Search or ask ابحث او اسأل

كتاب: القول الفصل المسدّد في صحّة حديث يا محمّد

القَوْلُ الفَصْلُ الْمُسَدَّد في صِحَّةِ حَدِيثِ يا مُحَمَّد

هذا الكتابُ يلتزمُ طبعَهُ مؤلِّفُهُ

الطبعةُ الأولى

2010ر ـ1431هـ

للاستفسار والمراسلة:

Ihyaa.series@gmail.com

طرابلس – لبنان

 

 

 

 

الحمدُ للهِ ربِ العالمين والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ أفضلِ العالَمين.

اللـــهمَّ …

بعدَ القَبولِ أَوصِلْ ثوابَ هٰذا العملِ كلَّه إلى رُوحِ  صَفْوَةِ الْوُجُودِ سَيِّدِي رَسولِ اللهِ الْمَحْمُودِ وَمِنْهُ إِلَى كُلِّ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وإِلَى مَشَايِخِي، ثُمَّ إِلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ فوقَ الأَرْضِ وتَحْتَ الأرضِ، ءامين عَسَى أنْ يَنْفَعَهُم في الْقَبْرِ ويَوْمَ الْعَرْضِ، يا مَنْ رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ، وأنتَ حَسْبِي مِنْ كُلِّ شَىْءٍ، وأَخُصُّ مِنْهُم شَيْخِي وسَيِّدِي وَمَولايَ سُلْطَانَ عُلَمَاءِ الزَّمَانِ صاحِبَ الْفَضْلِ بعدَ اللهِ 

قد كنتَ عنديْ الصـالحينَ وأُمَّةً … خضَعَتْ لِعِزَّتِها حكاياتُ الأُمَمْ

يا سيِّدي السلطانُ بَعدَكَ ليسَ لي … إلا الوفاءُ إلى المَمَاتِ معَ الخدَمْ

يا صفحةً بيضـاءَ خـيرٌ  مِلْؤها … مكنُونةً في الطُهْرِ تَغْشاها النِعَمْ

يا كعـبةَ العِـلمِ التي طافَتْ بها … كـلُّ الأدِلّـةِ يا لَذَيّاكَ الحَرَم

خادمُ المسلمين الفقيرُ إلى اللهِ الرءوف مجدي غسان معروف


مقـدّمة

بسمِ اللهِ والحمدُ للهِ وصلى اللهُ وسلَّم على سيّدِنا رسولِ اللهِ .

وبعدُ فهذا كتابٌ مفيدٌ نافع، وفيما علِمتُ لمسائِلِه جامع، أخذَ من البابِ بلُبابِه، فجاءَ مِفتاحَ الغايةِ في بابِه، دفاعًا عن سُنّةِ الرسولِ الأعظم، صلَّى عليهِ مولانا وسلَّم، وعملاً بقولِه طاهرِ الأنفاس: (حتى متى تَرِعُون عن ذكرِ الفاجر، اذْكُرُوهُ بما فيهِ حتى يحذَرَهُ الناس) رواه الطبراني بإسناد حسن، فحذَّرْتُ وجوبًا مِمّن خاضَ جَهْلاً في السُنَن، وكانَ على شَرِّ سَنَن، وبيَّنتُ فيهِ طُرُقَ الحديثِ الثلاثة، وهي ساطعةُ الدِلالةِ على جوازِ الاستغاثة، وذكرتُ فيهِ مِن نفائسِ القواعدِ، ومن عظيم الفوائدِ،لم يكن قصيرًا فيُخِلّ، بل طويلاً دون أن يُمِلّ، بأسهلِ لفظٍ وأوضحِ عبارة، وكي يَعُمَّ النفعُ لم أكتفِ بالإجمالِ والإشارة، وقد تجدُ فيهِ النَصَّ ذا التكرير، لأنّه قاعدةٌ لها من الأحكامِ الكثير، إذا تكرَّر نظرُك فيه وتجدَّد، عرفتَ أنه:

)القَوْلُ الفَصْلُ المُسَدَّد في صِحَّةِ حَدِيثِ يا مُحَمَّد(

أرجو من اللهِ فيه التوفيق، والإعانةَ على عدمِ التقصيرِ في التحقيق، إنه سميعٌ قريب، مغيثٌ معينٌ مُجيب، وهو نِعْمَ المولى والنصير، وبالنوايا خبير بصير.

 

أستَغفِرُ اللهَ من قولٍ بلا عَمَلٍ

لقد نسَبتُ به نَسْلاً  لِذِي عَقَمِ

 

أعوذُ باللهِ السميعِ العليمِ منَ الشيطانِ الرجيم

 

بسمِ اللهِ خيرِ الأسماء، والحمدُ لله ملءَ كلِّ أرضٍ وسماء، ومِلْءَ ما شاء، والصلاةُ والسلامُ على شمسِ الأنبياء، ملجأِ الفقراءِ ومُغِيثِ الضُعَفاء، الذي جاء بالحقِّ فأنعم بما به جاء، وبعد:

فلم يَزَلِ المسلمونَ قديمًا وحديثًا مُبتلَيْنَ بفِرَقٍ مِن أهلِ الضلال، ولم تَزَل هذه الفرَقُ تُبطِلُ الأدلةَ الصحيحةَ على كلِّ حال، وتطعنُ فيها دِلالةً ومعنى، وتُمعِنُ في ردِّ ثابتِ الأحاديثِ سَنَدًا ومَتْنا، ولا تعودُ عن غَيِّها، إذ كانتِ البدعُ وِردَ رِيِّها، ولكنّ اللهَ تعالى سخّرَ لهذا الدينِ من يدافعون عنه ثابتين، وعلى الحقِّ إلى يومِ القيامةِ ظاهرين، لا يضرُّهم انتحالُ المبطِلين، ولا تأويلُ الجاهلين، وقد قيل عند الأئمةِ المتقدِّمين:

ولِلحديثِ رجالٌ يُعرَفونَ بهِ~وللدَّوَاوينِ كُتّابٌ وحُسّابُ

ومن جملةِ الأدلةِ التي يَستدِلُّ بها أهلُ السنةِ على جوازِ نداءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حديثٌ يُعرفُ بحديثِ “ابنِ عمر” أو حديثِ “خَدَرِ الرِجلِ” أو حديثِ “يا محمد” وهو ما رواه الإمامُ البخاري بإسنادٍ صحيحٍ في كتابِه “الأدب المفرد” قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيانُ عن أبي إسحاقَ – أي السبيعي – عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ قال: (خَدِرَتْ رِجْلُ ابنِ عُمَرَ فقال  له رَجُلٌ اذكُر أَحَبَّ الناسِ إليكَ فقال “يا محمد”).

هذا حديثٌ صحيحُ الإسنادِ وهو إسنادٌ في صحيحِ البخاري إلى أبي إسحاق، قال الحافظ ابن رجبٍ في شرح البخاري بعد قول البخاري: أخبرنا أبو نعيم عن سفيان عن أبي إسحاق.

ومعناه:  أن هذا الحديث سمعه البخاري من أبي نعيم عن سفيان (هو الثوري) بهذا الإسناد. انتهى، أي عن أبي إسحاق.

فحديثُ خَدَرِ الرِجلِ صحيحٌ، أبو نُعَيمٍ هو الإمامُ الفضلُ بنُ دُكَين الثقةُ الجبلُ، وسفيانُ جزمًا هو الثوري الإمامُ الثقة صاحبُ المذهبِ، وعادةُ الإمامِ أبي نعيم أن يُميّزَ بين السفيانَين، فيقول عن الثوري (سفيانُ) وعن ابنِ عُيَيْنةَ (ابنُ عيينة) أو يسميه (سفيانَ بنَ عيينةَ)، وقد وقع ذلك في عدةِ مواضعَ في صحيح البخاري، فحيث يُطلِقُ أبو نعيم عن سفيانَ فإنه الثوري.

قال الذهبي في سِيَر أعلامِ النبلاء عند الكلامِ عن الحَمّادَين:

ويقع مثلُ هذا الاشتراكِ سواءً في السُفيانَين، فأصحاب سفيان الثوري كبارٌ قدماءُ وأصحابُ ابنِ عيينةَ صغارٌ لم يُدركوا الثوري، فمتى رأيت القديمَ قد روى فقال: حدثنا سفيان، وأَبْهَم فهو الثوريُّ، وهم كَوَكِيعٍ وابنِ مَهديٍّ والفِريابيِّ وأبي نُعيم.انتهى

فهذا نصٌّ في المسئلةِ فاحفظه.

وقال شيخُ الإسلامِ الحافظُ ابنُ السُبْكيِّ في الطبقاتِ الكبرى في ذِكرِ جوابِ المِزّيِّ على سؤالٍ ورَدَه:

وأما سفيانُ الذي روى عنه عبدُ الرزاقِ فهو الثوريُّ لأنه أخصُّ به من ابنِ عيينة ولأنه إذا روى عن ابنِ عيينة ينسُبُه وإذا روى عن الثوري فتارةً ينسُبه وتارة لا ينسُبه وحينَ لا ينسُبه إما أن يكتفيَ بكونِهِ روى له عن شيخٍ لم يروِ عنه ابنُ عيينة فيَكتفي بذلك تمييزًا وهو الأكثرُ وإما أن يكتفيَ بشهرتِه واختصاصِه به، وهذه القاعدة جاريةٌ في غالبِ مَن يَروي عن سَمِيَّيْن أو يروي عنه سَمِيّان.انتهى

والسَمِيّانِ القَرينانِ يشتركانِ في الأخذ عن المَروِيِّ عنه، والتمييزُ بينهما يُدرَكُ بالتسميةِ أو الاصطلاحِ أو الاختصاصِ أو معرفةِ الرواةِ المكثِرين عن أحَدِهم دونَ الآخرِ، ومثلُ قولِهما تفصيلُ الحافظ ابنِ حجرٍ في الفتح ولا بأس بإيرادِه كاملاً لعظيم فائدتِهِ:

قولُه: حدثنا قبيصةُ هو ابن عُقبةَ وسفيانُ هو الثوري وزعم أبو نعيم في المستخرَج أن لفظَ قَبيصةَ هنا تصحيف ممن دون البخاري وأن الصواب حدثنا قُتيبة وعلى هذا فسفيانُ هو ابن عيينة لأن قتيبةَ لم يسمع من الثوري، لكن لا أعرف لإنكاره معنى إذ لا مانع أن يكون عند السفيانين وقد أخرجَه المصنفُ في الأدبِ من طريق يحيى القطانِ عن سفيان الثوري.انتهى

وقال أيضا في الفتح: قوله في السند (حدثنا أبو نُعَيمٍ) يريدُ الفضلَ بنَ دُكَينٍ الكوفيَّ الحافظَ المشهورَ القديمَ وليس هو الحافظَ المتأخرَ صاحبَ الحِلْيةِ والمستَخرَجِ، وقولُه (حدثنا الأعمشُ) كذا للجميع إلا لأبي عليٍ بنِ السَكَن، فوقع عنده (حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان) وهو الثوري (حدثنا الأعمش) زاد فيه الثوري، قال أبو علي الجَيّانيُّ: والصوابُ قولُ مَن خالفَه من سائرِ الرواةِ، ورأيت في رواية القابِسي عن أبي زيد المَرْوَزي (حدثنا أبو نعيم) أُراهُ حدثنا سفيان الثوري (حدثنا محمد) فحذف لفظ قال بين قوله أُراه وحدثنا وأراه بضم الهمزة أي أظنه، وأبو نعيمٍ سمع من الأعمش ومن السفيانَين عن الأعمش، لكنَّ سفيانَ المذكورَ هنا هو الثوريُّ جزمًا.انتهى

فقد رأيتَ هنا التمييزَ بين المُهمَلَين كيف يكونُ والله الموفق.

ومثالُ هذا الإطلاقِ عن البخاريِّ نفسِه في الأدبِ المفرد قولُه: حدثنا محمد ابن كثير قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب …. الحديثَ، ومحمد بن كثير العبدي هذا شيخُ البخاري روى عن الثوري فقط، ولم يذكروا له رواية عن ابن عيينة لا في الكمال ولا تهذيبه ولا في تهذيبِ التهذيب ولا في الجرحِ والتعديل ولا في الكاشف ولا في الميزانِ ولا لسانِه، وقال السَمْعانيُّ: أبو عبدِ اللهِ محمدُ بن كثيرٍ العَبْدي من ثقات البصرة سمع سفيانَ الثوريَّ وشعبةَ ابنَ الحَجّاج وإسرائيلَ وعبدَ اللهِ بنَ المبارك.انتهى

وما وقع للحافظ العيني أنه محمدُ بنُ كثيرٍ عن سفيانَ بن عيينة فوهم أو تحريفٌ في النسخ، وقد صرح القسطلاني في إرشاد الساري كغيره بأنه الثوري بعينه في الموضعين، وكذلك ما وقع عند الإمام الباجي رضي الله تعالى عنه في التجريح والتعديل: محمد بن كثير أبو عبدِ اللهِ العبديُّ البصريُّ أخو سليمانَ أخرجَ عنه عن الثوريِّ والأعمش.انتهى

فالعبارةُ خطأ فإنها “عن الثوري وشعبة” أو “عن الثوري عن الأعمش” والأقربُ الأولُ لإرادتِهِ ذكرَ الثاني الذي روى عنه. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومن هذا قوله في الأدب المفرد: حدثنا قَبيصةُ قال حدثنا سفيانُ عن سهيلِ بن أبي صالحٍ …. الحديث

فقبيصةُ أيضًا لم تُذكَر روايتُه إلا عن سفيانَ الثوريِّ وكان صغيرًا جدًا.

فهذا ما يطلقه الإمام أبو نُعَيمٍ الفضلُ بن دُكَينٍ ويريدُ به سفيانَ الثوريَّ، وفي كلِّ حالٍ سمع منه قبلَ ما قيلَ عنِ اختِلاطه فدَعوَى الاختلاطِ هنا باطلةٌ في كلِّ حال.

وهذا بابٌ واسعٌ اقتصَرتُ فيه على ما ذكرتُه للفائدةِ وحَسْمًا للباب.

أما أبو إسحاقَ السبيعيُّ فهو حافظ ثقة متين، إلا أن في روايته تفصيلاً من حيث ما قيل عن اختلاطِه وتدليسِه، وهذا هو مطعنُ المخالفين في الحديث وسيأتي الكلام عليه مفصَّلاً بإذن الله.

أما عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ فروى عن مولاه ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وهو ثقة، قال الحافظ في تهذيب التهذيب: روى عنه أبو إسحاق السبيعيُّ ومنصورُ بنُ المعتمرِ وأبو شيبةَ عبدُ الرحمٰنِ بنُ إسحاقَ الكوفي وحماد بن أبي سليمان. ذكره ابنُ حِبّانَ في الثقاتِ، قلت: وقال النسائيُّ ثقةٌ.انتهى 

ويحتجُّ المخالفون بقول الإمامِ يحيى بنِ معينٍ: “لا أعرفُه”، والجوابُ أولاً أن غيرَه عرفَه، ومَن حفِظ حُجةٌ على من لم يحفَظْ، وهذه قاعدةٌ مقررةٌ من قواعدِ الفقهاءِ والمحدِّثين كما قال العَجْلُونيُّ في كشف الخفاءِ وغيرُه، لكنّ المخالفينَ مِن ظُلمِهم يتمسكون بكلِّ طعنٍ فيما لا يوافقُ مشرَبَهم نسألُ اللهَ السلامة.

وليست هذه القصةُ صحيحةً ويظهرُ ذلك يا رعاك اللهُ بقليلٍ من التمعُّنِ إن شاء الله فيما سأقولُه:

العبارةُ بحروفِها في تاريخِ ابنِ مَعِينٍ روايةِ الدُّورِيِّ هي التالي:

سمعت يحيى يقولُ: الحديثُ الذي يَروُونَه (خَدِرَتْ رِجْلُ ابنِ عمرَ) وهو أبو إسحاقَ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ.

قيل ليحيى: مَن عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ؟ قال: لا أدري شكَّ العباسُ سعيدٌ أو سعدٌ.انتهى

فهاتان جملتان مستقلَّتان، الثانيةُ مُستأنَفَةٌ لا تَعلُّقَ لها بالأُولى، وليس المقصودُ منها عبدَ الرحمٰنِ بنَ سعدٍ مولى ابنِ عمر، إنما هذا وهمٌ من راوي التاريخِ فظنَّهما واحدًا فجمع بين العبارتين ودليلُه التالي:

قولُ الدارميِّ في تاريخِ ابنِ معينٍ: قلتُ فعبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ المَدَنِيُّ الذي يَروي عنه ابنُ وهبٍ ما حاله؟ فقال: لا أعرفه.انتهى

وقال ابن عَدِيٍّ في الكاملِ: عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ المقعدُ مَدِيني

حدثنا محمد بن عليٍّ ثنا عثمانُ بنُ سعيدٍ (الدارمي) قلتُ: ليحيى بنِ مَعينٍ: عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ يروي عنه ابنُ وَهبٍ ما حالُه؟ فقال: لا أعرفه.

قال الشـيخ – أي ابنُ عَديٍّ – فقـولُ ابـنِ مـعينٍ في هذه الـحكايةِ إنّ عبدَ الرحمٰنِ بنَ سعدٍ لا أعرفه، فإن كان أراد ابنُ معينٍ بقولِه: يروي عنه ابنُ وهبٍ أي أن حديثَه يرويه ابنُ وهبٍ فنَعَم، وإنْ كانَ قولُه يروي عنه ابنُ وهبٍ نفسُه فلا شىءَ لأن عبدَ الرحمٰنِ بنَ سعدٍ يروي عنه الزهريُّ ويروي حديثَه.انتهى كلامُ ابنِ عدي، أي ويروي حديثَ الزهريِّ عنهُ ابنُ وهبٍ بواسطة.

وقال الحافظ المزِّيُّ في تهذيب الكمال بصيغة الجزم: عبد الرحمٰن بن سعد الأعرج أبو حميد المدني المقعد مولى بني مخزوم …. قال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين لا أعرفه.انتهى

فروايةُ الدُوريِّ عن ابنِ معينٍ في تاريخِهِ فيها وهم وعدمُ ضبطٍ لأمورٍ منها:

أنّ الدارمي سألَه بنفسِه عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ المقعدِ المدينيِّ، بينما الدوريُّ ينقُل بدليلِ قولِه: (قيل ليحيى)، وهذا دليلُ عدمِ ثبوتِ سماعِهِ لها لأنه لو كان كذلك لعرف أنه المقعدُ المدِينيُّ، فالظاهر أنه عرف بعدَ ذلك أن ابنَ معينٍ سُئلَ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ فظنه هذا فجمع بينهما على أنهما واحدٌ، وفي مثل هذا ألَّفَ العلماءُ في أوهام الجمعِ والتفريق أي الجمعِ بينَ متعدِّدَين فأكثرَ على أنه واحد، والتفريقِ بين واحدٍ بجعلِهِ أكثرَ.

ومنها شكُّ الدُوريِّ في اسمِهِ كما مرَّ (شكَّ العباس سعيدٌ أم سعدٌ) دليلٌ على عدمِ ضبطِ هذه المسئلة.

ومُفادُها معرفةُ ابنِ معينٍ لحديث ابنِ عمرَ بدليلِ قولِه: الحديثُ الذي يَروُونَه (خَدِرَتْ رِجْلُ ابنِ عمرَ) وهو أبو إسحاقَ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ.انتهى فهذا دليلُ معرفةٍ له، ولكنْ واللهُ المستعانُ حصل هذا الوهمُ فأُلحِقَت بها تلك العبارةُ وهي إنما في حقِّ ابنِ سعدٍ المقعدِ المديني وهو أبو حُمَيدٍ الأعرجُ.

فابنُ عَدِيٍّ أثبتَ عن ابنِ معينٍ من روايةِ الدارميِّ أنه لم يعرف عبدَ الرحمٰنِ بنَ سعدٍ المُقعدَ المديني، وهو يروي عنه الزهري وغيرُه، ومقرَّرٌ في المصطلح أنّ التمييزَ بينَ متَّفِقَي الاِسمِ يكونُ بأمورٍ منها النسبةُ أو اللقبُ.

ويؤيد هذا قول السخاوي في التحفة اللطيفة:

عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ الأعرجُ: أبو حُميد مولى بني مخزومٍ، المدنيُّ المقعدُ، قال ابنُ معينٍ: لا أعرفه.انتهى

تنبيه: أعجبُ هذه الأقوالِ هو قولُ المسمّى عبدَ الرحمٰنِ بنَ حسن بنِ قائد في تعليقِه على الوابل الصيِّبِ لابن القيِّم وهو مختصَرًا:

أبو إسحاق لم أجد مَن شيخُه، وعبدُ الرحمٰن بن سعد فيه جهالة قال الذهبي (لا يُعرَفُ)، وإن اعتبرَه ابنُ أبي حاتمٍ مولى ابنِ عمر، إلا أنَّ جوابَ ابنِ مَعِينٍ يوردُ احتمالاً أن يكونَ غيرَه، ويُصدِّقُ قولَ الذهبي، راجع تاريخ ابنِ معين رواية الدوري.انتهى

والكتابُ مطبوعٌ بإشرافِ بكر بن عبد الله أبو زيد، وهم هكذا يكبِّرونَ الأسماءَ حتى كأنك تظنُّ أنك أمامَ شيخِ البخاريِّ.

قلت: هذا المحقِّقُ غيرُ محقِّقٍ وكأنه لا يدري ما يخرجُ من رأسه، فقد خلط تخليطًا عجيبًا فاضحًا، وهذا ما أكدتُه لك يا رعاكَ الله، فإنهم يحرِّفون ويزوِّرونَ عمْدًا وخطأً لقِلّةِ صدقِهم وحظِّهم في هذا العلم، أراحنا اللهُ من جهلِهم، فمثلُ هذا المعلقِ إما أنّه يهذي واختلطَ أو يكذبُ، فكيفَ جعلَ الثلاثةَ واحدًا، فجاءَ بالأولِ وجعلَه الثانيَ ثم ختمَها بعبد الرحمٰن بنِ سعدٍ مقصودِنا فجمعَ بينَه وبينهما فصار الكل عنده واحدًا، والمضحكُ أنّ المشرفَ على الكتابِ (بكر بن عبد الله أبو زيد) قد أهلكَ نفسَه بهذا الإشراف، يظنُّ هذا المعلِّقُ زخرفةَ الكلامِ غيرَ مكشوفةٍ، ويستخفُّ بأهلِ العلمِ وأعمارِهم التي قضَوها في التدقيقِ والتحقيقِ، وقد ذكر الذهبي عن ابن المبارَك: (مَنِ استَخَفَّ بالعلماءِ ذهبَتْ ءاخِرَتُه) والعياذ بالله، فعجبًا ما أشدَّ جرأتَه على الكذب، نسألُ الله السلامةَ وحسنَ الختام.

والحمدُ للهِ على تحريرِ هذه المسئلةِ بفضلِهِ تعالى وكرمِه تباركَ كلُّ شىءٍ بخلقِهِ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى).

شُبهتانِ للمخالفين:

الأولى: قولُهم إنَّ المِزِّيَّ لم يذكرْ توثيقَ النَسائيِّ له إنما اقتصرَ على توثيقِ ابنِ حبّان، فكيف ذكر ابنُ حجرٍ توثيقَ النسائيِّ له وأين؟

والجواب أنّ مَن حفظ حجةٌ على مَن لم يحفَظ، وابن حجرٍ فوقَ الثقةِ في نقلِه وليس مطالَبًا بذكرِ المصدرِ، وعلى كلِّ حالٍ فقد طالعَ  عليهِ تتبُّعاتِ العلاّمةِ مُغلطاي، ومغلطاي استدرَكَ على المِزِّيِّ ما فاته، ومن هذه الكتب التي استدركا منها على المِزِّي كتابُ “التمييزِ” للنسائي، فهذا ما جعل ابن حجرٍ يستدركُ على المِزّيِّ، وهو يُكثِرُ النقلَ عنه كثيرًا في تهذيب التهذيب.

أمَّا القولُ بأنَّ العلامةَ مغلطاي تحصلُ له أوهامٌ وابنُ حجرٍ تبعه فيها، فهيهاتَ هيهاتَ، نعم قد يجد المخالفون هذا في مشايخِهِم أما الإمامُ العَلَمُ الحافظُ ابنُ حجرٍ فليس بذاك الغافلِ والمقلِّدِ الأعمى، والدليلُ عليهِ قولُه في مقدمةِ تهذيب التهذيب:

وقد انتفعتُ في هذا الكتابِ المختصرِ بالكتابِ الذي جمعَه الإِمامُ العلامةُ علاءُ الدينِ مغلطاي على تهذيبِ الكمالِ مع عدم تقليدي له في شىءٍ مما ينقلُه وإنما استعنتُ به في العاجلةِ وكشفتُ الأصولَ التي عزا النقلَ إليها في الآجلةِ، فما وافق أَثبتُّهُ وما بايَنَ أَهْمَلتُه.انتهى

فقد انهدمت شبهتُهُم بالباطلِ بهذا البيانِ من شيخِ الإسلام ابن حجرٍ، لَيْتَهُم يفقهونَ ويعترفونَ ولو في خلوةٍ أنَّ مَن غشَّنَا فليسَ مِنَّا، وأنَّ الدِّينَ المستَنِدَ إلى غِشِّ الناسِ ليس على الحقِّ والهدى والنجاةِ.

وهذه واللهِ شروطٌ جديدةٌ ما عُهِدَت في علم الروايةِ والجرحِ والتعديلِ مِن قبلُ، إنما المشتَرَطُ أن يُوثِّقَ الراويَ عارِفٌ بأسبابِ الجرحِ والتعديل، فهذا الشرطُ مختَرَعٌ مُحْدَثٌ ولا يُقامُ له وزنٌ ولا يستحِقُّ واللهِ الردَّ عليه لأنه غايةٌ في السقوطِ والسذاجةِ، ولولا الخوفُ على المسلمين من تشويشِهم لكان أَوْلَى بالإهمال، وعلى كلٍّ تصرُّفُ الحفّاظِ معروفٌ وينافيه، مثالُه:

(أبو كَبْشةَ) لم يعرِفْه الحافظُ عبدُ الحقِّ الإشبيليُّ في أحكامِه وبَنَى على هذا أنه مجهولٌ فرَدَّه الحافظُ الكبيرُ ابنُ القطّان بقوله: 

لكنه ثقَةٌ وثّقَهُ الكُوفِيُّ روى ذلك عنه ابنُه، ذكره المنتجالي.انتهى

وأقرَّه الذهبي في تتَبُّعاتِه له، والكوفي هو أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ العِجْلي، والمنتجالي من الحُفَّاظِ له تاريخٌ كبيرٌ في الرجالِ وغيرُه.

 

وقولُ الذهبيِّ في سِيَرِ أعلامِ النُبلاء:

أبو جعفرٍ يزيدُ بنُ القعقاعِ أحدُ الأئمةِ العشرةِ – أي القراءِ – وثّقه ابنُ معينٍ والنَسائيُّ.انتهى، وسيِّدُنا أبو جعفرٍ ثقةٌ جبلٌ أحدُ أئمةِ المسلمين ومن أكابرِ الأولياء وهو أحدُ أركانِ قراءةِ القرءانِ المتواترة نفعنا الله ببركاتِه ءامين، ومَن الذي يشكِّكُ في ثقتِه وعدالتِه حاشاه.

 

وهنا مسائلُ:

الأولى: اعتمادُ ابن القطّانِ على توثيقِ الكوفيِّ ولم يسألْ عن دليلِهِ في تعديلِه، لأنه عالمٌ عارِفٌ بأسبابِ الجرحِ والتعديل، واكتفى بنقل المنتجالي وهو حافظ ثقة عن ابنِ العِجلي عن أبيه.

الثانية: في قوله: “ثقة وثَّقَه الكوفي” رد عليهم عندما قالوا لماذا لم يقل ابن حجر في التهذيب بأنه ثقة بل قال: قال النَسائي ثقة، وفي تقريب التهذيب قال: وثقه النسائي، وعبارة الحافظ ابن القطان ردٌّ عليهم وكشفٌ لجهلِهم حيث ابتدعوا شروطًا ما لها أصلٌ عند أهلِ السنة، فقد قال ابنُ القطان: “ثقة وثَّقه الكوفيُّ” ومعنى هذا أن نقله للتوثيق من غير ردٍ هو إقرارٌ وإلاّ لماذا ذكرَه.

ومثلُ هذا تفريقُهم بين قولِه “ثقة” و”وثقه فلان” حيث نسبوا إلى ابن حجرٍ أنه بالثانية يفِرُّ من عُهدَتِه، وهذا تقويلُ ابنِ حجرٍ ما لم يقُل، فقد أكثرَ من ذكر “هو ثقةٌ وثّقه فلان” في فتح الباري وغيره، ففي تعجيل المنفعةِ له عن بكار بن عبد الله الصنعاني: وهو ثقة وثقه أحمد ويحيى.انتهى

فإن توثيقَه إنما هو اعتمادًا على أنهم قبله وثقوه، فمن أين جاءوا بهذه القاعدةِ الجديدة.

وقال المِزّي في تهذيب الكمال في ترجمة الربيع بن حبيب الحنفي: وهو ثقة وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.انتهى

الثالثة: إقرارُ الذهبيِّ لكلامِه في كتابِه “الرد على بيانِ الوهمِ والإيهامِ”، وهذا كلُّه صنيعُ الحفَّاظ ولن تجدَ أحدًا من علماءِ الجرحِ والتعديلِ فرَّق بين قولِه “ثقة” وبين قولِه في بيان حالِه “وثقه فلان”.

الرابعة: استدراكُ ابنِ حجرٍ على المِزيِّ فقد حكى عبارتَه “ذكره ابنُ حِبّان في الثقات” ثم قال: قلتُ: وقال النسائي ثقة.

فهذا من ابن حجرٍ نصٌّ على زيادةِ توثيقِه بعدمِ انفرادِ ابنِ حبانَ بالتوثيق.

الخامسة: يظهر بما مرَّ سقوطُ قولِ أحدِهم في محاولةٍ للتشكيك بتوثيق النسائي له حيث قال: أخشى أن يكون عبد الرحمٰن بن سعد هو الذي قبلَه، وقولُه “أخشى” دليلُ ضعفِ مستَنَدِه ومحاولةٌ لا وزنَ لها كالذي يحاولُ إزالةَ اليقينِ بأضعفِ الشك وهيهات، ولو كان ابنُ حجرٍ مخطئًا أو ساهيًا لما كرَّر كما قلتُ هذه العبارةَ بل هو غايةٌ في التدقيقِ لأنهُ قال:

عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ المدنيُِ مولى ابنِ سفيانَ ثقةٌ من الثالثة، ويحتمل أن يكونَ الذي بعده.

(مسلم وأبو داود وابنُ ماجه) عبدُ الرحمٰنِ بن سعد الأعرجُ أبو حُميد المدني المقعد مولى بني مخزومٍ وثقه النسائي من الثالثة.

ثم قال: عبدُ الرحمٰن بن سعد القرشي مولى ابن عمر كوفي وثقه النسائي من الثالثة.انتهى

فشتّانَ بينَ المديني مولى بني مخْزُومٍ وبين القرَشيِّ الكوفيِّ مَولى ابنِ عمر، والمراد من هذا أنه لو اشتبها عليه لقال كما قال في سابقِهِ “ولعلَّه الذي بعدَه” فدلَّ على تحقيقِهِ، إلا أنّ هذا المخالفَ يريدُ أن يجعلَ الثلاثةَ واحدًا والله حسيبُه.

ثُمَّ ألم يوثِّقْهُ النسائي، فقد وثّقه إمامٌ معتبَرٌ متشدِّدٌ، فلماذا يغضُّون الطرفَ عنها.

ولو كان هذا القائلُ منصِفًا محافظًا على الأمانةِ العلمية التي سيُسألُ عنها يومَ القيامةِ لَما فاتَه أن ابنَ حجرٍ تعمَّدَ الاستدراكَ على المِزِّي في تهذيب التهذيب بقوله: “قلتُ” ولما كرر حكايةَ توثيقِ النسائي له في تقريب التهذيب.

فائدةٌ: قد بقي قولُ الحافظِ ابنِ حجرِ في عبد الرحمٰن ابن سعدٍ مهمَلاً بدونِ استدراكٍ أو تعقيبٍ عليهِ في “تحرير تقريبِ التهذيبِ”: عبدُ الرحمٰن بنُ سعدٍ القرشيُّ الكوفيُّ وثَّقه النسائيُّ. وهذا الكتابُ من تأليف بشار عوّاد معروف – ولا تصِلُني به قرابةٌ – وشعيب الأرنؤوط – وهو غير عبد القادر أرناؤوط صاحبِ الألباني – مع أخطاءٍ فيه لم أتتبعْها كلَّها  – والحقُّ يقال – فيه فائدةُ زيادةِ النقلِ من أقوالِ العلماءِ وتقريبِ البعيد بدون عناءِ البحثِ، لكن كلامُهُما نفسُه يحتاج إلى تحريرٍ وأرى في الكتابِ عدمَ إنصافٍ منهما وتحاملاً واستدراكاتٍ على أميرِ المؤمنينَ في الحديث ابنِ حجرٍ شئتَ أم أَبَيتَ تجعلُك في شكٍ من حُكمِه جرحًا وتعديلاً، وهذا مردودٌ من حيثُ الإجمالُ، ومقدِّمَةُ الكتابِ تشوبُهُ عباراتٌ فيها ما يُنكَرُ عليهما قد لا يُلاحِظُه البعضُ، والله المستعان.

 

مثالٌ مختصَرٌ للفائدة:

اعترضا على قولِ الحافظِ رضي الله عنه في قوله عن محمد بن شداد: كوفي مقبول. 

فقالا بحرفِ الإضرابِ: بل مجهولٌ تفرَّد بالرواية عنه الحسن بنُ عُبَيدِ الله النَخَعي، وذكره ابنُ حبان وحدَه في الثقات، ولهذا أدخله الذهبي في الميزان.انتهى

 

قلت: كذا قالا، وهذا خطأٌ منهما فإنّه لم يقُلْ إلا “مقبول” ولم يتعرّض لجهالتِهِ عَينًا أو حالاً، إنما هو مِمّن روى عنهم الواحدُ وقُبِلَت روايتُه لاعتبارٍ ءاخرَ، فقد قال في مقدمة التقريب:

السادسة: من ليس له من الحديـث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يُتْرَكُ حديثُه من أجله، وإليه الاشارة بلفظ: مقبول، حيث يتابع وإلا فلَيِّنُ الحديث.

ثم قال: التاسعة: مَن لم يروِ عنه غيرُ واحد ولم يُوَثَّق، وإليه الإشارة بلفظ مجهول.انتهى

فتوثيق ابنِ حبان مخرجٌ له، هذا هو اصطلاحُه وعلى هذا مشى وقد أَوفَى به، فعلامَ الاعتراضُ عليه.

ومن هؤلاءِ ضربٌ كثيرٌ في كتبِ الحديثِ، وفي الموطّأ غيرُ واحدٍ وكذا للنَسائيِّ وصَحَّحُوا أحاديثَهم، وهل خفيَ عليهما ذكرُ البخاريِّ له مع سكوتِه، ثم ابنِ أبي حاتمٍ في الجرحِ والتعديلِ مع سكوتِه، وهذا نافعٌ له بلا شكٍ، ثم تصحيحُ الحاكمِ لحديثِهِ ثم موافقةُ الذهبيِّ على تصحيحِ الحاكم بقوله: (صحيح)، ثم سكوتُ المزّيِّ والذهبيِ نفسِه في الكاشف على توثيقِ ابنِ حبّان، فلأي شىءٍ اعترَضا على الحافظِ لمجرَّدِ قولِه: “مقبول” وهذا من تَحَرِّيهِ وهي عبارةُ تعديلٍ خفيفةٌ كما لا يخفَى، وقد اقتدى بغيرِه من الأئمة قبلَه ولو أراد التساهلَ لوثَّقَه.

وأضِفْ إليهِ قولَ الحافظ السخاوي في التوضيحِ الأبْهَر شارحًا كلامَ ابنِ الملقِّنِ في مَن لم يروِ عنه إلا واحدٌ ما نصُّه:

وفائدتُه في الصحابةِ أنَّ مِمّا تثبُتُ به الصُحبةُ قولُ التابعيِّ الثقةِ، وفي مَن بعدَهم عدمُ زوالِ جهالةِ العين عنه، وإن كان المختارُ خلافَه.انتهى

فقَبولُ الأئمةِ له “وهم العُمدةُ” شىءٌ زائدٌ على انفرادِ راوٍ واحدٍ عنه، فقد صحَّحَ له الحاكمُ حديثَه ووافقه الذهبي لِمَا ظهَرَ مِن ضبطِهِ أيضًا، وهو:

أخبرنا محمدُ بنُ صالحٍ ثنا السُرِّيُّ بنُ خزيمةَ ثنا عمرُ بنُ حفصِ بن غِيَاثٍ ثنا أبي عن الحسن بن عبيد الله عن محمد بن شداد عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ يزيدَ عن الأشتر قال : سمعت خالد بن الوليد يقول … الحديثَ

ثم قال حدثَناه عليُّ بن حمشادَ العدل ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا عمرو بن مرزوق أنا شعبة أخبرني سلمة بن كهيل عن محمد بن عبد الرحمٰن بن يزيد عن أبيه عن الأشتر عن خالد بن الوليد قال: كان ….. الحديثَ نحوَه.

وهو رجلٌ ليس من المكثرين ولم يوجدْ في كتبِ الرجالِ راوٍ له غيرُ هذا، وقد حدَّثَ فضَبَطَ فماذا يُخشَى بعدَ ضبطِه وقَبولِهم له.

هذا مثالٌ واحدٌ، وهو مِن الوهمِ الذي نبَّه عليه الحافظ الجليلُ ابنُ القطّان في بيانِ الوهمِ والإيهامِ بقولِه:

فليس ينبغي لمن نظر في كتبِ الرجالِ فرأى مثلاً أبا كبشةَ السلوليَّ روى عنه حسانُ بنُ عطيةَ، أنْ يَظنَّ أنه لم يروِ عنه غيرُه، بل قد يوجد مِمّن يروي عنه جماعةٌ سِوى مَن ذُكِر.انتهى

أما كونُ الذهبيِّ أدخلَهُ في مِيزانِه فليس بذاك الدليلِ الصريحِ فمقدِّمتُه متجاذَبة الطرفَين لأنهُ ذكرَ أيضًا مَن في عدالتِهِم وهنٌ، ثم المحدِّثين الضعفاء من قِبَل حفظِم فلهم غلطٌ وأوهامٌ ولم يُترَك حديثُهم، بل يُقبَلُ ما رَوَوه في الشواهدِ والاعتبارِ بهم لا في الأصولِ والحلالِ والحرامِ، ثم على المحدثينَ الصادقين أو الشيوخِ المستورين الذين فيهم لِينٌ ولم يبلُغوا رُتبةَ الأَثباتِ المتقِنِين.انتهى كلامُه

فمثلاً قد أدخل خالدَ بنَ دُرَيكٍ في ميزانِه وهو ثقةٌ، وما أدخلَهُ إلا لبيانِ أنّ روايَتَه عن الصحابةِ مرسَلةٌ، فأينَ يُنقِصُ هذا من عدالتِهِ حتى يقال قد أدخلَهُ الذهبي في الميزان.

ثم أدخلَ بشيرَ بنَ طلحةَ في ميزانِهِ وهو ثقة غيرُ ضعيفٍ، وقال الحافظ بأن هذا من غلَطاتِ أبي الفتح عندما ليَّنَه بقولِه “ليس بالقوي”.

فهل أضرَّ بهِ إدخالُ الذهبي له في ميزانِه حتى تجعلاها قاعدةً تحتجّان بها، نسأل الله السلامة.

وكم أدخلَ مِن رجالٍ هم أثباتٌ ولم يُدخِلْهم إلا لأنهم قد ذُكِروا مِن قَبلُ ولو بغيرِ حُجّة.

