عقيدة أهل السنة – شرح أحاديث متشابهة
عقيدة أهل السنة – شرح أحاديث متشابهة
تَنزيهُ الله عَن المَكَانِ وتَصْحيحُ وجُودِه بلا مكانٍ عَقْلا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الله تعَالى غَنِيٌّ عن العَالمينَ أي مُسْتَغنٍ عَن كُلّ ما سِوَاهُ أَزَلا وأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إلى مَكَانٍ يتحيز فيه أو شَىءٍ يَحُلُّ به أو إلى جِهَةٍ لأنه ليس كشىءٍ منَ الأشياء ليس حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا والتحيزُ من صفاتِ الجسمِ الكثيفِ واللطيفِ فالجسمُ الكثيفُ والجسمُ اللطيفُ متحيزٌ في جهةٍ ومكانٍ قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) 33 ( ﴾ [سورة الأنبياء] فأثبتَ الله تعالى لكل من الأربعة التحيز في فلكه وهو المدار.
ويَكفِي في تَنزِيهِ الله عن المَكَانِ والحَيّزِ والجِهَةِ قَولُه تَعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سورة الشورى] لأنه لَو كَانَ لَه مَكانٌ لَكَانَ لَهُ أَمثَالٌ وأبعَادٌ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ، ومَنْ كَانَ كذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وبِهَذَا العَرْضِ وبِهَذَا العُمْقِ، هذَا الدليلُ منَ القُرءانِ.
أمَّا مِنَ الحَدِيثِ فما رَواه البُخَارِيُّ وابنُ الجارودِ والبَيْهقيُّ بالإسْنادِ الصَّحِيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “كانَ الله ولَم يكن شَىءٌ غَيرُهُ”، ومَعناهُ أنَّ الله لم يَزَلْ مَوْجُودًا في الأَزَلِ لَيسَ مَعَهُ غيرُه لا مَاءٌ ولا هَواءٌ ولا أَرْضٌ ولا سَماءٌ ولا كُرْسيٌّ ولا عَرْشٌ ولا إنْسٌ ولا جِنٌّ ولا مَلائِكَةٌ ولا زَمَانٌ ولا مَكانٌ ولا جِهاتٌ، فَهُو تَعَالَى مَوجُودٌ قَبْلَ المَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وهُو الّذي خَلَقَ المَكَانَ فَلَيسَ بِحَاجَةٍ إلَيهِ، وهَذا ما يُسْتَفادُ منَ الحدِيثِ المَذْكُورِ.
وقالَ البيهقيُّ في كتابِه “الأسماءُ والصّفَاتُ”: “اسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحَابِنا في نَفْي المَكَانِ عَنْهُ بِقَولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: “أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيسَ فَوقَكَ شَىءٌ وأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شىءٌ”، وإذَا لَم يَكُن فوقَهُ شَىءٌ وَلا دُونَهُ شَىءٌ لَم يَكُن فِي مَكَانٍ” اهـ.
وهَذَا الحَدِيثُ فِيه الرّدُّ أَيضًا عَلى القَائِلينَ بالجِهَةِ في حَقّهِ تَعَالَى. وقَد قَالَ عليٌّ رضيَ الله عنه: “كانَ الله ولا مكانَ وهوَ الآنَ على ما عليْهِ كَانَ” رواهُ أبو منْصُورٍ البَغْدَادِيُّ.
ولَيْسَ مِحْورُ الاعْتِقَادِ علَى الوَهْمِ بَل عَلَى ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الذي هُوَ شَاهِدٌ للشَّرْعِ، وذَلِكَ أن المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلكَ الحدّ فلا يكُون إلهًا.
فَكَمَا صَحَّ وجُودُ الله تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ والجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وجِهَةٍ، وهَذَا لا يكونُ نَفيًا لِوجُودِهِ تَعَالى كما زعمت المشبّهةُ والوهابيّةُ وهم الدُّعاةُ إلى التّجسيمِ في هذا العصرِ.
ولَيْسَ مِحْورُ الاعْتِقَادِ علَى الوَهْمِ بَل عَلَى ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الذي هُوَ شَاهِدٌ للشَّرْعِ، وذَلِكَ أن المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلكَ الحدّ فلا يكُون إلهًا.
