قِصَّةُ سيدنا سليمان عليه السلام مع الفلاح والنملة والطيور
إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهدِيهِ ونشكرُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ ولا مثيلَ لهُ ولا جسمَ ولا أعضاءَ لهُ ولا شكلَ ولا صورةَ لهُ، ولا حدَّ ولا مكانَ لهُ، جلّ ربِّي لا يُشبهُ شيئًا ولا يُشبهُهُ شىءٌ ولا يحِلّ في شىءٍ ولا ينحلُّ منهُ شىءٌ ، ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهو السميعُ البصيرُ .
وأشهدُ أنّ سيّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيّهُ وحبيبُهُ، بلّغَ الرِّسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصحَ الأمّةَ ، فجزاهُ اللهُ عنّا خيرَ ما جزى نبيًّا منْ أنبيائِهِ، الصلاةُ والسلامُ عليكَ يا سيّدي يا رسولَ اللهِ ، أنتَ طبُّ القلوبِ ودواؤها، وعافيةُ الأبدانِ وشفاؤها، ونورُ الأبصارِ وضياؤها، الصلاةُ والسلامُ عليكَ سيّدي يا محمّد، يا محمّدُ ضاقتْ حيلتُنا وأنتَ وسيلتُنا، أدرِكنا يا رسولَ اللهِ، أدركنا بإذنِ اللهِ.
أما بعدُ عبادَ اللهِ فإني أوُصيكُمْ ونفسِي بتقوَى اللهِ العليِّ القديرِ القائلِ في مُحكمِ كتابِهِ: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ سورةُ يوسفَ/ 111 .
اعلَموا رحمكُمُ اللهُ أنّ أفضلَ الخلائقِ عُلْوِيِّها وسُفلِيِّها الأنبياءُ لِما أعطاهُمُ اللهُ منَ الصبرِ والتُّقى، وإنّ أحسنَ القَصَصِ قَصَصَهُمْ لِما جعلَ اللهُ فيها منْ مواعظَ وعِبَر. وبالاطلاعِ على قَصَصِ حياتِهم صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليهمْ أجمعينَ وما حَفَلَتْ بهِ منْ أحداثٍ واشْتَمَلَتْ عليهِ منْ أفعالٍ لدليلاً لنا نَنْهَجُهُ ونستنيرُ ونستعينُ بهِ لِلوُصولِ إلى الإيمانِ الكاملِ الذي هو سبيلُ النّجاةِ والفوزِ في الآخرةِ ، وكلامُنا اليومَ بإذنِ اللهِ ربِّ العالمينَ عنْ سيّدِنا سليمانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. يقولُ ربُّ العزّةِ في مُحكمِ التنْـزيلِ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَـنُ دَاوُودَ وَقَالَ يَـأَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ سورةُ النملِ/16 ، أيْ كأنّهُ ورِثهُ وإلا فالنُّبُوَّةُ لا تورثُ .
فلقدْ علّمَهُ اللهُ تعالى مَنطِقَ الطيرِ ولغتَهُ وسائرَ لغاتِ الحيواناتِ، فكانَ يفهمُ عنها ما لا يفهمُهُ سائرُ الناسِ. رُوِيَ أنّهُ صَاحَ هُدْهُدٌ فقالَ سليمانُ عليهِ السلامُ: يقولُ استغفِروا اللهَ يا مُذنِبُونَ، وصاحَ خُطّافٌ فقالَ يقولُ: قدِّموا خيرًا تجدوهُ، وصاحتْ رَخْمَةٌ (وهوُ طائرٌ أبقَعُ يشبِهُ النَّسْرَ في الخِلقَةِ) فقالَ: تقولُ سبحانَ ربِّيَ الأعلى ملءَ سمائِهِ وأرضِهِ، وصاحَ قُمْرِيٌّ (وهو نوعٌ من الحمامِ) فأخبرَ أنّهُ يقولُ سبحانَ ربِّيَ الأعلى ، وقالَ: الحِدَأَةُ تقولُ كلِّ شىءٍ هالِكٌ إلا اللهُ ، والقَطاةُ تقولُ مَنْ سكتَ سَلِمَ ، والدِّيكُ يقولُ اذكروا اللهَ يا غافلونَ ، والنَّسْرُ يقولُ يا ابنَ ءادمَ عِشْ ما شِئْتَ ءاخرُكَ الموتُ ، والعُقابُ يقولُ في البعدِ مِنَ الناسِ أُنْسٌ (أي مَنْ بعضِ الناسِ) ، والضِّفدِعُ يقولُ سبحانَ ربِّي القُدُّوسُ .
وسَخّرَ اللهُ تعالى لنبِيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ الرِّيحَ فكانتْ تنقلُهُ إلى أيِّ أطرافِ الدنيا شاءَ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ سورةُ ص/36 ، وذلك تبليغُ المَلَكِ له عن الله .
