرا من الحديث وألبسه خرقة الصوفية.
وبعد زيارته المباركة للمشرق، عاد واستوطن مُدَّة في شرق الجزائر في مدينة بجاية. وكان يقول عنها:” إنها معينة على طلب الحلال”.اهـ ولم يزل بها يزداد حاله على مر الليالي رفعة، ترد عليه الوفود وذوو الحاجات من الآفاق.
وفيها تزوج، وأنجب ولدًا. قال الشعراني في الطبقات الكبرى: “وولده مدين هو المدفون بمصر بجامع الشيخ عبد القادر الدشطوطي، ببركة القرع، خارج السور، مما يلي شرقي مصر، عليه قبة عظيمة، وقبره يزار”.اهـ
حاله بين العلماء
كان رضي الله عنه من أعلام العلماء، وترد عليه الفتاوى في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه فيجيب عنها في الوقت، وله مجلس وعظ يتكلم فيه فتجتمع عليه الناس من كل جهة وتمر به الطيور وهو يتكلم فتقف تسمع وربما مات بعضها، وكثيرا ما يموت بمجلسه أصحاب الحب، تخرج عليه جماعة كثيرة من العلماء والمحدثين وأرباب الأحوال. وكان أولياء وقته يأتونه من البلدان للاستفتاء فيما يعرض لهم من المسائل.
قال الشعراني في ” الطبقات الكبرى”: قال الشيخ أبو الحجاج الأقصري سمعت شيخنا عبد الرزاق رضي الله عنه يقول: لقيت الخضر عليه السلام سنة ثمانين وخمسمائة، فسألته عن شيخنا أبي مدين، فقال: هو إمام الصديقين في هذا الوقت.اهـ
قلت: وأجمعت المشايخ على تعظيمه وإجلاله وتأدبوا بين يديه وكان ظريفا جميلا متواضعا زاهدا ورعا محققا مشتملا على كرم الأخلاق رضي الله عنه.اهـ كلام الشعراني.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قَالَ مُحْيِي الدِّيْنِ ابْنُ العَرَبِيِّ: كَانَ أَبُو مَدْيَنَ سُلْطَانَ الوَارِثِيْنَ، وَكَانَ جمَال الحُفَّاظ عَبْدُ الحَقِّ الأَزْدِيّ قَدْ آخَاهُ بِبجَايَة، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَيَرَى مَا أَيَّده الله بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، يَجد فِي نَفْسِهِ حَالَة سَنِيَّةً لَمْ يَكُنْ يَجِدُهَا قَبْل حُضُوْر مَجْلِس أَبِي مَدْيَن، فَيَقُوْلُ عِنْدَ ذَلِكَ: هَذَا وَارِث عَلَى الحقيقَة.اهـ
عقيدته:
من مصنفاته: أنس الوحيد ونزهة المريد في علم التوحيد والحكم.
قال الشيخ أبو مدين في عقيدته: الحمد لله الذي تنـزه عن الحد والأين والكيف والزمان والمكان المتكلم بكلام قديم أزلي صفة من صفاته قائم بذاته لا منفصل عنه ولا عائد إليه ولا يحُل في المحدثات ولا يجانس المخلوقات ولا يوصف بالحروف والأصوات تنـزَّهت صفات ربنا عن الأرض والسمـٰوات. اللهم إنّا نُوَحِّدُك ولا نَحُدُّك ونؤمن بك ولا نكَيِّفُك ونعبدك ولا نُشَبِّهُك ونعتقد أن من شبهك بخلقك لم يعرف الخالق من المخلوق اﻫ
وقال فيها: القُدُّوس على العرش استوى من غير تمكن ولا جلوس. اﻫ
وقال: العرش له حدٌّ ومقدار والرب لا تدركه الأبصار. العرش تُكَيِّفُه خواطر العقول وتصفه بالعرض والطول وهو مع ذلك محمول وهو الذي لا يحول ولا يزول. العرش بنفسه هو المكان وله جوانب وأركان وكان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ليس له تحتٌ فيُقِلَّه ولا فوقٌ فيُظِلَّه ولا جوانب فتعدله ولا خلْف فيسنده ولا أمام فيحده. اﻫ عن مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس رقم 5485.
ومن أقواله المشهورة:
وكان أبو مدين يقول: كرامات الأولياء نتائج معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وطريقتنا هذه أخذناها عن أبي يعزى بسنده عن الجنيد عن سري السقطي عن حبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.اهـ
وقال: من رزق حلاوة المناجاة زال عنه النوم، ومن اشتغل بطلب الدنيا ابتلي فيها بالذل، ومن لم يجد من قلبه زاجرا فهو خراب.اهـ
وقال: بفساد العامة تظهر ولاة الجور، وبفساد الخاصة تظهر دجاجلة الدين الفتانون.اهـ
وقال: من عرف نفسه لم يغتر بثناء الناس عليه، ومن خدم الصالحين ارتفع، ومن حرمه الله تعالى احترامهم، ابتلاه الله بالمقت من خلقه.اهـ
وقال: عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أنْ يَكُونَ لَكَ لاَ عليك. انتهى
وقال: احذر صحبة المبتدعة اتقاء على دينك.اهـ
وقال: الزهد عافية.اهـ
وقال: بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة.اهـ
ونختم هذه المأثورات بأبيات لأبي مدين نالت قبولا لدى الخاصة والعامة وتغنى بها المنشدون وتعالت بها أصواتهم في مجالس الذكر والإنشاد.