فَكَمَا صَحَّ وجُودُ الله تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ والجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وجِهَةٍ، وهَذَا لا يكونُ نَفيًا لِوجُودِهِ تَعَالى كما زعمت المشبّهةُ والوهابيّةُ وهم الدُّعاةُ إلى التّجسيمِ في هذا العصرِ.
وحُكْمُ مَن يَقُولُ: “إنَّ الله تَعالى في كُلّ مَكَانٍ أَو في جَمِيع الأَمَاكِنِ” التَّكْفِيْرُ إذَا كَانَ يَفهَم من هَذِهِ العِبَارَةِ أنَّ الله بذاتِهِ مُنْبَثٌّ أوْ حَالٌّ في الأَمَاكِنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ العِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالى مُسَيطِرٌ عَلَى كُلّ شَىءٍ وعَالِمٌ بكُلّ شَىءٍ فلا يكفُرُ، وهَذَا قَصْدُ كَثِيْرٍ مِمَّن يَلْهَجُ بِهَاتَيْن الكَلِمَتَينِ، ويَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا على كُلّ حَالٍ، لأنهما ليستا صادرتين عن السّلَف بل عن المعتزلة ثم استعملهما جهلَةُ العَوامّ.
ونَرفَعُ الأَيدِيَ في الدُّعاءِ للسَّمَاءِ لأَنَّها مَهْبِطُ الرَّحمَاتِ والبَركاتِ ولَيْسَ لأَنَّ الله مَوجودٌ بِذَاتِهِ في السَّمَاءِ، كَما أنّنَا نَسْتَقْبِلُ الكَعْبَة الشَّرِيْفَة في الصَّلاةِ لأَنَّ الله تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لأَنَّ لَهَا مِيزَةً وخُصوصِيَّةً بسُكْنى الله فيها.
ويكْفُر من يَعتقدُ التّحيُّزَ لله تَعالى، أوْ يَعتقِدُ أنَّ الله شَىءٌ كالهَواءِ أوْ كالنُّورِ يَملأُ مكَانًا أو غُرفةً أو مَسْجدًا ويُرَدُّ على المعتقدِين أنَّ الله متحيزٌ في جهةِ العلوِ ويقولون لذلك تُرفعُ الأيدي عند الدعاء بما ثَبتَ عن الرسولِ أنه استَسْقَى أي طلَبَ المطَرَ وجعلَ بَطْنَ كفَّيهِ إلى الأرضِ وظاهرَهُمَا إلى السماءِ وبأنه صلى الله عليه وسلم نهَى المصلي أن يرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ، ولو كان الله متحيزًا في جهةِ العلوِ كما تظنُّ المشبهةُ ما نهانا عن رفعِ أبصارِنا في الصلاةِ إلى السماءِ، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه المسبحة عند قول “إلا الله” في التحيات ويحنيها قليلا فلو كان الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ ما كان يحنيها بل يرفعُها إلى السماءِ وكلُّ هذا ثابتٌ حديثًا عند المحدِّثين. فماذا تفعلُ المشبهةُ والوهابيةُ؟! ونسمّي المسَاجِدَ بُيوتَ الله لا لأنَّ الله يَسكنُها بل لأنَّها أمَاكنُ مُعَدَّة لذكرِ الله وعبادتِهِ، ويقالُ في العرشِ إنه جرمٌ أعدَّه الله ليَطوفَ به الملائكةُ كما يطوف المؤمنونَ في الأرض بالكعبةِ.
وكَذلكَ يكفُر من يَقولُ: (الله يَسكنُ قلوبَ أوليائِه) إنْ كانَ يَفْهَمُ منه الحُلُولَ.
ولَيسَ المَقْصودُ بالمِعراجِ وصُولَ الرسولِ إلى مكانٍ يَنْتَهِي وجُودُ الله تَعَالى إِلَيهِ ويَكْفُر مَن اعْتَقدَ ذلكَ، إِنّمَا القَصْدُ منَ المِعْراجِ هُو تَشْريفُ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم بإطْلاعِه علَى عَجَائِبَ في العَالَمِ العُلْوِيّ، وتَعظِيمُ مكَانتِه ورُؤْيتُه لِلذَّاتِ المُقَدَّسِ بفُؤَادِه منْ غَيرِ أن يكُونَ الذَّاتُ في مكَانٍ وإنما المكانُ للرسولِ.