وأوْحَى اللهُ تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض: “إني قدْ زدتُ في مُلكِكَ أن لا يتكلمَ أحدٌ بشىءٍ إلا ألقَتْهُ الريحُ في سَمعِكَ” .
فيحكى أنه مر بفلاح يحرث أرضه، مرّ سليمان وهو على بساط الريح يسير بين السماء والأرض فنظر اليه الفلاح وقال: “لقد أوتي ءال داود ملكًا عظيمًا” فألقت الريح كلام الفلاح في أذن سيدنا سليمان عليه السلامُ ، فنَزل سليمانُ عليه السلام ومشى إلى الفلاح وقال: “إني جئت إليك لئلا تتمنّى ما لا تقدر عليه” ثم قال: “لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير من الدنيا وما فيها” .
ومنْ نِعَمِ اللهِ تعالى على سليمانَ عليهِ السلامُ أنّ جُندَهُ كانَ مؤلّفًا من الجنِّ والإنسِ والطيرِ وكانَ سليمانُ عليهِ السلامُ قدْ نظّمَ لهمْ أعمالَهم ورتّب لهم شئونَهم فكانَ إذا خرجَ خرجوا معهُ في موكبٍ حافلٍ مُهيبٍ يحيطُ بهِ الجندُ والخدَمُ منْ كلِّ جانبٍ وأخبرَ اللهُ تعالى عنْ عبدِهِ ونبيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ أنّهُ ركِبَ يومًا في جيشِهِ المؤلّفُ منَ الجنِّ والإنسِ والطيرِ ، يقولُ ربُّنا في القرءانِ العظيمِ : ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ سورة النمل/18 .
فهذِهِ النَّمْلَةُ ( واسْمُها طاخية أو منذرة ) تكلَّمَتْ بِصَوْتٍ أَمَرَتْ فيهِ أُمَّةَ النَّملِ في ذلك الوادِي أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُم حَذَرًا مِنْ أَنْ يُحَطِّمَهُمْ سليمانُ عليهِ السلامُ وجنودُهُ أثناءَ سيرِهِمْ، لَقَدْ أَلْهَمَ اللهُ عَزَّ وجلَّ تلكَ النَّملَةَ معرِفَةَ نبيِّهِ سليمانَ عليهِ السلامُ كما أَلْهَمَ النملَ كثيرًا مِنْ مَصالِحِهَا ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَـأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ سورة النمل/18 .
﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ لا يَعلَمونَ بِمَكانِكم، أي لَوْ شَعَرُوا لَمْ يَفْعَلوا، قالَتْ ذلك على وَجْهِ العُذْرِ واصِفَةً سليمَانَ وَجُنودَهُ بِالعَدْلِ، فَسَمِعَ سليمانُ قَوْلَها مِنْ ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ فَتَبَسَّمَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مِنْ قَوْلِها مُتَعَجِّبا مِنْ حَذَرِها واهتِدائِهَا لِمَصالِحها وَنَصيحَتِها لِلنَّمْلِ فَأَمَرَ سليمانُ عليهِ السلامُ الريحَ فوَقَفَتْ لِئَلاَّ يذعرنَ حتى دَخَلْنَ مساكِنَهُنَّ أوقَفَ سليمانُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ موكبَهُ العَظِيمَ حَتَّى يَدْخُلْنَ أَيِ النملُ إلى بُيوتِهِنَّ ودَعَا رَبَّه ، قَالَ تعالَى إِخْبَارًا عن سِيّدنا سليمانَ: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ﴾ سورة النمل/19
﴿رَبّ أَوْزِعْنِي﴾ أي أَلْهِمْنِي .
هذا كلُّهُ من فضلِ اللهِ تعالَى عَلَى عبدِهِ ونبيِّه سليمانَ عليهِ السلامُ الذِي كانَ عَبدًا مطيعًا أوّابًا داعيًا إلى عبادةِ اللهِ وحدَه لا شريك له وكانَ مِنْ عبادِ اللهِ الشَّاكِرينَ، يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَـنَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ سورة ص/ 30 .
هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ سُبحانَه وتَعالَى وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّـئَاتِ أَعْمَالِنا، مَن يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومن يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه صلَّى اللهُ عليهِ وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
أما بعد عبادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ ونفسِيَ بِتَقْوَى اللهِ العَلِيِّ العظيمِ. واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ ﴿إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُّونَ على النبِيِ يَا أيُّهَا الذينَ ءامَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلّموا تَسْليمًا﴾ اللّـهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيم وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اتَّقـوا رَبَّكـُم إنَّ زلزَلَةَ الساعَةِ شَىءٌ عَظِيمٌ يومَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى ومَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ﴾.
اللّـهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فبجاه محمّد استجبْ لنا دعاءَنا، اللهم بجاه محمّد اغفرِ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، اللّـهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّـهُمَّ بجاه محمّد استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعَدْلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبَغي، يعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذَكَّرون. اذكُروا اللهَ العظيمَ يذكرْكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ، واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا، وَأَقِمِ الصلاةَ.