هذا وكم عالِمٍ أخلَّ بشرطِهِ ولا يُعتبَرُ ذلكَ إلا استثناءً دونَ قدحٍ في شرطِهِ، فتنبَّه رحمك الله.

ثم حصل التناقضُ منهما عندَ ذكرِ الحافظِ في التقريبِ “عوسجةَ المكي” بقوله “ليس بالمشهور” فقالا:

بل صدوقٌ حسَنُ الحديثِ، تفرَّدَ بالروايةِ عنه عمرو بنُ دينار، ووثقه أبو زُرْعةَ الرازيّ وذكره ابنُ حبان في الثقات وحسَّنَ الترمذي حديثَه، لكن قال أبو حاتمٍ والنسائيُّ: ليس بمشهور، وقال البخاري لم يَصحَّ حديثُه.انتهى

ناشدتُكما اللهَ، أليس هذا أسوأ حالاً مِن الذي اعترضتما على قول الحافظ عنه “مقبول”، وليس من بابِ كوني حكَمًا إنما هو دفاعٌ ببيِّنةٍ عن حديثِ سيِّدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أمير المؤمنين في الحديث ابنِ حجرٍ، وقد قلتُما عنه “تناقضَ تناقضًا عجيبًا”، فوقعتُما في ما لأجلِه ألَّفتُما تحريرَكما وأشدَّ، ولا أدّعي عصمةَ الحافظِ ابنِ حجرٍ فليس هذا لأحدٍ بعد صاحبِ الشريعةِ عليه الصلاة والسلام، وكيف أدّعي عصمتَه وله كلامٌ غيرُ محمودٍ في الفتحِ في قصةِ الغرانيقِ، لكنَّ الأمرَ الذي حصل لكما هو ما قاله القاضي عياضٌ في ترتيب المدارك وتقريب المسالك:

مَن كان أعلمَ بالأُصُولِ كانَ استِنْباطُه أصَحَّ وقياسُه أحَقَّ، وإلا فمتى اختَلَّت معرفتُه بالأصولِ قاسَ على اغتِرارٍ، وبَنَى على شَفا جُرُفٍ هارٍ.انتهى، أي فانهار به، والجُرُفُ الهارُ هو الطرفُ المشرِف على السقوطِ.

قلتُ: هذا صحيحٌ إن كان أرادَ إدخالَ الدليلِ العقليِّ، لأنّه قد يكونُ الشخصُ أعلمَ وأحفظَ إلا أنه ليس فطِنًا فيفوتُه الدليلُ بل الأدلةُ، وهذه المعرفةُ في عُمقِها على مراتبَ متفاوتةٍ – وأبعَدُ الناسِ عنها الظاهريةُ – وقد يظهرُ لمَن دونَه علمًا لفرطِ ذكائه، وذا سيّدي الإمامُ الأعظمُ أبو حنيفةَ رضي الله عنه لم يكن كالإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رضي الله عنه في حفظِ الحديثِ، لكن لم يكنْ أحدٌ يُجاريهِ في استخراجِ الأحكامِ، وكان ءايةً من ءاياتِ الله رضي الله عن الأئمةِ الأربعةِ كلِّهم ءامين، والله تعالى أعلم.

وقد ساءني جدًا ما قرأتُه في مقدِّمةِ تحريرِ التقريبِ، ولو طبّقاه على غيرِهما مِمّن هو أهلٌ لهذه الصَنعةِ بالشرطِ المعتبَر لكان صِدقًا، فقد قالا في المقدمة نقلاً عن أبي حاتمٍ الرازيِّ في قصّتِهِ المشهورة عن خبرةِ الأئمةِ الجهابذةِ في نقدِ الحديث:

وكذلك نحن رُزِقنا علمًا لا يتهيأُ لنا أن نُخبرَكَ كيفَ علِمنا بأن هذا الحديثََ كذبٌ، وهذا حديثٌ منكَرٌ إلا بما نعرفه.

فعقَّبا عليها بالتالي: وهذه المرحلةُ هي المرحلةُ الأكثرُ أهَميّةً في تاريخِ الجرحِ والتعديلِ، وهي التي ينبغي أن تُتّبَعَ اليومَ، لا سيّما في المختَلَفِ فيهم، إذ يتعيَّنُ جمعُ حديثِهِم ودراستُه من عدةِ أوجه:

ثم وضَعا قواعدَ للجرح والتعديل في هذا الزمن.

ولم أجدْ جوابًا على هذا سوى ما نقله السيوطيُّ عن شيخ الإسلامِ التاجِ بنِ السبكي في معيد النِعَم:

إنما المحدِّثُ مَن عرَفَ الأسانيدَ والعِلَلَ وأسماءَ الرجالِ والعاليَ والنازلَ، وحفِظَ مع ذلك جملةً مُستكثَرةً من المتونِ، وسمعَ الكتبَ الستةَ ومسنَدَ أحمدَ بنَ حنبلٍ وسننَ البيهقيِّ ومُعجَمَ الطبرانيِّ وضَمَّ إلى هذا القدرِ ألفَ جُزءٍ من الأجزاءِ الحديثيةِ، هذا أقلُّ درجاتِهِ، فإذا سَمِع ما ذكرناه وكتَبَ الطِباقَ ودارَ على الشيوخِ وتكلَّمَ في العِلَلِ والوَفَياتِ والمسانيدِ كان في أولِ درجاتِ المُحَدِّثين، ثم يزيدُ اللهُ مَن شاءَ ما شاء.انتهى

فعبارتُهما -نسألُ اللهَ السلامةَ- فيها ما فيها من تجويزِ مرتبةٍ خاصّةٍ بالحُفّاظِ وذَوِي درجةِ الاجتهادِ في الجرحِ والتعديلِ حيث قالا “وهي التي ينبغي أن تُتّبَعَ اليومَ ” أي مقالةُ أبي حاتمٍ ” نحن رُزِقنا علمًا لا يتهيأُ لنا أن نُخبرَكَ كيفَ علِمنا بأن هذا الحديثََ كذبٌ، وهذا حديثٌ منكَرٌ إلا بما نعرفُه”. 

بل صرَّحا في المقدمةِ بأنهما “اجتهَدا” فقالا: “لقد اجتَهَدْنا في المختلَفِ فيهم، فأقول واللهُ المستعان:

اليومَ اليومَ هذا أكبرُ منكما بكثيرٍ يا شيخُ شعيبُ، بل أنا وأنتما ومَن فوقَنا ومَن تحتَنا دونَها كما النجومُ دونَها الأرضُ السابعةُ، وهل حصَّلَ أحدُنا عُشْرَ ما ذكرَهُ السيوطيُ عن السبكيِّ في أُولى درجاتِ المُحدِّثِ، حتى تأتيا بعبارةٍ عظيمةٍ فيها التصريحِ بجوازِ الاجتهادِ لكما ولغيرِكما في الرجال، وهَلاّ قلتُم للناسِ ما معنى كلامِ أبي حاتمٍ وأنه في المجتَهِدِ في الحديثِ الذي ينقدِحُ هذا المقصودُ في نفسِهِ وأنه في حقِّ الماهرِ الحاذقِ المطّلِعِ على الحديثِ وعِلَلِه وأين أنتما من هذه المرتبةِ العظيمة، فهذه مرتبةٌ لا تجوزُ لأحدٍ منّا قولاً واحدًا مبتوتًا.

وكما فَعَلا قد يبحثُ الشخصُ عن قولِ الحافظ: قلتُ وثّقهُ ابن حبانَ مثلاً فلا يجِدُه، وهذا على التتبُّعِ يكونُ نقصًا في النُسَخِ التي بين أيدينا،  فكما قالا في ترجمةِ رافعِ بنِ أُسَيدٍ بعد قولِ الحافظِ (قلتُ: وثقه ابنُ حِبّان) ما نصُّه:

بل مجهولٌ ولم يوَثِّقْه أحدٌ، تفرَّدَ بالروايةِ عنه جعفرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ، قال ابنُ حجرٍ في تهذيبِ التهذيبِ: ذكرَهُ ابنُ حِبّانَ في الثقاتِ. قلنا:لم نجِدْه.انتهى

قلتُ أما التفرُّدُ فكانَ الأليَقُ بهما أن يتّبِعا الذهبيَّ بنفيِه علمَه، فما أدراهُما أن غيرَه روى عنه كما قال ابنُ القطّان، وعبارةُ الذهبي: ما علمتُ روى عنه سوى جعفرِ بنِ عبدِ اللهِ والدِ عبد الحميد.انتهى

أما توثيقُ ابنِ حبّانَ فقد نقلَه أيضًا الحافظ السخاويُّ في التحفةِ اللطيفةِ بقولِه: ذكرهُ ابنُ حبّانَ في الثقاتِ، وهو في التهذيب.انتهى

فهذانِ نقلانِ عن توثيقِ ابنِ حبّانَ ولا يقبَلُ قولُ قائلٍ “لعلَّه” قلّدَ ابنَ حجرٍ فيه، لأنّ كلامَه دالٌّ على جَزمِهِ بأنّ ابنَ حبّان ذكرَه، ثم نبّهَ على أنهُ من رجالِ التهذيبِ لمعرفةِ أنّ له روايةً ولا يخفى هذا عليهما، وكذا فإنّ السخاويَّ حافظٌ للحديثِ مجتهِدٌ فيه ولا شكَّ في كونِهِ أخذَ ثقاتِ ابنِ حبّانَ في جملةِ ما حصَّله في علومِ الحديث، ومن أمثلتِه قوله: عبد الله بن سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي، عداده في أهل المدينة، يروي عن أبي أيوب الأنصاري، وعنه خارجة بن عبد الله، قاله ابنُ حبان في ثانيةِ ثقاتِه.انتهى، أي في الطبقة الثانيةِ بعدَ الصحابةِ وهم الأُولى.

 

فهذان النصّانِ عن حافظَين ثقتَين يُثبتانِ توثيقَ ابنِ حبّانَ ويُشِيرانِ بحسب الظاهر إلى نقصٍ في الموجودِ بينَ أيدِينا كحالِ مسنَدِ الإمامِ أحمدَ وغيرِه، ويقضيانِ لابنِ حجرٍ عليهِما، وعليه فإنّ إنكارَهما منكَرٌ، ولو اكتفَيا بقول “لم نجِدْه” لكان سالمًا، إنما المُنكَرُ جزُمُهما بالنفيِ، وأنّى للمقلِّدِ أن يعترضَ على المجتهدِ ولو بلغت كتبُهُ عنانَ السماء.

فهذا النووي مع جلالَتِهِ بينَ الناسِ لم يبلُغ مرتبةَ الأصحابِ وليس له على سَعةِ اطِّلاعِه في المذهبِ أن يستخرجَ وجهًا واحدًا من كلامِ الإمام الشافعي، وقد بلغَ مرتبةَ الترجيحِ فحسب، وقد عرَفَ حدَّه فوقَفَ عندَه، فاستفادَ وأفاد، فما هذه العبارةُ يا شيخُ شعيب.

هذا النوويُّ الذي قال فيه السبكيُّ رضي الله عنه:

عسى أَنِّي أَمَسُّ بِحُرِّ وَجهي # مكانًا مسَّهُ قَدَمُ النَواوِي

 

وهذا الإنكارُ حقٌّ والتحذيرُ من العبارةِ بسببِ هذا واجبٌ، لأن الاجتهادَ في الرجالِ جرحًا وتعديلاً فرعٌ من الاجتهادِ في الأحاديثِ قَبولاً ورَدًّا، وكِلا الأمرين ليس لهما، وهل أنكرْنا – وشعيبٌ معنا- على الألبانيِّ شطَحاتِه إلا لأجلِ هذا، إلاّ أنّ الألبانيَّ فيه زيادةٌ وهي زَيغُه وأنه نذَر نفسَه للطعنِ في المقبولِ بأقسامِه الأربعةِ إن لم يوافقْ هواه.

وأنا لا أعرفُ شُعَيبًا إلا من خلالِ تحقيقِ الكتبِ ولا يسعُني سوى تحسينِ الظنِّ، ولا لي مأخذٌ عليه إلا في مسئلةِ الاجتهادِ هذه، ولولا النصيحةُ الشرعيةُ الواجبةُ لما تكلمتُ أصلاً وأرجو لي وله الخيرَ والسدادَ، وإن كنتُ قد أسأتُ في الكلامِ عنه فوقَ الحدِّ الجائزِ شرعًا فإني أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، وليس بِوُسْعِي سوى أن أحذِّرَ من هذه المسئلة الباطلة.

وقد قرأتُ لتلميذِه حسان المقدسي كتابَ “مناقشة الألبانِيِّينَ في الصلاةِ بين السواري” ردَّ عليهم ردًا قويًا التزمَ فيه الأدبَ وهذا يُحمَدُ عليهِ، لكن أخشى أن يكونَ حصلَ له نوعُ تعصُّبٍ من حيثُ تخريجُ الأحاديثِ، فقد أورد الأحاديثَ التي استدلَّ بها الألبانيونَ وبيَّنَ ضَعفَها واحدًا تلوَ الآخَرِ، لكن لم يذكرْ مسئلةَ التقوِّي بالاعتضادِ ولم يلتفِتْ إليها، ومعلومٌ ومقرَّرٌ أن الحديثَ يتقوَّى بتعدد الطُرُقِ، وإن كان الحديثُ دليلاً للخصمِ لا نأخذُ بهِ فعلينا التزامُ القواعدِ شئنا أم أبَينا لنسلمَ في الدنيا ويومِ القيامة، هذا وقد يَكُونُ الحدِيثُ مردودًا مهما كثرت طرُقهُ كالحديث المنسوخِ أو المخالف للإجماعِ والمصروف الظاهر المعمول بغيرِهِ مع وجودِهِ وفي سنن الترمذيِّ أمثلةٌ عليهِ،  مع إكباري لتجنُّبِه الشتمَ والسبَّ الذي يتفاخرُ به الخصمُ كما سيأتي معنا بإذن الله.

أما بشار عواد معروف وهو بغداديٌّ على ما أظن، فعلى ما رأيتُ من عمَلِه في مقدمةِ سِيَرِ أعلامِ النبلاءِ وقد ذكر أتباعَ السيِّدِ أحمدَ الرفاعيِّ رضي الله عنه أبي العَلَمَينِ والعِلْمَين سلطانِ العارفين قدّس اللهُ سرَّه العظيم، فقد استنتَج بشار عواد معروف من كلام الذهبي ما كتبه هو من عندِ نفسِه بقوله إن الذهبي اعتبرهم من المارقين من الدينِ أصحابَ أحوالٍ شيطانية.

وهذا من بشارٍ شنيعٌ وزيادةٌ في النصِّ من عندِه يفرَحُ بها قليلُ النظرِ، وقد استدلَّ بكلامِه “عبد الفتاح أبو غدة” في حاشيتِه على الرفع والتكميل وهو يدافعُ عن الذهبي، وهذا ما فيه عدلٌ ولا أمانة لا من بشار عواد معروف ولا من “عبد الفتاحِ أبو غدة”، وخاصةً الأخيرَ لأنه على اطلاعٍ ومعرفةٍ تامةٍ بنصِّ كلامِ الذهبيِّ في سيرِ أعلامِ النبلاءِ، لكنّه لم يكن يكفيهِ فاستغلّ كلامَ بشار عواد معروف، وهكذا يكون برّأَ نفسَه من تهمةِ التعدي وأنه مجردُ ناقلٍ لا غيرُ، فلا يُغضِبُ الصوفيةَ ولا يغضبُ النجديِّين نسألُ اللهَ السلامةَ، وقد استخرتُ اللهَ في كتابٍ منفصلٍ بإذنِ اللهِ أردُّ فيه استنتاجَ بشار عواد معروف وما فيه من فسادٍ وضررٍ وبُهتانٍ وخطرٍ، وأفنِّدُ فيه كلامَ الذهبيِّ بالبرهانِ الجليِّ إن شاءَ اللهُ السميعُ العليمُ، وقد أسميتُه (نصبُ الأوتاد في الدفاعِ عن الرفاعيةِ والصوفيةِ الأسياد).

مثالٌ على أخطائهم الواضحة في الحديث:

جاء في الجزءِ الأولِ من سِيَرِ أعلامِ النبلاءِ للذهبيِّ ومكتوبٌ عليهِ أنّ شُعَيبًا قام بتخريجِ أحاديثِ الجزءِ الأولِ في ترجمةِ سيِّدِنا خالدِ بنِ الوليدِ عند قولِه عن زِقِّ الخمرِ “اللهمَّ اجعلْه عسلاً، فانقَلَبَ عسلاً” ما نصُّه مِن تخريجِ الحديثِ:

نَسَبَه الحافظُ في “الإصابة” إلى ابن سعدٍ من طريقين، وإلى ابنِ أبي الدنيا، وقال: رواه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ صحيحٍ، عن خيثمة قال…” وانْظُر “الإصابة” ففيها الروايتان.انتهى

قلتُ: هذا غيرُ صحيحٍ، ولم ينسُبْهُ الحافظُ إلى ابنِ سعدٍ، وهذه عبارةُ الحافظِ بحروفِها في الإصابةِ:

وقال يونسُ بنُ أبي إسحاقَ عن أبي السفر لما قَدِمَ خالدُ بنُ الوليدِ الحَرَّةَ أُتِيَ بِسُمٍّ فوضَعَه في راحتِهِ ثم سَمَّى وشَرِبَه فلم يَضُرَّه. رواه أبو يعلى ورواه بن سعد من وجهين ءاخَرين. 

وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ صحيحٍ عن خَيثَمةَ قال أُتِيَ خالدُ بنُ الوليدِ بِرَجُلٍ معه زِقُّ خَمْرٍ، فقالَ: اللهُمَّ اجْعَلْهُ عَسَلاً فصارَ عَسَلاً. وفي روايةٍ له من هذا الوجهِ مرَّ رجلٌ بخالدٍ ومعه زِقُّ خمرٍ فقال ما هذا، قال: خَلٌّ، قال جَعَلَه اللهُ خَلاًّ، فنظروا فإذا هو خَلٌّ وقد كان خَمْرًا، وقال ابنُ سعدٍ: أخبرنا محمدُ بنُ عُبَيدِ اللهِ حدثنا إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ عن زيادٍ مَولَى ءالِ خالدٍ: قال خالدٌ عندَ مَوتِهِ … الخ.

وكما ترى فالحافظُ لم ينسُبْه إلى ابنِ سعدٍ، إنما ذلك حديثٌ ءاخرُ في شربِه السُمَّ، ولا أدري كيفَ يَسوغُ لهما الاجتهادُ في الرجالِ ولا يبذُل أحدُهما جهدًا في النظرِ فوقَ العبارةِ بسطرِ واحدٍ، ولا يتكلَّفُ الرجوعَ إلى طبقاتِ ابنِ سعدٍ ليتبيَّنَ الأمرَ، فإن أخطأَ ابنُ حجرٍ أخطَئُوا معه وإنْ أصابَ أخطَئُوا وحدَهم، والعِلمُ أمانةٌ أعظم من هذا، والله تعالى أعلم وأحكم.

وعَوْدًا على بَدِيءٍ، فقولُ ذاكَ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ “أخشى” قد زال وظهَر بطلانُه بتنصيصِ ابنِ حجرٍ وسأنقلُ كلامَه بحروفِه:

(البخاري في الأدب المفرد) عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ القرشي كوفي روى عن مولاه عبد الله بن عمر.

وعنه أبو إسحاق السبيعي ومنصور بن المعتمر وأبو شيبةَ عبدُ الرحمٰنِ بنُ إسحاقَ الكوفيُّ وحماد بن أبي سليمان.

ذكره ابن حبان في الثقات

قلت: وقال النسائي ثقة.انتهى بحروفه

وكشفُ سوءِ نيةِ القائلِ بالتشكيكِ هو أنّه لو أرادَ ابنُ حجرٍ الراويَ الذي قبلَه لما قال: قلتُ: وقال النسائي ثقة، لأنّه لا حاجة به إلى هذا القول وقد نقل توثيقَ المزّيِّ له عن النسائيِّ نفسِه، فلماذا يقول بعد توثيق المزّي له عن النسائي: قلت وقال النسائي ثقة. هل هذا إلا حشوٌ، وهل كان ابنُ حجرٍ في رأيِهم على هذه الدرجة من الغفلةِ والبلادةِ حتى يقول ردًّا على رجل قال: (قال النسائي ثقة) قلت: وقال النسائي ثقة؟ حاشاه رضي الله عنه وحسابُهم على الله.

فالمسئلةُ ليست فقط سوءَ فهمٍ بل سوءُ نيةٍ والعياذ بالله من هوى النفوس، والمصيبةُ أنّ البعضَ صار يعُدُّ كلَّ ضربٍ من ضروبِ الطعنِ بحقٍ وبباطلٍ من الذكاءِ، فيؤدّي بهم الأمرُ إلى التنقيصِ كما حصل مع ابنِ تيميةَ من تنقيصِ سيّدِنا عليٍّ عليه السلامُ في محاولاتِه الردَّ على الرافضي بكلِّ طريقةٍ، وهذا ظلمٌ وخيانةٌ منهم كما هو جَلِيٌّ، والساعةُ ءاتيةٌ لا ريب، نسألُك السترَ الجميلَ يا رحمٰن.

والأدهى من هذا أن أحدَهم حاولَ التشكيك بقولهِ: (ولم يذكُرِ الخزرَجيُّ في خلاصةِ تذهيبِ التهذيبِ – والتذهيبُ للذهبي – حكايةَ توثيقِ النسائي له).

قلت: هذا ابتلاه اللهُ بداءِ الطعنِ بغيرِ حقٍّ والعياذ بالله، فما علاقةُ التذهيبِ بتهذيبِ التهذيب، وأينَ الخرزجيُّ من ابنِ حجر في سَعةِ الاِطّلاعِ والحفظ، هذه واللهِ قواعدُ منكَرَةٌ جديدةٌ على المسلمينَ ابتدَعَها هؤلاءِ بحُجّةِ محاربَةِ البِدَع، فكانوا كمَن بنى قصرًا وهدم مِصْرًا وحسابُهم على الله فإنّ هذا حرامٌ من الكبائرِ واللهُ المستعان.

وهل يستطيع هذا أن يخبرَنا لماذا اقتصر الحافظ في لسان الميزان على قوله في الدفاع عن بشير بن طلحة “وثّقه ابنُ حبان”، ثم وجدنا الحسينيَّ في إكمال الكمال يقول مستدرِكًا: قال الإمامُ أحمدُ ليس به بأس.انتهى

فهل سيردُّ على الحسينيِّ بأن ابنَ حجرٍ لم يذكر هذا، هذا والله لَمِن الأعاجيب.

تنبيهٌ: وقع في تاريخ الإسلامِ للذهبي: عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعدٍ الكوفيُّ مولى عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاص، روى عن مولاه وعن أخيهِ عبد الله، وعنه: منصور وأبو إسحاق وحماد بن أبي سليمان وأبو شيبة عبدُ الرحمٰنِ بنُ إسحاقَ، ذكره ابن أبي حاتم.انتهى وهذا خطأٌ واضحٌ، مع اختلافٍ يسير بينها وبين عبارة ابن أبي حاتم في كتابه، والغريب أنه ذكره في تذهيبِ التهذيبِ فقال بأنه مولى ابن عمر، فتنبه، والله تعالى أعلم

فالإسنادُ الأولُ بحمد اللهِ صحيحٌ ما فيه علة على خلافِ ما يدَّعِيه نُفاةُ التوسِّلِ هداهم الله ءامين.

طريقٌ ءاخرُ صحيحٌ عن أبي إسحاق

روى الإمام الحربي بإسناد صحيحٍ من طريقٍ ءاخرَ فقال في كتابه “غريب الحديث”:

حدثنا عفّانُ “حدثنا شُعْبَةُ” عن أبي إسحاقَ السبيعي عمّن سمع ابنَ عمر قال خدِرَت رجلُه فقيلَ: اذْكُرْ أحبَّ الناسِ قال: (يا محمد).

حدثنا أحمدُ بن يونسَ حدثنا زهيرٌ عن أبي إسحاق عن عبدِ الرحمٰن بنِ سعد: جئتُ ابنَ عمرَ فخدِرَت رجلُه. فقلت: ما لرِجْلِك؟ قال: اجتمع عصَبُها قلت: (اُدْعُ) أحبَّ الناس إليك قال: (يا محمدُ، فبسطها).انتهى كلامُ الإمامِ الحربي

قلتُ فينبغي بعدَ هذا البيانِ إلجامُ المخالفينَ بروايةِ الإمامِ إبراهيمَ الحربيِّ لِمَا سيأتي في الكلامِ على التدليسِ، فهي روايةٌ صحيحة ما فيها علة والحمد لله.

تنبيهٌ: الْمُخالِفونَ كعادتِهِم طعنوا برواية زهيرٍ بأنه روى عن أبي إسحاق بعد ما قيل من اختلاطِهِ، وهذا جهلٌ وغِشٌّ للمسلمين فإنّ الإشكال الذي وضعوهُ وتصورُوهُ زال بموافقة رواية زهير لرواية الإمام الثوري قبل الاختلاط الذي تمسكوا به، والعنعنةُ زائلةٌ أيضا برواية الإمام شعبة، وهذا يعرفه صغار طلبة الحديث الذين تلقَّوه من أهلِه الثقاتِ، بخلافِ المخالفين، فقولهم مردودٌ فاضح.

وهذا من فطنة الإمام الحربي رضي الله عنه فقد أتْبَعَ رواية شعبة برواية زهير لبيانِ أنه عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعد مولى ابن عمر رضي الله عنهما، ومثلُ هذا الإبهامِ لا يضر مطلقا إذا جاء مسمًى من طريق ءاخر، وقد قال الإمامُ شعبةُ: قد كفيتُكم تدليسَ ثلاثةٍ: الأعمشِ وأبي إسحاقَ وقتادةَ.انتهى، فالإسنادُ بحمد الله صحيح بالشرطِ المعتبَر.

وقد أمِنَّا برواية الإمامِ شعبةَ تدليسَ أبي إسحاق فدل على أنه سمعه ممن رأى القصةَ ولله الحمد والمنة.

فائدةٌ: روايةُ الإمامِ الحربيِّ عن شعبةَ ليس فيها “إليك” إنما لفظُها “اذكر أحبَّ الناسِ”، ذكرتُها حتى لا يرويَها أحدٌ عن شعبةَ ويزيدَ “إليك” فذلك ليس من كمالِ الضبط، والله تعالى أعلم.

وتصرفُ الإمام الحربي جيدٌ جليلٌ في مسئلتِنا لأنه صار كالمستخرَج يزيل الكثير من الإشكالات حول الاختلاط والتدليس والإبهام، ولتمام الفائدة أذكر بعضا من فوائد المستخرجاتِ التي هي كمسئلتنا هنا من النكت الوفية للبرهان البقاعيِّ تلميذِ الحافظ ابن حجرٍ قال:

فمنها: أن يكونَ مصنّفُ الصحيحِ روى عن مختلطٍ ولم يُبَيّن هل سماعُ ذلكَ الحديثِ منه في هذهِ الروايةِ قبلَ الاختلاط أو بعده؟ فيبينهُ المستخرجُ إما تصريحًا أو بأن يرويَهُ عنهُ مِن طريقِ مَنْ لم يسمعْ منهُ إلا قبلَ الاختلاطِ، ومنها: أَن يُروَى في “الصحيحِ” عن مدلِّسٍ بالعنعنةِ، فيرويهِ المستخرِجُ بالتصريحِ بالسماعِ فهاتانِ فائدتان جليلتان وإن كنا لا نتوقفُ في صحةِ ما رُوِيَ في الصحيحِ مِن ذلكَ غيرَ مبينٍ ونقولُ: لولم يطّلع مصنّفُه مِن البخاريّ أو مسلمٍ أنهُ روى عنهُ قبلَ الاختلاطِ، وأَنَّ المدلسَ سمعَ لم يُخرِجاهَ.

ومنها: أَن يرويَ عن مبهمٍ كأن يقول: حدثنا فلانٌ أو رجلٌ أو فلانٌ وغيرهُ أو غيرُ واحدٍ أو نحوُ ذلك فيعينهُ المستخرجُ.

ومنها: أَن يرويَ عن مهمَلٍ نحوَ حدثنا محمدٌ مِن غيرِ ذكرِ ما يميزهُ عن غيرهِ منَ المحمَّدِينَ ويكونُ في مشايخِ مَنْ رواهُ كذلكَ مَن يشاركهُ في الاسمِ، فيميزهُ المستخرِجُ.انتهى وهو كلام نافع جدًا ومثلُه في تدريبُ الراوي وغيرِه، هناك زياداتٌ عليها ليس هذا محلَّها.

أما عدمُ ورودِ عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعد مسمًى في رواية الإمامِ شعبةَ فيحتمل أمرين، إما لأنه لم يحفظ اسمَه وإما لأنه أراد الكثرة بحيث يكون سمعه منه عن عبد الرحمٰن بن سعد والهيثمِ بن حنش وغيرهما، كما سيأتي الكلام على رواية الهيثمِ بن حنش مفصلا إن شاء الله.

وضعّف المخالفونَ هذا الحديثَ ظُلمًا بما لا يحق لهم وليسوا أهلَه، وهذا حرام من الكبائرِ المجمَعِ عليها، فادّعَوا أنه ضعيفٌ لأجلِ أبي إسحاق السَبيعي، فهو كما يقولون اختلط بآخرةٍ أي في ءاخر أمرِه وعمره، وأنه مدلِّسٌ معروفٌ بهذا الأمر.

وهذا مردودٌ والجوابُ عليه بمسائلَ، منها:

أن الحافظ الذهبي أنكر اختلاطه وقال: ثقة حجة بلا نزاع، من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم إلا أنه شاخ ونسيَ ولم يختلط.انتهى

وفي كتابه “الرواة المتكلَّم فيهم بما لا يوجب الرد” ذكره قائلا:

أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله (ع) ثقة تغير قبل موته من الكِبَر وساء حفظه.انتهى، ورمز له بحرف (ع) أي روى حديثَه الجماعة.

وسلّم له الحافظ العراقي في عدم اختلاطه قال في التقييد والإيضاح:

قوله أبو إسحاق السبيعيُّ اختلط أيضا ويقال إن سماع سفيان بن عيينة منه بعد ما اختلط ذكر ذلك أبو يعلى الخليليُّ انتهى

وفيه أمورُ:

أحدُها: أن صاحب الميزان أنكر اختلاطه فقال شاخ ونسيَ ولم يختلط قال وقد سمع منه سفيان بن عيينة وقد تغير قليلا.

ثانيها: أن المصنفَ ذكرَ كونَ سماعِ ابنِ عيينةَ منه بعد ما اختلط بصيغة التمريض وهو حسن فإن بعض أهلِ العلمِ أخذ ذلك من كلام لابن عيينة ليس صريحا فى ذلك قال يعقوب الفسوي قال ابن عيينة ثنا أبو إسحاق فى المسجد ليس معنا ثالث قال الفَسَوي: فقال بعض أهل العلم كان قد اختلط وإنما تركوه مع ابن عيينة لاختلاطه انتهى كلام الحافظ العراقي.

وهذا الاختلاطُ المنسوبُ إليه كما ترى ليس معمولا به، بل العلماءُ محتجون به، فقد قال الإمامُ الحافظُ الجليلُ أبو سعيدٍ صلاحُ الدينِ العلائيُّ في كتاب المختلِطين: 

ولم يعتبر أحدٌ من الأئمةِ ما ذُكر من اختلاطِ أبي إسحاقَ، احتجوا به مطلقًا وذلك يدل على أنه لم يختلطْ في شىءٍ من حديثهِ فهو من القسم الأول.انتهى

والقسمُ الأوّل من المختلِطين عند العلائيّ هم: من لم يوجِبْ ذلك له ضعفًا أصلا ولم يَحُطَّ من مرتبته إمّا لقِصر مدةِ الاختلاطِ وقلته وإمّا لأنه لم يرو شيئًا حال اختلاطه، فسلم حديثُه من الوهم.

 

وقال الإمام السيوطيُّ في تدريب الراوي:

(ومنهم أبو إسحاق) عمرو بن عبد الله (السبيعي) اختلط أيضا وأنكر ذلك الذهبي وقال شاخ ونسي ولم يختلط (ويقال سماع) سفيان (بن عيينة منه بعد اختلاطه) قاله الخليلي ولذلك لم يخرج له الشيخان من روايته عنه شيئا وقال الذهبي سمع منه وقد تغير قليلا.انتهى

وقال الإِبْناسي في الشذا الفياح من علومِ ابنِ الصلاح:

وأنكر صاحبُ الميزان اختلاطَه فقال شاخ ونسي ولم يختلط قال وقد سمع منه سفيانُ بنُ عيينة وقد تغير قليلا.انتهى

تنبيهٌ: (الإبناسي) قال العجمي في ذيل لُبّ اللُباب بأنه بفتح الهمزة نسبة إلى قريةٍ بمصرَ، لكن نصَّ في تاجِ العروسِ بأنها بالكسر وأصلها إبنَهْس.

قلت: ويقع التساهلُ في مثلِ هذا، كاختلافِهم في “القَسطلاني” والله أعلم.

فكما ترى فالعلماء لم يعملوا بدعوى اختلاطه بل احتجوا به مطلقا كما قال الإمامُ الحافظُ العلائي، وما قيل لا يضرُّ فمسئلة الاختلاط قد زالت بعد رواية الإمام شعبةَ عنه وهو ممن سمع منه قديمًا وفي هذا فوائد:

الأولى: انتفاءُ خشيةِ الاختلاطِ في هذه الرواية لثبوتها عنه قبل دعوى اختلاطه، فبطَلَت أولى حُججِ المخالفين.

الثانية: أن روايةَ الإمامِ شعبة الثابتةَ تصحيحٌ للروايات التي فيها سماعُ مَن قيل إنه سمع منه بعدَ اختلاطه لأنها دلت على ضبطه وبهذا يزول عنها التوقف أو الشك وتصير كغيرها صحيحةً معمولا بها، كمسئلة الحسن لذاته يتقوى بالصحيح لذاته فيرتقي ويصير صحيحا لغيره، وهكذا ومع هذا فروايةُ البخاريِّ في الأدب المفرد صحيحة لأن الثوري قد سمع منه قديما، فبطَلَت ثاني حُججِ المخالفين.

وأبو إسحاق كما قال الذهبي من أئمة التابعين وكان ثقة ضابطا بل قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال العلاءُ بن سالم: كان الأعمش يتعجب من حفظ أبي إسحاقَ لرجالِه الذين يروي عنهم.

الثالثة: أن ما يُذكرُ عن تدليسِه فمردود بأمرين:

الأول: أنه ثبت من رواية شعبة عنه، وقد قال شعبة: كفيتُكم تدليسَ ثلاثة الأعمشِ وأبي إسحاقَ وقتادةَ، فبطَلَت ثالثُ حُججِ المخالفين. 

قال الحافظ ابن حجر: قلت فهذه قاعدة حسنةٌ في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع ولو كانت معنعنة.انتهى 

قولُه: معنعنةً أي رواها بلفظ “عن” وهي التي يتمسك بها المخالفون بحجة عدمِ تصريحهِ بالسَماعِ وقد ردَّ الإمامُ شعبةُ شبهَتَهم وأنه لا تدليسَ فيها.

الثاني: أن التدليسَ يُرَدُّ إجمالاً إلى أمرين هما: تدليسُ الشيوخ وتدليسُ الإسنادِ ذكرهما البَيقُوني من دون تفصيلٍ بقوله: 

الأولُ الإسقـاطُ للشيخِ وأنْ

يرويَ عمّن فوقَهُ بعَنْ وأن

والثانِ لا  يُسقِطُهُ لكن يَصِفْ

أوصافَـهُ بما بهِ لا يَنعرِفْ

فالنوعُ الأولُ وهو حذْفُه الشيخَ الذي سمع منه وروايتُه عن شيخِه الذي روى عنه المحذوفُ “بشرط علمِ اللُقِيّ” أما إن لم يلقَه إنما عاصره فقط فيصيرُ مرسَلاً خفيًّا.

وهذا غير واقع في رواية أبـي إسحـاق عن عبـدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ لأن عبدَ الرحمٰنِ بنَ سعدٍ إنما روى عنه أربعةٌ فقط وهم:

منصور بن المعتمر، وحماد بن أبي سليمان، وأبو شيبة عبدُ الرحمٰنِ بنُ إسحاقَ الكوفيُّ، وأبو إسحاق السبيعي. 

 

أما منصورُ بنُ المعتمر وهو ثقة فعلى ما رأيتُ لا تُعلم لأبي إسحاقَ روايةٌ عنه، ولم أجدْ مَن ذكرَ أنه روى عن منصورٍ في كتب الطبقات، إنما روى منصورٌ عن أبي إسحاق، ثم روى عن منصورٍ الطبقةُ التي سمعت من أبي إسحاقَ كإسرائيلَ بنِ يونسَ بنِ أبي إسحاقَ والثوريِّ والأعمشِ وابنِ عيينة.

وكذلك حماد بن أبي سليمان لا تُعلم لأبي إسحاق رواية عنه ولا له رواية عن أبي إسحاق وقد كان صاحب فقه قليل الرواية، قال الذهبي في السِيَر: وليس هو بالمكثر من الرواية، لانه مات قبل أوان الرواية.انتهى

وكذلك أبو شيبة عبدُ الرحمٰنِ بنُ إسحاقَ لم يرو عنه أبو إسحاق ولم يروِ أبو شيبةَ عنه.

فعلى هذا لا وجهَ لتدليسه إذن بحمد الله، وعبد الرحمٰن بن سعد ليس مكثرا من الحديث بل هو قليل الرواية فلو أراد أبو إسحاق التدليسَ لدلَّس عن غيرِه أي لكان حذف عبدَ الرحمٰن نفسَه وروى عمَّن سمع منه عبدُ الرحمٰنِ بنُ سعد مِنَ المشهورين.

تنبيه: من حيثُ الإجمالُ في الرواةِ، قد يكونُ هناك راوٍ روى عن رجلٍ، لكن لا يذكرونَه لأنه قليلٌ جدًا، وهذا يدخلُ أيضًا في الاحتمالِ العقليِّ، ولا يفيدُنا شيئًا هنا، لأنه مقامُ نفيٍ وإثباتٍ، ويقال في الحالين: إن كنتَ ناقلاً فالصحة، أو مُدَّعِيًا فالدليل، وهذه قاعدةٌ مقرَّرةٌ تجدُها في كتب الأصولِ وكتب الجدل والمناظرة، والله أعلم. 

ويكفي بعدَ حصرِهم عن عبدِ الرحمٰن بنِ سعد بثلاثةٍ غيرِ أبي إسحاق أن يقال: قد عرَفنا بهذا مخرَجَهُ سواءٌ دلّسَهُ أم لا، فزالت شبهةُ التدليس. 

وهذا كلُّه دونَ الكلامِ على إثباتِ الإمامِ شعبةَ سماعَ أبي إسحاقَ للحديثِ دونَ تدليس.

وتدليسُ الإسناد له أسباب منها ضعفُ الراوي، ومنها طلب علو الإسناد وهذانِ كما هو ظاهر لم يقعا من إبي إسحاق إذ لا مجال للتدليس هنا.

أما النوع الثاني للتدليس فهو تدليس الشيوخ وهو أن يصف شيخه بوصف لا يُعرف به ويريد بذلك إما الإكثارُ من الرواية بحيث يَظهرُ تعدد الشيوخ ويكون في الحقيقة شيخا واحدا، وإما أن يغير وصفه بسبب ضعفه ولو كان ثقة عنده فيظن السامع أنه راوٍ ءاخر، أو بسبب صِغَرِه وهذا النوع قطعا لم يقع من أبي إسحاق السبيعي.

والحمد لله على تحرير هذه المسئلة التي بها يزول كل إشكال حول ما قيل عن تدليس أبي إسحاق.