وأمَّا قولُه تَعَالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) 8 ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) 9 ( ﴾ [سورة النجم] فَالمَقصُودُ بِهَذِهِ الآيةِ جِبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ حَيْثُ رَءاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكةَ بمكانٍ يقالُ له أجيادٌ وله سِتُّمائَةِ جَنَاحٍ سادًّا عُظْمُ خَلْقِه مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَما رَءاهُ مَرّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) 13 ( عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) 14 ( ﴾ [سورة النجم].
وأمَّا قولُه تَعَالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) 8 ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) 9 ( ﴾ [سورة النجم] فَالمَقصُودُ بِهَذِهِ الآيةِ جِبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ حَيْثُ رَءاهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكةَ بمكانٍ يقالُ له أجيادٌ وله سِتُّمائَةِ جَنَاحٍ سادًّا عُظْمُ خَلْقِه مَا بَيْنَ الأُفُقِ، كَما رَءاهُ مَرّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) 13 ( عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) 14 ( ﴾ [سورة النجم].
وأمّا ما في مسلم من أن رجلا جاءَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسألهُ عن جاريةٍ لهُ قال: قلتُ: يا رسولَ الله أفلا أعتِقُها، قال: ائتني بها، فأتاهُ بها فقالَ لها: أينَ الله، قالت: في السماءِ، قال: مَن أنا، قالت: أنتَ رسولُ الله، قال: أعتِقْها فإنّها مؤمنةٌ. فليسَ بصحيحٍ لأمرينِ: للاضطرابِ لأنّه رُويَ بهذا اللفظ وبلفظِ: مَن رَبُّك، فقالت: الله، وبلفظ: أينَ الله، فأشارت إلى السّماءِ، وبلفظ: أتشهَدينَ أن لا إله إلا الله، قالت: نعم، قال: أتشهدينَ أنّي رسولُ الله، قالت: نعم.
والأمرُ الثَّاني: أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأنَّ من أصولِ الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحكَمُ له بقولِ “الله في السماءِ” بالإسلامِ لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين اليهودِ والنّصارَى وغيرِهم وإنّما الأصلُ المعروفُ في شريعةِ الله ما جاءَ في الحديثِ المتواتر: “أمرتُ أن أقاتلَ النّاسَ حتّى يشهَدُوا أن لا إله إلا الله وأنّي رسولُ الله”.
ولفظُ روايةِ مالكٍ: أتشهدينَ، موافقٌ للأصول.
ولفظُ روايةِ مالكٍ: أتشهدينَ، موافقٌ للأصول.
فإن قيلَ: كيف تكونُ روايةُ مسلم: أينَ الله، فقالت: في السماءِ، إلى ءاخره مردودةً مع إخراج مسلمٍ لها في كتابهِ وكلُّ ما رواهُ مسلمٌ موسومٌ بالصّحّةِ، فالجوابُ: أن عدَدًا من أحاديثِ مسلمٍ ردَّها علماءُ الحديثِ وذكرَها المحدّثونَ في كتبهم كحديث أن الرسولَ قال لرجُلٍ: إنَّ أبي وأبَاكَ في النّار، وحديث إنه يُعطى كل مسلم يومَ القيامَةِ فِداءً لهُ مِنَ اليهودِ والنصارَى، وكذلكَ حديث أنسٍ: صَليتُ خلفَ رسولِ الله وأبي بكرٍ وعمرَ فكانوا لا يذكرونَ بسم الله الرحمن الرحيمِ. فأمَّا الأولُ فضَعَّفَهُ الحافظُ السيوطيُّ، والثاني رَدَّهُ البخاريُّ، والثالثُ ضَعَّفَهُ الشافعيُّ وعدد من الحفاظ.
فهذا الحديثُ على ظاهرِهِ باطلٌ لمعارضَتِهِ الحديثَ المتواترَ المذكورَ وما خالفَ المتواترَ فهو باطلٌ إن لم يقبل التأويلَ. اتفقَ على ذلك المحدِّثونَ والأصوليُّونَ لكن بعض العلماءِ أوَّلُوهُ على هذا الوجهِ قالوا معنى أينَ الله سؤال عن تعظيمِها لله وقولها في السماءِ عالي القدرِ جدًّا أما أخذه على ظاهره من أن الله ساكن السماء فهو باطلٌ مردودٌ لِما تقررَ فإن ظاهرَه ظاهرُ الفساد فإن ظاهرَه أنَّ الكافرَ إذا قالَ الله في السماءِ يُحكم لهُ بالإيمانِ.
