أكابر النَّاس
أما بعد، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم المقداد ابن عمرو على سرية فلما قدم قال له: أبا معبد كيف وجدت الإمارة؟ قال: كنت أُحمل وأُوضع حتى رأيت أن لي على القوم فضلاً، قال: هو ذاك فخُذْ أو دَعْ، قال رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق لا أتأمر على اثنين أبدًا…
فطوبى لهم هؤلاء الأكابر الذين تتلمذوا في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كم كان شأن الآخرة عندهم عظيمًا، فتجد الواحد منهم يحمل الهمّ إذا أوكلت إليه الإمارة أو الرئاسة أو القضاء حتى يقوم بحقها وذلك لما كان في ذلك من المسؤولية عند الوقوف بين يدي الله الذي لا مثل له ولا شبيه له ولا ندَّ ولا نظير…
وها هو الصدّيق أبا بكر لما ولي الخلافة يقول: “قد وُليتُ أمركم ولستُ بخيركم.. إِنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى ءاخذ له بحقه، وإِنَّ أضعفكم عندي القوي حتى ءاخذ منه الحق، أيُهَا النَّاس إِنَمَّا أنَا مُتَّبِع وَلَستُ بمُبتَدِعْ فإن أحسَنتُ فأعينوني وإِن زُغتُ فَقَوِّمُوني”.
وفي أول كلام لعمر ابن الخطَّاب رضي الله عنه بعد الخلافة: “الّلهم إني شديد فليّني، وإني ضعيف فقوّني” ونحروا يومًا جزورًا فأطعمها الناس وغرفوا له طيبها فأتي به فإذا به قدر من سنام ومن كبد فقال: أنَّى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين من الجَزور التي نحرنا اليوم قال: بخٍ بخٍ بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمتُ الناس كراديسها، ارفع الجفنة، وهات لنا غير هذا الطعام، فأتى بخبز وزيت وجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز…
أما عثمان بن عفان رضوان الله عليه فقد كان يقيل في المسجد وهو يومئذ خليفة والناس تقول: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين، ويجئ الرجل فيجلس إليه، وكأنه أحدهم.
جاء ابن التيّاح إلى سيدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وهو في الإمارة فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء فقال: الله أكبر، ثم قام متوكئًا على ابن التيّاح حتى قام على بيت المال فقال: يا ابن التيّاح علي بأشياخ الكوفة. قال: فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم لي تشوفت؟ هيهات هيهات.. يا صفراء يا بيضاء، غرّي غيري، قد بتتك ثلاثًا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير وخطرك كبير ءاه من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق…
ولم يُبق في بيت المال دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتفاعي بكتابٍ كتبه إلي علي بن ابي طالبٍ رضي اللهُ عنهُ وهو خليفة فإنه كتب إلي:
“…فليكن سرورك بما نلت من أمر ءاخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنًا، وليكن همك فيما بعد الموت”.
أحد تلاميذ الشافعي كان يطمع أن يُخلّفه فالشافعي لم يُخلّفه بل خلّف الأولى، فغضب ذلك التلميذ وألّف كتابًا سماه: أخطاء الشافعي، بعض النَّاس حب الزعامة يفسد دينهم.
نسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة وحسن الختام وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.