قاعدة أصولية – الماء أول خلق الله
اتفق الأصوليون على أنَّ النص لا يُؤول إلا لدليل سمعي ثابت أو دليل عقلي قاطع فقالوا: لا يجوز تأويل النص لغير ذلك وإن ذلك عبث والنصوص تُصان عن العبث، ذكر ذلك كثير منهم كصاحب المحصول.
فبعد هذا يبطل تأويل المؤولين لحديث أولية الماء بأنّ أوليته نسبية لتأييد قولهم: إن أول ما خلق الله نور محمد.
أما تأويل حديث أولية القلم للتوفيق بينه وبين حديث أولية الماء فذلك حق وصوابٌ لأن كلا الحديثين ثابت، وفي هذا مقنع للمتدبر المنصف.
ثم إن أحدهما أقوى من الآخر إسنادًا وهو حديث أولية الماء، فإن حديث أولية القلم دونه في القوة فسلكنا مسلك التأويل لحديث أولية القلم بأنها أولية نسبية وأن أولية الماء مطلقة جريًا على القاعدة: “إذا تعارض مقبولان أي صحيحان جُمع بينهما إن أمكن الجمع” وهنا وجدنا الجمع ممكنًا بالتأويل، فإن قلنا: أولية القلم فهي بالنسبة للكتابة أي أن القلم أول ما خُلق للكتابة، فصح الجمع بينهما وزال التعارض.
قاعدة في التصحيح والتضعيف
العبرة في التصحيح والتضعيف أن يكون من حافظ أي أن يَنُصَّ حافظ على أن هذا الحديث صحيح أو أن يذكر حافظ في كتابه أنه يقتصر فيه على الصحيح كالحافظ سعيد بن السَّكَن فإنه ألَّف كتابًا اشترط فيه الاقتصار على الصحيح سمّاه “السنن الصّحاح”.
ويؤيد هذا ما ذكره الحافظ السيوطي في ألفيته في مصطلح الحديث:
وخذه حيث حافظ عليه نص * أو من مصنف بجمعه يُخَصّ
يعني أنَّ الحديث الصحيح يُعرِف أنه صحيحٌ بنص حافظ على صحته، أو بأن يُذكر في كتابٍ ألفه حافظٌ واشترط فيه أنه لا يذكر في كتابه هذا إلا الصحيح.
وأما غير الحفّاظ فلا عبرة بتصحيحهم ولا بتضعيفهم، فحديث أولية النور المحمدي لم يصححه حافظٌ من الحفاظ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، ولم يُذكر في كتابٍ اشترط فيه مؤلفه الحافظ أنه يقتصر فيه على الصحيح.
وأما مجرد ذكر حديث في كتاب مؤلفه حافظ فليس دليلاً على صحته، فهذا الإمام أحمد بن حنبلٍ شيخ الحفّاظ مع جلالة قدره وهو أحد الأئمة الأربعة المجتهدين ذكر في كتابه المسند ءالافًا من الأحاديث الثابتة الصحيحة وءالافًا من الضعاف، بل تكلم الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني على أربعة عشر حديثًا مما في المسند بأنها موضوعة، فإذا كان هذا حال مسند الإمام شيخ الحفاظ أحمد بن حنبل فماذا يكون مؤلفات مَنْ هو دونه كالحافظ عبد الرزاق الذي صنف كتابه المعروف بالمصنف وكتاب التفسير وكتاب الجامع.
فالذين ذكروا حديث: “أولُ ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر” من المتأخرين كثيرٌ لكنَّ كثرتهم لا تفيدهم شيئًا لأنهم لم يبلغوا درجة الحافظ، إنما بعضهم محدثون لهم إلمامٌ بالحديث وبعضهم ليسوا من المحدثين بالمرة مثل الشيخ يوسف النبهاني فإنه ذكر في بعض مؤلفاته أنه ليس عالمًا فضلاً عن المحدّثيةِ وأدخل في كتابه “أربعين الأربعين” لضعفه في هذا العلم “الأربعين الوَدعانية” المحكوم عليها عند الحفاظ بأنها موضوعة، وهذا ناتج عن قلة اطلاعه في هذا العلم فلذلك خَفِيَ عليه ذلك ولم يعرف أنها موضوعة.
والشيخ يوسف النبهاني قد جازف في هذا الباب مجازفة كبيرة لقوله في ألفيته:
نورك الكل والورى أجزاء * يا نبيًّا من جنده الأنبياء
وفي كتاب “مولد أبي الوفا” أيضًا ما نصه:
خلق الله من النور القديم * نور مصطفى التهامي الأصيل
أتطلق هذه العبارة على ما يرويه مثل هؤلاء؟! وما الذي يدعو إلى هذا التعصب؟ وهل الفضل بالتقدم في الوجود؟
إنما الفضل بتفضيل الله تعالى لمن يشاء، فلو كان الفضل بتقدم الوجود لكان الماء أفضل كل شىء مع أنه من النعم التي امتن الله بها على عباده وذكره في القرءان بقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء/30]، ولكان القلم أيضًا أفضل خلق الله مع ثبوت لفظ “إنه أول ما خلق الله” رواية.
يكفي سيدنا محمدًا بأفضليته على جميع خلق الله ما ذكره الله في القرءان الكريم من أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن به إذا بُعث محمد وهو حي وذلك ما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [سورة ءال عمران/81].