وحمل المُشبهة رواية مسلم على ظاهرهَا فَضَلُّوا ولا يُنجيهم منَ الضلالِ قولُهم إننا نحملُ كلمةَ في السماءِ بمعنى إنهُ فوقَ العرشِ لأنهم يكونونَ بذلكَ أثبتوا لهُ مِثلا وهوَ الكتابُ الذي كَتَبَ الله فيه إن رَحمَتي سَبَقَت غَضبي فوقَ العرشِ فيكونونَ أثبتوا المُمَاثَلَةَ بينَ الله وبينَ ذلكَ الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلكَ الكتاب مستقرَّيْنِ فوقَ العرش فيكونونَ كذبوا قولَ الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ) 11 ( ﴾ وهذا الحديثُ رواهُ ابن حبانَ بلفظ “مرفوع فوقَ العرشِ”، وأما روايةُ البخاري فهي “موضوع فوقَ العرشِ”، وقد حَملَ بعضُ الناسِ فوقَ بمعنى تحت وهو مردودٌ بروايةِ ابنِ حبانَ “مرفوع فوق العرش” فإنه لا يَصحُّ تأويلُ فوقَ فيه بتحت. ثم على اعتقادِهم هذا يلزمُ أن يكونَ الله محاذيًا للعرشِ بقدرِ العرشِ أو أوسَعَ منهُ أو أصغرَ، وكلُّ ما جَرَى عليهِ التّقديرُ حَادِثٌ محتاجٌ إلى من جَعَلَهُ على ذلكَ المقدارِ، والعرشُ لا مناسبةَ بينهُ وبينَ الله كما أنه لا مناسبةَ بينهُ وبينَ شىءٍ من خَلقِهِ، ولا يتشرَّفُ الله بشىءٍ من خلقِهِ ولا ينتفعُ بشىءٍ من خلقِه. وقولُ المشبهةِ الله قاعدٌ على العرشِ شَتمٌ لله لأن القعودَ من صفةِ البشرِ والبهائمِ والجِنّ والحشرات وكلُّ وَصفٍ من صفاتِ المخلوقِ وَصْفُ الله به شَتمٌ لهُ، قالَ الحافظُ الفقيهُ اللغويُّ مرتضى الزبيديُّ: “مَن جَعَلَ الله تعالى مُقَدَّرًا بِمقدَارٍ كَفَرَ” أي لأنهُ جعلَهُ ذا كميةٍ وحجمٍ والحجمُ والكميةُ من موجبَاتِ الحُدوثِ، وهل عرفنا أن الشمس حادثةٌ مخلوقةٌ من جهةِ العقلِ إلا لأن لها حَجمًا، ولو كانَ لله تعالى حجمٌ لكانَ مِثلا للشمسِ في الحجميَّةِ ولو كانَ كذلكَ ما كانَ يستحقُّ الألوهيةَ كَما أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهية. فلو طَالَبَ هؤلاءِ المشبهةَ عابدُ الشمسِ بدليلٍ عقليّ على استحقاقِ الله الألوهية وعدم استحقاقِ الشمسِ الألوهية لم يكن عندَهم دليلٌ، وغَايَةُ ما يستطيعونَ أن يقولوا قالَ الله تعالى: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ ) 62 ( ﴾، فإن قالوا ذلكَ لعابدِ الشمسِ يقولُ لهم عابدُ الشمسِ: أنا لا أؤمنُ بكتابكم أعطوني دليلا عقليًّا على أن الشمسَ لا تستحقُّ الألوهيةَ فهنا ينقطعونَ.
فلا يوجدُ فوقَ العرش شىءٌ حيٌّ يسكنه إنما يوجدُ كتابٌ فوقَ العرشِ مكتوبٌ فيه: “إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضبي” أي أن مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، الملائكة من مظاهر الرحمة وهم أكثرُ عددًا من قطرات الأمطار وأوراق الأشجار، والجنة من مظاهر الرحمة وهي أكبر من جهنم بآلاف المرات.
