عقيدة الناصر صلاح الدين الأيوبي الأشعري – السلطان المجاهد
الحمد للهِ الواحِدِ الأحَد الفردُ الصَّمَد اللّذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمِ يَكُن لَهُ كُفُوًا أَحَدْ، والصَّلاَةُ والسَلامُ على سَيِّدِنا مُحَمَّد خَيرِ الأَنام وَعلىَ ءَالِهِ وَصَحَابَتِهِ الأَعلاَم، وبعد قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العنكبوت / 69.
إِخوة الإيمان، لقد ازدحم تاريخ الأمة المحمدية بجهابذة أفذاذ كبار أضاءوا في أفق زماننا التليد وأضحوا نجومًا يُحتذى بهم ويُقتدى بهديهم الشريف، ومن هؤلاء الأكابر من ذاد عن حياض الدين بلسانه وبيانه ومنهم من قام يذود بسيفه وسلاحه، وجاد بماله وبنفسه في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ راجيًا ما عند اللهِ وما عند الله خير وأبقى، ومن هؤلاء العظام السلطان الكبير المجاهد صلاح الدين الأيوبي.
ترجمته:
هُوَ السُلطَانُ الكَبيرُ والبَطَلُ النِحريرُ رافِعِ عَلَمِ العَدلِ والإِحسَانِ صلاح الدين وأمير المسلمين منقذ بيت المقدس من أيدي الغادرين، والقائم بأمرِ الجِهَادِ وَقَامعِ المحتلين، أبو المَظفر يوسُف بن أيوب رَضي اللهُ عَنهُ المولود سنة خمسمائة واثنين وثلاثين، وذلك بقلعة تكريت من أعمال العراق، حيث كان أبوه واليًا عليها، ومن ثم انتقل مع أبيه بعد ذلك إلى الموصل ثُمَّ إِلى بِلاَدِ الشَّامِ وإلى بعلبك بالتحديد، فنشأ وَتَرَبَى بِهَا، وَلاَحَت عليهِ إِماراتُ النَجَابَةِ فقدمه الملك نور الدِّينَ مَحمُود زِنكي وَعَوَّلَ عَلَيهِ أمرًا عَظيمًا وَاهتَمَ بِهِ.
مذهبه في الاعتقاد والفقه:
كَانَ السُلطَانُ صَلاَحُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ – كما وصفه أصحاب التراجم – شافعي المذهب أشعري المعتقد، وكان له اعتناء خاص بنشر عقيدة الإمام الأشعري رحمه الله، حتى إِنَّهُ أمر المؤذنين وقت التسبيح أن يعلنوا ذكر عقيدة الأشعري فوظّف المؤذنين على ذكرها كل ليلة واستمر ذلك مدة طويلة حتى بعد وفاته رَحِمَهُ اللهُ كما ذكر السيوطي في الوسائل، وَقَدْ عَمِلَ لَهُ الشيخُ النحوي محمد بن هبة اللهِ المكي رسالة ضمنها أرجوزة في بيان عقيدة الأشاعرة سماها “حدائق الفصول وجواهر الأصول” فأقبل السلطان عليها وأمر بتعليمها للصبيان في الكتّاب، فصارت تعرف فيما بعد بالعقيدة الصلاحية ومما يقوله فيها:
وصانع العالم لا يحويه *** قطر تعالى الله عن تشبيه
قد كان موجودًا ولا مكانا *** وحكمه الآن على ما كانا
سبحانه جلّ عن المكان *** وعزّ عن تغيّر الزمان
وقد أولاها السلطان عناية بالغة لأنها تتضمن بيان معتقد الحق من نحو معرفة أَنَّ اللهَ مَوجودٌ بِلاَ مَكَانَ وأنَّهُ لا يَشبهه شئ، ولا يجري شئ إِلا بعلمه وإرادته سبحانه، وأنَّهُ سنحانه لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، وإثبات أَنَّ اللهَ خَالِقُ لأعمالِ وأفعالِ العِبَادِ مع الإِقرارِ بالبَعثِ والحشرِ والثواب والعِقاب وعذاب القبر ونعيمه وأَنَّ الجَنَّةَ حَق وغير ذلك من المسائل المهمة.