 

فائدة مهمة:

هناك قواعدُ في علمِ الحديث تُذكَر عموما لكن يكون فيها استثناءات، وهذا أمر معروف عند أهل هذا الفن، فمثلا تدليسُ الأعمش معروف لكن يستثنى من ذلك ما أثبته البخاريُّ ومسلم في الصحيحين فيدل على السماعِ، أو ما نص حافظ على صحته، وكذلك يستثنى في شيوخٍ له كما قاله الذهبي في الميزان: متى قال “عن” تطرق إلى احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصَنف محمولة على الاتصال.انتهى

 

فلا يغرَّنـّك قولهم “فلان مدلس” فتحملَه مطلقا لرد ما رواه هذا الراوي المدلسُ بلفظِ “عن” و”أن”، بل عليك أن تنظرَ في أقوال أهل العلم في مروياتِه وما يُستثنى منها.

وما نحن فيه واللهِ مصيبةٌ في هذا الزمن فقد تجرأ من قرأ بعضَ الكتب على التصحيحِ والتضعيفِ، فينظرُ في الميزان مثلاً فيرى أن هذا الراوي مدلِّسٌ، فيردُّ روايتَه بهذه الدعوى ولا يدري المسكينُ أنه في روايتِه عن فلانٍ لا يدلِّسُ، لأنه مثلاً روى عنه حديثًا أو حديثين، أو أنه في نفسِه غيرُ مشهورٍ بالروايةِ بل قد يكونُ هو أشهرَ الرواةِ عنه والناس إذا أرادت حديثَه تأتي إلى هذا المدلِّس، فأنَّى لهذا التدليسُ عنه، وإنّا لله وإنا إليه راجعون على هذه المصيبة.

ففرق كبير بين القاعدةِ عمومًا وبين ما يستثنى منها، فأبو إسحاق – ولو سلّمنا تنـزُّلا أنه اختلط – فيُستثنى منها كما قال الإمامُ الحافظُ العلائيُّ والحافظُ الذهبيُّ، وقال بعدهما ابن الكيال في الكواكب النيرات:

أطلق يحيى بنُ معين والنَسائيُّ والعِجْلي وأبو حاتمٍ القول بتوثيقه.انتهى

وهو معدود في أئمة التابعين وحفاظهم، وقد ثبت بحمد الله بكل حالٍ روايته لهذا الحديث قبل ما قيل عن اختلاطه وهي رواية شعبة والثوري، فدعوى اختلاطه باطلةٌ بعد هذا البيان.

 

روايةُ الهيثمِ بْنِ حَنَشٍ

قال الإمامُ ابنُ السُنّيِّ رضي الله عنه في كتابِ عملِ اليومِ والليلةِ:

حدثنا محمد بن خالد البَرذَعي ثنا حاجب بن سليمان ثنا محمد بن مُصعَب ثنا إسرائيلُ عن أبي إسحاقَ عن الهيثم بن حنش قال: (كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فقام فكأنما نُشِطَ مِن عِقال) انتهى

قلت: هذا على القواعد الحديثية لا ينـزل عن رتبة الحسن، وقد ضعفه المخالفون بحاجبِ بن سليمانَ الثقة الحافظ ثم بمحمد بن مصعب القرقساني وأبي إسحاق والهيثم بن حنش، وهذا تضعيف غير مقبول بالتالي:

حاجبُ بن سليمان ثقةٌ قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: الحافظ الرحّال، ولم يذكروا له إلا حديثًا رواه عن وكيع فحكم الدارقطني بوهمِهِ، وأنه انفردَ عن البعضِ كعبد المجيد بن أبي رواد بأحاديث لا يرويها غيرُه، وهذا واقعٌ في أغلبِ الرواةِ، وقد وثقه النسائي مطلقًا وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، فلا يصح التمسك بعبارة الحافظ: صدوق يهِم، قال ابن مَعين: لستُ أعجبُ ممّن يحدِّثُ فيخطئُ، إنما العجبُ ممَّن يحدِّثُ فيُصيبُ، وقال في تاريخِه: من زعم أنّه يحدِّثُ ولا يخطئُ فهو كذّاب.انتهى، وقد صحّح له شيخُهم الألباني خمسةَ أحاديثَ في سنن النسائي، فسبحان الله العظيم، هؤلاءِ جماعةٌ ما فيهم واحدٌ أهلٌ للتصحيحِ والتضعيف.

 

وأمّا محمدُ بنُ مُصعبٍ صدوقٌ يخطئُ، قال الذهبي: فيه ضَعف. وهذه من عبارات التضعيف الخفيفة، فيه ضَعفٌ أي ليس ضعيفًا مطلقًا، ليس من أهل الدرجة الوسطى فما دونها في الضعف بل هو فوق ذلك، بل صحّح له الترمذي.

لكن أليس من العجبِ أن يذكرَ المخالفونَ من ضعَّفَه فقط دون ذكرِ المعدِّلينَ له، وهذه العادةُ ليست جديدةً فطالما فعلوا نفس الشىء.

وقال ابن عدي: لمحمد بن مصعب عن الأَوزاعيِّ وعن غيره أحاديثُ صالحةٌ وعندي أنه ليس بروايتِه بأسٌ.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا بأس به.

قلت: بل احتج به الإمام البخاري في تاريخه في عدة مواضع، منها في ترجمة سحيم بن هانئ، قال:

سحيم بن هانئ، قال لي ابن أبي عتاب حدثني محمد بن مصعب القرقساني حدثنا سحيم بن هانئ وكان يجالس الاوزاعيَّ وكان ثقةً.انتهى

وهذا يثبت عدالتَه لأن إمامَ المسلمين في الحديثِ احتجّ به واعتمد عليه في توثيق رجلٍ، وتوثيقُ الضعيف لا يُقبَل فدلّ على أنه ثقة، وأنعِم به تعديلا.

وأوسط الأقوال فيه التي حكاها الحافظ ابن حجر في التقريب أنه صدوق كثير الخطأ. وقال الإمام البخاري: كان يحيى بنُ معين يُسيءُ الرأي فيه.

قلت: والإمام يحيى بن معين من المتشددين كما هو معروف.

وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعةَ: محمدُ بن مُصعبٍ وعليُّ بن عاصمٍ أيُّهما أحبُّ إليك قال محمدُ بن مصعب.

وروى له الحاكم في مستدركه وقال: ومحمد بن مصعب ثقة، ثم صحح له عدة أحاديث فخالفه الذهبي في تلخيصه وضعفه كما مر سابقا تضعيفا خفيفا، وهو فوق ذلك لما مرَّ عن الإمام  البخاري وسيأتي تفصيلُه إن شاء الله.

وروى له الترمذي عن الأوزاعي حديثَ الاصطفاء وفيه: واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشمٍ.

وقال: هذا حديث حسن صحيح

وصحح له شيخُهم الألبانيُّ واحتج به ابنُ تيمية إمامُهم وأقرَّ تصحيحَ الترمذي.

وقال الحافظ مغلَطاي في شرح سنن ابنِ ماجه عن حديث:

هذا حديث حسنٌ، للاختلافِ في حال “كثيرٍ” فإنّه ممَّن صحَّح له الترمذيُّ حديثًا.انتهى

فهذا الرجل حديثُه حسنٌ صدوقٌ يخطئُ، والمختلفُ فيه مثلُه يكونُ حديثُه حسنًا كما سيأتي لاحقًا بإذن الله، فمتى ما وافق غيره زال الضعف كما هو مقرر عند أئمة هذا العلم ولا جدال في هذا، ولا فرق بين كونِه وافقَ غيرَه في المتابعات أو في الشواهد.

مثاله قول الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد مُخَرِّجًا: رواه أحمد وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ قال الترمذي: صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه وسمعت محمد بن إسماعيل – يعني البخاري – يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت: (فالحديث حسن) والله أعلم.انتهى

وقال عن حديث: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وفيه سلمة بن الفضل وثقه ابن حبان وقال: يخطئ وضعفه جماعة وقد تابعه ابن لهيعة (فالحديث حسن).انتهى

قلت ولله الحمد فهذا عينُ ما نحن فيه، فهنا لا ينـزل عن الحُسْن في هذه الحال لثبوت حفظه لما روى، ولا أراه إلا ضبطه بكل حال إذ قد صرح بالتحديث عن إسرائيل وهو عن أبي إسحاق لا محالة لأنه لا تُعلم للهيثم بن حنش رواية إلا من طريقِ أبي إسحاق وسلمةَ بن كُهَيل، وبالبديهة لا وجه لرواية محمد بن مصعب عن سلمة بن كُهيل، فروايته بهذا الإسناد مضبوطة، وهذا مما يدل بقليلِ النظر بعين الإنصاف على كونه عن إبي إسحاق عن الهيثم بن حنش.

ولو كان عن سلمة بن كهيل لكان لنا لأنه يكون ازداد قوةً وعلِمنا عِزّتَه أي اثنينيَّةَ الرواةِ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما ويكون متابعةً تغنينا عن كل هذا التفصيل، سبحان الله.

وعلى سبيل التنـزُّل إن قلنا بكونه مخطئا عن الهيثم بن حنش فقد عرفنا مخرجه وأنه عن عبد الرحمٰن بن سعد على الصواب، ولله الحمدُ والمنة.

أما الهيثم بن حنش فهو ثقة بلا ريب، فسيأتيك ردُّ العلماءِ عليه، والهيثمُ أخذ عن ابن عمر رضي الله عنهما وحج معه وروى عنه وأخذ عنه فقها، وروى كذلك عن الصحابي حنظلة الكاتب رضي الله عنه، وسترى توثيقه بإذن الله وهذا ما سيُظهِرُ جهلَ المخالفين الخائضين في هذا العلم بغير علم ولا هدى، وسترى كيف خانوا أمانةَ العلمِ واقتصروا على تجهيلِ الخطيبِ البغداديِّ لعينه وهم يعلمون أنه ليس كذلك.

وقلَّدَ الخطيبَ جماعةٌ ممَّن ليسوا من أهلِ الحفظِ لا حاجةَ بنا إلى ذكرِهم.

والهيثمُ بن حنش روى عنه أبو إسحاق السبيعيُّ وسلمةُ بن كُهَيلٍ، وشعبة – على الثابت – كذلك كما ستراهُ بإذن الله.

قال ابن أبي حاتم: الهيثم بن حنش النَخَعي كوفي روى عن ابن عمر، روى عنه أبو إسحاق الهَمْداني –أي السبيعي- وسلمةُ بنُ كُهَيلٍ سمعت أبي يقول ذلك.انتهى

وقال الإمامُ الدارقطنيُّ في المؤتلِف والمختلِف: الهيثم بن حنش يروي عن حنظلة الكاتب حدث عنه سلمة بن كهيل.انتهى

فابتداءً هو ليس مجهولَ العين كما تمسك به المخالفون أخذًا بقول الإمام الخطيب البغدادي إنه لم يرو عنه إلا أبو إسحاق، فهذا خطأ من الإمام الخطيب ولهذا رده العلماء في كتبهم، وبعضُ المختصرين لمقدمةِ ابن الصلاح حذف اسمَ الهيثمِ بنِ حنشٍ ممن انفرد بالرواية عنهم أبو إسحاق على قول الخطيب.

مثاله: قول الإمام العراقي في فتح المغيث: وكذلك الهيثم بن حنش روى عنه أيضا سلمة بن كهيل، قاله أبو حاتم الرازي.انتهى

وقول الإمامُ ابنُ الملقِّن في كتابه المقنِع:

وذكر الخطيب أيضا أنه لم يرو “عن الهيثم بن حنش” غيرُ أبي إسحاق هذا وليس كما قال فقد روى عنه أيضا سلمة ابن كهيل.انتهى

وقال الإمامُ أبو نُعيم في معرفةِ الصحابةِ: حنظلةُ بنُ الربيعِ بنِ المُرَقَّعِ بنِ صَيفِيِّ الأسيديُّ التميميُّ كاتبُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ أخي أَكثَمَ بنِ صَيفي. روى عنه أبو عثمانَ النَهْديُّ ويزيدُ بنُ الشِخِّيرِ والمرقعُ بنُ صيفيٍّ والهيثمُ بنُ حنش.انتهى

قلت: روايتُه عن حنظلة الكاتب وهو حنظلةُ بن ربيعةَ الأُسَيديُّ (ويجوز فيها الأُسَيِّدي) وكان من كُتّاب الوحي رضي الله عنه، في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطبراني في الكبير وغيرها، وقد تتبعت مروياتِه فوجدتُه شديدَ الضبط يروي الحديث بضبط تام، مثاله:

قال الطبراني في المعجم الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو حذيفة ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل “عن الهيثم بن حنش”: عن حنظلة الكاتب قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الجنة والنار فكنا رأي عين فخرجتُ فأتيت أهلي فضحكت معهم فوقع في نفسي شىء فلقيت أبا بكر رحمه الله فقلت: إني نافقت قال: وما ذلك؟ فقلت: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الجنة والنار وكنا كأَنَّا رأي عين فأتيت أهلي فضحكت معهم قال أبو بكر إنا لنفعل ذلك فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: يا حنظلة لو كنتم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق يا حنظلة ساعة وساعة.انتهى

ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي الكاتب قال:

كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار حتى كأنّا رأيَ عين فأتيت أهلي وولدي فضحكت ولعبت وذكرت الذي كنا فيه فخرجت فلقيت أبا بكر فقلت نافقتُ نافقت فقال إنا لنفعله فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال يا حنظلة لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو في طرقكم – أو كلمةً نحو هذا – هكذا قال هو يعني سفيان يا حنظلة ساعة وساعة.انتهى

قال أبو نُعيم: ورواه الثوريُّ عن سلمةَ بنِ كهيلٍ عن الهيثمِ بن حنش عن حنظلةَ نحوَه.انتهى ومثلُه في تهذيب الكمالِ للمِزّي. 

وهذا بحمد الله ضبط تام، وهناك رواياتٌ أخرى تدل على كمالِ ضبطِه، كقولِه عن ابنِ عمرَ في الحج: (ربِّ اغفِرْ وارحمْ إنَّكَ أنتَ الأعزُّ الأكرم). وقد استحبّه أهلُ العلمِ كالشافعيِّ رضي الله عنه لِما رُوي عن ابن عمر.

وقال العلاّمةُ الحافظُ مُغْلَطاي (ويقال مُغُلْطاي) في شرح سنن ابن ماجه:

حديثُ ابنِ عمرَ المذكورُ في مسنَدِ السرّاج بسندٍ صحيح قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وءاله وسلم فجاء رجل فدخل في الصلاة فقال: الله أكبر، كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، فلما قضى النبي صلى الله عليه وءاله وسلم الصلاة قال: من صاحب كلام كذا وكذا فقال الرجل: أنا، فقال: عجبت لها فتحت لها أبواب السموات، قال ابن عمر: فما تركتُهُن منذ سمعتُ النبيَّ صلّى الله عليه وءاله وسلم يقول ذلك.انتهى

قلت: روى عبدُ الرزاق في مصنَّفِه عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش أنه رأى بن عمر وصلى معه إلى جنبه فقال الله أكبر، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا اللهم اجعَلْكَ أحبَّ شىءٍ إليّ وأحسنَ شىءٍ عندي.انتهى

وهذا يدل على كمال ضبطه وملازمته له بمعنى أنه لم يكن فقط ممن رءاه مرة أو حضر له مجلسًا، فقد صلى معه هنا وروى عنه أبو إسحاق أنه حج معه وسمعه يلبي كما في مصنَّفِ ابن أبي شيبة، وسأله في الحج عن التلبية كما رواه ابن جرير.

والهيثم بن حنش وثقه ابنُ حبانَ في ثقاته فقال: (الهيثم بن حُبَيش) النخعي يروي عن ابن عمر، روى عنه أبو إسحاق الهمداني وسلمة بن كهيل.انتهى

وهذا كما تراه تحريفُ نَسْخٍ لا أكثر، وقد وقع هذا أيضا في التاريخ الكبير للإمام البخاري فقال: (الهيثم بن حبيش) النخعي روى عنه أبو إسحاق الهمداني وسلمة بن كهيل.انتهى

وقالَ الإمامُ مسلمٌ في المنفرداتِ والوحدانِ: الهيثمُ بنُ حبيش. ذكَرَه فيمن انفرد أبو إسحاقَ السبيعيُّ بالروايةِ عنهم، وهذا غير صحيحٍ في تفرُّدِ أبي إسحاقَ عنه كما علمت.

وهو الهيثم بن حنش إنما التصحيف من النساخ كما يظهر ولا يوجد ابن حبيش ولا له رواية أبدا، والله أعلم في أي زمن حصل هذا التصحيف لكنه عجيبٌ لأن الحافظ علاءَ الدين مغلطاي قال في شرح سنن ابن ماجه:

روى أبو نعيم – أي الإمامُ الفضلُ بنُ دكينٍ – في كتاب الصلاة (بسند صحيح) على رسم الـبستي عن أبي الأحوص عن أبي إسحاقَ عن الهيثم بن حنش عن ابن عمر موقوفا: اللهم اجعَلْكَ أحبَّ شىءٍ إليّ وأحسنَ شىءٍ عندي.

قلت: وهو في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن الهيثم بن حنش عن ابن عمر كما مر، وما كُتِبَ في بعضِ النسخِ من شرح مغلطاي في شرح ابنِ ماجهْ أنّه حبيش فغير صحيحٍ لأني اطّلعتُ على الشرحِ مخطوطًا ورأيتُ كلمةَ حنش مكتوبةً بغيرِ نَقطٍ (حىس)، فصحّفها الناقلُ، وسترى بإذن اللهِ في ءاخرِ الكتابِ صورةً عنها، وءافةُ الكتبِ نُسّاخُها، والله المستعان.

ووجدت عبد الرحمٰن اليماني – وهو عظيمٌ جدًا عند المخالفين – قال: كذا في الأصلين والثقات والذي في كتاب ابن أبي حاتم (حنش) وفي لسان الميزان: (الهيثم بن حسن) قال الخطيب في الكفاية لم يروِ عنه غير أبي اسحاقَ السبيعيِّ. والصواب في اللسان (حنش) لانه ذكره بعد (الهيثم بن حماد) وفي الكفاية (حنش) فهو الراجح.انتهى

قلتُ: أما لسانُ الميزانِ ففي نُسخةٍ هكذا، وفي نسخة جيدة بدون تحريفٍ “الهيثمُ بن حنش” لهذا حاول اليماني إثباتَ أنه في اللسان من خطأ النساخ، لأنه جاء بالهيثم بن حسن بعد الهيثم بن حماد، وحرف النون (حنـ) بعد الميم (حمـ) وهذا إثبات تصحيف الناسخ، وليس الوهمُ من ابنِ حجر يقينًا، لأنه ذكره في فتح الباري باسمه قال: والرجل الذي أتى ابن عمر هو العلاء بن عرار بمهملات بيّنه النسائي في كتاب الخصائص، وفي أمالي النجاد أنه ابن عرار أو الهيثم بن حنش.انتهى

وعجيبٌ أنهم يصفونه بأنه “ذهبيُّ العصر” ولا يعرفُ كتاب “المنفردات والوحدان” للإمامِ مسلمٍ، ولا يُحسِنُ النظرَ في فتح الباري الذي هو في متناوَلِ المبتدئينَ زيادة على المنتهينَ المتمرِّسين، ولا يَعرفُ أنّ أبا إسحاقَ لم ينفردْ بالروايةِ عن الهيثمِ، وإن كان يعرفُ فالمصيبةُ أكبرُ، وعجبًا له كيف يدّعي التبحُّرَ في “التنكيل”، وهو ناقلٌ ولا يَسَعُه السكوتُ في مقامِ البيان إن كان ينقلُ كلامًا باطلاً، وهذا أولُ تنكيلٍ له ولله في خلقِه شُئونٌ وأولُ الغيثِ قطرة.

وفي إيراد الحافظِ ابنِ حجرٍ لروايةِ النجاد فائدةٌ وهي إثباتُ سماعِه من ابنِ عمر وإقرارُ ابنِ حجرٍ لأنه سكتَ عنها وهذا مما اشترطه في مقدمة الفتح فلا تنـزل عنده عن مرتبة الثبوتِ، وهذا توثيق ءاخر يستفاد من ابن حجر، ولعلّنا لو اطّلعنا على اسم الراوي لأَثبتنا راويًا ءاخر عن الهيثم، ولو كان كلامُ النجادِ غيرَ مسلَّمٍ به لَضَعَّف الروايةَ.

وكذلك ابنُ حجر نقله عن الخطيب في الكفاية، والخطيبُ يقول: (الهيثم بن حنش)، فليس من ابن حجر قطعًا.

وهذا فيه مسائلُ:

منها: قول الحافظِ مُغلطاي بإسنادٍ صحيح تصحيح لإسناد أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش والحمد لله.

ومنها: توثيق الهيثم بن حنش

ومنها: تصديقٌ لقولي الذي قلته تفقُّها تَبَعا للقواعد الحديثية أنه لا مجال للتدليس هنا، لأنه لا راوي عنه إلا أبو إسحاقَ وسلمةُ بنُ كُهيلٍ ولا سبيل لرواية القرقساني عن ابن كهيل عن الهيثم.

وهذا كلُّه لن تجدَه مجموعًا منصوصًا عليه في مَظانِّه إنما يسّر اللهِ تبارك وتعالى جمعَها هنا بحمدِ الله، ولم يزلْ أهلُ السنةِ أشاعرةً وماتُريدِيَّةً ناصِري العلومِ ومُحرِّريها طائفةً منصورةً بإذنِ اللهِ حتى يأتيَ أمرُ اللهِ تعالى، وهل بعدَ هذا البيانِ يُعتمَدُ على كلامِ الألبانيِّ المتعدِّي على الأحاديثِ راكبًا مَطِيّةَ جهلِه .

بحثٌ في روايةِ شعبةَ عن الهيثمِ ورفعِ الإشكالِ عنها:

روى الإمامُ الحافظُ أبو عبيدٍ القاسمُ بنُ سلاّم في كتاب الطهور من طريق شعبة سمعتُ “الهيثمَ بنَ حبيب” قال: سمعت ابن عمر حين دخل في الصلاة، أو افتَتح الصلاة ، يقول: اللهمَ اجْعَلْكَ أحبَّ شىءٍ إليّ وأخشى شىءٍ عندي.انتهى

قلت: شعبة روى عن الهيثمِ بنِ حبيبٍ وهو ثقةٌ أحاديثُه شديدةُ الاستقامةِ على قولِ الإمامِ شعبةَ، لكن لم أرَ من ذكر لابن حبيبٍ روايةً عن ابنِ عمرَ وهو من الطبقة السادسة التي لم يثبت لها لقاءُ صحابيٍّ، وعلى هذا فهو تابعيٌّ باعتبارِ المعاصرةِ، فذاك هو الهيثمُ بن حنش وهذا يُثبتُ سماعَ شعبةَ من الهيثمِ بنِ حنش، فتكون محرَّفةً من حنش إلى حنيش أو حبيش إلى حبيب كما رأيتَه وتكرَّر معك، ولعل الناسخَ علم بروايةِ شعبةَ عن الهيثم بن حبيب الصيرفي فظنّه هو، وإما أن يكون عن الهيثم بن حبيب عن راو عن ابنِ عمر وهذا لا يستقيمُ لأنّ شعبةَ صرَّح بسماعِه، وملاَّ علي القاري قال بأنه من أجلاء التابعين ثم ذكر روايةَ الإمام أبي حنيفةَ عنه عن أنسِ بن مالكٍ ولم يَحْكِ أنه سمع منه أو لم يسمع منه، وملا علي القاري لم يكن حافظا إنما كان محدثًا فقط، ولعلّه قصور منه فإن الحافظ ابن حجر عدّه من أهل الطبقة السادسة التي قال فيها:

السادسة: طبقة عاصروا الخامسة – وهم صغار التابعين – لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج.

ثم قال: الهيثم بن حبيب الصيرفي الكوفي صدوق من السادسة.انتهى

قلت: صدوقٌ هنا باعتبارِ حالِ ما قيل عنه تعني أنه ثقة، وعلى هذا يتلخصُّ أمران هنا والله أعلم:

الأول: ما مرَّ من عدمِ ذكرِ روايتِهِ عن الصحابةِ إلا بالعنعنةِ، قال المزّيُّ: يشبهُ أن يكونَ في المراسيل (وجعل رمزَه “مد” أي مراسيل أبي داود) وأقرَّه الحافظُ ابنُ حجرٍ في تهذيب التهذيب.

الثاني: أنها صُحِّفَت أو حصلَ سقطٌ في النَسخِ أو هو وهمٌ حاصلٌ من الجمعِ بين حنشٍ وحنيشٍ وحبيشٍ وبينَ روايةِ الإمام شعبة عادةً عن الهيثمِ بنِ حبيبٍ، وكانوا قديمًا كما هو معروف يكتبون بطريقةٍ يسهُلُ فيها التصحيفُ، وما كان عندَهم في الزمن الأول تنقيطٌ كما هو الحالُ الآنَ، ولم يكن شكلُ الحروفِ كما هو الآنَ، فتَقرأ مثلاً في باب الطهارة على رسم خطِّهم: (اسـىر وسلار) بغير نَقط، وظاهر لنا أنها (اسـر وسلار) أو وهذا الرسمُ لا معنى له لا في باب الطهارةِ ولا في غيرِه، وبعد النظر والمقارَنة ظهر أنها (اثنتين وثلاث)، وعلى هذا فقس (سفيان بغير نَقطٍ ولا ألف) كما تكتب “سُفْيَن ورحمٰن” تظهر لك (سمىر أو سفىـر) وعلى هذا فكلمة (حىـس وحبيب) بغيرِ نقطٍ مثلها، وهم يكتبون الباء كالراء (حبىير) وتصحيفُها (حبيس) وهي حبيش بغير نقط في  غاية السهولة، فتشابُههما شديدٌ والتصحيف فيهما في غاية السهولة، ولولا هذا لما صحفُّوا (حنش إلى حبيش).

ولا عجبَ فقد وقع التصحيفُ بأشدَّ من هذا، وقصةُ الإمام الحافظ صالح “جزَرة” من أئمةِ السلفِ مشهورةٌ وكان سببُها أنه أراد أن يقرأَ “خرَزَة” فصحَّفَها فقال “جزَرَة” وصار لقبًا له يعرفُ به (صالح جزرة)، وكذا تصحيفُ الحافظِ أبي بكرٍ الصُوليِّ قال: (من صام رمضانَ وأتبَعَه شيئًا من شوّال) إنما الحديث (وأتبَعَه سِتًّا من شوال).

وأعجبُ من هذا أن أحدَهم أراد أن يكتبَ تصحيف الحافظِ غُنْدَر وكيف صحَّفَ “أُبَيّ” أي ابنَ كعبٍ فقال “أَبِي”، فقال: صحَّفَه غنـزة، فسبحان من له الكمالُ تبارك وتعالى.

وما نحنُ فيه من تصحيفِ هذا الحديثِ بعينِه أوضحُ بيانٍ أيضًا، فالمرويُّ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: (وأخشى شىءٍ عندي) وعند عبدِ الرزاق في مصنَّفِه: (وأحسنَ شىءٍ عندي)، وإذا نظرتَ إلى رسم الكلمتين رأيتَ التشابُه بين أخشى وأحسن ولو كتبناهما بغير نقط هكذا: (أحسى و أحسن) لعرفت يقينًا مدى سهولةِ الأمر.

وقد روى ابنُ أبي شيبةَ هذا الحديثَ عن أبي الهيثمِ، وإنما هو عن الهيثمِ  أي ابنِ حنشٍ لا أبي الهيثمِ، وقد رأيتُ بعدَها تصريحَ محدِّثِ الديارِ الهنديةِ الشيخِ حبيبِ الرحمٰنِ الأعظميِّ في تحقيقِه على مصنَّفِ عبدِ الرزاقِ فقال: ورواه ابنُ أبي شيبةَ عن أبي الهيثمِ وهو خطأٌ، والصوابُ الهيثمُ بنُ حنشٍ.انتهى، والحمد لله. 

تنبيهٌ مهم:لم يذكروا روايةَ شعبةَ عنه لسببٍ من هذه الأسباب التي قالها الحافظ ابن القطّان:

لم تَجْرِ عادةُ المحدِّثين باستيعابِ رواةِ المحدِّثِ إذا ذكروه، وإنما يذكرون منهم إما مَن اشتهر بالأخذ عنه أو من في روايته عنه تفخيم له أو ما كان من ذلك متيسِّرًا مُمْكِنًا، فليس ينبغي لمن نظر في كتب الرجال فرأى مثلا أبا كبشة السلولي روى عنه حسان بن عطية، أن يظن أنه لم يروِ عنه غيرُه، بل قد يوجد مِمّن يروي عنه جماعةٌ سوى مَن ذُكِر.انتهى، ولم يعترض عليه الذهبي.

قلت: فلعلّه لِنُدُورِ روايتِه عنه، ولعلَّهُ لظنِّهم أنه الهيثم بن حبيب هذا ولم يطَّلع أحدٌ منهم على روايتِه عن الهيثمِ بن حنش، فإنّ الكمالَ للهِ تعالى، وأضِفْ إلى هذا قلةَ الاطِّلاعِ على حالِ كثيرٍ من الرواةِ على سَعَةِ اطِّلاعِهم رضي الله عنهم، وأصدقُ مثالٍ هو الهيثم بن حنشٍ فإنّ الله يسَّرَ جمعَ ما هو عجيبٌ غريبٌ عن حاله. 

ومثالُ ما نحنُ فيه أنه لم يذكر أحدٌ فيما علِمتُ ليثَ بنَ أبي سليمٍ راويًا عن أبي شعبةَ البكريِّ غيرُ أبي أحمدَ الحاكم.

ويؤيِّدُه أنّ هذا الحديث بعينه عند عبد الرزاق وابن أبي شيبةَ عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش عن ابن عمر مصرَّحًا باسمِه، والله تعالى أعلم وأحكم.

تنبيه: على تقديرِ كونِ الهيثمِ بنِ حبيبٍ سمعَ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما، فذلك يزيدُ الهيثمَ بنَ حنشٍ ثقةً ويقوِّي روايتَه لدلالتِه على كمالِ ضبطِه، لكن ذلك يحتاجُ إلى إثباتِ سماعِهِ من ابنِ عمرَ رضي الله عنهما، فيحتاجُ إلى نصٍّ على خلافِ نصِّهم بأنه عنعنَ عن الصحابةِ ورواياتُه عنهم على قولِ المزّيِّ وابنِ حجرٍ مراسيل.

ورأيتُ قديمًا في التقييد والإيضاح للعراقي أن الهيثمَ بنَ حُنيش روى عنه سلمة بن كُهيلٍ كما ذكره ابن أبي حاتم، مع أنه ذكر نفس النص أنه الهيثم بن حنش ردًا على الخطيب البغدادي، مع نصِّه على أنّه ابن حنش في شرحِه على ألفيتِه، فسبحان الله على هذه التصحيفات فهي عجيبةٌ في هذا الشخص، والحمد لله على هذه التحريرات، وقد قيل قديمًا: ءافةُ الكتُبِ نُسَّاخُها. 

فائدةٌ في بعضِ التصحيفاتِ القبيحةِ جدًا المثيرةِ للعجبِ جدًا مع تفصيلٍ مفيد:

مِن عجيب التصحيفاتِ المضحكةِ المبكيةِ ما رأيتُه في  إحدى مخطوطاتِ المنظومةِ البيقونيةِ عند قولِه:

وذِي منَ اْقسامِ الحديثِ عِدَّه

وكـلُّ واحـدٍ أتـى وحَدَّه

فصحَّفها الناسخُ: وقَلَّ واحداني وحدةٌ.

ولا أدري هل يعي الناسخ ما يكتبُه أم ماذا، فقد شككتُ في كونِه عربيًا وأوَّلَ ما كتبَ في حياتِه هو هذا المتنُ، أو نحن لم نستطع أن ندركَ كُنهَ مرادِه فما سيأتي سيثير عجبَكَ ويجعلك تترددُّ في الحكمِ عليه بأنه من علماء اللغة.

فقد صحَّفَ قولَ البيقوني:

أولُها الصحيحُ وهو ما اتصلْ

إسنادُهُ ولم يشذَّّ أو يُعلّ

فحدّث ولا حرج فقد جعلها: النادّةُ ولم يَشُدّا ويعسِلِ

والنادّةُ هي الشاردةُ النافرةُ، فكأنه على هذا أرادَ أن البعير نادّةٌ وصاحباهُ لم يشدّاها فشردتْ، أما الثالثُ فلم يعسِل أي لم يُسرع في طلبِها ولعله حزنًا عليها لم يعد يدري كيف يتصرَّف.

فلا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيمِ، فهذه المنظومةُ في علمِ الحديثِ وليست جزءًا من حياةِ الحيوانِ الكبرى للدَمِيريّ، وعلى هذا فقد يكون تعلّم الكتابةَ على يدِ أحدِ رُعاةِ الإبل، وسيأتي في ءاخر هذه الفائدةِ سببُ شرحي لها وتخريجِها إن شاء الله.

وأما قولُ البيقوني:

متروكُه ما واحدٌ به انفرد

وأجمعوا لضَعفِهِ فهْو كرَدّْ

فصحّفه قائلا: ولَحْجَموا الضعفةُ

وهذا منه على لغةِ (أكَلوني البراغيثُ)، ولو درى هذا المصحِّفُ معنى التَلَحجم لخجلَ من نفسِه، فإنّ أصلَها التلهجُم قُلبَتِ الهاءُ حاءً، والتلهجم الولوعُ بالشىءِ، فهل أرادَ أن الضعفاءَ أُولِعُوا بروايةِ الضعيف أم ماذا، والله أعلم ماذا يريدُ أن يقول فإن تَرجمانَه يحتاجُ إلى ترجمان.

ثم ختمها بقول البيقوني:

وقد أتت كالجوهرِ المكنونِ

سميتُها منظومةَ البَيقُوني

فصحَّفها: وقدًّا تَتٍ كما لجوهرِ الكُنون.

والقدُّ الشقُّ طُولاً، والتتُّ أيضًا الشَقُّ في الصخرةِ، وإنَّ هذا واللهِ من عجيبِ المصادفاتِ وهذا ما جعلني أنظرُ وأتعجبُ، فهل هو على هذه الدرجةِ من الجهلِ أم عالمٌ في اللغةِ لا يُحسِنُ من علمِ الحديث شيئا، وعلى كل حالٍ فهو إمّا إمام عالمٌ مجنون أو جاهلٌ مغبون، نحمَدُ الله على نعمةِ العقل.

فإذا رأيتَ كلَّ هذا، فلا تغترَّ رعاكَ اللهُ بكثيرٍ من تحايلاتِ المخالفين وتلاعباتِهم بالألفاظِ ومحاولاتِهم ليَّ أعناقِ النصوصِ حتى لا يسلِّموا للخصم ولو كان محقًّا، وسواءٌ في أصولِ الدين أم في الفروع، فإنك مثلاً تجدُ ابنَ تيميةَ يقول بأنّ “أتوجَّه إليك بنبيِّك” أي بدعاءِ نبيِّك، هذا المحتالُ يَعلمُ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَدعُ للرجل بل علّمَه كيف يدعو هو ابتداءً، قبَّح اللهُ ذِكرَه ما أخبث تحايلاتِه المكشوفةَ، يحرِّف هذا بدعوى التفسيرِ ويتركُ قول عثمانَ الدارميِّ المشبِّهِ (لو شاء الله لاستقرَّ على ظهرِ بعوضةٍ فاستقلّت به قدرتُه على عرشٍ عظيم) على ظاهرِه ويستدلُّ به ويزعمُ أن معبودَه يبقى على العرشِ وينـزلُ إلى سماءِ الدنيا وهو ما يزال على العرش والعياذ بالله من هذا الكفرِ الشنيعِ والوثنيةِ المحضةِ ولا يدري هذا المجسمُ أنه يعبد “مطّاطًا” بهذه الصورة الشنيعةِ والعياذ بالله، والإسلامُ جاءَ لمحاربةِ الوثنيةِ، وهذا جعلَ الوثنيةَ إسلامًا محضًا، قاتل الله هذا التجسيمَ والوثنيةَ، ولعلكَ بإذن الله ترى في كتابي “صيدُ ما سنح على زوالِ الترح” وهو حاشيةٌ على شرح الإمامِ ابنِ جماعةَ على قصيدةِ “غرامي صحيح” كيف حاولتُ توجيهَ إحدى العباراتِ للفائدةِ فقط، مع علمي بأصلِ اللفظةِ الصحيحةِ، فراجعه فإنّه مفيد بإذن الله، واعرف قدرَ نفيسِ تحريرِ الصوابِ في اسم “الهيثم بن حنش”، والله تعالى أعلم وأحكم.

وكما ظهر لك فالهيثم بن حنش ثقة على ما رأيت ولو قلنا بأنه لم يرد فيه جرحٌ ولا تعديلٌ فإنه روى عن اثنانِ وظاهرُ أمرِه الصلاحُ حَجَّ معَ سيّدِنا ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وصلى معه وأخذ عنه في الفقهِ، ورواياتُه تشهد بتمام ضبطِه فماذا بقي لهم غيرُ المكابَرةِ، وخصوصًا أن الإمام البخاريَّ ذكره ولم يجرحه وهذا من البخاري تقويةٌ له، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل:

باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تقويه وعن المطعون عليه انها لا تقويه

حدثنا عبد الرحمٰن قال سألت ابي عن رواية الثقاتِ عن رجلٍ غيرِ ثقةٍ مما يقويه؟ قال إذا كان معروفا بالضَعفِ لم تقوِّه روايتُه عنه، وإذا كان مجهولاً نفَعَه روايةُ الثقةِ عنه.

حدثنا عبدُ الرحمٰنِ قال سألتُ أبا زُرْعَةَ عن روايةِ الثقات عن رجلٍ مما يقوي حديثَه؟ قال إي لَعَمري.انتهى

قلتُ: أما البخاريُّ فهناك ما هو قويٌّ في التوثيقِ عنه، فأهلُ العِلمِ يعرفونَ أنَّ تعاليقَ البخاريِّ التي جَزَم بها أي أتى بها بصيغة قال وذَكَر ورَوَى وحَكَى صحيحةٌ صحَّتْ عندَه ولولا ذلك لما جزم بها، قلت ويدلُّ على قوَّةِ القولِ بتقويةِ الراوي الذي سكت عنه في تاريخِهِ أنه في تاريخِه قال: (الربيع بنُ منذر عن أبيه). ولم يذكر فيه جرحًا، ثم قال الحافظ في الفتح بعد قول البخاري: (قولُه تعالى: ومَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا) وقال الرَبيعُ بنُ خُثَيم: من كل ما ضاق على الناس.

قوله: وقال الربيع بن خُثَيم بمعجمة ومثلَّثَة مُصَغَّرٌ، قوله: (من كل ما ضاق على الناس) وصله الطبرانيُّ وابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ الربيعِ بنِ منذرٍ الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى: (ومَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا) الآية، قال من كل شىء ضاق على الناس.

والربيع المذكور من كبار التابعين صَحِبَ ابنَ مسعود وكان يقول له – أي للربيع بن خُثَيم- لو رءاكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَحَبَّك. أورد ذلك أحمدُ في الزُهْدِ بسندٍ جيدٍ وحديثه مُخَرَّجٌ في الصحيحين وغيرِهما والربيع بن منذر لم يُخْرِجوا عنه لكن ذَكَره البخاريُّ وابنُ أبي حاتمٍ ولم يذكرا فيه جرحًا وذَكَره ابن حِبّان في الثقاتِ وأبوه متفق على توثيقه والتخريج عنه.انتهى كلامُ ابن حجر.

قلتُ وهنا مسائلُ:

– الأولى: سكوتُ البخاريِّ عن جرحِه في التاريخِ وجزمِهِ بمعَلَّقِهِ في صحيحِه، وما كان البخاريُّ لِيَجزِمَ في صحيحهِ بتفسيرِ ءايةٍ شريفةٍ عن ضعيفٍ حاشاه وهو أميرُ المؤمنينَ في الحديث، وغايةُ ما في الأمر أنه ليس من شرطِ صحيحِه، وشرطُه أشدُّ من شرطِ غيرِه، لاشتراطِهِ أمورًا فوقَ العدالةِ والضبطِ،

قال الإبناسي في الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح:

ولا نظن بالبخاري أن يجزم القول فيما ليس بصحيح عمن جزم به عنه.انتهى

فصحَّ ذاك عندَه ولكنْ ليس على شرطِهِ الذي التزمَهُ في صحيحِهِ تحديدًا، فلم يُخْرِجْه في صحيحِه، فتمسَّك بها.