وكونُ ذلك الكتابِ فوقَ العرشِ ثابتٌ أخرجَ حديثهُ البخاريُّ والنسائيُّ في السننِ الكبرى وغيرُهما، ولفظ روايةِ ابن حبّانَ: “لمَّا خلقَ الله الخلقَ كتبَ في كتابٍ يكتبُهُ على نفسِهِ وهو مرفوعٌ فوقَ العرشِ إن رحمتي تَغلبُ غَضَبي”.
فإن حاوَلَ محاوِلٌ أن يؤوّلَ “فوق” بمعنى دون قيلَ لهُ: تأويلُ النصوصِ لا يجوزُ إلا بدليلٍ نقليّ ثابتٍ أو عقليّ قاطِعٍ وليس عندهم شىءٌ من هذين، ولا دليلَ على لزومِ التأويلِ في هذا الحديثِ، كيفَ وقد قالَ بعضُ العلماءِ إن اللوحَ المحفوظَ فوقَ العرشِ لأنه لم يَرد نصٌّ صريحٌ بأنه فوق العرشِ ولا بأنه تحتَ العرشِ فبقي الأمرُ على الاحتمالِ أي احتمالِ أن اللوحَ المحفوظ فوقَ العرشِ واحتمالِ أنه تحتَ العرشِ، فَعَلى قولهِ إنهُ فوقَ العرشِ يكون جعلَ اللوحَ المحفوظَ معادِلا لله أي أن يكونَ الله بمحاذاةِ قسمٍ منَ العرشِ واللوحُ بمحاذاةِ قسمٍ مِنَ العرش وهذا تشبيهٌ لهُ بخلقِهِ لأن محاذاةَ شىءٍ لشىءٍ مِن صفاتِ المخلوقِ. ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقيةً حقيقيةً لا تحتمل التأويل الحديث الذي رواه النسائيُّ في السنن الكبرى: “إنَّ الله كتَب كتابًا قبل أن يخلُقَ السموات والأرض بألفي سنة فهوَ عندَهُ على العرشِ وإنه أنزلَ من ذلك الكتاب ءايتين ختم بهما سورة البقرةِ”، وفي لفظ لمسلم: “فهو موضوعٌ عندهُ” فهذا صريحٌ في أنَّ ذلكَ الكتاب فوقَ العرشِ فوقيةً حقيقيةً لا تحتَمِلُ التأويلَ.
وكلمةُ “عندَ” للتشريفِ ليسَ لإثباتِ تحيزِ الله فوقَ العرشِ لأنَّ “عندَ” تُستعمَلُ لغيرِ المكانِ قالَ الله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [سورة هود] إنّما تدلُّ “عندَ” هنا أنَّ ذلكَ بعلمِ الله وليسَ المعنى أنَّ تلكَ الحجارة مجاورةٌ لله تعالى في المكَان. فمَن يحتجُّ بمجرّدِ كلمةِ عند لإثباتِ المكانِ والتَّقارُبِ بينَ الله وبينَ خلقِهِ فهوَ من أجهَل الجاهلينَ، وهل يقولُ عاقلٌ إنَّ تلكَ الحجارةَ التي أنزلها الله على أولئكَ الكفرةِ نَزَلَت مِنَ العرشِ إليهم وكانت مكوّمَةً بمكان في جنبِ الله فوقَ العرشِ.
وقَد رَوى البُخَارِيُّ أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: “إِذَا كَانَ أحَدُكُم في صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ في قِبْلَتِهِ ولا عَنْ يَمِيْنِهِ فَإنَّ رَبَّه بَيْنَه وبَيْنَ قِبْلَتِهِ”، وهذا الحديثُ أقْوى إسْنادًا منْ حَدِيثِ الجَارِيَةِ.
وقَد رَوى البُخَارِيُّ أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: “إِذَا كَانَ أحَدُكُم في صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ في قِبْلَتِهِ ولا عَنْ يَمِيْنِهِ فَإنَّ رَبَّه بَيْنَه وبَيْنَ قِبْلَتِهِ”، وهذا الحديثُ أقْوى إسْنادًا منْ حَدِيثِ الجَارِيَةِ.
وأَخْرَجَ البُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: “ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُم فإنَّكُم لا تَدْعُوْنَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنكم تَدْعُونَ سَمِيْعًا قَرِيبًا، والذي تدعونَهُ أقْربُ إلى أحَدِكُم مِن عُنُقِ رَاحِلَةِ أحدِكُم”.