ذكر طرف من مناقبه:
كَانَ السُلطَانُ صلاح الدين دَيِّنًا وَرِعًا زاهِدًا. بنى المساجد والمدارس وَعَمَّرَ قَلعَةَ الجَبَلِ في القاهِرَةِ وَسَوَّرَهَا، وبَنىَ قُبَةَ الشافعي. كَانَ كَثيرُ العِبادَةِ يُحافِظُ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعةً في المسجد، حتى في أيامِ مَرَضِهِ كان يتجلد ويحضرها كما
ذكره ابن شداد، وكان مع ذلك مواظبًا على السنن والرواتب وقيام الليل، وكان إذا أدرَكَتهُ الصلاةُ وهو سائر نزل وصلى، وهو مع ذلك رحمه الله كان ينتقي إمامه ويتخيره عالمًا بالقرءانِ متقنًا ضابطًا لحفظه، وكان كثيرًا ما يتأثر بسماع القرءان الكريم ولربما استقرأ الحارس بالليل الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع. وإنه لمما يشهد على مدى حبه وتعظيمه للقرءان مَا رُويَ أنَّ صَبِيًا مَرَّ بين يَديهِ وُهُوَ يَقَرَأُ القُرءانَ فاستحسنَ قراءته فقربه وجعل له حظًا من طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزءين من مزرعة يجنيان منها، وكان رحمه الله خاشع القلب غزير الدمعة رفيقًا حليمًا شفوقًا ناصحًا محبًا للعلم وطلبه، شَديدَ الرَغْبَةِ في سماع الحديث، فكان إذا سمع بشيخٍ مُحَدِّثٍ ذي رواية عالية وكان ممن يحضر مجالس السلاطين استدعاه وأخذ عنه فسمع وأسمع أولاده ومماليكه، وَإِنْ كَانَ هذا الشيخُ ممن لا يقصدون أبواب السلاطين سَارَ إِليه بِنَفْسِهِ فَسَمِعَ وَقَرَأَ وَأََخَذَ عَنْهُ.
وكان يجمع في مجلسه العلماء والفضلاء والفقراء وأصحابه كأنما هم على قلب رجل واحد.
كان السلطان صلاح الدين عادلاً رؤوفًا رحيمًا ناصرًا للضعيف المظلوم، يمنع الرشوة ويعاقب عليها وله مجالس للخصومات كل يوم اثنين وخميس بحضره الفقهاء والقضاة، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه من شاء من كبير أو صغير أو عجوز أو شيخ وما استغاث به إحدٌ إلا سمع له وكشف ظلامته إن كان عليه ظلامة ودفعها عنه، وقد حَدَّثَ ابن شَدَّاد مرة فقال: “لقد رأيته وقد استغاث به إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدِّين إبن اخيه فأنفذ إليه ليحضر مجلس الحكم وكان تقي الدِّين هذا مُقَرَّبًا إليهِ مَحبوبًا لَدَيهِ عَظيمًا في عَينِهِ ولكنه لم يحابه في مثل هذا الأمر بل استدعاه حرصًا على إقامةِ العَدل”.
أَمَّا الشَجاعَةُ والصَبرُ فقد بَلَغَ السلطان في ذلك شاوًا كبيرًا، فكان رَحِمَهُ اللهُ من عظماء الشجعان، قوي النفس شديد البأسِ عظيم الثبات، لا يهوله أمر العدو بل كان يدور حول العدو المرة والمرتين في اليوم يستطلع أخباره بنفسه إن كان قريبًا منه فَيُحكِمُ خطته بهدوء وترو، فإذا ما اشتدت الحرب يخترق بين الصَفين ويرتب العساكر ويأمرهم بالتقدم والثبات ثم يُشرِفُ على العدوِ بنفسه يباشره بالطعنِ فيكون أقرب إليهِ في مواطن النزال حتى تنكشف الحرب وهو ثابت لا يبرح كليث هصور تفر من أمامه الحمر الوحشية.