– الثانيةُ: توثيقُ ابنِ حجرٍ للربيع بسكوتِهِ عن تضعيف الحديث وهذا عندَه إما صحيح وإما حسن، كما التزَم ذلك في مقدِّمةِ الفتح.

– الثالثةُ: البخاريُّ احتجَّ بالربيع بن منذر في تاريخِه الكبير قال في ترجمة الضحَّاكِ بنِ شُرَحبِيلَ المِشْرَقي: حدثني عبيد نا الحسن بن عطية عن ربيع بن منذر عن أبيه: رحلت أنا وسعد بن حذيفة والضحاك بن شرحبيل المشرقي.انتهى

فإن كان ضعيفًا عندَه فلأيِّ معنًى يحتجُّ به، فهو يتكلمُ في دائرةِ الجرحِ والتعديل.

فهذه من النفائسِ فتمسَّكْ بها وهذا كلُّه يدلُّك على أن الهيثمَ بنَ حنشٍ ثقة، والله الموفِّقُ والمستعان.

وكذا مثالُه ما جاء في القول المسدد في حديث سَدِّ الأبوابِ إلا بابَ عليٍّ عليه السلام: رواه الطبراني في الأوسط عن سعد بن أبي وقاص ولم يروه عن الحكم إلا معاوية بن ميسرة بن شريح قلت وهو حفيد القاضي شريح الكندي قال البخاري في تاريخه: سمع الحكم بن عتيبة ولم يذكر فيه جرحا وذكره ابنُ حبان في الثقات.

ثم صحح الحديث اعتمادًا على هذا فقال في الفتح: حديث سعد بن أبي وقاص قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي. أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي. 

وفي رواية للطبراني في الأوسط – رجالها ثقات – من الزيادة: فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا ….. الحديث. انتهى كلام ابن حجر

قلتُ: قولُه (بإسناد قوي)، القويُّ مترددٌ بين الصحيحِ والحسن وهو إلى الصحيح أقرب كما هو مقرر في علم الحديث والهيثم بن حنش ثقة فوقَ هذا كلِّه إنما ذكرته للفائدة.

والخلاصة أن رواية القرقساني لا تنـزل عن رتبة الحسن كما قلت والله تعالى أعلم وأحكم 

وهنا كلامٌ مفيدٌ فيما يتعلق بالهيثم بن حنش ومحمد بن مصعب:

قال الإمام ابن القطان في بيان الوهم والإيهام ردًّا على الحافظ عبد الحق عند ذكر “حُجَيَّة” ما نصه: كذا قال في حجيةَ إنه لا يحتج به، وليس كما قال وإنما هو تبع فيه أبا حاتمٍ الرزايَّ سأله عنه ابنه فقال: “هو شيخ لا يحتج بحديثه، شبيه بالمجهول، شبيهٌ بشُرَيحِ بنِ النعمانِ الصائديِّ وهبيرة بن يَرِيم”

وقال في باب شريح: إن شريح بن النعمان وهبيرة بن يريم شبيهان بالمجهولين لا يحتج بحديثهما.

وهذا منه غير صحيح، ومَن عُلِمَت حالُه في حملِ العلمِ وتحصيلِه، وأخذ الناس عنه ونُقِلَت لنا سيرتُه الدالةُ على صلاحِه أو عُبِّر لنا بلفظ قام مَقام نقلِ التفاصيلِ مِن الألفاظِ المصطلَحِ عليها لذلك كثقةٍ ورِضَا ونحوِ ذلك، لا يقبل مِن قائل فيه: إنه لا يحتج به أو ما أشبه ذلك من ألفاظ التضعيف ولا بد أن يضعفَه بحجةٍ ويذكرَ جرحا مفسَّرا وإلا لم يُسمعْ منه ذلك لا هو ولا غيرُه كذلك كما قد جرى الآن فإنه – أعني أبا حاتمٍ – لم يدل في أمر هؤلاء بشىءٍ إلا أنهم ليسوا بالمشهورين والشهرةُ إضافيةٌ قد يكون الرجلُ مشهورًا عندَ قومٍ ولا يشتهر عند ءاخرين.

نعم لو قال لنا ذلك من ألفاظ التضعيفِ فيمن لم يُعرف حالُه بمشاهدة أو بإخبار مخبِرٍ، كنا نقبله منه ونترك روايتَه به بل كنا نترك روايتَه للجهل بحالِه لو لم نسمع ذلك فيه.

فحجية المذكور لا يلتفت فيه إلى قول من قال: “لا يحتح به” إذا لم يأتِ بحجة فإنه رجل مشهور قد روى عنه سلمةُ بنُ كُهَيلٍ وأبو إسحاق والحكم بن عتيبة روَوا عنه عدة أحاديث وهو فيها مستقيم لم يعهد منه خطأ ولا اختلاط ولا نكارة.

وقد قال فيه الكوفي: إنه الكوفي تابعي ثقة وهو كندي.

وقد كان يجب على أبي محمد – باعتبار ملتزَمِه فيمن روى عنه أكثر من واحد إذا لم يسمع فيه تجريحا أن يقبله، ولو لم يجد توثيقه.

والذي سُمِعَ فيه من ابن أبي حاتمٍ لم يكن تجريحا، إنما كان جهلاً بحاله والعالِمُ حجة على الجاهل.انتهى بحروفه وهو مفيد جدًا ولم يعترضْ عليهِ الذهبيُّ في الردِّ عليه، والله تعالى أعلم وأحكم.

روايةُ أبي شُعبة وهي قصة مختلفة

رواها ابن السُنّي عن محمد بن إبراهيم الأَنْماطي وعمرو بن الجنيد بن عيسى قالا حدثنا محمود بن خِداش عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن أبي شعبة قال: كنت أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما، فخدرت رجله فجلس فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك، فقال: (يا محمداه) فقام فمشى.انتهى 

محمدُ بنُ إبراهيم بنِ نيروزَ الأنماطي رضي الله عنه حافظ ثقة مشهور.

ومحمود بن خِداش – في بعضِ الكتبِ محمد بن خِداش- والذي روى عنه الأنماطي إنما هو محمود بن خداش إمامٌ ثقة، كما في تهذيب الكمال للحافظ المزي.

محمود بن خداش الإمام الحافظ الثقة، أبو محمد الطالقاني ثم البغدادي.

حدث عن هشيم، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، وعباد بن العوام، وسيف بن محمد الثوري، وطبقتهم، فأكثر وجَوَّدَ.

حدث عنه: الترمذي وابن ماجة وأبو عبد الرحمن النسائي في تأليفه له، وبقي بن مخلد ويحيى بن صاعد ومحمد بن فيروز الانماطي، وأبو عبد الله المحاملي وءاخرون.

وأبو بكرٍ بنُ عياشٍ هو الإمامُ شعبةُ، الراوي الثاني عن الإمامِ عاصمٍ الذي اشتهرت قراءتُه في بلادِ الشامِ وغيرِها بروايةِ حفص ويعرفها الناس برواية “حفص عن عاصم”، فأبو بكر هو الثاني عن عاصم إمام في القراءة ثقة في الحديث من حيث العدالة لكن ربما غلط ولا يؤثر ذلك عليه فقد وصف بالحفظ والإتقان وصحة الكتاب مع اعتماد الأئمة عليه في الجرح والتعديل كما في الجرح والتعديل والميزان وتهذيب التهذيب وغيرها.

والقولُ الفصلُ في كلامِ ابنِ عَدِيٍّ عنه:

هو من مشهوري مشايخ الكوفة ومن المختصين بالرواية عن جملة مشايِخِهم (مثلِ أبي إسحاق السبيعي) وأبي حصين وعاصم بن أبي النجود وهو صاحبه وهو من قراء أهل الكوفة لا بأس به وذاك أني لم أجد له حديثًا منكرًا إذا روى عنه ثقة إلا أن يروي عنه ضعيف.انتهى

قلتُ: وابنُ خِدَاشٍ الذي روى عنه ثقةٌ فالإسنادُ صحيح.

والأكثرون ومنهم الإمامُ الشاطبيُّ على أنّ شعبةَ مقدَّمٌ في الأَداءِ على حفصٍ، وقدَّمَ الآخرون ومنهم الإمامُ أبو عمرٍو الدانيُّ حفصًا كما أفادَهُ سيِّدُنا الضبَّاعُ خاتمةُ المتأخرين في هذا العلمِ وكذا أخذتها ضمنَ القراءاتِ السبعِ ثم العشرِ عن سيِّدي صاحبِ الفضلِ محمود بن منصور قرطام جزاه الله وأخاه الشيخَ أبا الفضلِ أحمدَ عني خيرًا على ما تفضّلا به عليّ في شتّى العلوم، والله أعلم.

قال الذهبي في تذكرة الحُفّاظ: أبو بكرٍ بنُ عياشٍ الإمامُ القدوة شيخ الإسلام، ثم روى من طريق أبي عمرو بن السماك نا أحمد بن عبد الجبار نا “أبو بكر بن عياش عن أبي اسحاق” عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أبصر عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وءاله وسلم ثيابا خُلْقانا، قال: ألك مالٌ؟ قلت: نعم، قال: أنعِم على نفسك كما أنعَم اللهُ عليك، قلت إن رجلا مر بي فأَقرَيته فمررتُ به فلم يَقْرِني أَفَأَقْرِيه؟ قال: نعم. حديث صحيح.انتهى كلام الذهبي.

قولُه: أفأَقريه من القِرَى تقولُ قَرَيتُ الضيفَ قِرًى وقَراءً أضفتُه وأَحسنتُ إِليه، فإِذا كسرتَ القافَ قَصَرْتَ “قِرى” وإِذا فتَحْتَ مدَدْتَ “قَراء” ويُحكى “قِراء” أيضًا عن الإمام الكسائيِّ، فقَرَى يَقري مثلُ رَمَى يَرمي والله أعلم.

أما أبو شعبةَ فهو الأشجعي البكري البصري وهو ثقةٌ روى عن ابن عمر وأخذ عنه ورأى الحسن والحسين عليهما السلام، روى عنه عمارٌ الدُّهْني وهلالُ بنُ يِسافٍ (ويقال يَسافٌ وإِسافٌ تابعيٌّ كوفيٌّ ثقةٌ) وأبو إسحاقَ السَبيعيُّ وليثُ بنُ أبي سليم.

قال الذهبي في المقتنى في سرد الأسماء والكُنى:

أبو شعبة بصري عن ابن عمر.

أبو شعبة رأى الحـسن والحسين وعـنه عَمّارٌ الدُهْنِي أظنه الذي قبله.انتهى

وقال المزِّي في ترجمةِ عمارِ بن معاويةَ الدُهْني الكوفي: روى عن …. وأبي شعبة البكري.

قلتُ: وما ظنَّه الذهبيُّ صحيحٌ، فقد قال الحافظ ابنُ مَنْدَهْ في “فتحِ الباب في الكُنَى والألقاب” ما نصُّه:

أبو شعبة البكري من أهلِ البصرة حدث عن الحسن والحسين وابن عمر رضي الله عنهم روى عنه عمارٌ الدُهْني وهلالُ بن يِساف.انتهى

وذكرَه مع توَسُّعٍ الحافظُ أبو أحمدَ الحاكمُ في الأسماءِ والكُنى – مخطوط – وهو شيخُ أبي عبدِ اللهِ بنِ البَيِّعِ الحاكمِ صاحبِ المستدرَك، قال:

أبو شعبةَ رجلٌ من أهلِ البصرةِ عن أبي عبد الرحمٰنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ العدويُّ.

روى عنه أبو الحسنِ هلالُ بنُ يِساف الأشجعيُّ، حدثنا أبو العباسِ الثَقَفي ثنا محمدُ بن الصباح ثنا جرير عن منصور عن هلالِ بن يسافٍ عن أبي شعبةَ رجلٍ من أهل البصرةِ قال صحبتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ في الطوافِ وكان إذا انتهى إلى الركنِ اليمانيِّ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لهُ الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شىءٍ قدير، فلا يزالُ يقولُ حتى يبلغَ الحجرَ الأسودَ. 

أبو شُعبةَ رأى الحسنَ والحسينَ، روى عنه أبو بكرٍ ليثُ بن أبي سليم القرشي وأبو معاويةَ عمارُ بنُ معاويةَ الدُهنيُّ.

إن لم يكن هذا الذي أخرجتُه قبلَ هذا فلا أدري مَن هو: أخبرنا أبو جعفرٍ محمدُ بن الحسين الخثعميُّ حدثنا إسماعيلُ يعني ابنَ موسى الفزاري أنا شريك عن عمارٍ يعني الدُهنيَّ عن أبي شعبةَ قال رأيتُ الحسنَ والحسينَ طافا بعدَ العصرِ وصليا.انتهى كلامُه بحروفِه

أما ورودُه في نسخة وكذا في مصنَّفِ عبد الرزاقِ أنه (أبو سعيد) فتصحيفٌ سببُه اشتراكُهما في الرسم وقد جاءَ غيرَ منقَّطٍ وسترى بإذن الله في ءاخر الكتاب صورةً عن (أبي شعبة) كيف يسهلُ تصحيفُها ومدَى شبهِها الكبيرِ بـ: (أبي سعيد) رسمًا.

ولعلَّه اختلط على بعضهم بسببِ وجودِ أبي سعيدٍ الأشجعيِّ، لكنه روى عن عليٍّ وروى عنه أبو إسحاق كما قال ابنُ مندَهْ، ووجودِ أبي سعيدٍ رأى ابنَ عمر كما قال الذهبيّ، ولا يثبت له سماعٌ منه إنما رؤيةٌ فقط، وفي هذا الحديث أنه كان يمشي معه وسألَه وقال له “اذكر أحبَّ الناس إليك”، فليس هو كذلك.

وتردَّدَ فأبعَدَ الحافظُ السخاويُّ في كونِ “أبي سعيدٍ” كُنيَةَ “الهيثمِ بنِ حنشٍ”، فقال: لا أدري هل أبو سعيدٍ كنيةُ الهيثمِ بنِ حنشٍ أم لا، كما نقله عنه ابنُ عِلاّن في شرح الأذكار.

فالمسئلةُ كلُّها تصحيفٌ كما رأيتَ في مصنَّفِ عبدِ الرزّاقِ وسببُه اتفاقُ أبي سعيدٍ وأبي شعبة بغيرِ نقطٍ في رسم الكلمة (أبو سعىه وأبو سعىد) وما أكثر وقوع هذا.

ولم يُبيِّنْ هذا الخطأ الشيخُ المحدِّث حبيبُ الرحمٰنِ الأعظمي رحمه الله إنما قال: ورواه عنهما ابنُ المنذر ذكره الحافظُ – ابن حجر – في فتح الباري.

وقد وجدتُ في النسخةِ التي حقَّقها رحمه الله والتي طبعَها جماعةُ الألبانيِّ أخطاءً، ومنها تناقضٌ في الجملةِ نفسِها والله أعلمُ فالتصحيفُ أو سوءُ الطباعةِ منهم، ومثالُ ذلكَ حديثُ ابنِ عمرَ “اللهم اجْعلكَ أحبَّ شىءٍ إليَّ وأخشى شىءٍ عندي”

ولم يُذكَرْ في المصنَّف أنّ الظاهرَ تصحيفُها من أخشى إلى أحسن، وكان الواجبُ في صناعةِ الحديثِ تبيينُها، أو تبيينُ أنها مرويَّةٌ بالمعنى وهو من أنواعِ المخالفاتِ عند التدقيقِ فيقالُ شذَّ فلانٌ أو خالفَهم فلانٌ فرواها بلفظِ كذا.

والتناقضُ أيضًا في سياقِ العبارةِ ولا يستقيمُ بوجهٍ فقد قال أو قيل عنه:

أخرجه ابنُ أبي شيبةَ …. اللهم “اجعله” أحبَّ شىءٍ إليَّ إلى أخشى شىءٍ عندي، كذا في النسخة الديوبندية، والصوابُ عندي “اللهمّ اجعلْ” ووقع هنا اللهم أَجعَلُكَ، فلعلَّ صوابَه: اللهمّ اجعلْه.انتهى بحروفه

وهذا فيه عدةُ أخطاءٍ، فقد صحَّح خطأَ ابنَ أبي شيبةَ بخطأٍ وهو “اللهمَّ اجعَلْ” والحديثُ بها لا يستقيمُ فما معنى: اللهم اجعلْ أحبَّ شىءٍ إليّ وأخشى شىءٍ عندي. لا بدَّ من مفعولٍ ثانٍ وإلا فالعبارةُ لحنٌ وكلامٌ غيرُ مفيدٍ لا يحسُنُ السكوتُ عليه.

وكذلك كلمة (اجعَلْكَ) فقد جعلَها (أَجعَلُكَ) فقد صحَّحَ التصحيفَ بتصحيفٍ أشنع، فما معنى اللهمَّ اجعَلْهُ أحبَّ شىءٍ … الحديثَ، فما هو المطلوبُ أن يجعلَ مَن، وما هو الذي لم يذكرْه ابنُ عمرَ رضي الله عنهما.

أما اجعلْكَ أو أَجعلُك فقد وردتْ في الحديثِ فلا سبيلَ إلى الخوفِ منها أو الطعنِ فيها بسببِ ظاهرِ اللفظِ، بل اللفظُ متأوَّلٌ وقد وردَ بهذا حديثُ: (اللهمَّ إني أَجْعَلُكَ في نُحُورِهم وأعوذُ بك مِن شُرورِهم) رواه الإمامُ أحمدُ والبيهقيُّ وغيرُهما بهذا اللفظ.

فمعنى “اجعلْكَ” أي اجعلْ مكانتَك وقدرَك وذِكرَك أحبَّ شىءٍ إليَّ وأخشى شىءٍ عندي، وهذا من كمالِ الإيمانِ فلا يغفلُ عن هذا أبدًا، بخلافِ محبةِ شىءٍ أكثر من حبِّ اللهِ فذلك كفرٌ صريحٌ لا شكَّ فيه والعياذُ بالله.

ومعنى “أجعلُكَ في نحورِهم” أي أتحصَّنُ بك وأحتمي فتحولُ بيني وبينَهم، والله تعالى أعلمُ وأحكم.

فائدةٌ: يُقالُ للمشبِّهةِ هذا الحديثُ يهدمُ دينَكم وعقيدتَكم أنّ اللهَ “بذاتِه” في جهةِ فوق، لأنّ الظاهرَ يَلزَمُ منه أن يكونَ اللهُ بذاتِه في نحورِ الأعداءِ وهذا كفرٌ وحلولٌ كبيرٌ، فإن بقيتُم على مذهبِكم في الأخذِ بظاهرِ الرواياتِ فهذا واحدٌ منها وهو مرويٌّ بأسانيدَ صحيحةٍ، وتكونونَ فريسةً وغنيمةً لأهلِ الحُلولِ قاتلَهم الله ءامين، لأنهم يقولونَ بحلولِ اللهِ في قلوبِهم والعياذُ باللهِ من هذا الكفرِ الفظيعِ وقد سمعتُه منهم، فسيقولونَ لكم: مَن أذِنَ لكم أن تجعلوهُ في النحرِ دونَ القلبِ وبينهما شبرٌ أو أقلُّ؟، وإن قلتُم هو ليس على ظاهرِه قلنا لماذا؟ ألأنّه أَوهمَ التشبيهَ؟ فالقاعدةُ نفسُها والنسبةُ بينَ القولينِ التوافقُ والاشتراكُ في الجسميّةِ والمسافةِ، فمَن تزعُمونَه “الإلهَ” عندَكم على العرشِ بذاتِه هو الذي جَعَلُوهُ بذاتِه في القلبِ والنَحْرِ والعياذُ باللهِ، فتصريحُكم بالمُماسَّةِ كعقيدةِ الحلوليينَ وإن قلتُم بغيرِ مُماسّةٍ فهل عندكم بينهما مسافةٌ متناهيةٌ أم غيرُ متناهيةٍ، فإن كانت متناهيةً عندكم فذلك هو “الوثن” بعينِه، وإن قلتُم بمسافةٍ غيرِ مُتناهيةٍ فقد جعلتموه عدمًا وكلُّ هذه الأقوالِ كفرٌ لا جاءَ بها سلفٌ متّبِعٌ ولا خلَفٌ منتفعٌ، لكنّ الحقَّ لا بدَّ مِن قولِه، فإنكم تفارقونَ الحلوليِّين في التجزئةِ، فأولئكَ الملاعينُ عندهم اللهُ متجزئٌ في قلبِ فلانٍ جزءٌ وفي قلبِ فلانٌ جزءٌ، أما أنتم فقد جعلتُم هذا الصنَمَ كاملاً بل مجموعًا لا ينقصُه شىءٌ إلاّ الفرجُ واللحيَةُ حتى يصيرَ تمامًا مثلَ زيدٍ وعمرٍو، قاتلَ اللهُ كفرَ المجسِّمةِ والحلوليّةِ والمعطِّلةِ، ورضي الله تعالى عن سيِّدِنا أبي حنيفةَ وسيِّدِنا أبي الحسنِ الأشعريِّ وأبي منصورٍ الماتُريديِّ فقد سَلُّوا سيوفَ التوحيدِ والتنـزيهِ ولم تزَل بحمدِ اللهِ الأكفُّ البيضاءُ تضرِبُ بها أدامَ اللهُ عِزَّها ءامين ءامين. 

ماذا نقولُ لأبي جهلٍ وأبي لهبٍ وعُبّادِ الأصنامِ في الأرض عبَدَةِ “بُوذا” إذا رأَوْا كلامَ إمامِكم عثمانَ الدارميِّ في كتابِ الردِّ على الجهميَّةِ في الصحيفة 33: قال رسولُ اللهِ: ثمّ يَنـزلُ في الساعةِ الثانيةِ إلى جنَّةِ عدنٍ التي لم ترَها عينٌ ولم تخطُرْ على قلبِ بشرٍ هي مسكَنُه ولا يَسكُنُها معه من بني ءادمَ غيرُ ثلاثةٍ: النبيينَ والصِدِّيقين والشهداء.انتهى بحروفه.

هذا هو إمامُ عُبّادِ الصنَم، فماذا نقولُ لعُبّادِ الصنَمِ إذا قالوا لنا: انظروا في هذا الكتابِ الإسلاميّ؟ بلا أدنى شكٍّ سنقولُ بأنّ الإسلامَ منه ومِن أتباعِه بريءٌ وإنما هذا الكلامُ مِن صنعِ الزنادقةِ صنعوهُ للمجسِّمَةِ فطاروا به فرحًا، لأنه دلَّهم على زيادةِ تفصيلٍ لصنَمِهم المعبودِ.

ولم يقل لنا الدارميُّ ولا أحدٌ من مُجسِّمةِ الزمانِ في الساعةِ الثانيةِ في أيِّ بلد، فالساعةُ الثانيةُ تتوالى في كل بلدٍ، فعلى هذا معبودُه مجالسٌ مُساكنٌ للنبيين والصديقين والشهداءِ في الجنةِ فليس على العرشِ وبينهما فُرجَةٌ – أي مسافةٌ – قليلةٌ على قولِ الدارِمِيِّ، فمَن الذي أملى على إمامِكم هذه النجاسةِ القلبيّةِ، يا ويلَكَ من اللهِ أيها الدارميُّ فما أشبَه قولَك يا إمامَ مشبِّهةِ هذا الزمانِ بقولِ اليهودِ في كتابِهم المسمَّى سِفْرَ التكوينِ – الإصحاح 28 الرقم 16 – يقولُ اليهودُ – والعياذُ بالله: (حقًّا إن الربَّ في هذا المكانِ وأنا لم أعلم).  

وسبحانَ مَن تنـزَّه عن المكانِ والحدِّ الغنيِّ الْمُستغْنِي أزلاً وأبدًا عن العالمين

وعَودًا على بَدِيءٍ ففي كلامِ ابنِ مندهْ عن أبي شعبةَ فائدةٌ وهي بما يَظهرُ من عبارتِه إثباتُ سَماعِهِ من الحسنِ والحسينِ عليهما السلام، لأنه صرّح بالتحديث عنهما، لكن سبحان اللهِ ضاع الكثيرُ من العلم على مرِّ العصورِ، فإن كان المِزِّيُّ لم يقعْ له سوى جزءين من تفسيرِ ابنِ ماجَهْ مع شهرتِهِ، ولا يُعلَمُ الآنَ من تفسيرِهِ سوى جزءٍ صغيرٍ عند شيخِنا الحسنِ بن الصدِّيقِ الغُمَاري أطال اللهُ في عمُرِه، فما بالُك بمن لم يكن بتلك الشهرةِ من المصنِّفينَ من أصحابِ الأجزاءِ والفوائدِ ولم يَعُد لمؤلَّفاتِهم وجودٌ، نسألُ اللهَ أن يجعلَ عَزاءَنا فيما بقي لنا اليوم ءامين.

وذا ذكرُ بعضٍ من أحاديثِ أبي شعبة: قال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن هلالِ بنِ يِسافٍ عن أبي شعبة عن ابن عمر أنه كان يقول عند الركن والحجر: ربنا ءاتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وروى أيضا من طريق هلالِ بنِ يِساف عن أبي شعبة قال كنت بجنب ابن عمر بعرفة وإن ركبتي لَتَمَسُّ ركبتَه أو فخذي يمسُّ فخذه فما سمعته يزيد على هؤلاء الكلمات: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) حتى أفاض من عرفة إلى جمع.انتهى

وقال الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عمارٍ الدُهْني عن أبي شعبة قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما طافا بعد العصر وصَلَّيَا ركعتين.

وهذا هو ما رواه عبدُ الرزاق عن ابنِ عُيَينةَ عن عمارٍ الدُهني عن أبي سعيد البكري …. الحديثَ بتمامِه.

قال الهيثمي في تخريجه أبو شعبة هذا هو البكري كما ذكره المزي ولم أجد من ترجمه.

وفي تخريجٍ ءاخر قال: رواه الطبراني، وأبو شعبة البكري لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.انتهى

قلت: الهيثمي لم يعرفه بدليل قولِه لم أجد من ترجَمَه، والمزيُّ إنما ترجم أبا شعبة على أنه مولى سويد بن مُقَرِّنٍ المُزَنِي كوفي روى عن مولاه سويد بن مقرن.انتهى، وروى عنه محمد بن المنكدر، وهو غير أبي شعبة البصري هذا وفرَّق بينهما البخاري وابن أبي حاتمٍ وغيرُهما.

أما أبو شعبة الأشجعي البصري مقصودُنا فذكره البخاري في تاريخه قال: أبو شعبةَ الأشجعي وعنه هلالُ بنُ يِساف.انتهى

وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل قال: أبو شعبة الأشجعيُّ البصري روى عنه هلال بن يساف سمعت أبي يقول ذلك.انتهى

وقد مرَّ معك في ترجمةِ الهيثم بن حنش حكمُ سكوتِ البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم فهذا مما يدل على ثقتِهِ، ولا حاجة إلى تكرارِه.

وروى عبد الرزاق في مصنَّفِهِ قال أخبرنا الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي شعبة البكري قال: رمقتُ ابنَ عمر وهو يطوف بالبيت وهو يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شىءٍ قدير ثم قال ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وقال عبد الرزاق وسمعت رجلا يحدث هشام بن حسان عن عم له عن أبي شعبة البكري قال طفتُ مع ابن عمر فسمعته حين حاذى الركنَ اليماني قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وبيده الخير وهو على كل شىءٍ قدير فلما جاء الحجر قال: ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فلما انصرف قلت: يا أبا عبدِ الرحمٰن سمعتُك تقول كذا وكذا قال سمعتني؟ قلتُ نعم، قال فهو ذلك أثنيت على ربي وشهدت شهادة حق وسألته من خير الدنيا والآخرة فدعا هشام بِدَوَاةٍ فكتبه.انتهى أي فاستحسنَه.

ورواه الطبراني في الدعاء من طريق عبد الرزاق.

وليس مرادي من ترجمة رجاله سوى التنبيهِ إلى أن ما رواه أبو شعبة هو قصة أخرى، فهو يقول: كنت أمشي مع ابن عمر … فخدرت رجله “فجلس” … الحديث.

فالظاهرُ أنّ هذا الأمرَ والله أعلم كان يتكرر مع سيّدِنا ابنِ عمر رضي الله عنهما لتغاير القصتين.

وهذا كما ستراه بعدُ بإذن الله يقوي الحديث كما قال الحافظ ابنُ حجرٍ في فتح الباري: قلت الظاهر أن أبا أيوبَ سمعه منهما لاختلاف السياق لأن في روايته عن أُبَيِّ بن كعب قصة ليست في روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم.انتهى، وهذا عينُ ما نحن فيه.

وأبو شعبة داخل تحت قول الإمام ابنِ الصلاح: (المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا: المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالة باطنه. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع منهم الإمامُ سليم بن أيوب الرازي قال: لأن أمر الإخبار مبني على حسن الظن بالراوي، ولأن رواية الأخبار تكون عند من يعتذر عليه معرفة العدالة في الباطن فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر، وتفارق الشهادة فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن.

قلت: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم والله أعلم.انتهى كلام الإمام ابن الصلاح

قلتُ: وهذا واضحٌ ومعمولٌ به، وقد قال الحافظُ أحمدُ بنُ الصدِّيقِ في كتابِه المعروفِ اختصارًا بالمداوي لعِللِ المناوي:

وزاد الحافظ في اللسان أنّ ابنَ حبانَ ذكره في الثقاتِ وأنه روى عنه أيضًا مروانُ بنُ معاويةَ ووكيعٌ – أي مع ابنِ نُمَير – الذي روى عنه هذا الحديث، فهو معروفُ العين بروايةِ هؤلاءِ الأكابرِ عنه، وكذا العدالةُ لروايَتِهم أيضًا، ولأنه لم يأتِ بمنكَرٍ وأتى بما رواه غيرُه ووافقَه عليه الثقاتُ، فتصحيحُ المصنِّفِ مع كونِهِ تابعًا أو موافِقًا لتصحيحِ ابن حبانَ هو مُسَلَّمٌ من جهةِ القواعد.انتهى

فالحمدُ للهِ أَنّا على جادَّةِ الصوابِ وما للمخالفينَ منه نصيب، وأرى في هذا كفاية. 

فائدة: ومما تفارق فيه الروايةُ الشهادةَ أنّ في الشهادةِ تعلُّقَ حقوقِ الناس بخلافها في الرواية.

فهذه الرواية لا تنـزلُ عن كونِها حسنةً لذاتِها وإن شئتَ تبَعًا للقواعدِ الحديثيةِ قلتَ صحيحةٌ، وهي ذاتُ قصةٍ مختلفةٍ عن سابقتَيها مما يغلِّبُ على الظن تكرر هذا الأمر مع سيّدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

تنبيهٌ مهم: قد يظنُّ البعضُ أنّ أبا شعبةَ عندَ ابنِ أبي حاتمٍ مجهولٌ لأنه ذَكَرَ عنه راويًا واحدًا وليس كذلك، فقد قال الحافظُ ابنُ القطّان في بيان الوهمِ والإيهام بخصوصِ الجرحِ والتعديلِ لابن أبي حاتم:

لم تَجْرِ عادةُ المحدِّثين باستيعابِ رواةِ المحدِّثِ إذا ذكروه، وإنما يذكرون منهم إما مَن اشتهر بالأخذ عنه أو من في روايته عنه تفخيم له أو ما كان من ذلك متيسِّرًا مُمْكِنًا، فليس ينبغي لمن نظر في كتب الرجال فرأى مثلا أبا كبشة السلولي روى عنه حسان بن عطية، أن يظن أنه لم يروِ عنه غيرُه، بل قد يوجد مِمّن يروي عنه جماعةٌ سوى مَن ذُكِر.انتهى، وأقرَّه الذهبي

قلتُ: هذا تنبيهٌ مهم، لكن ينبغي التنبُّه إلى أن المِزِّيَ في تهذيب الكمال يريدُ الاستقصاءَ فإنه قال معترضًا على الحافظ المقدسي صاحبِ الكمالِ ما نصُّه:

ولا استقصَى الأسماءَ التي اشتملت عليها هذه الكتبُ استقصاءً تامًّا، ولا تَتَبَّع جميعَ تراجمِ الأسماءِ التي ذكَرَها في كتابِهِ تتبُّعًا شافِيًا، فحصَلَ في كتابهِ بسببِ ذلكَ إغفالٌ وإخلالٌ … فتتبعتُها تتبعًا تامًّا.

ثم قال: وذكرتُ أسماءَ مَن رَوى عنه كلُّ واحدٍ منهم، وأسماءَ مَن روى عن كلِّ واحدٍ منهم في هذه الكتبِ أو في غيرِها.انتهى

قلت: ومع ذلك فقد استدركَ عليه الحافظُ مغلطاي وابن حجر أشياء تعرف بالرجوع إلى تلك المصنّفات.

إلى هنا انتهى الكلامُ على الرواياتِ من حيث إسنادُها بحمدِ الله ومنِّه وكرمِه أسأل الله تعالى أن يجنبنا الزلَلَ وأن يهدي به كثيرا ءامين.

 

فَصْلٌ في ردِّ دَعْوَى الاضطِراب

مما يثير العجب – نسأل اللهَ السلامة – أنهم زعموا اضطراب الرواية عن أبي إسحاق وهذا يوجبُ الضعفَ بزعمِهم، وهذا فهمٌ عجيبٌ وتَسَرُّعٌ منكَرٌ مُريبٌ، لأن الحُكمَ بالاضطرابِ لا بدَّ فيه مِن وجودِ مخالفة في السندِ أو المتنِ، ثم لا بد فيه مِن أمورٍ قبلَ الحكمِ على المَرْوِيِّ بالاضطرابِ وهي على هذا الترتيبِ:

– الجمعُ بينهما ما أمكن الجمع وعندئذ يكون الظاهرُ الاختلافَ وفي الحقيقة منفي.

– فإن لم يمكِنِ الجمعُ عُمِدَ إلى الترجيح.

– فإن لم يمكن الترجيحُ بأَنْ تساوَتِ الرواياتُ في القوةِ فالحكمُ هو التوقفُ لإشعارِه بعدمِ الضبطِ وهو ما يُوجِبُ الضَعْفَ، وهذا هو الحق والمنصوص عليه، مع أن هناك اضطراباتٍ لا تؤثرُ في صحةِ الحديث عند كثير من الحفاظ لعدمِ تأثيرِها.

وأرى أوّلاً إلجامَهم بكلامِ إمامِهم الذي يُعظِّمُونَه أعني ابنَ تيميةَ فقد قال كما في مجموعِ الفتاوي: 

إنّ أبا إسحاقَ كان الحديثُ يكونُ عندَه عن جماعةٍ يرويهِ عن هذا تارةً وعن هذا تارةً، كما كان الزُهْرِيُّ يروي الحديثَ تارةً عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ وتارةً عن أبي سلمةَ وتارةً يجمعهما، فمن لا يعرفُه فيحدِّثُ به تارة عن هذا وتارة عن هذا يظنُّ بعضُ الناسِ أنّ ذلكَ غلطٌ وكِلاهما صحيحٌ.انتهى كلامُه بحروفِه

فهل سيُجَهِّلونَ إمامَهم ويقولون بالاضطرابِ أم سيسكتونَ عن دَعوى الاضطرابِ المُفتَراةِ حفاظًا على هيبةِ إمامِهم التي جعلوها فوق الشُبْهةِ، نحن نعلمُ أنّ الأمرينِ أحلاهما مرٌّ سبحان الله.

قال الحافظ السخاوي في فتح المغيث: ثم إن اختلافَ الرواةِ في اسمِ رجلٍ أو نَسَبِه لا يؤثر، ذلك لأنه إن كان الرجل ثقة كما هو مقتضى صنيع من صحح هذا الحديثَ فلا ضَيرَ كما تقدم في كلٍّ من المُعَلِّ والمنكَر لا سيما وفي الصحيحين مما اختُلِف فيه على راويه جملةُ أحاديثَ وبذلك يُرَدُّ على من ذهب من أهل الحديث إلى أن الاختلاف يدل على عدم الضبطِ في الجملة فيضر ذلك ولو كانت رواتُه ثقاتٍ إلا أن يقومَ دليلٌ على أنه عند الراوي المختلَفِ عليهِ عنهما جميعًا أو بالطريقين جميعا، والحق أنه لا يضر فإنه كيف ما دار كان على ثقة.انتهى

ومِن أنفعِ ما قيل مفصَّلاً هو كلامُ الإمامِ المجتهدِ ابنِ دقيقِ العيدِ – ولا تقل ابن دقيقٍ العيد بتنوين الكسر فهو غلط – رضي الله عنه في الاقتراح وهو عينُ ما نحن فيه:

المضطرب:

وهو أحد أسباب التعليل عندهم وموجبات الضعف للحديث والأمر فيه منقسم، فإن كان أحد الوجوه مرويًا من وجه ضعيف والآخر من وجه قوي، فلا تعليل والعمل بالقويِّ متعيِّن.

وإن لم يكن كذلك، فإن أمكن الجمع بين تلك الوجوه بحيثُ يمكن أن يكون المتكلم معبِّرًا باللفظين الواردَين عن معنًى واحدٍ فلا إشكالَ أيضًا، مثل أن يكون في أحد الوجهين قد قال الراوي: “عن رجل” وفي الوجه الآخر سَمَّى رجلاً، فهذا يمكن أن يكون ذلك المُسمَّى، هو ذلك المبهم فلا تعارض.

وإن لم يكن كذلك بأن يسمى مثلاً الراوي باسم معين في رواية، ويسمى ءاخرُ باسم ءاخر في رواية أخرى فهذا محل نظر إذ يتعارض فيه أمران:

أحدهما: أنه يجوز أن يكون عن الرجلين معًا.

الثاني: أن يغلب على الظن أنَّ الراوي واحد اختلف فيه.

فههنا لا يخلو إما أن يكون الرجلان معًا ثقتين أو لا.

فإن كانا ثقتين، فههنا مقتضَى مذاهبِ الفقهاءِ والأصوليين أن لا يضرَّ هذا الاختلافُ لأنه إن كان الحديثُ عن هذا المعيَّنِ فهو عدلٌ، وإن كان عن الآخرِ فهو عدلٌ فكيفَما انقلبْنا، انقلبْنا إلى عدلٍ فلا يَضُرُّ هذا الاختلاف.انتهى بحروفه

قلت: سبحان الله قد أنصفَنا الإمامُ، فهذا كلامُ أهلِ عِلمٍ وفَهم ولو كان المخالفون يتقون اللهَ لما بادروا إلى ادّعاء الاضطراب ظُلمًا، وقد يكون في كلامِ ابنِ تيميةَ الذي يعقتدونَه كالوحيِ المُنـزَلِ كما قال اللكنوي في الأسرار المرفوعة ما يُسَكِّنُ نفوسَهم فقد قال في كتابه اقتضاءِ الصراطِ ما نصه: وما فيه من كون عبد الله بن الحارث يروي الأول تارة عن العباس وتارة عن المطلب بن أبي وداعة ويروي الثاني عن عبد المطلب بن ربيعة وهو ابن الحارث بن عبد المطلب وهو من الصحابة قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد وليس هذا موضع الكلام فيه فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير لا سيما وله شواهد تؤيد معناه.انتهى بحروفه

فالمخالفون الآن أمامَ أمرَين أحلاهُما مرٌّ فإمّا التراجعُ وإما تخطئةُ ابنِ تيميةَ، وعهدي بهم الأمرُ الثالثُ وهو التفَنُّنُ في تحريفِ الكلامِ وهكذا حبُّ الشىءِ يُعمي ويُصِمُّ نسأل الله السلامة ظاهرًا وباطنًا ءامين.