فَيقالُ للمعتَرِضِ: إذَا أخَذْتَ حَدِيثَ الجَارِيَةِ علَى ظَاهِره وهذين الحدِيثَينِ عَلى ظَاهِرهما لَبَطَلَ زَعْمُكَ أنَّ الله في السَّماءِ وإنْ أوَّلْتَ هذين الحَدِيثَيْنِ ولَم تُؤَوِّلْ حَدِيثَ الجَارِيَةِ فَهَذَا تَحكُّمٌ ـ أي قَوْلٌ بِلا دَلِيل ـ، ويَصْدُقُ عَلَيْكَ قَولُ الله في اليَهُودِ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) 85 ( ﴾ [سورة البقرة]. وكَذَلِكَ مَاذا تَقُولُ في قَولِه تَعالى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) 115 ( ﴾ [سورة البقرة] فَإنْ أَوَّلْتَه فَلِمَ لا تُؤَوّلُ حَدِيثَ الجاريةِ. وقَد جَاءَ في تَفسِيرِ هَذِهِ الآيةِ عنْ مُجاهِدٍ تِلميذِ ابنِ عَبَّاسٍ: “قِبْلَةُ الله”، فَفَسَّرَ الوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ، أيْ لِصَلاةِ النَّفْلِ في السَّفَرِ عَلى الرَّاحِلَةِ.
وأَمَّا الحَدِيثُ الذِي رَواهُ التّرْمذِيُّ وهُوَ: “الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرحمن ارْحَمُوا مَنْ في الأرْضِ يَرْحَمْكُم منْ في السَّمَاءِ”، وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى “يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ”، فَهَذِهِ الرّوَايَةُ تُفَسّرُ الرّوايَةَ الأُوْلَى لأنَّ خَير مَا يُفسَّرُ بهِ الحَدِيْثُ الوارِدُ بالواردِ كَما قَالَ الحَافِظُ العِراقيُّ في ألفِيَّتِهِ: وخيرُ ما فسّرتَه بالواردِ. ثمّ المرادُ بأهْلِ السَّماءِ المَلائِكةُ، ذَكَرَ ذلكَ الحَافِظُ العِراقيُّ في أمَالِيّه عَقِيبَ هَذَا الحدِيثِ، ونص عبارته: وَاسْتدلَّ بقَوْلِه: “أَهْلُ السَّمَاءِ” عَلَى أنَّ المُرَادَ بِقَوله تعالى في الآية: ﴿ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء ) 16 ( ﴾ الملائِكَةُ” اهـ، لأنه لا يقال لله “أَهْلُ السَّمَاءِ”. و”مَنْ” تَصلُح للمُفرَد وللجَمْع فلا حجّةَ لهم في الآية، ويقال مثلُ ذلك في الآيةِ التي تَليْها وهي: ﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ) 17 ( ﴾ فـ “مَن” في هذه الآيةِ أيضًا أهلُ السماءِ، فإن الله يسلطُ على الكفارِ الملائكة إذا أرادَ أن يُحِل عليهم عقوبَتَه في الدنيا كما أنهم في الآخرةِ هم الموكلونَ بتسليطِ العقوبةِ على الكفارِ لأنهم خزنَةُ جهنم وهم يَجرُّونَ عنُقًا من جهنمَ إلى الموقفِ ليرتاعَ الكفارُ برؤيتهِ. وتلكَ الروايةُ التي أوردَها الحافظُ العراقيُّ في أماليّه هكذا لفظُها: “الراحمونَ يرحمهُم الرحيمُ ارحموا أهلَ الأرضِ يرحَمْكُم أهلُ السماءِ”.
ثُمّ لَو كَانَ الله سَاكِنَ السَّمَاءِ كَما يَزْعمُ البَعْضُ لَكانَ الله يُزَاحِمُ الملائِكةَ وهَذا مُحالٌ، فَقَد ثَبَتَ حَديثُ أنّه: “ما في السموات مَوْضِعُ أَرْبَعِ أصَابِعَ إِلا وفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أوْ رَاكِعٌ أو سَاجِدٌ”.