وقد حَدَّثَ عَنهُ ابن شَدَّادْ فقال: ولقد رأيته رحمه الله بخرج عكا وهو على غَايَةٍ مِنْ مَرَضٍ اعتراهُ بِسَبَبِ كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إِلى ركبته بحيث لا يستطيعُ الجلوس، وإنما يكون مُنكبًا على جانبه إن كان بالخيمةِ، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه، وكان يأمر أن يُفَرَّقَ على النَّاس. وكَانَ مع ذلك قد نزل بخيمةِ الحَربِ قريبًا من العدوِ وقد رَتَبَ النَّاسَ مَيمَنَةً وَمَيسَرَةً وَقَلبًا للِقِتَالِ، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة الصباحِ إِلى المغرب يطوفُ على الجَيشِ، ثُمَّ قَالَ: لَقَد رأيتهُ ليلة على صفد وهو يُحاصِرُهَا وقد قال: لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مناجيق ورتب لكل منجنيق قومًا يتولون نصبه، وكنا طوال الليل في خدمته والأخبار تتواصل بأن قد نُصِبَ المنجنيق الفلاني كذا والمنجنيق الفلاني كذا حتى أتى الصباح وقد فرغ منها وكانت من أطول الليالي وأشدها بردًا.
فانظر إِلى هذا الصَبر والتحمل وإِلى أي غاية بلغ هذا الرجل القائد رحمه الله من حب العمل لله.
كان السلطان صلاح الِدّين الأيوبي سياسيًا بارعًا وقائدًا فذًا، وقد تَولّى رئاسة شرطة بغداد في عهد ابن عمه نور الدِّين وبعد وفاة الأتابك نور الدِّين بن عماد الدِّين زنكي عام 569 للهجرة استقلّ صلاح الدِّين بحكم مصر والشَام وغيرها، ثَمَّ شَمَّرَ عَن ساعِدِهِ لتوحيدِ البلادِ الإسلاميةِ وَجهَزَ الجيوشَ لِقِتالِ الإفرنج وانتزاع ما بقي من أراضي الشام. كما جَهَزَ جيشًا لاسترداد اليمن وَبَعَثَهُ إِليها وعلى رأسه أخوه توران شاه بن أيوب، حيثُ وَجَدَ صلاح الدِّين أنَّ ضَمَّ بلادِ اليَمَن إلى ملكه سيجعل المسلمين يُحْكِمُونَ السيطَرَةَ على منافذ البحر الأحمر لحمايةِ الأراضي المُقَدَسَة في الحجاز، خصوصًا بعد استعادة منطقة العقبة الواقعة على البحر الحمر. كما وأَنَّ عَدَنَ أصبحت مركزًا مُهِمًا للتجارة الإسلامية، فالمطلوب حمايتها من هجمات الإفرنج الذين يفكرون بالاتصالِ بأنصارهم في بلاد الحبشة، فكان المهم تحصين المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر.
وهكذا، وَبَعدَ أن جَهّزَ صلاحُ الدِّينِ الجَيشَ، عَبَرَ أخوهُ بالجيوشِ الإسلاميةِ البَحرَ إلى جَدةَ ومنها إِلى مَكَةَ حَيثُ دَخَلَهَا مُعْتَمِرًا، ثُمَّ سَارَ إلى “زبيد” وتمت السيطرة عليها، وَتَمَ أَسْرُ حَاكِمِ “عَدَن”. كما واصل الجيشُ تقدمه فَمَلَكَ القلعة في “تعز” وهي من أحصن القلاع، وعامل أَهلها بالإحسان وقضى على الانقسام والتشرذم فيها، وقضى على بقايا النفوذ الفاطمي، وقد حكم بنو أيوب اليمن أكثر من نصف قرنٍ من الزمن.
كما أَنَّ السلطان صلاح الدِّين بَعَثَ حَمْلَةً إلى غربي مصر بقيادة “قراقوش” فاستولى على برقة وطرابلس الغرب وتونس. وهكذا تَمَّ تَوحيدُ البِلادِ الإسلاميةِ في جَبهَةٍ وَاحِدَةٍ تمتد من برقة وتونس غربًا إلى الفرات شرقًا، ومن المُوصِلِ وَحَلَب شمالاً إلى النوبة واليمن جنوبًا، وبقي لدى صلاح الدِّين هَمٌّ كَبيرٌ وَهُوَ تَحريرُ الأقصى من العَدو ِالجَاثِمِ في فلسطين.
