الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا محمد، وعلى ءاله وصحبه وسلم وبعد،
أخي القارئ، اعلم أن العقيدة المنجية هي اعتقاد أن الله موجود بلا مكان ولا يسكن السماء ولا يجلس على العرش كما تقول اليهود والنصارى والمشبهة من الذين يدعون الاسلام. فاعتقاد اهل الحق، ان الله منزه عن التغير والحدوث. فالله كان موجوداً قبل خلق المخلوقات، كان موجوداً قبل المكان، قبل السماء وقبل الجهات، وقبل العرش وقبل الماء، وقبل كل شىء.
وهذا مصداق قول رسول الله: “كان الله ولم يكن شىء غيره”. فالله لا يتغير، موجود قبل الخلق بلا مكان وهو الآن على ما عليه كان. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان”. أما أهل الحق، فقد أجمعوا على تنزيه الله عن المكان والجهات والحد والتغير والحدوث والجلوس والقعود وغيرها من العقائد التي تبثها المشبهة بين المسلمين.
قال الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي الأشعري (505 هـ) ما نصه (1):
“تعالى- أي الله- عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الان على ما عليه كان ” اهـ.
وقال أيضا في كتابه “إحياء علوم الدين ما نصه (2):
“الأصل السابع: العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات، فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدّام أو خلف، وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رجلا، والاخر يقابله ويسمى رأسا، فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرِّجل، حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحت وإن كان في حقنا فوقًا. وخلق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب، فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يمينا والأخرى شمالا، وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرّك إليه فحدث اسم القدّام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها، فالجهات حادثة بحدوث الإنسان.
ثم قال: “فكيف كان في الأزل مختصًا بجهة والجهة حادثة؟ أو كيف صار مختصا بجهة بعد أن لم يكن له؟ أبأن خلق العالم فوقه، ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس، والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس، أو خلق العالم تحته، فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل والتحت عبارة عما يلي جهة الرّجل: وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصّا بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العرض، وقد ظهر استحالة كونه جوهرا أو عرضا فاستحال كونه مختصًا بالجهة: وإن اريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطا في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذيا له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدّر ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبّر، فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء، وفيه أيضا اشاره إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال و الكبرياء تنبيها بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء، فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء” اهـ.
وقالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون: {وإنا فوقهم قاهرون} أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.
فقول الله تعالى اخباراً عن فرعون الكافر {أنا ربكم الأعلى} معناه علو القدر. وكذا قوله {وإنا فوقهم قاهرون} أي فوقية القوة والسيطرة وليس فوقية المكان. فلهذا نص العلماء أن الفوقية والعلو أذا أطلق على الله فالمراد منه علو قدر وفوقية قهر سبحانه وتعالى وليس علو مكان وجهة لأن الله كان قبل الخلق والمكان والجهات بلا مكان كما أجمع كل علماء أهل السنة على ذلك ونص على ذلك ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري.
________________________________
(1) إحياء علوم الدين: كتاب قواعد العقاند، الفصل الأول (1/ 108).
(2) إحياء علوم الدين: كتاب قواعد العقائ، الفصل الثالت، الاصل السابع (1/ 128).