قال الشيخُ أبو مدين رحمه اللَّه :
مَا لذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَرا
هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَرا
فَاصْحَبْهُمُو وتأدَّب في مَجَالِسِهِم
وخلِّ حظَّكَ مَهمَا قدموك ورَا
واستغنم الوقت واحضر دائمًا معهم
واعلم بأن الرضا يختص من حضرا
أي ما لذة عيش السالك في طريق مولاه إلا صحبة الفقراء، والفقراء جمع فقير، والفقير هو المتجرد عن العلائق المعرض عن العوائق.
من كراماته:
الله تعالى أكرمه بكرامات كثيرة، قال الشيخ أحمد بن محمد الْمُقْرِي التلمساني في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: ومن مشهور كراماته أنه كان ماشيا يوما على ساحل فأسره العدو وجعلوه في سفينة فيها جماعة من أسرى المسلمين فلما استقر في السفينة توقفت عن السير ولم تتحرك من مكانها مع قوة الريح ومساعدتها، وأيقن الروم أنهم لا يقدرون على السير، فقال بعضهم: أنـزلوا هذا المسلم، ولعله من أصحاب السرائر عند الله تعالى، وأشاروا له بالنـزول، فقال: لا أفعل إلا إن أطلقتم جميع من في السفينة من الأسارى، فعلموا أن لا بد لهم من ذلك، فأنزلوهم كلهم وسارت السفينة في الحال. اهـ
وذكر ابن بطوطة في رحلته أنه: يحكى أن الشيخ الولي أحمد الرفاعي رضي الله عنه كان مسكنه بأم عبيدة بمقربة من مدينة واسط، وكانت بين ولي الله تعالى أبي مدين شعيب بن الحسين وبينه مؤاخاة ومراسلة. ويقال: إن كل واحد منهما كان يسلم على صاحبه صباحًا ومساء فيرد عليه الآخر. اهـ
تلامذة الشيخ أبي مدين:
قال اليافعي في”مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان”: وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء، مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي، والشيخ أبي عبد الله القرشي، والشيخ أبي محمد عبد الله الفارسي، والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي، والشيخ أبي غانم سالم، والشيخ أبي علي واضح، والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي، والشيخ أبي محمد عبد الواحد، والشيخ أبي الربيع المظفري، والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء “.اهـ
وفاته:
ولما اشتهر الشيخ أبو مدين، وكثر رواده وطلبته، وشى به بعض الحاقدين عند يعقوب المنصور، وقالوا:” إنا نخاف منه على دولتكم، وأتباعه كثيرون في كل بلد”، فبعث إليه السلطان ليختبره، وكتب لصاحب بجاية بالوصية والاعتناء بحمله، فشق ذلك على أصحاب الشيخ، حتى قال لهم:” إن منيتي قربت، فبعث الله من يحملني إليه برفق، وأنا لا أرى السلطان ولا يراني”. اهـ
فارتحل به موكب السلطان إلى أن وصل مدينة العبَّاد بتِلِمْسَان، غرب الجزائر، فقال لأصحابه: ” ما أصلحه للرُّقَادِ”، ومرض مرض موته، فتوفى هناك سنة أربع وتسعين وخمسمائة594هـ.
قال الصفدي في “الوافي بالوفيات”: ” كان آخر كلامه: الله الحي، ثم فاضت نفسه.”اهـ
قال الشعراني في ” الطبقات الكبرى”: وكان سبب دخوله تلمسان أن أمير المؤمنين لما بلغه خبره أمر بإحضاره من بـجاية ليتبرك به، فلما وصل الشيخ شعيب إلى تلمسان، قال: ما لنا وللسلطان، الليلة نزور الإخوان، ثم نـزل وذهب إلى المسجد الجامع هناك، واستقبل القبلة وتشهد، وقال: ها قد جئت، ها قد جئت، وعجلت إليك رب لترضى، ثم قال: الله الحىّ، ثم فاضت روحه رضي الله عنه.اهـ
وسمع أهل تلمسان بجنازته فكانت من المشاهد العظيمة والمحافل الكريمة. ونقل المعتنون بأخباره أن الدعاء عند قبره مستجاب وجربه جماعة.
وقد أطال في ترجمته يوسُفُ بن يَحْيَى التَّادَلِيُّ في كتابه: التشوف لرجال التصوف، وقد أفردها أبو العباس القُسمطيني الشهير بابنِ الخطيب وابنِ قُنفذ، بتأليف سماه: أنس الفقير.اهـ
رضي الله عنه وجمعنا معه تحت لواء المصطفى عليه السلام ءامين.