الاستيلاء على حصن الكرك:
شَيَّدَ حُصنَ الكَرَكْ الواقِعُ جَنوبي الأُردُن “باجان الساقي” وهو من الإفرنج، وقد أُقيمَ الحُصنُ عَلى تَلَةٍ عَاليةٍ، وَجُعِلَ بناؤه كبيرًا بحيث يتسع لعدد كبير من الجنود وأهلهم، وكان بالغ المناعة، مُقَامًا عَلَى تَلَةٍ حَجَريَةٍ يَتَعَذَرُ الوصولُ إليهِ من جَميعِ الجِهَاتِ لِشِدَةِ انحِدَارِهِ. وللوصول إِليهِ أُقيمَ جسرٌ يَسهُلُ الدفَاعُ عَنهُ من حامية الحُصنِ القوية، وكان لموقع الحُصنِ أهميةُ التحَكُمِ في طرق المواصلات بين مصر وبلاد الشام. وقد تولى حكم المنطقة “رونالد شانيون” المعروف ﺑ “أرناط” كما تسميه العرب.
كان “أرناط” هذا مقامرًا مُتَهَوِّرًا نَاقِضًا للعهودِ، فكثيرًا ما خرق العهود والمواثيق المعقودة مع المسلمين ، فيعتدي على القوافل التجارية الإسلامية وينهبها. فكان من السلطان صلاح الدِّين أَنْ وَضَعَ بَينَ عَينَيهِ خُطَةً للاِستيلاَءِ عَلَى الحصن الذي يعتبر شوكةً في خاصرة المسلمين. فحاصر صلاح الدِّينِ القَلعةَ واستمر الحصار لأكثر من عام حتى صاروا يأكلون دوابهم، فأرسلوا يطلبون الأمان مقابل تسليم الحصن فوافق وتسلم القلعة وأمّن من فيها على أنفسهم.
النصر الكبير في حطين:
تَقَعُ قَريَةُ حِطين غربي “طبرية” وهي غنيةٌ بالمياهِ وَفيرَةُ المرعى في جزء منها، وقد دارت المعركة في المنطقة الممتدة بين “طبرية” شرقًا و “صفورية” غربًا، وهذا الجزءُ جافٌ وَعِرٌ قليل المياه إلا الآبار والينابيع المحلية النادرة. وَمَعْ أَنَّ استعَادَةَ بيت المقدِسِ وتخليص الأقصى من يَدِ الإفرنج كان الهدف الذي يسعى إليه السلطان المجاهد بعد أن وَحَّدَ الجبهة الإسلامية وأمّن الحدود، غير أنه لم يشأ أن يكون هو البادئ بالحرب لحنكة هو أرادها فانتظر حتى بدأ “أرناط” صاحب الكرك المشهور بالخيانة والغدر، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت نيران الحرب، وذلك أَنَّ “أرناط” اعتدى على قافلة كانت تمر بالكرك في طريقها من مصر إلى الشام، فنهبها وأسر وقتل من فيها، وقال للأسرى وهو يعذبهم: “فليأتِ محمدكم ليخلصكم” فغضب صلاح الدين ونذر لئن مكّنه الله منه ليقتلنَّهُ بيده.
ودعا صلاح الدين إلى النفير والتعبئة الشاملة للجهاد. وبعد أن كملت الاستعدادت وجاءت الجيوش الإسلامية متطوعة من شتى الممالك الإسلامية، غادر صلاح الدِّين دمشق إلى بصرى وبدأ بمهاجمة “الكرك” ثم استولى على “طبرية” واستعصت عليه قلعتها فتركها إلى حين يعود إليها، وبدأ بتحصين موقعه. وهنا تبرز مهارة صلاح الدِّين العسكرية إذ لم يتقدم بجيوشه إلى المعركة، بل سعى لإجبار العدو على المسير إليه، حتى ينهك جيشهم وخيولهم.
