اليقين بنصر الله في هجرة رسول الله
الحمد للهِ الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والصلاة والسلام على إمام التقى والداعي إلى الهدى والرسول المجتبى سيدنا محمّد وعلى ءاله وأصحابه أولي الوفا.
أما بعد إخوة الإيمان، فقد أظلنا عام هجري جديد يذكرنا بهجرة عظيمة لنبي عظيم كان بين أقوام يئدون البنات فصاروا بالإسلام رحماء تسكن المحبّة قلوبهم لذاك النبي العظيم الذي أنقذهم من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديّان، فانتشر النور في أركان المعمورة فصيّر الظلام ضياءً، والشقاء هناءً، والضلال إيمانًا، والعداوة ودادًا، والغلطة رأفة. ومع هذه الذكرى العظيمة يستشعر المسلم التاريخ الإسلامي الذي بدأ من الهجرة المباركة والدور البارز الذي كان لهذه الهجرة في نشر الحق والعدل في أقطار الدنيا.
فقد بدأت معالم المدينة الإسلامية بكل صفائها ونقائها تظهر جلية واضحة في يثرب بعد أن استقر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحملت اسم طيبة الطيّبة والمدينة المنورة فكانت نواة للدولة الإسلامية التي ما لبثت أن اتسعت رقعتها بعد فتح مكة المكرمة وانتشار دين الله في ربوع الجزيرة العربية.
هذا التوفيق الرباني الذي حصد المسلمون ثماره كان جزاء الصبر وصدق الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والإيمان العظيم الذي غمر قلوب أصحابه وفاض على جوارحهم فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل الدعوة إلى الحق والتسامح والخير.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف ذلك الموقف الإيماني الراسخ الذي لا تحوّله عنه كنوز الأرض وأموال الدنيا وهو النبي المعصوم والرسول المجتبي فيقول لعمه أبي طالب حين أتاه يطلب منه الكف عن التعرّض لقومه وما يعبدون “واللهِ يا عَم لو وضعوا الشمسَ في يَميني والقَمرَ في يَساري على ان أترُكَ هَذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِرُهُ الله سبحانه وتعالى أو أهلِكَ دونَه”.
إنه موقف الواثق المطمئن إلى وعد الله نبيّه بالنصر المبين المؤزّر وهو سبحانه القائل في القرءان الكريم: (إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثنَينِ إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحزَن إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة /40.
فبيّن الله تعالى أن هذه الهجرة المباركة التي أمر الله بها نبيه كانت من أوائل علامات النصر وأمارات الظَّفَر الذي تحقق فيما بعد.
من هنا يتضح لكل ذي عقل سليم أن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن هروبًا من أذى قومه ولا خوفًا من عدوان العادين وظلم الظالمين وجبروت المتجبرين ولم تكن فرارًا من ظغيان الطاغين وعَسَف المتعسفين؛ وكأننا ونحن نتذكر تلك المناسبة العظيمة نرى أبا بكر وقد ءاوى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور وجاءت العنكبوت فنسجت على بابه وباضت حمامة ورقدت عند الباب يقول للنبي الأعظم والرسول الأكرم حين وصول رجال قريش إلى الغار: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فيجيبه صلى الله عليه وسلم بيقين الأنبياء: “يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”. فكانا في عصمة الله وحفظه ورعايته وكلاءته.
ويكفي المتأمل المتدبر لمعاني الهجرة النبوية أن يتذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في شدة شديدة ومحنة عظيمة يبشر سراقة بن مالك وقد لحق به ليتنسَّم أخباره فيلقي بها إلى قريش بأنه سيلبس سواري كسرى عظيم الفرس، فإذا بالمعجزة المحمّدية تتحقق ويفتح المسلمون بلاد فارس في زمن الفاروق عمر ليكون هذان السواران من نصيب سراقة، فهل بعد ذلك أكبر من هذا اليقين.
وإذا كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ليست هروبًا من بطش قريش وتهديدات صناديدها، فإنها أيضًا لم تكن في الوقت نفسه إياسًا من إيمان قومه وعشيرته ومن حولهم وهو المبعوث للعالمين من إنس وجن بشيرًا نذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهو المأمور كسائر أنبياء الله بالتبليغ لما أمره الله بتبليغه، فقد شاء الله سبحانه وتعالى ومشيئته نافذة في جميع مراداته أن تتحول هذه الهجرة المباركة إلى نصر عزيز للإسلام وفتح مبين ما لبث أن عَمَّ أرجاء واسعة من البسيطة.
كل هذا دفع الخليفة الراشد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لكي يتخذ من الهجرة المحمّدية تاريخًا للمسلمين حيث كانت يوم الثلاثاء لثمان خلون من شهر ربيع الأول وأول شهر في السنة التي هاجر بها النبي عليه الصلاة والسلام هو المحرم وكان يوم الخميس بدايته.
وقد ذكر السيوطي في كتابه “الشماريخ في علم التاريخ” أنّ عثمان بن عفّان رضي الله عنه قال: “أرِّخوا من المحرّم أول السنة، وهو شهر حرام، وهو أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس عن الحج”.
ما أحوجنا ونحن نقرأ قصة الهجرة المباركة أن نفهم دلالاتها وعِبرها، ونأخذ منها ما ينير سبيلنا، ويغذي أجيالنا المتعطشة للمعرفة والثقافة الصافية. فالمنهج الذي جمع الرسولَ الكريم صلى الله عليه وسلّم وصاحِبَه الصديق كان معرفة الحق وسلوكَ طريقه فأصبح “غار حراء” مدرسة تعلم الصبر وترشد إلى السعادة بدواء ( لاَ تَحزَن) وتُنْبِىءُ عن عزّ الدنيا ورفعة الدين بعقيدة (إِنَّ اللهَ مَعَنَا) هو حافظنا وهو ناصرنا وعليه التكلان.
هِجْرَتُك يا رسولَ الله درس يسطره التاريخ شمسًا منيرة تُرشد وتهدي، وعبرًا وحِكمًا تدل وتسدد. هجرة بأمر الله لنشر الخير الذي أعطاكه الله، فَسِرْتَ في ركب العزيمة، وحملت لواء الدين، وتآخى الناس تحت راية الحبّ في الله، مهاجرين وأنصارًا، ولم تفرقهم الدنيا، بل جمعتهم الآخرة، وكلهم رجاء أن يلقوك فيها، ويحشروا تحت لوائك، ويشربوا من حوضك، وتكون أنت إمامهم فيها كما كنت إمامهم في حياة خرجوا منها مؤمنين موحّدين.
ما أحوجنا في ذكرى الهجرة النبوية المباركة أن نقتدي برسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونوحِّدَ صفوفنا، ونضاعف جهودنا، ونجمع كلمتنا لمواجهة المخاطر والتحديات؛ وما أحوجنا أن نسعى نحو الخير، وأن نكون متعاونين في وجه من يريد بنا الشر والفتنة.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العام عام خير وبركة على الأمة، وأن يوحد شملنا ويسدد خطانا، وأن يوفقنا لما فيه خير هذه الأمة وأن يوحد شملنا تحت راية الحق والعدل، وكل عام وأنتم بخير.