وقال الإمامُ بدرُ الدينِ الزركشيُّ في النكتِ على ابنِ الصلاحِ: (قولُه – أي ابنِ الصلاح – ) “هو الذي يختلف الرواة فيه فيرويه بعضهم على وجه وبعضهم على وجه ءاخر مخالف”

ينبغي أن يقال “على وجه يؤثر” ليخرج ما لو روي الحديث عن رجل مرة وعن ءاخرَ أخرى، قال ابنُ حزم “فهذا قوة للحديث وزيادة في دلائلِ صحتِه كما إذا روى الأعمشُ الحديثَ عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرةَ ويرويه غيرُ الأعمشِ عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد إذ من الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة وأبي سعيد معًا فرواه مرة عن هذا ومرة عن هذا” انتهى 

فأنت ترى يا رعاك الله أن ما يزيد الحديث قوةً يعتبره المخالفون ضعفًا واضطرابًا، فإلى الله المشتكى فقد ولي هذا الأمرَ غيرُ أهله هداهم الله.

ومثالُنا هو لو أن أبا إسحاق الثقةَ الضابطَ قد سمعه من عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ وهو ثقةٌ، ثم سمِعه أبو إسحاق من الهيثمِ بنِ حنشٍ، ثم مِن أبي شُعبة، أيَقْوَى الحديثُ أم يَضْعُفُ؟ عند المخالفين يضعُف والعياذ بالله وعند أهل العلم يزداد قوة كما مر وهذا يُظهر لك من الذي جاء بالفهمِ الجديدِ والدينِ الجديد.

وهذا كما قال الأئمة في الحديث الذي فقد الكثرة المفيدة للتواتر في طبَقةٍ من طبَقاتِ السندِ، وذلك كأن اجتمع ثلاثون صحابيًا في مسجد وروَوا حديثًا واحدًا لكنْ سمعه منهم عشرةُ تابعين، فلو سَمّى كلُ تابعيٍ ثلاثةً أو عشرةً من الصحابةِ، فعند أهلِ العلمِ حديثُ التابعيِّ يزدادُ قوةً وعندَ المخالفين على تهوُّرِهم يكونُ مضطربًا ضعيفًا، فتنبه رحمك الله ءامين.

وهذا ما قصدتُه بترجمة رجال الرواية الثالثة ونبهت على اختلاف القصة، فإن هذا يزيد الأمر صحة، ولهذا السبب قلت “أما عدمُ ورودِ عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعد مسمًى في رواية الإمام شعبة فيحتمل أمرين، إما لأنه لم يحفظ اسمَه وإما لأنه أراد الكثرة بحيث يكون سمعه منه عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ والهيثمِ بنِ حنشٍ وغيرِهما”

وعلى مذهبِ المخالفين الباطلِ لو كان الحاضرونَ عند ابنِ عمرَ عشرةٌ وقتئذٍ وسمع أبو إسحاقَ منهم جميعًا لكان هذا مُوجِبًا للضعفِ عندَهم لاضطرابِه وهذا قول باطل وفهم سقيم يردُّه قول الله تعالى: (فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلونَ بها).

فصلٌ في ردِّ شُبهتِهم عن حذف “يا”

من العجائب أنّ أصحاب الطبعة الجديدة حذفوا حرف “يا” من نسخةِ الأدب المفرد التي اعتنَوا بطبعِها مع ثبوتِها في نسخٍ مطبوعةٍ أخرى، ثم قالوا ينبغي الاعتمادُ على روايةِ الأدب المفرد – المزوَّرة – لأنها أصحُّ وليس فيها “يا” إنما فيها أنه قيل له اذكرْ أحبَّ الناسِ إليكَ فقال (محمد)، صلى الله عليه وسلم.

والواقعُ أنهم في الطبعة الجديدة حذفوها ولهم يدٌ في حذفها عمدًا – نسأل الله السلامة – وهي ثابتةٌ في النسخِ الخطيةِ ومشايخهم تعرف هذا، وهذا تحريف للدِينِ وحرامٌ بَيِّن، وسأرفق في ءاخر الكتاب صورة عن إحدى النسخ بإذن الله.

وقد خرَّج الحافظُ السَخاويُّ حديثَ البخاريِّ في كتابِهِ “القول البديع” بإثباتِ “يا” ونصُّ كلامِه: وللبخاري في الأدبِ المفرد من طريقِ عبد الرحمٰن بن سعد قال: خدرت رجلُ ابنِ عمرَ فقال له رجلٌ اذكر أحبَّ الناسِ إليكَ فقال: يا محمد.انتهى كلامُه بحروفه، والكتابُ موجودٌ مطبوعٌ ولدينا منه نسختان مخطوطتان ستراهما، فكن على يقينٍ من تزويرِهم. 

واعلم أن الواردَ في لفظِ “محمد” بدون يا هو ما رواه ابنُ السني عن ابن عبّاس وهم يقولون بأنه إسناد موضوع لوجود غياث بن إبراهيم فيه وهو كذابٌ كما ترجمه أصحاب الجرح والتعديل، فما شأن رواية ابن عمر بروايةٍ بإسناد موضوع عن ابن عباس، ولهذا لم أذكر تلك الرواية لأنها ليست من موضوعِنا في شىء.

ولو تماشينا معهم وقلنا – وليس كذلك أبدًا – بأنه في إحدى الروايات وردت بغير لفظ “يا” فالجواب:

قد أجمع المسلمون على وجوب الجمع قبل الترجيح، نقل هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري وغيرُه، والجمع يقضي بإثبات “يا” تحقيقا – أي لفظا – أو تقديرا، لثبوتها لفظا في رواية الإمام شعبة والثوري وزهير وإسرائيل وهم أوثق الرواة عن أبي إسحاق وأضبطُهم.

أما ثبوتُها تقديرًا فكقوله تعالى: (يوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذا) ويوسفُ صلى الله عليه وسلم منادى وحرف النداء غالبًا هو “يا” وهو محذوفٌ مقدَّر، قال الشاعر:

محمدُ تَفْدِ نفْسَكَ كلُّ نفسٍ

إذا ما خِفتَ من شىءٍ تَبالا

فلفظ “محمدُ” منادى بحرف نداء محذوف وأصل الكلام يا محمد، وهذا ما يقتضيه الجمعُ وهو مقدَّم على الترجيحِ إجماعا.

قال الإمامُ أبو القاسمِ الحريريُّ رضي الله عنه:

وحَذفُ “يا” يجوزُ في النِداءِ

كقولِهم: ربِّ استجِبْ دعائي

ولو قلنا – على ما زعموا – بالترجيحِ فإثباتُها هو الراجحُ لثبوتِها في رواياتِ الأوثقِ الأضبطِ، لكن لا مُوجِبَ للتقديمِ على الترجيح، وكيف تُقابَلُ روايةُ جبالٍ في العدالةِ والضبطِ بروايةِ وضّاعٍ لا يقبَلُ حديثُه، ودعوَى وجودِ نُسخةٍ بغيرِ “يا” تلاعبٌ، هي فكرةٌ دسَّها الألبانيُّ في قلوبِهم، بل قال بأنه وجد نسخةً من الكَلِمِ الطيّبِ لابن تيميةَ ما فيها “يا”، وأنا أتعجّبُ لماذا لم يقلْ هذا في نسخةِ ابن القيِّمِ أيضًا “الوابل الصيِّب من الكلمِ الطيب”، لكن أنكَرَ المعلِّقُ على الوابلِ الصيِّبِ على ابنِ تيميةَ وابنِ القيِّمِ إيرادَ هذه الأحاديثِ في الأذكارِ الشرعيةِ، وقال: لا أرى وجهًا لإيرادِ هذا البابِ في كتبِ الأذكارِ وسياقِه ضمنَ أبوابِ الأدعيةِ والأورادِ التي تقالُ على جهةِ التعبُّدِ.انتهى

قلت: الحمد لله على هذا، قد شهدَ عليهما بأنهما أورداها ضمن الأورادِ الشرعية، وهذا الجاهلُ من شدةِ تعصُّبِه تشدَّد أكثر منهما وهما رأس البلاءِ في هذه المسئلةِ فانظر رحمك الله إلى تبعاتِ اتّباعِ الهوى.

وهذا عبدُ الرحمٰنِ بنُ حسنِ بنِ قائدٍ والمشرفُ على عمَلِه أحدُ رموزِهم بكر بن عبد الله أبو زيد فإنهم يصفونه بالعلاّمةِ عندهم، قد شهدا على كذبهم في أنها “عادةُ العرب”، فقد اعترفا أن الإمامَ النوويَّ وابنَ تيميةَ وابنَ القيِّم أوردوها على وجهِ التعبُّد، والتعبُّدُ إنما يُنسبُ إلى الشرعِ لا إلى عادةٍ عربيةٍ، فسبحان من جعلَ كيدَهم في نحورِهم، فلا تكن في ريبٍ من تخبُّطِهم، وأمثالُ هذا كثيرةٌ.

ألهذا الحدِّ تُعمِي العصبيةُ البصيرةَ قبلَ البصر، الله يرزقُنا حُسنَ الاتّباع ءامين.

فائدة: التَبالُ هو الوَبالُ وهو المكروهُ والأمرُ الشديدُ قُلِبَت الواوُ تاءً للتخفيف وهو قليلٌ في الواو المفتوحة أكثرُ في الواو المضمومة كقولك: جلستُ تُجاهَ فلان وأصلها وُجاهَ من المواجهة، وكتَقْوَى أصلُها وَقْوَى وهي فَعْلَى من وَقَيْتُ، وتَبَلَهُ الزمانُ رماهُ بمصائبِه، ومنه قولُ الصحابيِّ كعبِ بنِ زهيرٍ رضي الله عنه: بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ مَتْبُولُ، والله تعالى أعلم وأحكم. 

و”تَفْدِ” مجزومة بلام الأمر المحذوفة وتقديرها “لِتفدِ” وهذا البيت من شواهد سِيبويهِ، وقولُ بعضِهم كما نقله ابنُ مفلح المقدسي في الآداب الشرعية وغيرُه بأنه لا حجة فيه، مردودٌ بإيرادِ سيبويهِ له وهو أيضا من شواهد المبَرِّدِ وغيرِهما، أجازه الكوفيون ونازعهم البِصريون، ويُحتج للمسئلة أيضا بقول المبرد في المقتضَب:

والنحويون يجيزون إضمارَ هذه اللام للشاعر إذا اضطُر، ويستشهدون على ذلك بقول متمِّم بن نُوَيرةَ:

على مِثل أصحابِ البَعوضةِ فاخْمِشي

لكِ الويلُ حُرَّ الوجهِ أو يَبْكِ مَن بَكى

انتهى كلام المبرد.

قلت: يُقالُ اخمِشي واخمُشي بكسر الميم وضمِّها.

ومتمِّمٌ صحابيٌّ شاعرٌ مُجيد مقدَّمٌ في المراثي يبكي من قُتل من أهله ومنهم أخوه مالكُ بن نويرةَ في قتال أهلِ الردةِ في خلافة الصدِّيق رضي الله عنه على يدِ سيفِ الله المسلولِ سيّدِنا خالدِ بن الوليد رضي الله عنه في البعوضة وهي موضعٌ ماءٌ لبني أسَدٍ، فقال الشاعر على مثلهم فاخمِشي حُرَّ وجهِك وهو ما بدا من الوَجْنةِ وهي ما ارتفع من الخدّين، أو لِيَبْكِ مَن بكى، ظنًا منه أن أخاه لم يرتدَّ عن الإسلامِ وطالب الصدّيقَ بدِيَتِه.

قال ابنُ عبدِ البرِّ في الاستيعاب: قَتل خالدُ بنُ الوليدِ مالكًا يظن أنه ارتدَّ حين وجّهه أبو بكر لقتالِ أهلِ الردة.

واختُلِف فيه هل قتَلَه مسلمًا أو مرتدًّا وأُراه – بالضم أي أظنه – والله أعلم قتَلَه خطأً، وأما متممٌ فلا شك في إسلامه.انتهى

قلتُ: وهناك ما يُروى في تصحيح ردّتِهِ، كقولِه لسيِّدِنا خالدٍ: (صاحبُكم أمرَكم بهذا؟ يقصِدُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له سيِّدُنا خالد: أوَليس صاحبَك). نعوذ بالله من الزيغ، وهناك غيرُ هذا والله أعلم بالحال. 

فالحجة في المسئلة مع سيبويهِ رضي الله عنه، وما ذكرتُ هذا التفصيلَ إلا لأنّ البيتَ الأولَ فيه مدحٌ للحبيبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم زِنةَ عرشِهِ ورضاءَ نفسِه ومِدادَ كلماتِه وهو بيتٌ حَرِيٌّ بأن يُحفَظ.

فإثباتُ “يا” في الحديثِ هو الواجبُ لا مَحالةَ وليس العكس، و”يا” ثابتةٌ في كلِّ الرواياتِ عن أبي إسحاقَ إنما هي منهم دعوى باطلةٌ وتزوير.

فصلٌ في المقصودِ بحرف النداء (وا) في وامحمّداه 

قال السهسوانيُّ في ردِّه على مفتي مكةَ العلاّمةِ الفقيهِ أحمد زيني دَحلان في كتابه (صيانةُ الإنسان عن وسوسةِ دَحلان) ما نصُّه: هذا ليس نداءً بل نُدْبَةٌ، كما تقرَّرَ في مقرِّهِ مِن أنّ “وا” إنما تدخلُ على المندوبِ لا على المُنادَى، فإن قلتَ: المندوبُ عند البعضِ داخلٌ في المنادى، فالجوابُ أن مَن يُدخله في المنادى أدخله في المنادى الحكمي لا الحقيقي، فلم يكن ممّا نحن فيه في شيء.انتهى كلامُ السهسواني

قلتُ: كذا قال السهسوانيُّ وهذا إما لخيانتِه وإما لقلّةِ علمِه، ولا أرى جديدًا في هذا، فإن كانَ قصيرَ الباعِ قليلَ العلمِ في لغةِ العربِ فما شأنُ العلاّمةِ أحمد زيني دحلان رضي الله عنه، الحقُّ قطعًا مع العلاّمةِ دحلان.

قال ابنُ هشامٍ في المغني: وأجازَ بعضُهم استعمالَ “وا” في النداءِ الحقيقيِّ.انتهى

وفي المنصِفِ من الكلام على مغني ابنِ هشام للإمامِ الشُمُنِّيِّ ما نصُّه: قولُه: (وأجازَ بعضُهم استعمالَ “وا” في النداءِ الحقيقيِّ) قال الرضِيُّ: قيل وقد يُستعمَلُ في النداءِ المحضِ وهو قليلٌ.انتهى كلام الشمني

فائدة: قال السلسيليُّ في (شفاء العليلِ في شرحِ التسهيل) ممزوجًا مع كلامِ الإمامِ ابنِ مالك:

(وقد تلحقُ) علامةُ النُدبَةِ (منادًى غيرَ مندوبٍ ولا مستغاثٍ خلافًا لِسِيبَوَيهِ) ودليلُ الجوازِ أن امرأةَ عمرَ بنِ أبي ربيعةَ نادته: يا عمراه، فقال: يا لَبَّيْكاه.انتهى كلامُه.

ومثله في شرح ابنِ مالكٍ وكذا في شرح ابنِ عقيل إلا أن المطبوعَ من ابنِ عقيلٍ “يا ليتَكاه”، وهذا تحريفٌ، لأنّ الجماعةَ أثبتوا هذا ولأنّها أرادته لحاجتِها منه، ففي كتابِ الأغاني عن عمر بن أبي ربيعةَ: قالت: فناديت يا عُمَراه يا عُمَراه، قال عمر فصحت يا لبَّيكاه يا لبَّيكاه ثلاثا، ومددتُ في الثالثةِ صوتي فضحكت وحادثتُهُن ساعةً ثم ودَّعتُهُنّ وانصرفت.انتهى

وقد عرفتَ ممّا سبقَ أنْ لا فرقَ بينَ “يا” و “وا” في النُدبَةِ على الخصوصِ، والنداءِ على العموم، ويؤيِّدُه أيضًا قولُ الحسنِ بنِ محمدٍ العطارِ:

حروفُ النِـدا ياءٌ ووَا أيْ أَيَا هَيا

وءَا، نحوُ: يا تَيّاهُ فيكَ فَنِيْ صبري

فهذه المرأةُ أرادت منه ما تريدُ المرأةُ من الرجلِ، فلا نُدبةَ ولا تفجُّعَ فيه، وهذا السهسوانيُّ قال كلامَه المكذوبَ: “وامحمداه” للنُدبةِ ليس نداءً حقيقيًّا، في عقلِه شىءٌ كيف يقولُ بأنّ المسلمينَ في المعاركِ كانوا يندُبونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أكَذِبٌ أوضَحُ من هذا، وهل هي كذلك في روايةِ أبي شعبةَ “يا محمّداه” فالذي خدِرَت رجلُه يندُبُ ويتفَجَّع على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا يتفجَّعُ عليهِ (صلى الله عليه وسلم) إذا خدِرت رجلُه، فجليٌّ أنه صدِئَ فهمُه، وتبلَّدَ طبعُه، حقًا الخرَسُ أحسنُ من كلامِه، والعِيُّ أبلغُ مِن بيانِه، عجبًا له فقولُه: وقد تقرَّر في مَقَرِّه، لعلّه يعني به رأسَه، وكما أنه لا يجوزُ للشافعيِّ أن يقولَ قد تقرَّرَ في الشرعِ كذا وكذا ويُلزِمُ الناسَ فيه ويُنكرُ عليهم إنكارَ المبتدِع، وتكون المسئلةُ في المذهب الحنفيِّ جائزةً، لا يجوزُ له إنكارُ ثابتٍ لأنه على خلافِه، ولأنه في الفقهِ لا يجوزُ إنكارُ المختلَفِ فيه إذا كان المباشِرُ للمختلَفِ فيه يعتقدُ حِلَّه، إنما ينكَرُ خلافُ المجمعِ عليه، وهكذا هو لا يجوزُ له إن كان بصريًّا أن ينكرَ مذهبَ الكوفِيِّين في النحو، لأنه يعتقد رأيَ البصريين، وما أدراهُ أن قولَ الكوفيِّين هو الحق، هذا إن كان يُحسِنُ التمييزَ بين المذهبَين وهو على هذه الدرجةِ من الضعفِ وقلَّةِ المعرفةِ، والحجةُ مع صاحبِ الشاهدِ، والمثبِتُ مقدَّمٌ على النافي، هذا خائنٌ يُفتي بغير علمٍ وهذا حرامٌ، وتراهُ بكلِّ ثباتٍ يسمِّي كتابَه “صيانة الإنسان عن وسوسةِ دحلان”، والوسوسةُ معدِنُها ومقرُّها وممرُّها في رأسِه، قاتل اللهُ الجهلَ وأهلَه، أمثالُ هذا يُفتُونَ بغيرِ علمٍ فيَضِلُّون ويُضِلُّون، سلَّمَنا اللهُ تعالى ءامين.

ومثالُها في غيرِ النُدبةِ، قولُ سيِّدِنا عمرَ رضي الله عنه: (واعجَبا لك يا عمرُو بنَ العاص) رواه الإمام مالكٌ وغيرُه، وأمثلتُه كثيرة كقولِ سيِّدِنا بلالٍ الحبشيِّ رضي الله عنه عند موتِه: (واطَرَباه)، ولا يكون التفجُّعُ والنُدبةُ طرَبًا،

وقد أحسنَ غايةَ الإحسانِ العلاَّمَةُ اللكنوي في تذكرة الراشد في كشف مساوئ السهسواني وضلاله وكذبه،فاعرِف زيغَ السهسواني واحذَرْ وساوِسَه وكن على يقينٍ أنه لم يكن عالما ولا صادقا والعجيب أنه وصف نفسه بأنه (مولانا)، فمن من العلماء قال هذا عن نفسه، والله تعالى أعلم وأحكم.

إلى هنا انتهى مختصَرُ الكلامِ على الحديث روايةً بما يليقُ بالمقامِ ولدَينا مزيدٌ ولله الحمدُ والمِنّة.

فصلٌ في الحديث درايةً

ولا بدّ من التنبيه إلى أن درايةَ الحديثِ هي فقهُهُ فيتعلقُ بالمتنِ ولا بدَّ فيه مِن باعٍ غيرِ قصيرٍ في معرفةِ الأسانيدِ، وهذا ما أَوضَحه شيخُنا الحافظُ عبدُ اللهِ بنُ الصدّيقِ الغُمَاريُّ في “توجيهِ العناية” ثم عمِلتُ عليه حواشيَ في غايةِ النفعِ وحررتُ منها شيئًا على السَّيِّدِ الْعَلاَّمَةِ عبدِ الله بنِ محمدٍ الهرريِّ عليه رحَماتُ الله فقال لي: نعم، الكمالُ فيه يحتاجُ إلى فقهٍ.انتهى

قلتُ ومثالُه: قال وكيع لأصحابه: أيُّهما أحَبُّ إليكم الأعمشُ عن أبي وائلٍ عن ابنِ مسعودٍ أو سفيانُ عن منصورٍ عن إبراهيمَ عن علقمةَ عن ابنِ مسعودٍ؟ فقالوا الأولُ، -أي الأعمشُ عن أبي وائلٍ- فقال وكيعٌ: الأعمشُ عن أبي وائلٍ شيخٌ عن شيخٍ وسفيانُ عن منصورٍ عن إبراهيمَ عن علقمةَ عن ابنِ مسعودٍ فقيهٌ عن فقيهٍ، وحديثٌ يَتداولُه الفقهاءُ أحبُّ إلينا ممن يتناولُه الشيوخ.انتهى، رواه الرامَهُرْمُزِيُّ في كتابه (المحدِّثُ الفاصِلُ بين الراوي والواعي) تحت فصلِ (القولُ في فضلِ من جمَعَ بينَ الروايةِ والدرايةِ).انتهى

وقال ملا علي القاري في شرحِ المِشكاةِ ردًا على التُورِبِشتيِّ حين أنكرَ لفظًا في صحيحِ البخاريِّ من حيثُ صحةُ المعنى: إذا صحَّتِ الروايةُ وطابقتِ الدرايةَ على ما قدمناه من “تصحيحِ معناهُ” فلا معنى للتخطِئةِ في مَبناه والله أعلم.انتهى، وهذا يدلُّ كذلك على أن الدرايةَ معرفةُ معنى المتنِ إمّا لفظًا وإما لفظًا وفِقهًا.

وقال الإمام الكبير المالكي في سَدِّ الأَرَب: والغرضُ المهمُّ الآنَ تحصيلُ ءالاتِ الدرايةِ وإتقانُ الفَهمِ لا حفظُ المتنِ والسندِ.انتهى

والحاصلُ أنَّ معنى الدراية على خلاف ما نَشَره بعضُ أفاضلِ عصرِنا تقليدًا لابنِ الأكفانيِّ ومَن أخذ بقوله، وهذا كلُّهُ من استدراكاتي على كتاب شيخِنا الغُمَاري، واقتضى التنبيه على المسئلةِ للفائدة.

قال المخالفون هداهم الله في محاولةٍ لإبطالِ الاستدلال بالحديث على جواز ندائه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأنه قيل له: “اذكر” فقال: (محمد) صلى الله عليه وسلم، فهذا مجردُ ذِكرٍ ليس نداءً فأبطلوا استدلال أهل السنة بهذا التأويل، اعتمادًا على رواية سفيانَ الثوري “اذكر” دون رواية زهير “اُدعُ” وأن هذا عادةُ العرب قبل البعثة الشريفة ثم بقيت في الإسلام بعد البعثة وأنه أمرٌ فسره الأطباء بأنّ ذكره لمحبوبه يجعل الحرارة الغريزية تتحرك في بدنه، فيجري الدمُ في عروقه، فتتحرك أعصاب الرِجل فيذهب الخَدَر.

وهذا كله باطل لأمور:

الأول: أن لفظةَ “ادعُ” ثابتةٌ في رواية أبي نُعيمٍ الفضلِ بن دُكين وغيرِه عن زهيرٍ عن أبى إسحاقَ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ: جئت ابنَ عمرَ فخدِرت رجلُه، فقلت: ما لرجلك؟ قال: اجتمع عصبها قلت: “ادع” أحب الناس إليك قال: يا محمد، فبسطها.

فلماذا يردونها؟ فهل يكونُ ردُّها بغيرِ دليلٍ مسوِّغٍ؟ هذا غيرُ جائز.

وقد رواها ابنُ سعدٍ في طبقاته عنهما قال: قال أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا “سفيانُ وزهيرُ بنُ معاويةَ” عن أبي إسحاق عن عبد الرحمٰن بن سعد قال كنت عند ابن عمر فخدرت رجله فقلت يا أبا عبد الرحمٰن ما لرِجْلِك، قال اجتمع عصبُها من هاهنا – هذا في حديث زهيرٍ وحدَه – قال قلتُ ادْعُ أحبَّ الناس إليك قال يا محمد فبسطها.انتهى، فانظر كيف ميّز رواية زهير عن روايةِ سفيانَ فقط عند قوله: (فقلت يا أبا عبد الرحمٰن ما لرِجْلك قال اجتمع عصبُها من هاهنا). فجعَلَ (اذكرْ وادعُ) واحدًا وهذا يصحِّحُ ما سيأتي ذِكرُه، وقد رواه ابن السُنّي في عمل اليوم والليلةِ من طريق ابنِ الجَعْدِ عن زهيرٍ قال: أخبرني أحمد بن الحسن الصوفي حدثنا علي بن الجعد ثنا زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمٰن بن سعد قال: (كنت عند ابنِ عمر فخدرت رجله، فقلت : يا أبا عبدِ الرحمٰن، ما لرِجلك؟ قال: اجتمع عصبها من هاهنا، قلت: ادعُ أحب الناس إليك، فقال: يا محمد، فانبسطت.انتهى

الثاني: أن الذِكرَ جنسٌ والدعاءَ نوعٌ منه، بمعنى أن الذِكر عامٌّ والدعاءَ خاصٌّ، فإن الذكرَ أصلاً ضِدُّ النِسيانِ، فالداعي ذاكرٌ لا محالةَ، ويُرى هذا من قوله: اذكر أحب الناس إليك، فقال (يا محمد)، فقد ذكره بذكر خاص هو الدعاء.

يدل عليه أيضا رواية أبي شعبة أنه قيل له اذكر أحب الناس إليك فقال: (وامحمداه).

فقوله “يا محمد” أو “يا محمداه” نداء صريح، ولا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ إلا إذا تعذر حمله عليه بالإجماع.

والصريحُ فيه روايةُ المِزّي وهي نصٌّ في فهمِه ودليلٌ على تحريفِهم فقد قال في تهذيبِ الكمالِ في لفظِ الحديث: قلتُ “ادعُ” أحبَّ الناسِ إليك فقال: يا محمدُ، فانبسطت. رواه البخاري في الأدبِ المفرَدِ عن أبي نعيم عن سفيان عن أبي إسحاق مختصرا.انتهى

فها هو رواه بلفظِ “ادعُ” وعزاهُ للبخاريِّ مختصَرًا أي بدون لفظ: (يا أبا عبدِ الرحمٰنِ ما لرجلكَ، قال اجتمع عصبُها من هاهنا)، ولم يفرِّقْ بينَ (اذكر) و (ادعُ)، والحمدُ للهِ على ظهورِ حقيقةِ المخالفينَ وسوءِ نيتِهم وتحريفهم.

قال الإمام الرازي في تفسيره:

وأجمع العلماءُ على أنه لا يجوزُ صرفُ الكلامِ إلى المجازِ إلا بعدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ على الحقيقة.انتهى 

وفي نفس الصحيفة: إما أن يدَّعيَ أنه صَرَف اللفظَ عن ظاهرِه بغيرِ دليلٍ، أو يقول: إنه لا يجوزُ ذلك إلا بعدَ امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بإجماع المسلمين.انتهى

فهذا نداءٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حضرته بعد وفاته وهم لا يجيزون نداءَه حتى عندَ قبرِه صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أنَّ فهمَ العلماءِ هو النداءُ ولم نبتدعْ نحن فهمًا جديدًا، بل قال القاضي عياضٌ في ترتيبِ المداركِ وتقريبِ المسالكِ في ترجمةِ محمد البَرْقي المتوفى سنة 270 هجرية: قال أبو جعفر العقيلي: محمد بن عبد الله البَرْقي وإخوته كلهم ثقات، ما بهم من بأس، من بيت علم وخير. وقال غيره: ومحمد أكبرهم وأجَلُّهم.انتهى

ثم ذكر قصةَ طعنِ ابنِ وضاح فيه وليس هنا محلَّ ذِكرِها إنما فهمُ البرقيِّ للحديث فقال.

قال ابنُ وضاح: كتبت عنه بمصر حديثًا واحدًا، وكان لا يرضاه. والحديث الذي روي عنه أنه قال: كنت جالسا عند وراق بمصر، فلما أردت القيام خدرت رجلي، فجلست، فقال لي محمد بن البرقي: “نادِ بأحبِّ الناسِ إليك” قلت له: تذكر في هذا شيئا؟ فحدث: أن رجلا خدرت رجله عند ابن عمر، فقال له ذلك. فقال: يا محمد، ذهب خدرها. فلما قام، قال لي الوراق: ما رأيت أكذب من هذا. ما حدث به أحد مما رواه الساعة عندي في هذا الكتاب. قال: نص الحديث يروى عن ابن عمر، وأنه هو خدرت رجله، وجرت له القصة.انتهى

أي أن الوراقَ كذّبه لأنه روى القصةَ على أنها حصلت أمامَ ابنِ عمرَ فقال له ابنُ عمر كذا وكذا.

هذا البرقي من علماءِ السلفِ المتقدِّمينَ وما فهم إلا النداء وهو الدعاء وكان من العلماء، قال القاضي عياض: كان من أصحابِ الحديثِ، والفَهمِ، والروايةُ أغلبُ عليه. وبيته بمصر بيت علم.انتهى

وهذا القاضي عياضٌ في كتاب الشفا ما فهم إلا النداء والاستغاثة، فقال: وروي أن عبد الله بن عمر خدرت رجله فقيل له: اذكر أحب الناس إليك يزل عنك، فصاح: يا محمداه فانتشرت.انتهى

هذا الذي فهمه أهل العلم سبحان الله 

وليس الأمرُ ذكرًا مجرَّدًا وهيهاتَ، فابنُ السُنّيِّ روى عن ابنِ سيرينَ التابعيِّ الجليلِ أنه كان يقول شعرًا وزجرَ مَن تعجَّبَ منه فقال ما نصُّه:

روى محمد بن زياد عن صدقةَ بن يزيدَ الجُهَنيِّ عن أبي بكر الهُذَلِيِّ قال: دخلتُ على محمدِ بنِ سِيرينَ وقد خدِرت رِجْلاهُ، فنقَعَهُما في الماءِ وهو يقول:

إذا خدرت رجلي تذكرت مَن لها

فناديتُ لُبْنَى باسمِها ودَعَوتُ

دعوتُ التي لو أنَّ نَفْسِي تُطِيعُني

لألقَيْتُ نَفْسِي نحوَها فَقَضَيتُ

فقلت: يا أبا بكرٍ تُنشِدُ مثلَ هذا الشعر؟ فقال: يا لُكَعُ وهل هو إلا كلام حسَنُه كحَسَنِ الكلامِ وقبيحُه كقَبِيحِه.انتهى، فهذا استحسانٌ منه للكلام كما تراه جليًّا.

ويحسِمُ هذا الأمرَ ما قال الإمامُ ابنُ الجوزيِّ في تفسيرِه زادِ المسير ونصُّه:

قال ابن الأنباري: وهذا مثلُ قولِ العربِ: جلستُ إلى زيدٍ إلى العاقلِ الفاضلِ، وإنما تُعاد “إلى” بمعنى التعظيمِ للأمرِ، قال الشاعرُ: إذا خدرت رجلي تذكرتُ مَن لها … فناديت لبنى باسمها ودعوتُ دعوت التي لو أن نفسي تطـيعني … لألقيتها مِن حبِّها وقضَيتُ فأعاد دعوتُ لتفخيمِ الأمرِ.انتهى كلامُ الإمامِ ابنِ الجوزيِّ بحروفِه، فالأمرُ ليسَ مجرَّدَ ذكرٍ إنما هو تفخيمٌ وتعظيمٌ. 

وبهذا تبطُلُ مكابرةُ المخالفينَ وتحايلُهم على اللفظِ من أنّه مجرَّدُ ذكرٍ لاسمِ المحبوبِ فهذا النداءُ مع التعظيمِ هو ما يعتبرونه شِركًا، فاللهُ أكبرُ هل بقي مسلمٌ غيرُهم في اعتقادِهم.

وهذا رواهُ جماعةٌ عن سيِّدِنا ابنِ سيرينَ منهم المرزُبانيُّ في نور القَبَس في ترجمةِ أبي بكرٍ الهذلي عن ابن سيرين، وابنُ القيِّم وهو من أئمتِهم في روضةِ المحبّين قال: وكان محمد بن سيرين ينشد:

إذا خدرت رجلي تذكرت من لها … فناديت لبنى … الخ.

فائدةٌ: لُكَعٌ تقالُ لمِن هو لئيمٌ أو قالَ قولاً لئيمًا أو مُنكَرًا، والمرأةُ لَكَاعِ، وتقالُ للصبيِّ الصغيرِ ولا شكَّ ليس الراوي مقصودًا بصِغَرِه في هذه الروايةِ، تقولُ في النداءِ يا لُكَعُ ويا لَكاعِ، قال الشاعرُ:

أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم ءاوِي # إلى بيتٍ قَعِيدَتُه لَكاعِ

أَي أطوفُ طوافي ثم أعودُ إلى بيتٍ يُقالُ لقعيدَتِه: يا لكاعِ لِلُؤْمِها، فحذف يا النداءِ، والله أعلم.

وإن قلنا تماشيا مع المخالفين بأن هذا الأمر عادةُ العربِ، وهو ذِكرُ المحبوبِ، قلنا وقد رأينا شاعرَهم يقول:

وإنْ مَذِلَتْ رجلي “دعوتُكِ” أشتفي

بدعواكِ مِن مَذْلٍ بها فيهونُ

ومذِلَت الرِجْلُ وخَدِرَت بمعنى واحد فقد رواه ابنُ طباطبا في عيار الشعر (طبعة دار الشمال) بلفظ إذا خدرت بدلَ مذِلت.

فذا شاعرُهم ينقضُ دعوى المخالفين أنه مجردُ ذِكرٍ، فقد قال “دعوتكِ” وهو يشتفي بدعواها أي بدعائها وهو نداؤها.

وهذا ما فهمه الإمامُ الجليلُ الطبريُّ في تفسيره فقال عند تفسير الآية (فما كانَ دَعْوَاهُم إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلاّ أَنْ قَالوا إِنّا كنّا ظَالِمِين) ما نصُّه:

وعنى بقوله جل ثناؤه: (دعواهم)، في هذا الموضع دعاءَهم، ومنه قول الشاعر:

وإِن مذِلَتْ رجلي دعوتُكِ أشتَفي

بدعواكِ من مَذْلٍ بها فيهونُ

 

وقال النويري في نهاية الأَرَب:

ومنها ذهاب الخدَر: يزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله “فذكر” أحب الناس إليه ذهب عنه، قال كثير:

إذا خدرت رجلي دعوتك أشتفي … بذكراك من مذل بها فيهونُ

وقالت امرأة من كلاب:

إذا خدرت رجلي ذكرتُ ابنَ مُصعَبٍ

فإن قلتُ: عبدَ الله أُجْلِيْ فتورُها

وقيل ذلك لابن عمر وقد خدرت رجله فقال: يا محمداه.انتهى وغيرُ هذا كثير.

فهل فَهم غيرَ ما قدمتُ من أنّ الدعاءَ أي النداءَ هو منَ الذكر.

ولو جلس شخصٌ ليقولَ وِردَه مائةَ مرةٍ: (يا حيُّ يا قيومُ برحمتِكَ أستغيث) فسئل ماذا تفعل؟ ألا يصحُّ أن يقولَ إني أذكرُ الله أم يلتزم تحديدَ القولِ: أنا أدعو الله؟ هذا لا يقول به عاقل.

هذا كالأعمى الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ له لأنه شَقّ عليه ذهابُ بصرِه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنْ شئتَ صبرتَ وإن شئتَ دَعَوتُ لك، فقال: ادعُ لي، فعلمه صلى الله عليه وسلم أن يأتي الميضأة فيصليَ ركعتين ثم يقول: (اللهم إني أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّك محمدٍ نبِيِّ الرحمةِ يا محمدُ إني أتوجَّهُ بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي) ثم عاد الرجل وقد أبصر.

فهذا الحديث فيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم الدعاءَ، فأرشده عليه الصلاة والسلام إلى غير الدعاء وعلمه أن يدعوَ هو لنفسه متوسلاً به صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بالعمل قولاً وفعلاً.

وهكذا ابنُ عمرَ قيل له “اذكر” أحبَّ الناسِ إليك، فنادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بما قاله لا بما طُلِب منه قولُه.

فلقائلٍ أن يقولَ مختصِرًا: خدِرت رِجلُ ابنِ عمرَ فقال (يا محمد) فذهب عنه، وله أن يقول: فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً (يا محمد) فذهب عنه الخدَر.

الرابع: أنّه لو رواه زهيرُ بنُ معاويةَ بالمعنى وكان هذا من تصرُّفِهِ، فهو إمامٌ من كبار أئمة السلف، قال عنه الذهبي في السِيَر: الحافظُ الإمامُ المُجَوِّد محدِّثُ الجزيرةِ كان من أوعيةِ العلمِ صاحبُ حفظٍ وإتقان.انتهى 

فإن كان رواه بالمعنى وهو مِن بحورِ العلمِ في السَلَفِ، فهو حجَّةٌ واضحةٌ عليكم، وإن كان مِن فَهمِ أبي إسحاقَ نفسِهِ فبِها ونِعمَت، فما أكثرَ ما تقولون قولاً دونَ عملٍ “نحن على نهج السلف” والسلفُ منكم بريء، فلا سبيلَ إلا بإثباتِ الحجةِ بلفظِ: (ادْعُ) سواءٌ حُفِظَت أو رُويَت بالمعنى.

فهل علمتُم أحدًا أنكر على أحدِهما ما تزعمونه من الشرك لأنه رواها بلفظِ “ادعُ” وأنتم تعتبرون الدعاءَ للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاتِه من الشركيات؟ وهل ذكره أحدٌ في زمرةِ المبتدِعة؟ 

وأعظَمُ من هذا أن العلماءَ الذين ذكروا افتراقَ الأمة ِإلى ثلاثٍ وسبعين فرقةً لم يذكروا منهنّ ما تزعمونَه شِركًا وهو منقولٌ عن المسلمين عصرًا بعدَ عصرٍ فلم نجِدْ أحدًا قال مثلاً: “الفرقة الحاديةُ والخمسون: المتوسِّلَة”، فأين هذا التوحيد الذي تزعمونه وغاب عن سلفِ الأمةِ وخلفِها حتى كان أولَ مَن ابتدعَه ابنُ تيميةَ ثم أحيَيتُم بدعَتَه، فكيف لم يعتبرْه أحدٌ من الأئمةِ كفرًا إلى أن ظهرتُم؟

وحالُهم كما قال الشاعر:

وإنّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُهُ

لآتٍ بما لمْ تستطِعْهُ الأوائلُ

فهذا أعظمُ دليلٍ على كونِكم ابتدعتُم وأحدَثتُم وأنّ مَن تُضَلِّلونهم هم المسلمون المسلمون.

فالحمد لله قد وافَقْنا السلفَ وخالفتُمُوهم روايةً ودرايةً، فثبت من هو صاحبُ الفَهمِ المبتدَعِ نسأل الله السلامة.