وَنَشَبَ الخِلافُ في صُفوفِ العدوِ وانقسموا على رأيينِ، إذ كان يَرى “ريمُند” حاكم طرابلس بقاء جيوشهم في صفورية لقربها من ممتلكاتهم في الساحل، وليدفع بجيش المسلمين إلى عبور الصحراء بين “طبرية” و “صفورية” فيتعب ويسهل التغلب عليه، ورأى “أرناط” حاكم الكرك المتعطش لدماء المسلمين الإسراع بالتقدم نحو “طبرية” لمفاجئة صلاح الدين والبطش به، وهكذا غلب رأي “أرناط” وزحفت الجيوش الصليبية والخلافات تعصف بها، بالإضافة إلى الحرارة العالية في الصيف، في الوقت الذي كان فيه جيش صلاح الدِّين محتفظًا بقواه. ولَمَّا وَصَلَ خَبَرُ زَحْفِ جُيوشُ الأعداءِ قال صلاح الدِّين: “قد حصل المطلوب وكمل المخطوب وجاءنا ما نريد”.
وهكذا سار جيش الصليبيين بأسلحتهم وخوذاتهم ودروعهم الحديدية، وأشعة الشمس تنعكس على رمال الصحراء فتلهب الجو لهيبًا، حتى كادت أجسادهم تقع تحت ثقل حديد دروعهم ولباسهم الساخن، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة 583 ﻫ.
ولما بدأت المعركة حاصر المسلمون الأعداءَ وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وأشبعوهم ضربًا وقتلاً وأسرًا، وقد حاول “ريمند” صاحب طرابلس أن يُحدث ثُغرة في الحصار المضروب عليهم فدبر له تقي الدِّين، ابن أخ صلاح الدين مكيدة وتظاهر بالهزيمة فأفسح له الطريق ليخرج، فعاد تقي الدِّين وانضم إِلى الجيش والتأمت دائرة المسلمين من جديد، فصار “ريمند” وجيشه خارج جيوش الإفرنج المحاصرة، فآثر النجاة وهرب إلى طرابلس، ومات بعد مدة قليلة حَسرَةً وكَمَدًا حينما اتهم بالخيانة.
كما لجأ صلاح الدِّينِ إلى أشعال النَّارِ في الأعشاب اليابسةِ المحيطة بمعسكر الأعداء فانهارت قواهم وقُتِلَ منهم عَدَدٌ كبيرٌ ووقع الباقي بالأسرِ.
قال المؤرخ ابن الأثير المعاصر لتلك الموقعة في تاريخة: “كل من يرى القتلى يحسب أن ليس هناك أسرى” وقال ءاخر: “كَانَّ الفارس من المسلمين يقود ثلاثين أو أربعين أسيرًا في حَبلٍ وَاحِدٍ، وكان المائتان من الإفرنج الأسرى يحرسهم فارس واحد من المسلمين، وَقُدِّرَ عَدَدُ الأسرى بثلاثينَ ألف أسير، مما أثر في كساد أثمانهم في السوق لدى عرضهم للبيع، ووصل الأمر أن يباع منهم أسير بنعل”.
وكان من بين الأسرى معظم قوادهم وملوكهم ومن بينهم “أرناط”. وَعَنَّفَ صلاح الدِّينِ “أرنَاط” على فعلته الشنيعة مع قافلة المسلمين واستهزائه بمقام النبوة وعرض عليه الإسلام فأبى، فاستل سيفه وقال له: “ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم” فضربه تنفيذًا لوعده وبرًا بقسمه.
وإثر ذلك إنهارت الدولة المسماة “أُورشليم” وتمكن السلطان صلاح الدِّينِ من استرجاع جميع مدنها وقلاعها.
وهكذا حَرَّرَ السلطان صَلاَحُ الدِّينِ بَيتَ المَقْدِسِ وَفَتَحَ القُدس، حيث نزل عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتسلمها يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب لمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج وأقيمت الجمعة، فَعَلَت الأصواتُ بالتكبير والتهليل، وكان فتحًا وتحريرًا عظيمًا مهيبًا.