وكَذَلِكَ الحَديثُ الذي رَواهُ البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ أنَّ الرّسولَ صلى الله عليه وسلم قال: “ألا تأْمَنُوني وأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاءِ يَأْتيني خَبرُ مَن في السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ” فالمقْصُودُ بِه الملائِكةُ أَيضًا، وإِنْ أُرِيد بِه الله فَمعْنَاهُ الذي هُوَ رَفِيعُ القَدْرِ جدًّا.
وأَمَّا حَدِيْثُ زَيْنبَ بنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النّبي صلى الله عليه وسلم أنَّها كَانَت تقُولُ لنساءِ الرسولِ: “زَوّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي الله منْ فَوقِ سَبْعِ سَمواتٍ” فَمعْنَاهُ أَنَّ تَزوّجَ النّبيّ بِها مُسَجَّلٌ في اللّوحِ المحفُوظِ وهذه كتابةٌ خاصةٌ بزينبَ ليست الكتابة العامة، الكتابةُ العامةُ لكلّ شخصٍ فكلُّ زواجٍ يحصلُ إلى نهايةِ الدنيا مسجلٌ، واللّوحُ فَوقَ السموات السَّبْعِ.
وأَمَّا الحَدِيثُ الذي فِيه: “والذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ فَتَأْبى عَلَيْه إلا كَانَ الذي في السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا…” الحدِيث، فَيُحمَلُ أيضًا عَلى الملائِكةِ بدَلِيلِ الرّوَايَةِ الثّانِيةِ الصَّحِيحَةِ وَالتي هِي أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهي: “لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتى تُصْبِحَ”، رَوَاهَا ابن حبّان وغيرُه.
وأَمَّا الحَدِيثُ الذي فِيه: “والذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ فَتَأْبى عَلَيْه إلا كَانَ الذي في السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا…” الحدِيث، فَيُحمَلُ أيضًا عَلى الملائِكةِ بدَلِيلِ الرّوَايَةِ الثّانِيةِ الصَّحِيحَةِ وَالتي هِي أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهي: “لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حتى تُصْبِحَ”، رَوَاهَا ابن حبّان وغيرُه.
وأَمَّا حَدِيثُ أَبي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: “رَبَّنَا الذي في السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ” فَلَم يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَم عَلَيْهِ الحافظ ابنُ الجَوْزِيّ، وَلَوْ صَحَّ فَأَمرُهُ كما مَرَّ في حَدِيثِ الجارِيَةِ.
وأمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِم عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الله عَلى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمواتِه، وسَمواتُه فَوْقَ أَرَاضِيْهِ مِثْلَ القُبّةِ” فَلَم يُدْخِلْهُ البُخَارِيّ في الصَّحِيحِ فَلا حُجَّةَ فِيهِ، وَفي إسْنادِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِه، ذَكَرَه ابنُ الجَوْزِيّ وغَيْرُهُ.
وكَذَلِكَ مَا رَواهُ في كتَابه “خَلْقُ أَفْعَالِ العِبَادِ” عَن ابنِ عَبّاسٍ أنّهُ قالَ: “لمّا كَلَّم الله مُوسَى كانَ نِدَاؤهُ في السَّمَاءِ وكَانَ الله في السَّماءِ”، فَهُوَ غَيرُ ثَابِتٍ فَلا يُحتَجُّ بِه”.
وأَمَّا القَوْلُ المَنْسُوبُ لِمَالكٍ وهُو قَولُ: “الله في السَّمَاءِ وعِلْمُه في كُلّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىء” فَهُو غَيْرُ ثَابتٍ أَيْضًا عَن مَالِكٍ وأَبُو دَاودَ لم يُسنِده إليه بالإسناد الصحيح بل ذكره في كتابِهِ المسائل، ومُجَرَّدُ الرّوَايَةِ لا يَكُونُ إثْبَاتًا.
وأَمَّا القَوْلُ المَنْسُوبُ لِمَالكٍ وهُو قَولُ: “الله في السَّمَاءِ وعِلْمُه في كُلّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىء” فَهُو غَيْرُ ثَابتٍ أَيْضًا عَن مَالِكٍ وأَبُو دَاودَ لم يُسنِده إليه بالإسناد الصحيح بل ذكره في كتابِهِ المسائل، ومُجَرَّدُ الرّوَايَةِ لا يَكُونُ إثْبَاتًا.
هذا والله أعلم.