فإن قيل إنما سمعَه زهيرٌ منه بعدَ اختلاطِه ففي حفظِهِ شىءٌ، قلتُ:

ليستْ مختلطةً لثبوتِها بعينها عن سفيانَ الثوريِّ فلا تدليس ولا اختلاط فيها، وقد تم تفصيلُ ردِّ دعوى اختلاطِه، وروايةُ زهيرٍ عن أبي إسحاقَ في صحيحِ البخاريِّ، وهذا يدلُّكَ على عدمِ اختلاطِه لأنه احتجَّ به منفردًا، حتى ولو قيل بأنه اختلطَ فإخراجُ البخاريِّ لحديثِه عن أبي إسحاقَ في كتابِه الذي هو أصحُّ الكتبِ عند جمهورِ الأمةِ دليلٌ على أنّ ما قيلَ عن اختلاطِه لا يضرُّ، فكيفَ يكونُ رواه مع قولِه باختلاطِه، فزهيرٌ عن أبي إسحاقَ على شرطِ الصحيح، وإن كان اختلط في الأسانيد فلن يختلطَ فهمُه، وما يؤيِّدُ ردَّ دعوى اختلاطِهِ حتى حينَ سماعِ زهيرٍ منهُ قولُ الإمام المجتهدِ ابنِ دقيقِ العيد في الاقتراح:

قال زهير – وهو ابن معاوية – فقلت لأبي إِسحاق – وهو السَّبِيعي: أَذَكَرَ عَضْباءَ؟ قال: لا، قلت فما المقابَلَةُ؟ قال : يُقْطَعُ طَرَفُ الأُذُنِ، قلت فما المُدَابَرَةُ؟ قال: يُقْطَعُ مِن مُؤَخَّرِ الأُذُنِ، قلتُ: فما الشَّرْقاءُ؟ قال: تُشَقُّ الأُذُن، قلت: فما الخَرْقَاءُ؟ قال : تُخْرَقُ أُذُنُهَا للسِّمَةِ.انتهى رواها الإمام أحمدُ وغيرُه.

قلتُ: والعضباءُ هي المشقوقةُ الأُذُن مذكَّرُها أعْضَب.

فهل هذا بهذه الحافظةِ العجيبةِ مختلطٌ، ولو سلَّمْنا فهل هذا يؤثّرُ على فَهمِه؟ معاذ الله، ولماذا احتجوا به فيها، فالقولُ قولُ مَن قال شاخ ونسِيَ رحمه الله ورضي عنه وفهمُ أبي إسحاق أو زهيرٍ حجَّةٌ عليكم فكلاهُما فقيهٌ يَعِي ما سمع، واحتج به الأئمة مطلقًا.

إنما المختلِطُ الذي قال:

أيُّها  الطالبُ  عِلمًـا- إِيتِ حَمّادَ بنَ زيدِ

واطلُـبَنَّ العلمَ منهُ  – ثم  قَيِـّدْهُ  بقَـيْدِ

ثم إشار إلى يدَيهِ مقيَّدتَين بالأغلالِ، قال الراوي: فعرفتُ أنه اختلط فتركتُه، لأنَّه هنا أرجعَ الضمير في “قيِّدْهُ” إلى حمّادٍ رضي الله عنه.

وهذا لأنّ معنى “قَيِّدِ العلمَ” أي دوِّنْهُ واكتُبْه” ولا تعتمدْ على حفظِ الصدرِ فقط، فقد تنساهُ فتكونُ ضيَّعتَ علمًا لا يُضَيَّع لجلالةِ الشيخِ المأخوذِ عنه كحمّادِ بنِ زيدٍ، والله أعلم.

تنبيهٌ مهم: الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رضي الله عنه من الذين قالوا لفظة “اختلط” عن أبي إسحاق، ولم يصرِّح بردِّها، إنما يقول: ولكن الذين رووا عنه بآخرة، أو “فيها لِين”، لكنّه مع هذا قبلَ حديثَه عن زهير بن معاويةَ وروى له عدةَ أحاديثَ في مُسنَدِه أكثرَ من عشرةٍ، وقد قال عن المسنَدِ عند ذكرِ حديثٍ: إن لم يكن في المسندِ فليس حُجةً.

وهذا ليس قاعدةً جاريةً إنما يُستفادُ منه التفريقُ بينَ قولِ الإمامِ أحمدَ وعملِه، والعملُ أقوى خاصّةً عند الحنابلةِ نصَّ عليه الإمامُ أحمدُ، لأنّ أحدَ أصولِهم أن المجتهدَ إذا روى الحديثَ وخالفَه دلَّ ذلك على ضعفِه، وعلى هذا يكونُ الإمامُ أحمدُ ضعَّفَ قولَه بعملِه في روايتِه حديثَ زهيرٍ عن أبي إسحاق، وهذا ما عناه الإمام الحافظُ العلائيُّ أنهم احتجّوا به مطلَقًا.

ومشهورٌ عن الإمامِ أحمدَ أنه انتقى أحاديثَ المسنَدِ من بينِ سبعمائةٍ وخمسينَ ألفَ حديثٍ، وقد كان رضي الله عنه يحفظ ألفَ ألفٍ، أي من حيثُ الأسانيدُ، أما المتونُ المقبولةُ فنحوُ خمسةٍ وعشرينَ ألفًا ومثلُها الضعيفة، والله أعلم.

الخامس: أنَّ لفظةَ “اذكُر” عامّةٌ تحتمِلُ الذكرَ المجرَّدَ والنداءَ وغيرَهما، وكلمةَ “ادعُ” مُخصَّصةٌ بالنداءِ، فيحمَلُ العامُّ على الخاصِّ كما هي القاعدةُ المقرَّرَة في أصولِ الفقه، أو يقالُ لفظةُ “اذكر” مطلَقَةٌ ولفظةُ “ادعُ” مقيَّدَةٌ قيَّدَتِ الذكرَ المطلَقَ بالدعاء، والله تعالى أعلمُ وأحكم.

أما قولهم والعياذُ بالله، قد نادى النبي صلى الله عليه وسلم الأرضَ بقوله: (يا أرضُ ربي وربُّك الله) استدلالاً منهم على نداء غير الحاضر في غير معنى الاستغاثة، فهذا غريب منهم، أيكون نداء الرسول صلى الله عليه وسلم الحيِّ في قبرِه الذي لا تنقطع بركاته كنداء الجمادات؟ هذا الذي قال فيه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: (طبتَ حيًّا ومَيْتا) يقارن بالجمادات؟ أيقارَن بالجمادات من قالت فيه عائشة رضي الله عنها:

وأبيَضَ يُستَسقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ

رَبِيعُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرامِلِ

قالت: فقال أبي (أي أبو بكرٍ الصدّيقُ) رضي الله عنه: ذاكَ – واللهِ – رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. رواه أحمدُ والبزار، قال البزار: وهذا الحديثُ يدخلُ في صفةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإسنادُه إسناد حسن.انتهى

قلت: يقال للرجلِ الجَواد ربيعٌ كناية عن الخَصبِ والربيعُ أيضًا الجدوَل.

وهو في صحيح البخاري عن ابنِ عمر رضي الله عنهما بلفظ: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما يَنـزِلُ حتى يجيشَ كلُّ مِيزابٍ  

وأبيضَ يستسقى الغمام بوجهه

ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ

وهو قولُ أبي طالب.

فائدة: المِيزابُ معروفٌ وهو ما يسيلُ منه الماءُ من موضعٍ عالٍ، والثِمال المنجِدُ والمغيثُ وهو مطعِمُ اليتامى وربيعُهم، ويجوز في أبيضَ النصبُ عطفًا على ما قبلها، والرفعُ والتقديرُ “وهو أبيضُ” والجر بالفتحة لمنعه من الصرف، جرُّه يكونُ بِرُبَّ المقدرة والواوُ واوُ رُبَّ والتقدير: ورُبَّ أبيضَ، والله تعالى أعلم

ولم يَرِد عنه صلى الله عليه وسلم أنه أصابَه كرب فقال: (يا أرضُ أو وا أرضاه) ولم يَرد عن الصحابة فمن بعدهم أن استغاثوا بالدهر أو المطر، نسأل الله سلامة الدين والعقل ءامين.

وقولُهم بأن هذه عادةُ العربِ وإنّ المسلمين استمروا عليها بعدَ البعثةِ فأعجب وأغرب.

فكم عادةٍ كانت في الجاهلية لم يستحسنْها الإسلام فمحاها، وكم عادةً من عاداتِ العربِ أقرّها؟ وهل يكون بعد قبولِ الشرع لها كلامٌ لما قبل البعثة؟ وإن اختلف المفهوم أو السبب فالعبرة بإقرار الشرع، بمعنى أن مفهوم المسلمين لدعاء أحب الناس وهو النبي صلى الله عليه وسلم رجاء برَكتِه هو المقصود، فلو كان مقصود مَن قبل البعثة مخالفًا للشرع فأقر الفعلَ الشرعُ بما يوافق الشرع فلا إشكال، كالسَبْيِ كان موجودًا في الجاهلية وأقره الإسلام إنما بمفهوم إسلامي فيه إحسان وحث على العتق، فأين سبيُ المشركين وتبعاتُه الظالمةُ من سبْيِ المسلمين الذي يوصي بالرحمة؟ هذا ما لا يفهمه المخالفون أو يغُضُّون الطَرْفَ عنه هداهم الله. 

ألا ترى أيضًا أن ذلك كان من عادة العرب وحدَهم فيما حكَوا ثم صار عند المسلمين عامًّا في كل مسلم عربيًا كان أو أعجميًا، وهذه إحدى المفارقات التي تهدمُ تمويهَهم.

وثانيها أنك لن تجد مسلمًا يصيبُ رِجلَه خدرٌ فيذكرُ أحبَّ الناس إليه مطلقًا ويقصدُ أباه أو صاحبَه، هذا لا يفعله مسلمٌ إذ من شروط الإيمان أن يكون محمدٌ صلى الله عليه وسلم أحبَّ الخلقِ إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من نفسِه وأهلِه ومالِه والناسِ أجمعين) رواه البخاريُّ، فدع عنّا تهويلَك أيها الألوسيُّ، وليتَ شِعري من الذي خدِر عقلُه وقال ما قلتَه، تبًّا لك، ثم ليتَ شِعريَ مَن الذي أفادكَ هذه الافتراءاتِ، أهو صديقُك العزيزُ إمامُ النصارى الذي تعظِّمُه المسمَّى عندهم “الأب إنستاس الكرملي”، أهو الذي بثَّ السُمَّ في قلبِك لتتطاول على سيِّدِك وسيِّدِ أسيادِك بحقٍّ الإمامِ المجتهدِ العظيمِ المجمعِ على جلالتِه تقيِّ الدينِ السُبْكي، فأنّى لمَن تعَمَّه في سَكرَتِه وضرَبَ في عَشوائِه وتلاجَّ في غَيِّه مثلِك أن يتطاولَ على شيخِ الإسلامِ السبكيِّ رضي الله عنه، تبًا لك ولأخي رُوحِك إنستاس الكرملي ولصديقِكما أحمد زكي باشا الذي يخاطبُه بقوله: (صديقي الجليل الأب إنستاس، مرحبا بكتابك أيها الصديق الجليل، لقد جاء عندي في مقام البُشْرى بل في مقامِ بُشرَيَين لا بشرى واحدة، حيث حمل لي نبأَ سلامتِك وسلامةِ صديقي العلاّمة الفاضل السيدِ محمود شكري الألوسي…. الخ)

فيجيبُه إنستاس بقوله: (إلى شمس العرب أحمد زكي باشا، جاءتنا أنا والألوسيَّ رسالتُكم تتهادى …… فعسى أن تحملك إلينا الرياحُ يومًا على أجنحتِها لنتسلى بلقياك ونبادلَك عواطف الوُدّ والإخلاص مع محبِّنا وصديقِنا الصادقِ محمود شكري الألوسي الذي لا ينقطع من التحدث بك وبتيمور باشا)، هكذا عبارتُه. 

أعَلى شيخِ الإسلامِ السبكيِّ تطاولتَ واشتفتَ فكنتَ في هذا أشأمَ من البَسوس، ولا أَراكَ حينَها إلا شخَصتَ في أنحَسِ الأيامِ وأنكَدِ الساعاتِ، يقينًا زاحَ به الشكُّ وانحَسَرت عنه المِرْيةُ، فذاكَ إمامٌ بريءُ الساحةِ، صحيحُ العِرضِ، نَقيُّ الجيبِ، فعلى مَن تطاولتَ؟ أتُطيقُ أن تكونَ دَرِيَّةَ رِماحِه وجَزَرَ سيوفِه؟ فإنك واللهِ لَرهينةُ البِلى ونُهزَةُ التَلف؟ أمَا وإنك قد واكظْتَ على ثَلْبِه وحافظتَ على انتقاصِه، فصدَّعَ اللهُ أُلفَةَ ذِكرِك، وبتَّ أقرانَه، وشتَّتَ أحزابَه، لا رفَعَ اللهُ لك بَنْدا، قد نشَرتَ رايةَ ضلالِك ورفعتَ علَمَ باطلِك، وانتَحَلتَ دعوةَ الرَدَى، ووجَبتَ من مِنبَرِ الهدى وجبَةَ مكسورٍ مدحور، ودُفِنتَ حيًّا دِفنَةَ الخاملِ المغمور، أطلقتَ لسانَك في إمامِ المسلمين، وخاتمةِ المجتهدين، فنَخَبَ اللهُ قلبَك، وأطاشَ سهمَك، وأضلَّ سعيَك، فلم يبقَ لك من محمودٍ سوى اسمِك.

أيُّها المَفتون، إنما هو قصورُك وشيطانُك تآخَيا فاعتدَيا، فسُحقًا تِلوَ سُحقٍ إلى يومِ الدين.

شيخُ الإسلامِ السبكيُّ يا أخا لا شىءَ المُصْفِي المُنفِضُ قد أقرَّ بجلالَتِه كلُّ معتبَرٍ عظيم، وما أنت إلا شُعَيرةٌ تحتَ ضِبْنِ لئيم، فإمامُك نفسُه قال: هذا ردُّ فقيهٍ، ففيمَ هذا التدليسُ والتزويرُ والتِيه، عاملَك اللهُ بما تستحقُّه فقولُك فيه هو أصدَقُ مِثالٍ على الجرحِ المردودِ الذي يؤذي الجارحُ نفسَه به.

عجبًا واللهِ لمن يكون على اطِّلاعٍ وذا باعٍ في اللغةِ ويقول: (الدعاءُ مخُّ العبادةِ، فلا يُصرَفُ الدعاءُ لغيرِ الله، ومَن استغاث بميتٍ فقد دعاهُ فعبَدَه).

فما هذه الفصاحةُ العرجاءُ، والفطنةُ الشلاّء؟ أليس هذا من سوءِ فهمِه وغَضِّ طَرْفِه عن الحقِّ والصواب، فإنّ معنى الحديثِ أنّ الدعاءَ الذي هو “يا ربُّ اغفِرْ لي” ونحوُه مخُّ العبادةِ أي خالصُها لأنّه أعظمُ مظاهرِ الإقرار بالألوهيةِ للهِ والعبوديةِ للداعي، وليس المعنى أن كلَّ دعاءٍ عبادةٌ، ويُلقِمُه الحجَرَ الحديثُ المشهورُ (الحجُّ عَرَفَة) رواهُ أحمدُ وغيرُه، فهل مَن وقف بعرفةَ حجَّ فليس عليهِ واجبٌ غيرُه، أم المعنى أنه أعظمُ أركانِ الحج؟

فخُذ مِثالاً من أقوالِ العلماءِ المعتبَرين أصحابِ الفهمِ السليم، فقد قال الإمامُ الطحَاويُّ في شرحِ معاني الآثارِ: قد علمنا أن جواب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هو الجوابُ التامُّ الذي لا نقص فيه لأن الله تعالى قد ءاتاه جوامعَ الكَلِم وخواتِمَه فلو كانوا عندما سألوه عن الحج أرادوا بذلك “ما لا بد منه في الحج” لكان يَذكرُ عرفةَ والطوافَ ومُزْدَلِفةَ وما يُفعَلُ مِن الحج، فلما ترك ذلك في جوابِه إياهم عَلِمنا أن ما أرادوا بسؤالِهم إياهُ عن الحجِّ هو ما إذا فاتَ فاتَ الحجُّ فأجابَهم بأنْ قال الحجُّ يومُ عرفةَ.انتهى

هل فهمتَ أيُّها الألوسيُّ ما معنى “الدعاءُ مخُّ العبادةِ”، والأمرُ عندي متردِّدٌ بينَ سوءِ فهمِك وسوءِ نيّتِك في تحريفِ المعنى، لحقتَ الغزالَ وسبقتَ الظلامَ في إشهارِ ءايةِ سقوطِكَ، فسُحقًا لما خطّتْه يداك فكِلا الأمرينِ سيِّئٌ ووبالٌ عليك يومَ الدين، والمحشَرُ كائنٌ لا محالةَ.

أما سمعتَ بقولِ اللهِ تعالى في الحديثِ القدسيِّ “قُسِمَتِ الصلاةُ بيني وبين عبدي نصفينِ فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمِدني عبدي هذه مناجاةٌ …… الحديث، فالمراد بالصلاةِ الفاتحةُ لأنها لا تصحُّ إلا بها، فهل بقيَ لك أيها الألوسيُّ شىءٌ.

إنه من أعاجيب الأزمانِ المتأخرةِ أن يتطاول مثلُك على شيخِ الإسلامِ المجتهد تقيِّ الدينِ السبكيِّ رضي الله عنه، لقد ءاذيتَ نفسَك عندَ اللهِ وعند عبادِهِ عندما وصفتَ شيخَ الإسلامِ السبكيَّ بأنه “يهذي”، ولماذا تجاهلتَ – يا صاحبَ تاريخِ العرب – قولَ الذهبيِّ فيه:

لِـيَـهْنَ المِـنبَرُ الأُمَوِيُّ لمَّا

عَلاهُ الـحاكمُ البحرُ التقيُّ

شيوخُ العصرِ أحفظُهُم جميعًا

وأعلَـمُهم وأقضاهم عليُّ

شيخُ الإسلامِ السبكيُّ هو الذي قال فيه صلاحُ الدين بنُ أيبك الصفديُّ: الإمامُ العالِمُ العاملُ الزاهدُ العابدُ الورِعُ الخاشعُ الناسِكُ الفريدُ البارعُ المحقِّقُ المدقِّقُ المتفنِّنُ قدوةُ الأئمةِ حُجَّةُ الفُضَلاءِ العلاّمةُ شيخُ الإسلامِ حَبْرُ الأُمةِ مفتي الفرقِ المقرئُ المحدِّثُ الرُحْلَةُ المفسِّرُ الفقيهُ الأصوليُّ البليغُ الأديبُ المنطِقيُّ الجَدَلِيُّ النظّارُ جامعُ الفنونِ علاّمةُ الزمانِ قاضي القُضاةِ أوحدُ المجتهِدِينَ تقيُّ الدينِ أبو الحسنِ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ السُبْكِيُّ الشافعيُّ الأشعريُّ الحاكمُ بالشامِ، أما التفسيرُ فيا إمساكَ ابنِ عطيةَ، ووقوعَ الرازيِّ معه في رَزِيّة، وأما القراءاتُ فيا بُعدَ الدانِي، وبُخْلَ السَخاويِّ بإتقانِ السَبعِ المَثاني، وأما الحديـثُ فيا هزيمةَ ابنِ عساكرَ، وعِيَّ الخطيبِ لمّا أنْ يُذاكِرَ، وأما الأصولُ فيا كَلالَ حَدِّ السيف، وعظمةَ فخرِ الدينِ كيفَ تَحَيَّفَها الحَيْف، وأما الفقهُ فيا وقوعَ الجُوَينِيِّ في أوَّلِ مَهلِكٍ من نهايةِ المطلبِ، وجَرَّ الرافعيِّ إلى الكسرِ بعدَ انتصابِ عَلَمِهِ الُمذَهَّبِ في المَذْهَب.انتهى

هذا هو بعينِه الذي تطاول عليه الألوسيُّ واتَّهمَه بالهذيانِ وردِّ الحقِّ والتعدِّي حتى على المذهبِ الشافعيِّ، والإمامُ السبكيُّ إذا خطَّأَ الإمامَ أبا المعالي الجوينيَّ فهو أهْلٌ، ولا يُثبِتُ هذا أو يَنفِيه أمثالُ الألوسيِّ الذي أرضَتْه الموهبةُ فتسخّطَها، وشمِلَتْه النعمةُ فغمِطَها، ضلَّ عن نورِ ءابائِه، وأَورَثَ الخِزيَ لأبنائِه، يُظهِر للدينِ المعاضَدةَ ويُبطِنُ المعانَدة، فيَلقَى أولياءَ الدينِ بوجهِه وأعداءَه بقلبِه، قال في بحرِ التُقى ظلمًا صريحًا وجَورًا فسيحًا واعتداءً قبيحًا، فكانت بعدَ ذلك أستارُه مهتوكةً، ودماءُ عِزَّتِه مسفوكةً، فواللهِ إن سيِّدَه السبكيَّ لَيَزيدُ عليه وعلى أحبابِه زيادةَ الشمسِ على نَجمٍ أَفُول، وزيادةَ مكَّةَ على الطُلُول، فمَن يكونُ الألوسيُّ ذو الطوِيَّةِ المعلولةِ والعقيدةِ المغلولةِ، عامَلَه اللهُ بما يستحِقُّه فكتبُه المسمومةُ ملئَتْ رَينًا وفاضَت مَينًا، نسألُ اللهَ العصمةَ والسلامة، من سَرِيرةٍ أعقَبَتِ الندامة، والحمدُ للهِ لم يشارِكنا في علمِنا ومأكلِنا إنستاسُ ولا غيرُه من أهلِ الضلال، وعلى كل حالٍ إنستاس النصراني وجائزةُ نوبل من ملكِ السويدِ النصراني يثيرانِ الشكوكَ حولَك وبشِدَّة، ولكلِّ مقامٍ أيها الألوسيُّ مقال، فلم ينفعك صحبةُ أعداءِ الدينِ المناحيس، ولا تسويدُ القراطيس.

كيف صاغ فكرَكم أعداءُ الدين، أما كان فيكم مُسكةٌ من عقلٍ أنتَ وجمالُ الدينِ الأفغاني الذي أرادَ هدمَ الخلافةِ الإسلاميةِ بخلافةٍ جديدةٍ هو رأسُها بدعمٍ روسيٍّ وكيف اجتمع في نظرِه هذانِ النقيضان، وتلميذُه ومريدُه محمد عبده الذي لا يرى المعجزة حقيقةً، ثم يرى الكرامةَ الخاصةَ بالأولياءِ الصالحين جائزةً لكلِّ مسلمٍ مهما كان حالُه، ويقول عن النصرانية إنها جاءت بالتسامحِ وهجرِ ملَذّاتِ الدنيا بينما قام الإسلامُ – في نظره – على القوة والعنف لعنه الله كم له من إبطالٍ للشريعةِ، ثم تلميذُه محمد رشيد رضا الذي لا يُعرَفُ هل هو قاديانيٌّ أم ماسوني أم ينسُبُ نفسَه إلى السلفِ زُورًا أم ماذا، ومِن طامّاتِ هذا الرجلِ أنّه يقولُ في كتابٍ له مطبوعٍ بأنَّ الدعوةَ الوهابيةَ عندما ظهرت في نجدٍ كانت غيرَ تكفيريةٍ ثم ينقل بنفسِه عن الجبَرتي أن الوهّابيِّين كانوا قبلَ التقدمِ إلى القتالِ يقولون عن جيشِ تابعٍ للخلافةِ: (هلُمُّوا إلى حربِ المشركين المُحَلِّقينَ الذُقونَ المستحلينَ الزنا واللواطَ الشاربين الخمورَ…ثم كشفوا عن كثيرٍ من قتلاهم (أي جيشِ الخلافةِ) فوجدوهم غيرَ مختونين).ا.هـ. كلام الجبرتي، ثم يُعقِبُه بهذا: (وفيه من فظائعِ العسكرِ وفواحشِه ما لا حاجةَ إلى ذكره).انتهى، وما يُثيرُ العجَبَ هو كشفُهم عن عوراتِ العساكرِ المغلَّظةِ فأيُّ تجديدٍ للسلفيَّةِ هذا وأيُّ محاربةٍ للشركِ في الكشفِ عن عوراتٍ مغلَّظةٍ للأمواتِ، أتلومونَ الخلافةَ على الجهالِ في جيشِها وقد ساهمتُم في هدمِها وتشتيتِ شملِها، وعندما استعانت بكلِّ مسلمٍ انتقصتُموها، فانظروا إلى هذا التائهِ الذي خالفَ اسمَه ثلاثَ مراتٍ فلا هو محمدٌ ولا هو رشيدٌ ولا هو رِضا، ويصفُ هذه القصةَ بأنها بروايةِ عدلٍ ثقةٍ عن شهودِ عِيانٍ، وهذا الجاهلُ يعتبرُ الخِتانَ من الفظائعِ أو المنكَراتِ وهو سنةٌ عند الإمام مالكٍ غيرُ واجبٍ، لكنَّ الأعجبَ أن خُبثَ هذا الرجلِ الذي لا يُسكَتُ عنه هو وصفُ جيشِ الخلافةِ الإسلاميةِ بأنه فاسقٌ عساكرُه أصحابُ فواحشَ فكيفَ يُنصَرون؟ ثمَّ ينسُبُ هذا التائهُ وَلِيدُ الماسونيّةِ ظنَّه إلى الجبَرتيِّ فجعلَ ظنَّه ظنَّ الجبرتيِّ أيضًا، لكن لم ينقل ما قاله الجبرتي أيضًا: (فوافاهم شيخُ الحويطاتِ ومعه عساكرُ وطوائفُه قبلَ شروقِ الشمسِ ووقع بينَهم القتالُ والنجديُّون يقولون هاه يا مشركون وانجَلَتِ الحربُ عن هزيمةِ النجديِّين وغنِمُوا منهم نحو سبعين هَجِينًا من الهُجنِ الجيادِ محمَّلةً أدواتٍ وكانتِ الحربُ بينَهم مقدارَ ساعتين).انتهى كلام الجبرتي، فهل كانوا على الإسلامِ وعلى الصلاحِ يومَها عندما هزموهم وانتصروا عليهم برأيِ هذا التائه؟ وليتَ شِعري كيفَ يجسُرُ على هذه الوقاحةِ في تحديدِ كونِ جيشِ الخليفةِ فاسقًا أم غيرَ فاسقٍ، هذا طعنٌ في جيشِ خليفةِ المسلمينَ ولو لم يكن فيه سوى قذفِ احتقارِ هذا الجيشِ في صدورِ الناسِ لكفاه ضلالاً، وهذا الجبرتيُّ الذي تصفُه بأنه ثقة هل تقول بأنه ثقةٌ أيضًا عندما أثبتَ لك أن الدعوةَ النجديةَ تكفيريةٌ وليست سلفيةً كما تحاول أنت أن تصوِّرَها وتبُثَ سمومَك لأصحابِ العلمِ القليل، تبًّا للماسونيةِ البريطانيةِ التي أنشأتكَ على كُرهِ السلطَنَةِ المبارَكةِ الحقَّةِ وتبًّا لك.

واعلم يا طالبَ الحقِّ رحمك الله أنّ من أقبحِ تدليساتِه وتضليلاتِه أنه يقول بأنّ الوهّابيِّينَ جاءوا لهدمِ الشركِ إلى أن استَولَوا على المدينةِ وغيرِها من الحجازِ، فانظُر إلى هذا المبتدِع الذي يزعم محاربةَ البدعةِ، أمَا عَلِم خبيثُ الطويَّةِ هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينةُ تنفي خَبَثَها كما ينفي الكِيرُ الخبَث) رواه مالك، فـمَعاذ اللهِ أن يكونَ الشركُ مستقرًّا فيها حتى يجيءَ النجديون ليبطِلُوه، تبًّا لك يا غيرَ الرشيدِ وغيرَ الرضا، ويحضرني في حقِّه الآن قولُ سيِّدِنا عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه: (إني أرى الـرجلَ فأتَهَيَّبُه فإذا تكلَّم سقطَ من عَينِي).

إنّ من أكبر كذباتِه قولُه بأنّ النجديينَ جاءوا لهدمِ الشركِ، فماذا يفعلُ بهذا النص عن محمدِ بن عبدِ الوهابِ رأس هذه الدعوةِ التكفيريةِ في كتابِ “متن كشفِ الشبهات”: 

“فاعلم أنّ شِركَ الأوَّلِينَ أخفُّ من شركِ أهلِ زمانِنا”

ويقول: (إذا تحقَّقتَ أنَّ الذينَ قاتلهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحُّ عقولاً وأخفُّ شركًا …)

حتى قال قائلهم أحمد باشميل في كتاب (كيف نفهمُ التوحيد): عجيبٌ أن يكونَ أبو جهلٍ وأبو لهبٍ أكثرَ توحيدًا وأخلَصَ إيمانًا به من المسلمين الذين يتوسلونَ بالأولياءِ والصالحين ويستشفعون بهم إلى الله.انتهى

فمحاربةُ الشركِ كلمةُ حقٍّ أُريدَ بها الباطلُ، لأنّ التكفيرَ هنا وقعَ على المسلمين، لكن أحمد باشميل الجاهل لم يدرِ أن الذين كفّرهم هم الذين سماهم “مسلمين” فكيف استقام له هذا القول، ولله في خلقِه شُئون.

ومنَ العجيبِ الممقوتِ أنّ صاحبَهم أبا الحسن الندوي يقول في كتابِه “العربُ والإسلام” بأن لورانس الداهيةَ قام بدورِه فأشعل الحماس في العربِ فثار الشريفُ حسينٌ في الحجاز وأهلِ الشام في الشام على “الإمبراطورية العثمانية”، ولم يذكر كبرى المعاركِ بين الخلافةِ والوهابيين فقد أتعبوا الخلافةَ والمسلمين بشيطنتِهم وهم يقولون “هاه يا مشركون” ويقتلون ويسفِكون ويستبيحون ويجاهدون في قتال المشركين عندهم – وهم نحن أهلَ السنة – فلماذا يا أبا الحسن الندويُّ تضلِّلُ الناسَ وتغطي الحقيقة؟

ألا تستحيي من قول “الإمبراطورية العثمانية” أم أنت ترى أن سيِّدي الخليفةَ السلطانَ عبدَ الحميدِ الثاني فمن قبلَه من أصحابِ الأيادي البيضاءِ في إنفاذِ شوكةِ الإسلامِ في قلوبِ الأعداءِ رعونةً ومصلحةً شخصيةً؟ ولماذا تمدحهم – على أنهم إمبراطورية – قاتلَتْ في سبيل اللهِ وتختِمُها بقولك (على عِلاّتِها) والعياذُ بالله، فما هي علةُ أسيادِنا السلاطينِ العثمانيينَ رضي الله عنهم؟ أم كنتَ ترى أنه يجبُ على السلطانِ عبد الحميد الثاني رضي الله عنه أن يبيعَ فلسطين لليهودِ وأنّه أخطأ عندما قال: (لو وزنوا لي فلسطين ذهبًا ما تخليت عن شبرٍ منها)؟ فالعلةُ فيك أنت أيها الندويُّ وقد قيل قديمًا:

وإذا أتَتْكَ مذَمَّتي من ناقصٍ

فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ

فكيف تكون الوهابيةُ هذه الدعوةُ الشموليَّةُ في التكفيرِ غيرَ تكفيريةٍ عند محمد رشيد رضا، لكن قد أسفَر الدليلُ عن كذبِه.

ثم يَستقطِبُ فكرَ هذا الأخيرِ القرضاويُّ فينعتُه بأنه “الإمامُ المجتهدُ المجدِّدُ”، وأمثالُ هذا كثيرونَ، أصحابُ فكرٍ خطيرٍ بدعوَى النهضةِ الفكريةِ (الماسونية)  فيُغِيرُ القرضاويُّ على صحيحِ البخاريِّ يُضعِّفُ حديثَ المعازِفِ تقليدًا لابنِ حزمٍ مع إنكارِ الحفاظِ على ابنِ حزمٍ وأنه طَعَنَ فيهِ انتصارًا لمذهبِه الرديء، ويجيزُ لمسَ المرأةِ الأجنبيةِ بغيرِ حائلٍ وقد سمِعتُه، فيخرِقُ بهذا الإجماعَ الثابتَ ويوافق في هذا (حزبَ التحريرِ) حزبَ الجهلِ والفلسفةِ الذين يقولونَ – وقالها لي أحدُ سياسيِّيهم: صدّقني يا أخي، بدون الخلافةِ لا يجبُ على المرءِ شىءٌ لا صلاةٌ ولا غيرُها، سكتَ ألْفًا ونطقَ خَلْفًا، بل سكتَ دهرًا ونطقَ كفرًا، والعياذ بالله من هذا الكفرِ الصريحِ، هؤلاءِ جماعةُ حزبِ التحريرِ يحتجونَ بالآيةِ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَر)، ولم يدرِ هؤلاءِ الضالّون أن الآيةَ في الكلامِ عن المسلمين إذا مكّنَهم اللهُ في فتحِ البلادِ نَشَروا الإسلام، هذا معنى الآية قال الإمام الطبري في تفسيرِه: ويعني بقوله: (إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ) إن وطَّنّا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها، وهم أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنْ نصَرناهم على أعدائهم وقهروا مشركِي مكةَ، أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة بحدودها، (وءاتَوُا الزكاة) يقول: وأعطَوا زكاةَ أموالِهم مَن جعَلَها اللهُ له (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) يقول: ودَعَوا الناسَ إلى توحيدِ اللهِ والعملِ بطاعتِه وما يعرفُه أهلُ الإيمانِ بالله (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) يقول: ونَهَوا عن الشركِ بالله والعملِ بمعاصِيه، الذي – أي المنكَرُ- يُنكِرُه أهلُ الحقِّ والإيمانِ بالله.انتهى

هذا قولُ أهلِ العلمِ في الآية، وعندما أخبرتُ السيِّدَ العَلاَّمةَ عبدَ اللهِ الهرريَّ عليه رَحَمَاتُ اللهِ تعجَّبَ جدًا وقال لي: قل لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقيَ يدعو إلى اللهِ ثلاثَ عشرةَ سنةً قبل أن يمكِّنَ اللهُ له في الأرضِ، ألم يكن وصحابتُه يُقيمُونَ الصلاة. وصرَّح بكفرِ قائلِ هذا القولِ لأنّه يكذبُ القرءان ويردُّ النصَّ، وردُّ النصوصِ كفرٌ عند أهلِ الحقِّ كما قال الإمامُ النسفيُّ في عقيدتِه المشهورة.

ويزيدُ القرضاويُّ الطِينَ بِلَّةً، فيجيزُ للمسلمةِ المحتشمةِ في بلادِ الكفرِ أن تكشفَ عن شعرِها إذا خُيِّرت بينَ كشفِه وتركِ العملِ غافلاً عن قولِه تعالى وهو القولُ الحقُّ الصدقُ: (ومَنْ يَتَّقٍ اللهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجا) فقد وجد القرضاويُّ لها مخرجًا حرامًا، ويقول بأن الفقرَ من أكبرِ الأسبابِ في ضعفِ دين الشخص، وقد ذمَّه مع أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلم مدحَه بقولِه: (نظرتُ في الجنةِ فوجدتُ أكثرَ أهلِها الفقراء) لكنّ القرضاويَّ الماسونيَّ يأبى إلا الانحلالَ من الدينِ جامعًا بينَ المعازف واللمس بغيرِ حائل وكشف العورة والعياذُ بالله وله من الفتاوى الباطلةِ غيرُ هذا كثيرٌ، نسألُ الله السلامةَ.

ورحم اللهُ الشيخَ حسن البنا فقد كان رجلاً مستقيمًا لم يتّفقْ منهجُه الصافي الخالصُ مع من حولَه فكانوا أكثر ارتياحًا لقتلِه من أعدائِه الظاهرين، وكانت مَكِيدةً دُبِّرَت بليلٍ، فيأتي بعدَ قتلِه سيِّد قطب ويصرِّحُ في تفسيرِه الفاسدِ بأن كلَّ البشريةِ كفرت باللهِ حتى أولئك المؤذنون الذين يردِّدونَ على المآذن “لا إله إلا الله” ارتدُّوا إلى عبادة العباد ونكصوا عنها، وفي كتابِ الأطيافِ الأربعةِ هو وإخوتُه يقول في القسمِ الخاصِّ به: (وضحِكَ القدَرُ ضحكةً عاليةً … فيا أيها القدرُ الساخر) نعوذ بالله من عمى القلوبِ وقلةِ الأدبِ مع ربِّنا تبارك وتعالى، ويبقى بإذن اللهِ تعالى مَن ينبري لقمعِ ضلالاتِهم وفِكرَهم المستحدَثَ بأقوى حُجةٍ وأسطع دليل، وأوَّلُ الغيثِ قطرة. 

فائدة: الماسونية معناها البنّاءُون وفي الإنكليزية سُمُّوا البنّائين الأحرار، يزعُمون أنها منظمةٌ أخَوِيّةٌ عالمية يتشاركُ أفرادُها عقائدَ وأفكارًا واحدةً فيما يخصُّ الأخلاقَ وتفسيرَ الكونِ والحياةِ والإيمانِ بخالق إلهي يشاركونَه – ولو لم يصرِّحوا – في التشريعِ بحسبِ تغيُّراتِ الزمان. تُعرَفُ المنظمةُ بالسرِّيّةِ والغموضِ وتحديدًا في شعائرها، خاصةً في بدايات تأسيسها مما جعلها محط كثير من الأخبار والشائعات بأن هذه المنظمة بسعة انتشارها وتمكنها من الوصول إلى معظم الحكومات العالمية القوية هي من تملك زمام قيادةِ العالمِ، لذلك يتهم البعضُ الماسونيةَ بأنها من محاربي الفكر الديني وناشري الفكر العلماني، وهو فصلُ الدينِ عن السياسةِ وعدمُ الإلزامِ بدينِ محدَّد لأيِّ شخصٍ وهذا كان أحدَ أسبابِ زلزلةِ الخلافةِ الإسلاميةِ وجعلِ بعضِ البلادِ عِلمانيّةً والعياذ بالله.

أما الشارعُ صلى الله عليه وسلم فقد قال: (أُمرتُ أنْ أقاتِلَ الناسَ حتى يشهدوا أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وأني رسولُ الله) والمستعانُ هو الله.

فالخلاصةُ بعد كلِّ هذا، أن قولَ هذا الألوسيِّ المتأخرِ جدًا المتأثرِ بالفكر التكفيري: (وهل كان كلُّ من خدرت رجلُه يستغيث بأحب الناس إليه غلامًا أو امرأة يُغِيثُه؟ لا يقولُ هذا إلا من خدِر عقلُه) مردودٌ عليه وتقبيح لما هو حسنٌ ليس غيرُ والرد عليه بمسئلة السَبْي التي ذكرتُها يكفي.

ورحم الله السلطانَ عبدَ الحميدِ الذي نفاه من بلده بسبب شكاوى العلماءِ، وليتَه أبقاه منفيًّا، إن قالوا بأنه كان أديبًا مؤرِّخا على اطلاعٍ واسعٍ فلن يكون أعلمَ من الجاحظ المعتزلي الذي قال لعنه الله “إن الأنبياءَ وُلِدوا على غير رَشْدة” أي أولاد زنا، والعياذ بالله من خبثه، ويكفيه خِزيًا أن اللهَ أطفأَ ذِكرَه. 

فائدة: يقال رَشْدةٌ ورِشدةٌ بفتح الراءِ وكسرِها والفتح أفصح وهي نقيضُ زَنية وزِنية، فالمولود على رَشدة هو ابنُ النكاح الصحيح والمولود لضِلّة هو ولدُ زَنية وولدُ غَيّةٍ ووُلِدَ لخِبْثةٍ وزاد بعضُهم هو ابنُ بِغْيَةٍ، نسأل الله السلامة.

ويَرُدُّ على الألوسيِّ أيضًا أن مشركي العربِ لا عبرةَ بهم ولا بفهمِهم، وسواءٌ أكانوا في نظرِهم يستغيثون أم يذكرون، إنما العبرة بما هو في الشرع بعد استحسان هذا الأمر منهم وأخذه كما مر، وخيرُ أُسوةٍ لنا هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى اليهودَ يصومون عاشوراءَ شكرًا لله أن نجَّى موسى من فرعونَ، فاستحسنَه صلى الله عليه وسلم وقال: نحنُ أَوْلَى بموسى فصُوموه. رواه مسلم، ولم ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اعتقاد اليهود في موسى صلى الله عليه وسلم أو اعتقادهم في الله الذي يصومون شكرا له وهم مَن هم في التجسيم والتشبيه يعتقدون أن الله استلقى على قفاه على العرش بعدما خلق العالم فتعب والعياذ بالله من هذا الكفر القبيح، فأي عاقلٍ يقولُ إنَّ المسلمينَ أخذوا من المشركين عادةً وأقرُّوها على فَهمِ المشركين لها.