ثُمَّ إنَّهُ قَصَدَ بعد ذلك عسقلان فتسلمها وبدأت المدن تسقط بأيدي المسلمين الواحدة تلو الأخرى لا سيما عكا ويافا وحيفا وصيدا وبيروت وجبيل، ثُمَّ تكاملت لَهُ الفتوح بعد ذلك ففتح جبلة واللاذقية وصفد وحرر بلادًا أخرى كثيرة رحمة الله تعالى عليه.
من وصاياه:
ورد أَنَّهُ أَوصّى أَحَدَ أَولاَدِهِ قَائِلاً: “أوصيك بتقوى الله، فهي رأس كل خير، وءامرك بما أمر اللهُ بِهِ، فَاِنَّهُ سَبب نجاتك، واحذر من الدماء والدخول فيها والتقلُّد بها، فَإِنَّ الدمَ لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالها، ولا تحقد على أحد فإنَّ الموت لا يُبقي على أحد” .
وكان رحمه الله إذا سمع أَنَّ العدوَ دهم بلاد المسلمين خَرّ إلى الأرضِ ساجِدًا داعيًا إلى اللهِ بهذا الدُعاءِ: “إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يَبقَ إلا الإخلاد إليكَ والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل”.
قال القاضي ابن شداد: “رأيته ساجدًا والدموع تتقاطر على لحيته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول، ولم ينقض ذلك اليوم إلا وتأتيه أخبار الانتصار على الأعداء”.
وكان يتخير وقت صلاة الجمعة للهجوم على أعدائه تبركًا بدعاء الخطبة له بالنصر على المنابر.
ذكر وفاته رحمه الله:
استقر السلطان صلاح الدِّين الأيوبي رحمه الله في دمشق سنة تسع وثمانين وخمسمائة وركب مرة فتلقى الحُجّاج ولما رءاهم دمعت عيناه على فواته الحج معهم ثُمَّ عَادَ إلى القلعة وكانت هذه ءاخر ركباته فلحقه ليلة السبت سادس عشر صفر تعب عظيم وغشيته نصف الليل حُمى شديدة وأخذ المرض في التزايد فقصده الأطباء واجتمعوا لديه ينظرون أمره والحمى تثقل عليه حتى أخذته رعشة وأغمي عليه واشتد الخطب في البلد فَعَمَّ الحزن وكثر البكاء وَلَحِقَهُ في اليوم العاشر من مرضه عرق شديد حتى نفذ من الفراش، واشتد مرضه ليلة الثاني عشر من مرضه فحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة يذكره الشهادتين عند الاحتضار، فكان أن توفي السلطان من تلك الليلة في السابع والعشرين من صفر وأخرج بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء في تابوت مسجى وصلى عليه الناس ثُمَّ دفن في قلعة دمشق في الدَارِ التي كان يقيم بها وأنزل في لحده وقت العصر بعد الصلاة من اليوم المذكور ، وقد كانت وفاته – رحمه الله – سنة تسع وثمانين وخمسمائة عن سبع وخمسين سنة، وَخَلَفَ سبعةَ عشر ذكرًا وبنتًا واحدةً. ولم يوجد في خزانته الخاصة سوى دينار وأربعين درهمًا. أقام في السلطنة أربعًا وعشرين سنة، وله مقام ظاهر يزوره المسلمون تبركًا بسيرته العطرة ونهجه السوي.
وقد كان لهذا السلطان المجاهد ثلاثة عوامل هّيَأت لَهُ النجاح بتوفيق اللهِ وكرسته حاكمًا وقائدًا وفارسًا فذًا: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، يزينها جميعًا دِينٌ وَتقوى وورع وحنكة عسكرية، فما هي سنوات حتى استطاع أَنْ يَمُدَّ سلطانه من مصر إِلى بلاد الشَّام وَيُوَحِدَ البلاد والعباد، ويعيد الأرض لأصحابها وللامة قوتها بعد الوهن والضعف الذي أصابها.
رَحِمَ اللهُ السلطان المجاهد صلاح الدِّين بطل وقعة حِطِّين وَمحرر بيت المَقدِس، فقد كان رجل عقيدة وصاحب زهد وتقى، حقق لأُمَةِ الإسلام عِزَّهَا وَقهر أعداءها وجعل كلمة اللهَ هي العليا وكلمة الّذين كفروا السفلى.