والحاصلُ أن المسلمين استحسنوا هذا وجعلوه في نبيِّهم فأنعِم به استحسانا ومعتقَدا، وهو عينُ التوسلِ إلى الله به صلى الله عليه وسلم، هو الوسيلة صلى الله عليه وسلم بل أفضلُها واللهُ تعالى يخلق الشفاء، ويذكرني هذا بمبتدِعٍ قال لي مرة: لماذا تقولون “يا محمد” قولوا “يا الله” بدونِ وسائطَ ولا أسبابٍ، هكذا بكلِّ جرأةٍ، فقلت له: إذا أصابك صداعٌ ماذا تفعل؟ فقال: ءاخذ حبتينِ من الدواء، فقلت ولماذا؟ أليس اللهُ الشافيَ فلماذا لا تقول “يا الله يا شافي اشفني” لماذا تجعل بينك وبينه وسائط وأسباب؟ إن كنت تجعل حبتين من الدواءِ واسطةً بينَك وبينَ اللهِ فنحن جعلنا محمدًا صلى الله عليه وسلم واسطتَنا وهو أعظم الوسائط.

فجحظت عيناه وبُهِت ولم يردّ جوابًا أمام الناس هداه الله ءامين.

فما أقبح كلامَ الألوسي وتهويلَه وكيف حاول إيصالَه إلى الناس بطريقةٍ قبيحة عامله الله بما يستحقه.

فكم مِن عائبٍ قولاً سليمًا

وءافَـتُـهُ من الفَهمِ السقيمِ

هذا وقد كان المشايخُ يقولون: الفهمُ عَرَضٌ يطرَأُ ويزولُ، فكيف بالله يا طالبَ الحق بمن فهمُه يزولُ ولا يطرأ.

ثم لِيُعلمْ أنه ليس شرطًا ولا واقعًا لازمًا أن يذهبَ الخدَرُ في كلِّ مرة، فقد يَعرِضُ المانعُ للقائلِ بسببِ أمورٍ عديدةٍ منها معاصيه أو ابتلاءُ اللهِ له تخفيفا لسيئاتِهِ أو رفعًا لدرجاته، ومِن هذه الموانع ما قاله أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: (ذكَرَ الرجلَ يطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديهِ إلى السماءِ: يا ربُّ يا ربُّ ومَطعَمُه حرامٌ ومَشرَبُه حرامٌ ومَلبَسُه حرامٌ وغُذِيَ بالحرامِ فأَنَّى يُستجابُ لذلك). رواه مسلم

فها هو يدعو اللهَ القائلَ في كتابِه العزيز: (وإذا سألَكَ عبادي عنِّي فإني قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الداعيْ إذا دعانِ) البقرة 186.

فهل يقال بأنَّ كلَّ مَن دعا اللهَ ولم يَستجِبْ له إنه ليسَ مُجيبًا، لا يقولُ بهذا إلا مَن خدِر عقلُه أيها الألوسي.

وهذا القولُ عند خدَر الرجل أو غيرِها ليس واجبًا ولا أحدَ يقول بهذا بل هو جائزٌ إن شاءَ نادى وإن شاء ذكَرَ وإن شاءَ ترك، ومَن ادّعى أن الكلَّ من عربِ الجاهلية فمن بعدَهم ذهب عنهم الخدر في كلِّ مرة نادَوا فيها حبَّ الناس إليهم فقد كذب كذبًا عظيما.

شُبهةٌ أخرى:

قالوا وكيف تستدلون بحديث ابنِ عمرَ رضي الله عنهما في جواز الاستغاثةِ به صلى الله عليه وسلم وهو مذكورٌ في الآداب في باب ما يقول من خدرت رجلُه.

قلتُ: أنتم تجيبون على هذا السؤال لو أعمَلْنا قياسَ العكسِ وقلْبَ الدليلِ عليكم، فأنتم تكفِّرونَ – وتفِرُّون من التكفيرِ عند المواجهةِ – من قال (وامحمداه) إذا خدِرَت رجلُه وإن كان من الآداب، فلماذا تكفِّرونَه وأنتم تُقِرُّونَ بأنه من الآداب؟ هذه لا مَفَرَّ لكم منها.

(فَلَمَّا ألقَوْا قالَ مُوسَى ما جِئْتُم بهِ السِحْرُ إنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِين)

هذا التستُّرُ بكلمةِ “الآداب” واستعمالُها دليلاً علينا انقلبَ عليكم، ونحن نعلم يقينًا أنكم تكفِّرون القائل “يا محمد” وإن كان قالَها لإذهابِ خَدَر رِجلِه.

وقد علَّق الألباني على هذا الحديث بأنّ هذه العبارةَ فيها استعانةٌ بغير الله، وأنها منافيةٌ للتوحيد، فلماذا الكذبُ والتقيةُ، فمذهبُكم معروفٌ مشهورٌ ونحن نعرفُ إن تكلَّمنا بإثباتاتٍ تاريخيةٍ تاريخَكم عن قتلِ النساءِ والأطفالِ في المدينة، ولا عجب بعد نقل صاحبِكم محمد رشيد رضا عن تكفيركم لجيش الخلافةِ ومن تبِعه وأنكم تجاهدون في قتالهم لأنهم مشركون.

ولماذا انقطعَ لسانُ أحدُ رءوسِكم عبد الرحمٰن دمشقية عندما سأله فضيلةُ الشيخِ الجبلِ سليمُ علوان الحسني أحدُ بركاتِ هذا الزمان حفظه الله: أنتم تقولون بأنه شركٌ، وشيخُكم ابنُ تيميةَ يسميهِ كلِمًا طيبًا، فهل هو استحسن الشركَ وهل تكفِّرونه؟ فتهرب ولم يردَّ جوابًا، لأنه يعتقد ما يعتقدُه الألبانيُّ من أنها استغاثة، لكنّ دمشقية “ظن” أنه وجد مخرجًا بهروبِه من الاستغاثة إلى اعتبارِها عادةً عربيةً، وهيهاتَ فقد أَسَّس بنيانَه على شفا جُرُفٍ هار، فلا تتهربوا هداكم الله، لكن يعجبُنا أن تقولوا: أيها المسلمونَ إذا خدِرَت رجلُ أحدِكم فليقل: يـا محمد، هذا من ءاداب المسلمين، هذا يعجبنا.

ودليلٌ ءاخرُ لا يُبقِي على هذه الشُبْهةِ ولا يَذَرُ وهو أنّكم جعلتُم مَن قَصَدَ وخصَّ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالزيارة مشرِكًا وزيارَتَه زيارةً شِركيةً والعياذُ باللهِ مع أن الحافظَ عبدَ الحقِّ في أحكامِهِ اعتبَرَهُ مِن فضائلِ الأعمالِ وكثيرون غيرُه، ومِثلُه قال ابنُ القطّانِ عن حديث: (مَنْ زارَ قبري وجَبَتْ لهُ شفاعَتي) في رَدِّه على الحافظِ ابنِ الحقِّ: (هو مِنَ الحَثِّ والترغيبِ)، فلماذا تكفِّرونَ المسلمين القاصدينَ قبرَهُ صلى الله عليه وسلم دُونَ غيرِهِ وهو من فضائلِ الأعمال؟

فاترُكوا عقيدَتَكم هذه وأنكِروا على أنفُسِكم ثم كلِّمونا بعد ذلك في الاستدلالِ بهذا الحديث.

وكيف تستدلون بحديث الجارية وقد رواه مسلم في “تحريمِ الكلامِ في الصلاة”؟ عجبًا والله، رمَـتني بدائها وانسلّت.

والحجةُ قائمةٌ بحديثِ ابنِ عمرَ معشرَ المسلمين وكلامُهم هذا لا معنى له البتةَ، ومن الأمثلة الواضحة حديث: (مَن نسيَ وهو صائمٌ فأكل أو شربَ فليُتِمَّ صومَهُ فإنّما أطعَمَهُ اللهُ وسَقَاه) رواه الشيخان، فهذا الحديثُ كلُّه عن الصومِ وهو حجةٌ بالغةٌ في إثباتِ وجوبِ قضاءِ الصلواتِ على تاركِها عمدًا، وَرَدٌّ على الذين قالوا بعدمِ وجوبِ القضاءِ إذا تركها الشخصُ عَمْدًا أخذًا بظاهر الحديثِ: (مَن نام عَن صلاةٍ أو نسيَها فليصلِّها إذا ذَكَرها لا كفارةَ لها إلاّ ذلك) فقالوا أما مَن تركها عَمْدا فلا يصحُّ منه القضاءُ والعياذ بالله أخذًا بظاهرِ الحديث، وهو استدلالٌ باطلٌ، وكنتُ كغَيري أقلِّدُ مَن سبقَني من أهلِ العلمِ بقولِهم إذا كان الناسي يجبُ عليه القضاءُ وهو معذورٌ فمن بابِ أَوْلَى أن يقضيَ العامدُ غيرُ المعذورِ، بالدليل العقلي كنا نردُّ إلى أن مَنَّ اللهُ عليَّ واستفدتُ هذا الدليلَ من السيِّدِ الْعَلاَّمَةِ عبدِ اللهِ الهرريِّ أحدِ أذكياءِ العالمِ في وقتِهِ وأعلَمِهم وهو حديثُ الصائمِ الناسي، والدليلُ فيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نسيَ وهو صائمٌ فأكل أو شربَ فليُتِمَّ صومَهُ) ولا يعني هذا أن من أفطر عامدًا بغيرِ عذرٍ غيرَ ناسٍ أنّه يجوز له الأكلُ والشربُ، هذا باطل وهو حجةٌ مُلزِمةٌ لابن حزمٍ ومَن تبعَه وهو منقولٌ عن ابنِ تيميةَ والعياذُ بالله، وهم يقولون بوجوبِ الإمساكِ عن المفطراتِ إذا أفطر عمدًا ولا يجوز له أكلٌ أو أيُّ مفطِّرٍ كالجماع، هذه هي الحجة عليهم وهي من باب قياسِ الشىءِ بنظيرِهِ، فهل يقولُ المخالفون بأنه لا يصلُحُ دليلاً لأنه في باب الصوم؟ نسألُ اللهَ حُسنَ الفهم اللهم ءامين.

فائدةٌ: لا يُقالُ: الكلامُ هنا عن إتمامِ الصومِ، فالناسي صائمٌ والمفطرُ بغير عذرٍ غيرُ صائمٍ، فكلاهما مأمورٌ بالإمساكِ وجوبًا وكلاهما داخلٌ في فَحوى الخطابِ ولحنِ الخطاب، فافهم رعاك الله، ألا ترى أن المفطِرَ المتعدي يقعُ في الحرامِ كلَّما أكلَ بغيرِ عذرٍ، ولا يجوزُ له الجماعُ بعد الفطرِ الممنوع، ولا يُعتذَرُ له منها بأن قد أفطر من قبلُ فهو الآنَ مفطرٌ، إذ الواجبُ قولاً واحدًا هو تركُ الظلمِ وسببِه، وكذلك من قال لوالدَيهِ “أُفٍّ” يُنهَى سواءٌ الناسي والذاكرُ، فهو في الحالين قبيحٌ، فاشتركا في النهي، وكذلك المفطِرانِ في وقتِ الصيامِ كلاهُما مأمورٌ بالإمساك عن الطعامِ سواءٌ الناسي والذاكر، فاشتركا في النهي عن تعاطي المفطِّرِ وقتَ الصيامِ أي اشتركا في وجوبِ الإمساكِ عن المفطِّراتِ وافترقا في المؤاخذةِ والصحةِ، والله تعالى أعلم.

فالعبرةُ بالدليلِ والعبرةُ بالتحقيقِ لا بالتنميق، ولماذا ذكر ابنُ كثيرٍ حديثَ بلال بن الحارث المُزَني الصحيحَ عندما جاء قبرَه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله استسقِ لأمتك) في تاريخه وذكره ابنُ حجرٍ في فتح الباري في فصلِ الاستسقاءِ؟ هل يُفهَم من هذا حصرُ فقهِ الأحاديث؟ تاللهِ إنها ظاهريةٌ محضةٌ مذمومةٌ، والعجيبُ أنهم مع جمودِهم على الظاهر يفِرّون إلى مثلِ هذه التأويلاتِ التي تَمُجُّها الأسماعُ، وعلى أصلِهم هذا يجوز لقائل أن يقول: لا يجوز الاستدلال بهذا الحديث إلا في تفسير غريب الحديث كما فعل الإمام إبراهيم الحربي.

والحُجّةُ عليهم برواية الأئمةِ مشايخِ الإسلامِ لحديثِ الضريرِ الذي فيه: (يا محمدُ إني أتوجّه بكَ إلى ربِّي في حاجتي لتُقضَى لي) فإنهم ذكروه في بابِ صلاة الحاجة ليَعملَ به الناسُ إلى يومِ القيامةِ كما فعل الإمامُ ابنُ ماجه، وكذا الترمذيُّ في سُنَنِه في كتاب الأدعية، والنسائيُّ في عمل اليومِ والليلة وغيرُهم كثير، وما ذكره هؤلاء الأئمةُ أصحابُ الفهمِ إلا للعملِ به وقد استدلَّ به العلماءُ على جوازِ التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ولم يُنكِرْ عليهم أحدٌ من الأئمةِ سلفًا وخلفًا فكانت المسئلةُ إجماعًا مستقرًّا، فهم يثبتونَ شذوذَهم ويكشفُ حقيقتَهم إذ يدَّعُون السلفيةَ قولاً دونَ عملٍ، وهذا الرد عليهم قويٌّ جدًا، فتمسَّك به حفظكَ الله فإنه كافٍ في كسرِهم بإذن الله.

ويكسرُ شوكتَهم قولُ الإمامِ المبرِّدِ النحويِّ في كتابِ التَعازي والمَراثي، قال ما نصُّه:

وهذا حديثٌ نذكرُه ليَتبَعَهُ ذِكرُه عليه السلام، ويَعُوذَ بهِ عائذٌ، ويَأتَمَّ به مُؤْتَمٌّ: حدثني الرياشي العباس بن الفرج قال: أخبرنا أحمد بن شبيب قال: أخبرنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني …. وذكرَ الحديثَ كلَّهُ مع قصةِ الرجلِ الذي كان يتردَّدُ إلى سيِّدِنا عثمانَ بنِ عفّانَ رضي الله عنه.

والمبرِّدُ – ويقال المبرَّدُ – قال عنه الذهبي في السِيَر: كان إمامًا علاّمةً مُوَثّقًا تُوُفِّيَ أولَ سنةِ 286 هجرية. انتهى، أي أنّه من أئمّةِ السلفِ الأكابر.

فهل هو مشركٌ عندكم، محالٌ أنْ يكونَ أكابرُ الأمةِ على ضلالٍ وأنتم بعد قرونٍ طويلةٍ جئتم لتخليصِ الأمةِ من شِركِها، فإن كان ولا بدَّ فأنتم المشركونَ لا الأمةُ، فواللهِ مهما بلغَ علمُكم لن يبلغَ نصفَ عُشرِ علمِ أحدِهم ولا تقواهُ ولا صلاحِه ولن تكونوا أصلحَ وأخوَفَ على الدينِ منهم وأنتم لا تكادونَ تفقهونَ شيئًا من لسانِ العرب، فتأمّلوا كلامي جيِّدًا بصدقٍ وأمانةٍ بتجرُّدٍ عمّا زرعوه في قلوبكم من تكفير المسلمين جيلاً بعدَ جيلٍ إلا مَن وافقكم.

وإيرادٌ ءاخرُ وهو أن كلمة “يا محمد” صلى الله عليه وسلم، لم ترد فقط في هذا الكتابِ في باب الأدب، بل لها أخَواتٌ ثابتاتٌ حِسانٌ، فذاك كانت له حاجةٌ عند الخليفة عثمان رضي الله عنهم فقال “يا محمد” وهذا خدرت رجلُه فقال “يا محمد”، فليستِ العبارةُ خاصّةً بالآدابِ بل هي واردةٌ في كل الحاجاتِ، كما في الروايةِ الصحيحةِ في توسلِ الأعمى في تاريخ ابن أبي خيثمةَ: (وإن كانتْ لك حاجةٌ فافعلْ مثلَ ذلك) فالمسئلةُ لا تزالُ أوضحَ من تمويهاتِكم، والله تعالى أعلم.

ولو قلنا بأنّا سلَّمْنا أنَّه مجرَّدُ ذكرٍ وهو خطورُ المحبوبِ بالبالِ (أي على القلبِ) مع ذِكرِهِ باللسانِ وهو النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فإنّكم عندئذٍ تُقِرُّونَ بمذهبِ الصوفيةِ ووَجدِهم وتنقُضُون عقيدتَكم، فإنَّ الصوفيَّ عندما يصيبُه هذا الوجدُ إنما هو لأجلِ خطورِ المحبوبِ بالبالِ وذِكرِهِ باللسانِ وما هذا الوجدُ إلا لقوَّةِ الوارِدِ الذي يفوقُ تحمُّلَ القلبِ فيحصُلُ منه الوجدُ فيصيحُ أو يُغْشَى عليهِ وبعضُهم يموتُ وقد حصل كثيرًا من زمنِ السلَفِ إلى ما بعدَه.

أَمُوتُ إِذا  ذَكَـرتُكَ  ثُمَّ  أَحْيَا

ولولا ماءُ وَصْلِكَ ما حَيِيتُ

فأَحْيا بالمُنَـى وأمـوتُ شَـوقًا

وكَمْ أَحْيَا عليكَ وكمْ أموتُ

شَرِبْتُ الحبَّ كأسًـا بَعدَ كأسٍ

فما نفِدَ الشرابُ وما رُوِيتُ

فإن قيلَ إنّه يذكرُه باللسانِ فقط، قلنا هذا ممنوعٌ إذ لا يذكرُ بلسانِه إلا وقد خطرَ له اسمُ من يُحبُّ وخطورُه إنما يكونُ في القلبِ، فقد صحَّت صورةُ المحبوبِ وارِدًا قلبيًّا فأجراها على لسانِه، فتنبَّه.

 

ومعروفٌ أنَّ اللسانَ دليلٌ على ما في القلبِ، إلا مَن كان مُكرَهًا أو مخطئًا، قال الشاعرُ:

إن الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما

جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا

وقال ءاخرُ:

لسانُ الفتى عن عقلِهِ تَرجُمانُهُ

متى زل عـقل المرءِ زلَّ لسانُهُ 

فلا مفرَّ للمخالفينَ مِن هذه، فإمّا نُصرتُهم لأهلِ الوجدِ من الصوفيةِ والتماسُ العذرِ الصحيحِ لهم في الغيابِ عن الشهود، بأُنسِ المنهلِ المَورُود، بما تكرَّمَ به خالقُ الوجود، أو تصريحُهم بأنَّها استغاثةٌ ونداءٌ صريح.

هذا ولو قُلنا بأنّا سلّمنا أنها من الآدابِ وعادةٌ عربيةٌ قديمةٌ أقرَّها الشرعُ – إذ لا مخالفةَ فيها للعقيدةِ – فلا يختصُّ حينئذٍ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإن شاءَ المرءُ ذَكرَ مَن أحَبَّ لا الأحبَّ مطلقًا، فمَن خدِرَت رجلُه أو يدُه على هذا له أن يقولَ: يـا عائشة رضي الله عنها أو يـا سيِّدَتي فاطمة ، يـا عليُّ، يـا حسين، يــا حسن عليهم السلام أجمعين ونفعنا ببركاتِهم وسقانا من فُيوضِ كراماتِهم ءامين.

فقد أوقع الوهابيةُ أنفسَهم في ورطةٍ فإمّا أن يُقِرُّوا بأنها استغاثةٌ فيجيزونها وإمّا أن يعتبروها من الآدابِ وأنّ المصابَ بخَدَرِ رجلِهِ يذكُرُ اسمَ محبوبِه فيزولُ عنه الخدَرُ، ويكونُ هذا دليلاً عليهم فإنّ ذكرَ الصوفيةِ من هذا القبيلِ وكلُّ واحدٍ على حسبِ استحضارِهِ للمحبوب، يُصيبُه الوجدُ المكتوب.

ونسألُهم: ذكرُ الحبيبِ هل هو خاصٌّ بالرجلين أم برجلٍ واحدةٍ كما هو ظاهرُ الروايةِ؟

ولا نظنُّ عاقلاً يقولُ بهذا، واعلمْ رحمك اللهُ أنّهم ذكروا هذا في بابِ خدَرِ الرجلِ من حيثُ ورودُه في الواقعةِ، والمرادُ التمثيلُ أي ضربُ مثالٍ، فإذا أحسَّ شخصٌ بخَدَرٍ في يدِهِ أو أذىً فله أن يقولَ “يـا محمد” وليس هؤلاءِ مَن يحدِّدُ لك دائرةَ الجوازِ وهيهات.

فإنْ جاهرُوا بسخافةِ عقولِهم وقالوا نحن نأخذُ بظاهرِ الحديث وقد وردَ في الرجلِ، قلنا خذوا بظاهر الأحاديثِ التي فيها الأذانُ على المنائرِ ولا تؤذّنوا اليومَ من داخل المسجدِ بواسطةِ مكبّراتِ الصوتِ، أليست هذه بدعةً وأنتم تزعمونَ محاربةَ البدع، وفعلتُم بالمسلمين الأفاعيلَ بهذه الحجة الباطلةِ، فلماذا ترتكبونَها.

وإنْ أردتُم الأخذَ بظاهرِ الحديثِ بظاهريةٍ سخيفةٍ فخذوا أيضًا بظاهرِ حديثِ (لا تُشَدُّ الرِحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ الأقصى ومسجِدي هذا).

فعلى ظاهرِه حرامٌ عليكم أن تسافروا لصلةِ أرحامِكم وللتجارةِ لأنّ النهيَ عن شدِّ الرحالِ بظاهرِ اللفظِ ممنوعٌ إلاّ إلى هذه المساجدِ الثلاثةِ، أم هي ليست كذلك عند أصحاب ظاهريّةِ التشَهّي. 

(أتأْمُرُونَ النَّاسَ بالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ)

فبِئسَتِ السلفيَّةُ المكذوبةُ وبئستِ الظاهريّةُ الممزوجةُ بالتشهّي، تؤدّي إلى ضربِ الأدلةِ ببعضِها، فكُفُّوا إذَن عن حديثِ: (مَن زار قبري وجبَتْ له شفاعتي) فهذا الحديثُ الثابتُ – وإن كان عندكم ضعيفًا- فقد ذكره الأئمةُ الأكابرُ في فضائلِ الأعمالِ والآدابِ، وهذا كذاك، واترُكوا تكفيرَ المسلمينَ الذينَ شدُّوا الرحالَ إلى قبرِه صلى الله عليه وسلّم فإنّه من الآداب.

وقد قال أبو بكرٍ بنُ العربيِّ في قصيدتِه المشهورةِ عن مثلِ هذه الظاهريةِ الممقوتةِ وإن كنتُ لا أستسيغُ هذا اللفظ إنما هو للبَيان:

قالـوا  الظـواهرُ أصـلٌ لا يجوزُ لنا 

عنـها العُـدُولُ  إلى رأيٍ ولا نَظَرِ

قلتُ اخـسَئُوا فمَقامُ الدينِ ليس لكم

مـا لِـلأنامِ  ومـعلوفٍ من البَقَرِ

يُقالُ لأهلِ هذه الظاهريّةِ، لا يَزُرْ أحدٌ منكم أهلَهُ كلَّ يومٍ وأنتم على ظاهريَّتِكم هذه، لأنّ الحديثَ الواردَ في الزيارةِ ظاهرُه على خلافِ هذا وهو: (زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا) رواه الطبرانيّ، فهذا ظاهرُه أمرٌ منه صلى الله عليه وسلم، والأمرُ بالشىءِ نهيٌ عن ضِدِّه، هذا أوّلُ ما يتبادرُ من اللفظِ وهو ما يُسَمَّى ظاهرَ اللفظِ، أما عندَ أهلِ الفهمِ من أهلِ السنةِ والجماعةِ فليس هذا الأمرُ للوجوبِ إنما هو إرشادٌ، وما كلُّ أمرٍ للوجوبِ مطلقًا، فالعبرةُ بفِقهِ الحديثِ ودِرايتِه، وكذا حديثُ خدَرِ الرجلِ العبرةُ فيه فقهُه لا ظاهرُه المحض، فلو خدِرَت رُكبَةُ ابنِ عمرَ، لقيل مَن خدِرَت ركبتُه، إنما هو مثالٌ أو تمثيلٌ كما مرَّ.

والمرادُ من التمثيلِ مثلُ تعليلِ المالكيةِ عدمَ الأخذِ بظاهرِ حديثِ: (إذا بلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ م يحمِلِ الخَبَثَ) فإنهم قالوا: هذا تمثيلٌ وليس المرادُ القلَّتَين تحديدًا، إنما لفظةُ (قلتين) ذُكِرَت من بابِ ضربِ المثالِ على كثرةِ الماءِ الذي لا يتغيَّرُ فورًا أو يتنجَّسُ بحلولِ النجاسةِ فيه، كذا أفادَه مشايخُنا المغاربةُ.

والأدلةُ في مثلِ هذا كثيرةٌ، ويكفي في إبطالِ التخصيصِ بقولِ البخاري في الأدبِ المفرَدِ: (بابُ ما يقولُ إذا غَضِبَ) وذكرَ حديثًا فيه الاستعاذةُ (أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم).

هذا هو التمثيل وليس حصرًا لا بمنطوقِهِ ولا بمفهومِه وحاشى شرعَنا أن يكونَ بهذا الجمودِ الممقوتِ، وفقهُ الأدلّةِ ودرايتُها أسمى وأعلى من عقولِهم، والنسبةُ بينهما التبايُنُ الخالصُ المطْلَق.

لكن – والحقُّ يقالُ – أعجبني قولُهم بأنّ هذا من الآدابِ، فقد كُفِينا مؤنةَ المناظرةِ في الذكرِ اللسانيِّ والقلبيِّ مع الرابطةِ، فعجبًا واللهِ لهم كيفَ ينصُرونَ التصوُّفَ من حيثُ لا يعلمون، وقد وردَ في حديثٍ ضعيفٍ صحيحِ المعنى: (إنّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هذا الدينَ بالرَجُلِ الفاجر) وما نحن فيه أوضحُ شاهدٍ على صحةِ المعنى، ويَردُّ عليهم أنّ القاضيَ عياضًا ذكرَه في الشفا في (باب ما رُوِي عن السلفِ من محبَّتِهم له وشوقِهم إليه صلى الله عليه وسلم) وكذا محمدُ بنُ يوسفَ الصالحيُّ في سبل الهدى والرَشاد، والله تعالى أعلم وأحكم.

شبهةٌ أخرى:

قالوا يسألون وينكرون: ومَن فهم مِن نداءِ النبي صلى الله عليه وسلم بعدَ وفاتِه الاستغاثة وطلبَ المدد، الصحابة ما فعلوا هذا وتحدَّونا بذلك، فهاك يا رعاكَ اللهُ بعضًا:

سوفَ ترى إذا انْجَلَى الغبارُ

أفـرَسٌ تحتَـكَ أم حمارُ

الجواب: هذا الحديثُ فقد سبقَنا إليهِ خَلْقٌ ومنهم:

– الشيخُ داودُ بنُ سليمانَ الخالديُّ البغداديُّ المعروف بابنِ جرجيس، ذكره صاحبُهم الألوسي في كتابِه (فتح المنان) عنه ونصه: منها ما ذكره ابن تيمية في (الكلم الطيب) وابن القيم في (الوابل الصيب) عن ابن عمر وابن عباس – رضي الله عنهم – أن الإنسان إذا خدرت رجله، فلينادِ: يا محمد. فإن الخدرَ يذهبُ عنه.انتهى، والشيخ داود بن سليمان له كتاب “المنحة الوهبية في الرد على الوهابية”.

– في رسائلِ وفتاوى أبا بطين أحدِ شيوخِكم جاء ما نصُّه: وأما الأثر الذي فيه: أن من خدرت رجله فليذكر أحب الناس إليه، فهذا الأثر مروي عن ابن عمر “أو” ابنِ عباسٍ … إلخ

فلو لم يكن هناك مَن احتجَّ به لما ذكرَه للردِّ عليه بحسبِ ما رءاه على قلةِ علمِه وسوءِ فهمِه ونيَّتِه، فقد خان الأمانةَ وحذف “يا” من الحديث وجعله عن ابن عمر “أو” ابنِ عبّاس، وجعل اللفظين واحدًا، وهذا غشٌّ وخيانةٌ فلتفرحوا بأمثالِه، واللهُ يُغنينا عن أمثالِه.

– الشيخ محمد عبد الحكيم شرف في كتابه: (من عقائد أهل السنة) وهو كتاب قديم ذكرَهُ في الصحيفة 154 في فصل التوسل به صلى الله عليه وسلم. 

فاتّهامُهم مشايخَنا رضي الله عنهم بأنهم ابتدعوا هذا الفهم من الحديث قد ظهر أنه اتهامٌ باطلٌ وقد شددوا النكيرَ على العلاَّمةِ السيِّدِ الهرريِّ وكان رضي الله عنه أثبتَ الناسِ قدمًا في الشرعِ وأشدَّهم تحقيقًا وتدقيقًا ولله الحمد.

أما قولُهم عمومًا بأن الصحابةَ فمن دونَهم ما فعلوه وما نادَوه فأقول:

بل فعلوا وثبت عنهم ونادَوه حاضرًا وغائبًا حيًّا وميْتًا، صحابةٌ وغيرُهم كما سيأتي.

الصحابيُّ عثمانُ بنُ حُنَيفٍ عندما علّم الرجلَ الدعاءَ علّمه أن يقول: يــــا محمد. عليه الصلاةُ والسلامُ

لو كان حرامًا أو لا يفعله الصحابةُ كان عثمانُ بنُ حُنَيف علَّمَه الناسَ؟ وهل نهاه عن تعليمِ غيرِه وقال للسائلِ: هذا خاصٌّ بك؟

وهذه الزيادة التي يَفترون على الدين بتضعيفِها هي التي قال عنها إمامُ الجرحِ والتعديلِ ابنُ أبي حاتمٍ: (هي أصح من رواية شعبة) أي الروايةِ المختصرة التي يتمسكون بها، والإمام الطبراني رجحها والإمام الحاكم صححها ورجحها أيضا.

وعبارةُ ابنِ أبي حاتم: (حكَم أبو زُرْعةَ لشُعبةَ، وذلك لم يكن عندَه أن أحدًا تابع هشامًا الدَستَوائي، ووجدتُ عندي عن يونسَ بنِ عبدِ الأعلى عن يزيدَ بنِ وهـبٍ عن أبي سـعيدٍ التَمِيمي يعني شَبِيبَ بنَ سعيدٍ عن رَوْحِ بنِ القاسم عن أبي جعفرٍ عـن أبي أُمـامةَ بنِ سهلِ بنِ حُنَيفٍ عن عمِّهِ عثمانَ بنِ حُنَيفٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ حديثِ هشامٍ الدَسْتَوائيِّ وأشبعَ مَتنًا ورَوحُ بنُ القاسمِ ثقةٌ يُجْمَعُ حديثُه، فاتفاقُ الدَستَوائيِّ وروحِ بنِ القاسمِ يدلُّ على أنَّ روايتَهُما أصحُّ).انتهى

قلتُ: لله درُّ ابنِ أبي حاتمٍ ويا له من دليلٍ مُلجِمٍ للمتظاهرين بالتمسكِ بنهجِ السلفِ، قال الله تبارك وتعالى: (قَالَ إِبرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأتِي بِالشَمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) فماذا بعدُ لهؤلاء.

فائدةٌ: يقال الدَستُوائي والدَستَوائي بضم التاء وفتحها نسبةً إلى دَستَوا بالقصر وحُكِيَ المدُّ أيضًا دستَواء، وعن سِيبَوَيهِ: دستواني بالنون كصَنعاني.

وكذلك ناداه بنو ربيعةَ (من بني بَكرِ بنِ وائلٍ من العدنانية) ومَن معهم يوم ذي قارٍ عندما هزموا الفرسَ، فقد روى الطبراني وغيرُه في المعجم الكبير وفيه: فلما التقَوا يومَ ذي قارٍ هم والفرسُ، قال شيخُهم: ما اسمُ الرجلِ الذي دعاكم إلى الله؟ قالوا: محمد، قالوا: هو شعارُكم فنُصِروا على القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بي نُصِروا).

قال الحافظُ الهيثميُّ في مجمعِ الزوائدِ: رواه الطبرانيُ ورجالُه ثقاتٌ رجالُ الصحيحِ غيرُ خلادِ بنُ عيسى وهو ثقةٌ. وأقرّهُ الحافظُ المعروفُ برهانُ الدينِ البقاعيُّ. 

قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية:

جعلوا شعارهم اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فنصروا على فارسَ بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الاسلام.

فكانوا يقولون “يا محمد” يستغيثون به صلى الله عليه وسلم، بل قال الحافظ البقاعي في تفسيره نظمِ الدُرر: فهم إلى الآن إذا حاربوا نادَوا بشعار النبي صلى الله عليه وسلم ودعوتِه وقال قائلهم : (يارسول الله، دعْوَتَك، فإذا دَعَوا بذلك نُصِروا).انتهى

وفي تاريخ اليعقوبي:

وحاربت ربيعةُ كِسْرَى وكانت وقعتُهم بذي قارٍ، فقالوا: عليكم بشعار التِهاميِّ، فنادَوا: (يا محمد، يا محمد) فهزموا جيوشَ كسرى وقتلوهم. فقال رسول الله: اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا.انتهى

قلت: وهذه معجزةٌ من معجزاتِهِ صلى الله عليه وسلم من علاماتِ نُبُوَّتِهِ قال ابن كثير في تاريخه: كتبناه لما فيه من دلائل النبوة.انتهى وكذا قال غيرُه وقد أشارَ إليها الإمام أحمد في كتابِ فضائلِ الصحابةِ، فهل سيسعَى المخالفون إلى إبطالِ هذه المعجزةِ؟ اللهم سَلِّم.

والمراد من هذا بيانُ أن بَنِي ربيعةَ عندما قالوا “يا محمد” أرادوا النداءَ والاستغاثةَ، وجعلوه شعارَهم بالنداءِ بالصوتِ وليس كما قد يتوهم البعض أنهم يكتبونه ويحملونه فهذا لم يكن معروفا عندهم ولا من عادتهم، ولو فعلوها لكانت أيضًا استغاثةً.

وهذا عيسى بنُ مريمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيأتي يومًا إلى قبره الشريفِ ويقول: (يــــا محمد) ولَيُجيبنّه عليه الصلاةُ والسلام، كما روى أبو يَعلى في مُسنَدِه قال: حدثنا أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن أبي صخر أن سعيدا المقبري أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسُ أبي القاسمِ بيدهِ لَيَنْزِلَنَّ عيسى بنُ مريمَ إمامًا مُقسطًا وحَكَمًا عَدْلاً فَلَيَكسِرَنَّ الصليبَ ولَيَقتُلَنَّ الخِنـزيرَ ولَيُصْلِحَنَّ ذاتَ البَينِ ولَيُذْهِبَنَّ الشَحْناءَ ولَيُعْرَضَنَّ عليهِ المالُ فلا يقبَلُهُ ثم لَئِنْ قام على قبري فقال: (يـا محمدُ) لأُجِيبَنَّهُ.

قال الحافظ الهيثمي: هو في الصحيح باختصار، رواه أبو يعلى ورجالُه رجالُ الصحيح.انتهى

قلتُ وهو كما قال:

أحمدُ بنُ عيسى من رجال البخاري معروف بالرواية عن ابن وهب.

وابنُ وهبٍ الإمامُ الحافظُ الثقة

وأبو صخرٍ هو حُمَيدُ بنُ زِيادٍ ثقة من رجال مسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم

وسعيدٌ المَقبُري تابعي جليل وهو فوق الثقة من رجال البخاري ومسلم روى عن أبي هريرة وغيره.

فالحديث هذا صحيحٌ متصلُ الإسنادِ بروايةِ الثقاتِ وهو دليلٌ ساطعٌ على ندائه صلى الله عليه وسلم في قبره، والمنادي نبي رسول فما يقولون في هذا، تبارك الله.

وبعدَ هذا الإقرارِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمستغيثين والمستعينين به في غَيبتِهِ ينكرُ أحدُ رءوسِهم ويقولُ “أيُعقل هذا؟ الصحابة اقتتلوا ولم ينادوه” فما هذا الكذب؟ وهو لا ينكرُ إلا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ صاحبِ الشريعةِ، وهذا واللهِ هو الخِزْيُ بعينِه نسأل الله السلامةَ واللطفَ ءامين.

بل تجرأ هذا المُتَعدِّي وقال هداه الله: (هو كان حيًا ولم يستغيثوا به) صلى الله عليه وسلم.

والجواب: أن هذا كذب منه فقد روى مسلم أن أبا مسعودٍ كان يضرب غلامه فجعل يقول أعوذ بالله، قال، فجعل يضربه فقال أعوذ برسول الله. فتركه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (واللهِ لَلَّهُ أقدرُ عليكَ منكَ عليهِ). قال: فأعتَقَه.

وهذه الاستعاذةُ عينُ الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم فلماذا الكذب يا دمشقية؟ وهذا دليل واحد فقط على الاستغاثة به في حياته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة.

وقد فهم العلماء من ندائه بعدَ وفاته الاستغاثةَ وسأذكر طرفًا منها مع غَضِّ النظرِ عن صحةِ المَرويِّ أو ضعفِه إنما المراد “إثبات فهم العلماء للاستغاثة”، فمنها:

– قال ابن كثير في البداية والنهاية: وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لجبال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العود أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين – وكان شعارُهم يومئذ يا محمداه – وجعل لا يبرز لهم أحد إلا قتله.انتهى

فهل أراد ابنُ كثيرٍ مدحَ سيفِ اللهِ المسلولِ أم رميَه بالشِرك؟

وقال ابن كثير عند ذكر مقتل الحسين عليه السلام:

وأما بقية أهله ونسائه فإن عمر بن سعد وكل بهم من يحرسهم ويكلؤهم، ثم أركبوهم على الرواحل في الهوادج، فلما مروا بمكان المعركة ورأوا الحسين وأصحابه مطرحين هنالك بكته النساء، وصرخن، وندبت زينب أخاها الحسين وأهلها، فقالت وهي تبكي: يا محمداه، يا محمداه، صلى عليك الله، وملَكُ السماء، هذا حسين بالعراء، مزّمِّل بالدماء، مقطّعُ الاعضاء، يا محمداه، وبناتك سبايا، وذُرِّيتُك مُقتَّلة، تَسْفِي عليها الصَبا. قال فأبكت والله كلَّ عدو وصديق.انتهى.

فما مفهومُ هذا؟ هل هو نِسبةُ الشركِ إلى هذه السيِّدةِ الطاهرةِ أحدِ منابعِ البركاتِ ومعادنِ الأنوار والعياذ بالله؟

وقال الإمام الطبري وابن الأثير في تاريخَيهما عند ذكر غزو التُرك في عهد بني أمية:

فلما أتى – أي الأميرُ- أمر أصحابه بالصبر وحثهم عليه وقال: ليكن شعاركم يا محمد.انتهى

وذكر ابنُ عبد البر عن النابغة الجعدي وهو صحابي أنه قال:

فيا قبرَ النبـيِّ وصاحبَيهِ # ألا يا غَوثَنا لو تسمعونا

وروى البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو محمد بن زياد نا محمد بن إسحاق الثقفي قال: سمعت أبا إسحاق القرشي يقول: كان عندنا رجل بالمدينة إذا رأى منكرًا لا يمكنه أن يغيره أتى القبر فقال:

(أيا قبرَ النبيِّ و صاحبَيهِ # ألا يا غوثَنا لو تعلمونا)

فهل كل هذا مجرد ذكر ولا استغاثة فيه؟ وهذا منسوب أيضا في كتاب “الدرر السنية في الكتب النجدية” لمشايخِهم عن النابغة بلفظ:

أيا قبر النبي وصاحبيهِ # ووامصيبتَنا لو تعلمونا

فسبحانك يا مقسِّمَ العقول ومثبّتَ القلوب، وهناك الكثير غير هذه  الأدلة.

وفي رسائلِ ابن حزمٍ ما نصُّه: مَن أراد أن يتسمَّى بالخلافةِ مِن هؤلاء ثم منعَه مانعٌ:

فناخسرو بن الحسن متولّي الأمورِ ببغدادَ وأعمالِها.

أخبرني أبو الفتوحِ ثابتُ بنُ محمدٍ الجرجانيُّ قال: أراد فناخسرو أن يتسمَّى بالخلافة وأوصى إلى الحسين بن علي البصري أن يؤلف له كتاباً في تَخْوِلة هذا الأمر في غير قريش واستكدّه ذلك جدًا، فألّف له هذا الكتابَ ودفع نسخة منه إلى تلميذ له كان يثق به، فانتشر الأمر من قِبَلِ ذلك التلميذِ إلى أن بلغَ الخبرُ إلى خُراسانَ، فصاحوا صيحة واحدة في مجالس الفقهاء واإسلاماه وامحمداه.انتهى كلامُه.

ولا يقولُ عاقلٌ أنهم كانوا يتفجَّعونَ على النبي، وهذه استغاثةٌ واضحةٌ منسوبةٌ إلى فقهاءَ، على قولِ المخالفين هم كفارٌ والعياذ بالله.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام في ذكر سيّدِنا محمدِ بنِ المنكدر:

وقال مصعب بن عبد الله: ثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي قال: كان محمد بن المنكدر يجلس مع أصحابه وكان يصيبه صُماتٌ فكان يقوم كما هو حتى يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع، فعوتب في ذلك فقال: إنه تصيبني خطرة فاذا وجدت ذلك استغثتُ بقبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وكان يأتي موضعًا من المسجد يتمرغ فيه ويضطجع فقيل له في ذلك فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع. إسماعيل: فيه لِينٌ.انتهى

وذكرها في سِيَر أعلامِ النبلاء بلفظ “استعنت” بدل استغثت والمعنى واحد.

قلت: وثّقه ابنُ حبان في ثقاته واللِّيْن هو الضعفُ الخفيفُ ومنهم من يُحسّن حديثَ اللَيِّن.

ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وأبقاه ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق.

فهؤلاء إنما ذَكروا هذا من باب المدح لا من باب نسبة الشرك إليه حاشاه وهو من أكابر السلف رضي الله عنه.

وذكر الحافظ ابن الجوزي في المنتظم في الجزء الثامن عند ذكر هارون الرشيد رضي الله عنه قصةَ الفرسانِ الثلاثةِ الذين أُسروا وعَرض عليهم ملكُ الرومِ النصرانيةَ أو أنْ يُلقَى بهم في قِدر الزيت المغلي فأَبَوا وصاحوا (يا محمداه) فقال ملكُ الروم: ماذا يقولون؟ قالوا‏:‏ يَدْعُون نبيَّهم …… القصةَ، وقال بأنها قصة مشهورة في الزمن الأول في بلاد الشام.

فهل ذكرَها الإمام ابنُ الجوزيِّ مستحسنًا لهذه الاستغاثة الصريحة أم حاثًّا مقِرًّا على الشرك؟ وشهرةُ الإمامِ ابنِ الجوزيِّ بإنكارِ المنكَراتِ أكبرُ من أن تُذكرَ، فسبحان الله العظيم غابَ عن أئمةِ الإسلامِ الجهابذةِ الأولياءِ الأتقياءِ واخترعَه المخالفون، فأي عقلٍ سليمٍ يقبل هذا.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: قال مشرف بن مرجا القدسي أخبرنا الشيخ أبو بكر محمد بن الحسن قال: حدثني الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي قال: كنت مجاورًا ببيت المقدس، فأمروا – أي العَبيدِيون – في أول رمضان بقطع التراويح، صحت أنا وعبد الله الخادم: واإسلاماه وامحمداه، فأخذَني الأعوانُُ وحُبِستُ، ثم جاء الكتاب مِن مصرَ بقطعِ لساني فقُطِع، فبَعدَ أسبوعٍ رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تفَلَ في فمي، فانتبهتُ بِبَردِ ريقِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلم وقد زال عني الألمُ، فتوضأتُ وصليتُ وعمِدْتُ إلى المِئْذَنةِ فأذَّنتُ: الصلاةُ خيرٌ مِن النوم، فأخذوني وحُبِستُ وقُيِّدتُ، وكتبوا فيَّ إلى مصرَ، فورد الكتابُ بقطعِ لساني، وبضربي خمسَمِائةِ سَوْطٍ، وبِصَلْبي، فَفُعِلَ بِي، فرأيتُ لساني على، فبَعد ثلاثةِ أيامٍ عهدي بالحَدَّائينَ يقولونَ: نُعَرِّفُ الوالي أن هذا قد مات، فَأَتَوه، وكان الوالي جيشَ بنَ الصَمْصامةِ فقال: أنزِلُوه، فألْقَونِي على بابِ داودَ، فقومٌ يترحَّمُون عليَّ وءاخرون يلعنونَني، فلمّا كان بعدَ العشاءِ جاءَني أربعةٌ فحملوني على نعشٍ ومَضَوا بي ليُغَسِّلُوني في دارٍ فوجدوني حيًّا، فكانوا يُصلِحُون لي جُرَيرَةً بِلَوزٍ وسُكَّرٍ أسبوعًا. ثم رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنامِ ومعه أصحابُه العشَرَةُ فقال: يا أبا بكرٍ تَرَى ما قد جرى على صاحِبِكَ قال: يا رسولَ اللهِ فما أصنَعُ بهِ، قالَ: اتْفُلْ في فِيهِ، فتَفَلَ فِيْ فِيَّ، ومسحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدري، فزالَ عنّي الألمُ، وانتبهتُ ببردِ ريقِ أبي بكرٍ، فناديت، فقام إليَّ رجلٌ، فأخبرتُه، وأَسْخَنَ لي ماءً، فتوضأتُ به، وجاءني بثيابٍ ونفَقَةٍ وقال: هذا فتوحٌ، فقمتُ، فقال: أينَ تَمُرُّ؟ اللهَ اللهَ، فجئتُ المئذنةَ وأذَّنْتُ الصبحَ: الصلاةُ خيرٌ مِنَ النَومِ، ثم قلتُ قصيدةً في الصحابةِ، فأُخِذتُ إلى الوالي فقال: يا هذا اذْهَبْ ولا تُقِم ببلدي، فإني أخافُ مِن أصحابِ الأخبارِ وأدخل فيك جهنَّمَ، فخرجتُ وأتيتُ عُمَانَ … إلخ

وهذا فيه معجزةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ تركِهِ الحياةَ الدُنيا، وكذا كرامةٌ لأبي بكرٍ الصدِّيقِ رضي الله عنه بعدَ موتِه.

وروى ابنُ بَشْكُوال بإسنادٍ صحيحٍ في كتاب الصلة قال: أخبرنا القاضي الشهيد أبو عبد الله محمد بن أحمد رحمه الله قراءة عليه وأنا أسمع قال: قرأت على أبي علي حسين بن محمد الغساني قال: أخبرني أبو الحسن طاهر بن مُفَوِّز المَعَافِري قال: أنا أبو الفتحِ وأبو الليثِ نصرُ بن الحسن التُنْكَتِي المقيم بسمرقند قدم عليهم بَلَنسِيَةَ عام أربعةٍ وستين وأربعِمائة، قال: فحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام قال: فاستسقى الناس مرارًا فلم يُسقَوا، قال: فأتى رجل من الصالحين معروف بالصلاح مشهور به إلى قاضي سمرقند فقال له: إني قد رأيت رأيًا أعرضه عليك. قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرجَ ويخرجَ الناسُ معكَ إلى قبرِ الإمامِ محمدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ رحمه اللهُ وقبرُه بخَرْتَنْكَ وتَستسقُوا عنده فعسى اللهُ أن يَسقِيَنا قال: فقال القاضي نِعْمَ ما رأيتَ، فخرج القاضي وخرج الناس معه واستسقى القاضي بالناس، وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه، فأرسل اللهُ السماءَ بماءٍ عظيم غزيرٍ أقام الناسُ من أجله بخَرْتَنْك سبعة أيام أو نحوها لا يستطيع أحد الوصول إلى سَمَرْقَنْد من كَثرَةِ المطرِ وغزارتِه، وبين خَرْتَنْكَ وسمرقندَ ثلاثةُ أميالٍ أو نحوُها.انتهى بحروفه

قلت: إذا كان هذا في قبرِ البخاريِّ فما بالُك بقبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعظمِ بَرَكاتِ ربِّ العالمين، ومثل هذا متواترٌ بين الأمةِ سلَفًا وخلفًا ومَن شذَّ شذَّ في النار.

أما أبو عليٍّ الغسانيُّ فهو الحافظ الجَيّاني المشهور، وأبو الليث وأبو الفتح واحد وهو الإمام نصر وله كُنيَتان. والقصة رواها الذهبي في سير أعلام النبلاء والإمام السبكي في طبقاته لكن عن الحافظ الغسانيِّ أخبرنا أبو نصر … القصة، وهو من رواية الأقران، قال ابن بشكوال: محمد بن حيدرة بن أحمد بن مفوز المعافري: من أهل شاطِبةَ يكنى أبا بكر، روى عن عمه أبي الحسن طاهر بن مفوّز، وأبي علي حسين بن محمد الغساني وأكثر عنهما.انتهى، وقد أخذا وأكثرا عن الحافظ ابن دِلهاث، وقال الذهبي في السِيَر في ترجمة ابن عبد البر: روى عنه أبو الحسن بن مفوّز والحافظ أبو علي الغساني وروى أبو الفتح نفسُه عن أبي الحسنِ طاهرِ بن مفوّز، والله تبارك وتعالى أعلم.

فماذا يقول المخالفون عن كلِّ المسلمين في هذه القصةِ عالمِهم ومقلِّدِهم وراويها ومستحسنِها وناسخِها وناقلِها والساكتِ عنها بغيرِ عذرٍ؟ هل هم كفارٌ والمخالفونَ وحدَهم المسلمون، بل واللهِ دينُهم هو الجديدُ المبتَدَعُ المختَرَعُ مِن وساوسِ ابنِ تيميةَ والثُلّةِ التي شذّت فأخذت بكلامه. (مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً فعليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عمِلَ بها مِن بَعدِهِ مِن غيرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِهم شىءٌ) رواه مسلم

وبقي الكلام على مسئلةِ استدلالِهم بأقوالِ الأطباءِ وتعليلِهم لذهابِ الخَدَر، محاولين ردَّها إلى تأثيراتٍ نفسيةٍ، فأقول: لا عبرةَ بالتعليلاتِ الطبيةِ في الشرع حَكَمًا على الأحكامِ، وكم علّةٍ أعيتِ الأطباءَ وفسَّروها على ما يرَونه، وتكونُ من بابِ العينِ شديدةِ الأذى ولا علاجَ لها إلا بالرقيةِ الشرعية. 

هذا وقد نازَعَ النوويُّ مسئلةَ كراهةِ الوضوءِ بالماءِ المُشمَّسِ في بلدٍ حارٍّ خشيةَ أنْ يُورِثَ البرَصَ وهو من أمراضِ الجلد، بأنه لم يقم دليلٌ شرعيٌّ ثابتٌ على كراهةِ مثلِ هذا الماءِ إنما هو من ناحيةِ الطب.

وعلى العكسِ فالطبُّ النبويُّ والذي جاء به الشرعُ عمومًا كآيات الشفاء وغيرِها هي الحكَم، وفي الحديث الصحيح: (جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استُطْلِقَ بطنُه فقالَ: اسقهِ عسَلاً، فسقاه فقال إني سقيتُه فلم يزِدْه إلا استِطْلاقًا فقال: (صدق اللهُ وكذبَ بطنُ أخيك) رواه أحمدُ والشيخانِ وغيرُهم.

هذا حَكَمٌ نأخذ به موقنين ونكذِّبُ ما خالفَه جازِمين، وقد اعترض بعضُ الملاحدةِ على هذا الحديث اتّباعًا لتحليلاتِهم الطبيةِ والعياذ بالله، فانظرْه في الفتح فقد ردَّه فأجاد.

فلِمَ لَمْ يأخذ هؤلاءِ بالتحليلات الطبية التي تقول بأن الأمراض تُعدي وهذا على خلاف الدين حديث: (لا عَدْوَى ولا طِيَرةَ). رواه الشيخان وغيرُهما، إن أرادوا جعلَها حَدًّا فليأخذوا فيها طَرْدًا وعكسًا، أمّا أن يُعمِلوا هذه الحُجّةَ في حديث خَدَرِ الرجلِ فقط فمردودٌ عليهم وباطلٌ شاءُوا أم أبَوا. 

هذا عجيبٌ واللهِ، ولا أَراهُ إلا مكابَرَةً في المحسوسِ وإنكارُ المحسوسِ مِن عَمَى النفوس، نسأل الله السلامة والعافية في الدين والعقل.

وقد قال الشوكانيُّ في تحفةِ الذاكرينَ عن حديثِ طَنِين الأذُنِ بأنه عند الأطباءِ تصاعُدُ أبخِرَةٍ، فردَّ عليهم بقولِه: وكلامُ النبي صلى الله عليه وسلم أقدَمُ من كلامِ الأطباء. 

نعم يجوزُ لمريضٍ أن يأخذَ بقولِ طبيبٍ ثقةٍ فيُستثنَى فيكونُ حُكمًا خاصًا بهذا المريض يدخل تحت قاعدة: (الضروراتُ تُبيحُ المحظوراتِ) تُقَدَّرُ بقدرِ الحاجةِ وتنتهي بانتهاءِ الحاجة، وليس هذا مما نحن فيه.

وهذا بابٌ خطيرٌ، وأهل السُنّةِ يقولون: (الحسَنُ ما حسَّنَه الشرعُ، والقبيحُ ما قبَّحَهُ الشرعُ) فلا عمل للعقلِ ولا للطبِّ بتحريمِ أو استقباحِ أمرٍ ثبتَ جوازُه في الشرع أو دلَّ عليهِ الدليلُ، وكفى بالشرعِ رحيمًا حكيمًا، وكلُّ هذا مفصَّلٌ في مَظانِّه في كتبِ الفقهِ فاطلبْهُ هناك.

واقعٌ لا بُدَّ من بيانِهِ بينَنا وبينَ المخالفين

بلَغتِ الوقاحةُ والغرورُ بمحمد خليل هراس مبلغًا عظيمًا حيثُ استهزَأَ بالإمام الترمذيِّ رضي الله عنه بعد تحسينِ حديثٍ فقال: وأي حُسْنٍ فيه يا علاّمةَ تِرْمِذ؟ وهل نصدِّقُك بعد هذا فيما تحسن أو تصحِّحُ من حديث؟

ولم يكتفِ بقلَّةِ الأدبِ هذه، بل تطاوَلَ على الإمامِ الحاكمِ صاحبِ المستدرَك فقال بعد تصحيحِ الحاكمِ لحديثٍ على شرطِ البخاريِّ ومسلمٍ ما نصُّه:

تأمَّلْ تبجُّحَ الحاكمِ وقولَه “صحيحٌ على شرطهما”، لا والله ما هو على شرطِهما، ولو رواه أحدُهما لسقَطَ كتابُه في الميزانِ كما سقط مستدرَكُك أيها الحاكم.

قلتُ: تبجَّحَ معناها هَذَى وفخِرَ إعجابًا، ولا يصحُّ حملُها على معنى الفرحِ إلا من طريقِ الاستخفافِ بدليلِ سِياق العبارة، نسأل الله أن يمُنَّ علينا بالأدب الجَمّ.

ثم نقل عنه محمد عمرو عبد اللطيف وهو من المعجبين بوقاحَتِه قولَه: وكان يسمي المستدرك: “المستَتْرَك” أي: الذي يستحق الترك.انتهى

لكنَّ العجيبَ أن محمد عمرو عبد اللطيف يُباشرُهُ مُعَقِّبًا: فكان له تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ في حُبِّ هذا العلم.انتهى

قلتُ: إن كان قلةُ الأدبِ والتطاولُ على العلماءِ حبَّبا إليكَ العلمَ، فعلى العلمِ السلامُ واللهُ يُغنينا عنك وعن علمِك إن صحَّ لك علمٌ، فإن كانَ قدوَتُك الألبانيُّ تلميذُ مكتبةِ دمشقَ ولا يُعرَفُ له شيخٌ فكيف بك أنت، ونحنُ لا نجيزُ عليكم اسمَ السلفيةِ مع الأدبْ فكيف مع قلةِ الأدبِ هذه.

ولم يَستحْيِ بعضُ مُحِبِّي هذا الأخيرِ أعني محمد عمرو عبد اللطيف عندما مات من قولِ: مات دارَقُطنِيُّ عصرِه، مع علمِهِ بأنّه لا يحفظُ كتابًا واحدًا مسنَدًا بل ولا حديثًا واحدًا مُسندًا.

فلا واللهِ الذي بعثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحقِّ ما بلَغَ علمُ هذا نُفاثَةَ سواكِ الدارَقُطنِيِّ رضي الله عنه.

فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وعَزاؤنا في لُجَّةِ الجَهلِ هذه ما يُروى عن الإمامِ طاوسٍ أنه رؤيَ يبكي فقيل ما يُبكيك؟ فقال: على العلمِ والعلماء.

وإن كان هذا في عصرِ التابعينَ الأجِلاّءِ بحورِ العلمِ فما نحنُ فاعلونَ اليومَ بوجودِ هؤلاءِ؟

وهل يكونُ كذا حبُّ الحديثِ معشرَ المسلمينَ، ولا واللهِ ما شمَّ هذا القائلُ غبارَ نَعْلِ الترمذيِّ أو الحاكمِ رضي الله عنهما، وهذه عاقبةُ الغرورِ، وتَراهم مردِّدين بأعلى أصواتِهم “لحومُ العلماءِ مسمومة”، فهل أحلَّ اللهُ لكم لحمَ الترمذيِّ والحاكمِ الإمامَين الجليلَين خاصَّةً.

وأين هو الردُّ العِلميُّ في هذا الكلام؟ وإن كانوا كما يدَّعُونَ زُورًا أنهم يحاربونَ البِدَع فلماذا لم ينكروا على هذَينِ بدعَتَيهما في الاستهزاءِ بهذين الإمامَين الجليلَين؟

وعينُ الرِّضَا عن كلِّ عَيبٍ كَلِيلةٌ

ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدِي المساوِيَا

وغايةُ ما في الأمرِ ما ذكرَه العلماءُ من مباشرةِ الحاكمِ تحريرَ كتابِه لكنه تُوُفِّيَ قبل إنهاءِ تحريرِهِ فتجدُ التساهلَ في القِسمِ الأولِ أقلَّ بكثيرٍ من القسمِ الثاني الذي لم يَتمَّ تحريرُه، ولم يقل أحدٌ من العلماءِ مع جلالَتِهم “أيها الحاكمُ يا صاحبَ المستَتْرَك” لقد سقطَ مستدركُكَ.

وقد تكلَّمَ السيوطي في الدفاعِ عن الحاكمِ فأفادَ وأجاد فقد قال في البحر الذي زخر: فأقولُ واللهُ المستعان: إن الحاكم مظلومٌ في كثيرٍ مِمّا نُسِبَ إليه منَ التساهلِ، وقد ذكرَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في نُكَتِهِ في قسمِ الحسَنِ أنه اعتَبَر – أن تتبَّعَ وقارَنَ – كثيرًا من أحاديثِ الصحيحينِ فوجدَها لا يتمُّ الحكمُ عليها بالصحّةِ إلا بإدخالِها في قسمِ الصحيحِ لغيرِهِ، ومن ذلك حديثُ أبَيِّ بن العباس بن سهلِ بن سعد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه في ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي هذا قد ضعفوه لسوءِ حفظِه، ولكن تابَعَه عليه أخوه عبدُ المهيمن بنُ العباسِ، أخرجَه ابنُ ماجَهْ من طريقِه، وعبدُ المهيمن أيضًا ضعيفٌ، فاعتَضَد.

وانضاف إلى ذلك أنه ليس من أحاديث الأحكام، فلهذه الصورة المجموعية حكم البخاري بصحتِهِ، وفي صحيح البخاري أمثلة كثيرة قد ذكرت الكثير منها في مقدمة شرح البخاري، ويوجد في كتاب مسلم منها أضعاف ما في البخاري، هذا كلام ابن حجر، وإذا اعتبرت الأحاديث التي صححها الحاكم وتعقبوه بضعف راوٍ في سندِها وجدْتَها على هذه الشريطةِ لراويها متابعٌ، والحديثُ ليس من أحاديثِ الأحكامِ، فصحَّ بهذا الاعتبارِ أنه صحيحٌ على شرط البخاريِّ ومسلمٍ، لوجود الشرطِ الذي اعتمَداهُ في التصحيحِ في كثيرٍ من الأحاديثِ فيه، مع استحضار ما تقدَّمَ من أنَّ الحاكمَ لم يشترِطْ عينَ رواةِ الشيخينِ بل مثلَهم.انتهى كلام السيوطي مختصَرًا

فانظُر إلى كلامِ أهلِ العلمِ وإلى مَن تصدَّر إلى التصحيحِ والتضعيفِ منهم كيف حالُه عِلمًا وخُلُقًا، وانظُر إلى مدى تحصيلِهم للعلمِ، نسألُ اللهَ السلامةَ في الدارَينِ وحفظَ الدِين وحُسْنَ طلَبِه والأدبَ مع أهلِ الفضلِ ءامين 

تمَّ المقصودُ بعونِ الله وبقيَتْ نصيحةٌ أوجِّهُها لكل المخالفين عسى الله أن يهديَهم ويعرفوا أينَ هم ولو فيما بينَهم فأقول:

قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: حَقَّ على المحَدِّثِ أنْ يَتورّعَ في ما يؤديهِ وأن يسألَ أهلَ المعرفةِ والوَرَعِ لِيُعِينوه على إيضاحِ مروِيّاتهِ ولا سبيلَ إلى أنْ يصيرَ العارفُ الذي يُزَكِّي نَقَلَةَ الأخبارِ ويجرحُهُم جِهْبِذًا إلا بإدمانِ الطلبِ والفحصِ عن هذا الشأنِ وكَثرةِ المذاكرةِ والسهرِ والتيَقُّظِ والفَهمِ مع التقوى والدينِ المتينِ والإِنصافِ والترددِ إلى مجالسِ العلماءِ والتحرّي والإتقانِ وإلاّ تفعل:

فَدَعْ عنكَ الكتابةَ لستَ مِنها

ولو سوَّدْتَ وجهَكَ بالمِدادِ

قال الله تعالى عز وجل: (فاسئلوا أهلَ الذِكْرِ إنْ كنتم لا تعلمون) فإنْ ءانَسْتَ يا هذا مِن نفسِكَ فَهمًا وصِدقًا ودِينًا ووَرَعًا وإلاّ فلا تَتَعَنّْ، وإنْ غلب عليكَ الهوى والعصبيةُ لرأيٍ ولمذهبٍ فبالله لا تتعبْ، وان عَرَفتَ أنَّكَ مُخَلِّطٌ مُخَبِّطٌ مُهمِلٌ لحدودِ اللهِ فأَرِحْنَا منك.انتهى

وقولُه “إلاّ تفعل” أي إنْ لا تفعل إن الشرطية ولا النافية كقولِه تعالى: (إلاّ تَنْصُرُوهُ فقَدْ نصَرَهُ الله)، أي إنْ لا تنصروه فقد نصره الله.

ثم قال الذهبيُّ فيها على رأس السبعمائة:

قلَّ من يعتـني بالآثـارِ ومعرفتِها في هذا الوقتِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، أما المشرِقُ وأقاليمُه فَغُلِّقَ البابُ وانقطعَ الخطابُ، وأما المغربُ وما بقي من جزيرةِ الأندلس فنَدَرَ مَن يعتني بالروايةِ كما ينبغي فضلا عن الدراية.انتهى، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وللحافظِ السَخاوي في فتحِ المغيث كلامٌ أشدُّ من هذا ولا بأس بنقل بعضِه:

قال بعض أئمةِ الحديث في هذا المحلِّ للذي يُطلَقُ عليه اسمُ المحدِّثِ في عُرْفِ المحَدِّثِين أن يكونَ كتَبَ وقرأ وسمِعَ ووَعَى ورحَل إلى المدائن والقُرى وحَصَّلَ أُصُولاً وعلَّقَ فروعا من كُتُبِ المسانيدِ والعِلَلِ والتواريخِ التي تَقْرُبُ مِن ألفِ تصنيفٍ فإذا كان كذلك، فلا يُنكَرُ له ذلك.

وأما إذا كان على رأسه طَيْلَسان، وفي رجليهِ نعلان، وصَحِب أميرًا من أمراءِ الزمان، أو مَن تحلّى بلؤلؤٍ ومَرجان، أو بثيابٍ ذاتِ ألوان، فحصَّلَ تدريسَ حديثٍ بالإفْكِ والبُهتان، وجعَلَ نفسَه لُعبةً للصبيان، لا يفهم ما يُقْرَأُ عليه من جزءٍ ولا دِيوان، فهذا لا يُطلقُ عليهِ اسمُ مُحدِّثٍ بل ولا إنسان، وإنه مع الجهالةِ ءاكلُ حرام، فإنِ استَحَلَّهُ خرَجَ مِن دينِ الإسلام. انتهى 

والظاهر أنها نِفْثَةُ مصدور، ورِمْيَةُ معذور، وبها يَتَسلى القائمُ في هذا الزمان، بتحقيقِ هذا الشأن، مع قِلّةِ الأعوان، وكثرة الحسدِ والخُذْلان، والله المستعانُ وعليه التكلان.انتهى كلام السخاوي

قلت: أما قولُه “بل ولا إنسانٍ” فشديدةٌ، حتى وإن أراد أنّ هذه الأفعالَ لا تصدرُ من إنسانٍ يستعملُ عقلَهُ أو يخافُ الله، فهي شديدةٌ ولهذا اعتذر له السخاوي بأن هذا من شدة الجهلِ الذي يراه، وهذا كان في زمنهم فكيف بزمننا، نسأل الله السلامة.

أما تكفيرُه لمستحلِّهِ فصائبٌ في محلِّهِ، لأنّ من قال بأن إفتاءَهُ في الحديثِ تصحيحًا وتضعيفًا بغير علمٍ جائزٌ كفرَ لتكذيبِهِ الدين وتكذيبِهِ القرءانَ القائلَ: (ولا تَقُولوا لِما تَصِفُ ألسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ) ولأنّه في تضعيفِ الصحيحِ إبطالُ الحكمِ المتعلِّقِ به، وكذا تصحيحُ الضعيفِ فإنّهُ إثباتُ حُكمٍ في الدينِ ليس ثابتًا، فيكونُ إيجابَ ما لم يَجبْ وعدمَ إيجابِ الواجبِ، فكان قولُهُ حقًّا.

فائدة: كتابُ “الأدب” للإمامِ البخاري لم يُضِف إليه هو كلمة “المفرَد”، إنما سمّاه الناس هكذا تمييزا له عن “كتاب الأدب” في صحيحِه، فقالوا “الأدب المفرَد” أي الذي أفرَدَه الإمامُ بالتأليف، قال الكتاني في الرسالة المستطرفة: (الأدب المفرد) أي الذي أُفرِد بالتأليفِ احتِرازًا عن كتاب (الأدب) الذي هو من جملةِ (الجامعِ الصحيحِ للبخاري).انتهى

ويكفي ذكرُ ثلاثةِ أمثلةٍ: قال الذهبي في سِيَرِ أعلام النبلاء: قال أبو جعفرٍ محمدُ بن أبي حاتمٍ ورّاقُ البخاري: حدثني إسحاقَ وراقُ عبدِ الله بن عبد الرحمٰن، قال: سألني عبد الله عن كتاب “الأدب” من تصنيف محمد بن إسماعيل.انتهى

قلت: هذا نص صريح من ورّاقه وتلميذِه محمد ابن أبي حاتم، أما عبدُ الله فهو ابنُ عبدِ الرحمٰن الدارمي الإمام الحافظ صاحبُ السننِ وليس ذلك الدارميَ المشبِّهَ عثمانَ ابنَ سعيدٍ صاحبَ الرد على بِشْر المَرِيسِيّ، فذلك خبيثٌ يعبُدُ صنَمًا والعياذ باللهِ من كُفرِه ووثَنِيّتِه. ومحمدُ بن أبي حاتمٍ هذا أخذ عنه الفِرَبريُّ الإمامُ راوي صحيحِ البخاريِ المشهورُ الثقة. 

وفي ذيل التقييد لأبي الطيب المكيِّ الفاسيّ: أحمد بن عبد الغني بن محمد الباجِسْرائي التاجر أبو المعالي.

روى عن أبي غالب محمد بن الحسين الباقلاني كتاب الأدب للبخاري.انتهى 

وفي طبقاتِ السبكيّ نقلاً عن الحافظ المِزّي في أحد الرواةِ:

فإن يحيى بنَ مَعِينٍ وَثَّقَهُ في روايةِ ابنِ أبي خَيْثَمةَ عنه، وأخرج له البخاريُّ حديثًا في كتاب الأدبِ له.انتهى

وفي تهذيب التهذيب: بلالُ بن أبي الدرداءِ الانصاريُّ أبو محمد الدمشقي. (روى له أبو داود) وله ذكر في كتاب الأدب للبخاري.انتهى

فهذا يدل على أن كتاب الأدب هو “الأدب المفرد” لأنه ذكر أبا داودَ فقط ممن روى له من أصحابِ الكتب الستة التي أوَّلُها البخاري، ومع ذلك تجدُه في الدرر الكامنة يُكثر من ذكر كلمة “الأدب المفرد”، فالأمر كما قلت لك وفقني الله وإياك.

فائدة: وردَ تسميةُ كتاب ِالأدبِ المفرَدِ بأنه صحيح، وذلك في قول الإمامِ الدارِمِيِّ صاحبِ السُنَنِ، قال محمد بن أبي حاتم:

حدثني إسحاق ورّاقُ عبدِ الله بنِ عبدِ الرحمٰن – أي الدارمي- قال: سألني عبد الله عن كتاب “الأدب” من تصنيفِ محمدِ بنِ إسماعيلَ فقال: احمِلْه لأنظرَ فيه، فأخذ الكتاب مني وحبَسَه ثلاثةَ أشهرٍ، فلما أخذتُه منه قلت: هل رأيت فيه حشوا أو حديثًا ضعيفًا؟ فقال: ابنُ إسماعيلَ لا يقرأُ على الناسِ إلا الحديثَ الصحيحَ، وهل يُنكَر على محمد.انتهى

قلت وهذا من بابِ الإجمالِ والمبالغةِ في المدح والثناء وليس من باب الحكم على كلِّ مَرْوِيِّ بنفسِهِ فليس الأمر هكذا، فإن كان الصحيحُ نفسُه لم يسلَم من التتبُّع والنقدِ فما بالُك بما لم يَلتزِم فيه الصحةَ، ولكنْ هاتانِ إشارتانِ نافعتان وهي قول المِزّي في نقل توثيق الراوي: أخرج له البخاري في كتاب الأدب له، وقولُ الإمام الدارمي الحافظ.

فائدة: ما ورَدَ في هذا الكتاب من حكاية أقوال الرواةِ “ثنا” و “أنا” و”نا” فهي اختصارات كتابية لقولِهم “حدثنا” و”أخبرنا” و”أنبأنا” وهناك اختصارات غيرُها، أما عند اللفظ فيقولون “حدثنا” وهكذا.

مسئلة: العبدُ الضعيفُ يميلُ إلى اعتمادِ روايةِ الهيثمِ بنِ حنشٍ أكثرَ من روايةِ عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ مع ثبوتهما، وذلك لثبوتِ ضبطِه التامِّ بالتتبُّعِ بعد توثيقِه.

واللهُ تبارك وتعالى أعلمُ وأحكمُ وله الحمدُ والمِنّةُ أنْ أعانني على إتمامِه بعد افتراقِ النيةِ والعملِ سنينَ وقد اجتمعا بفضلِه وكرَمِه.

 

والحمدُ للهِ على الإعانَه # ولا إلهَ غيرَهُ سُبحانَه

خاتمةٌ

أقول طالبًا من الله التوفيق فيما تقدم:

كان الغرض من هذا الكتابِ المباركِ إن شاء الله إثباتُ صحةِ الاحتجاجِ بحديثِ ابنِ عمرَ روايةً ودرايةً، واللهُ من وراءِ القصد، واللهَ أسألُ أن يتقبلَ مني وأرجو أني كنت مخلصًا فيه ألّفته نصرةً للدين وكشفًا للغُمّة، رجاءَ أن يهديَ اللهُ به من ضَلّ أو ضُلِّل من الأمة، وعِرفانًا مني بالجميلِ لمشايِخِي أصحابِ الفضلِ الجزيل والقدرِ الجليل، كسَيِّدِي مُحَدِّثِ الدِّيَارِ الْمَغرِبيةِ عبدِ العزيزِ بنِ الصِّدِّيقِ الْغُمَارِيِّ وسَيِّدِي الذي كان مشهورًا في تحقيقاتِهِ، مستفيضًا عنه محاربةُ الضلالِ وكشفُ معضلاتِهِ العلاَّمَةِ عبدِ اللهِ الهرريِّ عليه رحَماتُ اللهِ، وسَيِّدِي مُفْتِي الدِّيارِ التونسيةِ شيخي ومولاي العالمِ ابنِ العالم كمالِ الدين بنِ عبدِ العزيزِ جُعَيِّط وغيرهم.

وقد كنتُ واللهِ فيه أخًا ناصحًا وتجنّبتُ فيه ما أُراهُ مؤذيًا جارحًا، وسعيتُ بالحق السعيَ الحثيث، إلى نُصرةِ هذا الحديث، فما كان من صوابٍ فمنَ اللهِ وأحمَدُ الله، وما كان من خطأٍ فهو منّي ومنَ الشيطانِ (واللهُ خلقَكُم وما تَعمَلون) وأستغفِرُ الله، ورَحِم اللهُ امرَءًا دلَّني على عيوبي وبيَّن لي بالحُسنى هفَواتي وذنوبي.

فانْظُرْ إليهِ بِعَيْنِ العَدْلِ واعتَزِلِ

مَيْلَ النُفوسِ إلى تَنقيصِ مُكتَمِلِ

وكتبَها الفقيرُ إلى رحمةِ الله الغنيِّ الرءوف عبدُه المقصِّرُ مجدي غسان معروف الحسينيُّ الأشعريُّ الشافعيُّ الرفاعيُّ غفر الله له ولمشايخه ومَن أحبَّ وعامله بلطفه ءامين بحقِّ سيِّدِ المُكَمَّلِين محمدٍ عليه صلواتُ اللهِ وعلى جميعِ إخوانِهِ النبيِّينَ وكان الفراغُ منها ليلةَ السابعِ من ربيعٍ الآخِر سنة 1430 من هجرةِ أحبِّ الأحبابِ إلى اللهِ عليه أزكى صلاةِ وسلامِ الله، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين

فصلٌ في روايتي لهذا الحديث عن مشايخي الأعلام – وما هو واللهِ لأهليةٍ فيَّ أَراها – ولكنْ تبرّكًا بهم وبالسلسلةِ كلِّها وحفاظًا عليها من ضياع الأصول وللهِ درُّ القائل:

ومـا  لِـيَ فيهِ سِـوَى أنني

أراهُ  هوًى صادفَ المقصَدا

وأرجو الثوابَ بكَتْبِ الصلاةِ

على السيِّدِ  المصطفى أحمدا

فأقول: بسم الله والحمد لله وصلى الله وسلم على سيّدي رسول الله:

أما حديثُ عبدِ الرحمٰنِ بنِ سعدٍ عندَ البخاريِّ في الأدبِ المفردِ فأرويهِ عن مشايخَ أُجِلُّهم، وفي قلبي الْمَرْوِيُّ عَنْهُم أَجَلُّهُم، فأقول وعنهم أرويه مع شىءٍ من التفصيل لا بأسَ به:

أخبرني به عاليًا شيخي وسيّدي مفتي الديارِ التونسيةِ العالمُ العلاّمةُ الفقيهُ المالكيُّ كمالُ الدينِ بنُ محمدٍ العزيزِ جعيّط أدام الله نفعَه قال أخبرني شيخي العالم المفتي الصادق المُحْرِزي عن أستاذ المحققين أبي حفص عمر ابن مفتي الديار التونسية عن الإمام محمد الشريف المفتي المالكي عن الشيخ عمر بن سودة الفاسي عن سيّدي محمد صالح البخاري عن شيخه سيّدي عمر بن عبد الكريم عن المعمّر محمد بن سِنّة الأزهري عن قطب الديار اليمانية أحمد بن السيّد عجيل عن مفتي مكة محمد النَهْرَواني (النهروالي) عن أبي الفتوح نورِ الدين محمد بن عبد الله الطاوسي عن الشيخ المعمّر بابا يوسف الهروي عن الشيخ المعمر محمد بن شاذَبَخْت الفرغاني عن أحمد أبدال السمرقندي عن أبي لقمان يحيى بن عمار الخُتَّلاني عن محمد بن يوسف الفِرَبري عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبي إسحاق – السبيعي – عن عبد الرحمٰن بن سعد قال: (خَدِرَتْ رِجْلُ ابنِ عمرَ فقال له رَجلٌ اذكُرْ أحبَّ الناسِ إليك فقال “يا محمد”). 

وهذا بحمد الله إسنادٌ مشهورٌ بالمُعَمَّرِين من أعلى أسانيد الدنيا وبابا يوسف الهروي مشهورٌ أنه عمَّر ثلاثَمائةٍ وسبعًا تقريبًا، ولي بحمد الله أعلى منه بدرجتين.

أما السيِّدُ الْعَلاَّمَةُ الهرريُّ فكذلك أنبأني به رضي الله عنه عن شيخه محمد بن علي الصدّيقي البكري المدني عن العلاّمة محمد بدر الدين البيباني الحسني عن والده جمالِ الدين يوسفَ بنِ بدرِ الدين المغربي عن الشيخِ عبدِ الله الشرقاويِّ عن شيخه الحِفني العلاّمةِ الفهّامةِ المشهور عن الشيخ عيد بن علي النُمْرُسيِّ قال الشرقاويُّ في “شرح التجريد” بضم النون والراء بينهما ميم ساكنة – عن عبد الله بن سالم البِصري المكي عن الشيخ علي بن عبد القادر الطبري المكي الحُسَيني أخو السيّدة العالمة الصالحة قريش الطبرية عن والده عن جدِّه السيّد يحيى بن مكرم الطبري عن الحافظ السخاوي والحافظ ابن فهد المكي كلاهُما عن أمير المؤمنين في الحديث شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني عن الحافظ أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن أحمد التَنُوخي عن مُسنِدِ الدنيا أحمد بن أبي طالب الحجّار المعروفِ بابنِ الشِحْنَةِ، عن سراج الدين الحسين بن المبارك الزَبِيدي – وهو شيخُ زينبَ بنتِ المحَدِّثِ سُلَيْمانَ الإِسْعِرْدِيِّ شيخةِ الإمامِ المجتهدِ تقيِ الدينِ السبكيِّ – عن أبي الوقت السِجْزي – بكسرِ السين أكثرُ مِن فتحِها – عن أبي الحسن عبد الرحمٰنِ بنِ محمدٍ الداووديِّ الفقيهِ التقيِّ الوَرِع عن أبي محمدٍ حَمُّويَه السَرَخْسيّ عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفِرَبْريِّ عن شيخ الإسلام الإمام محمد بن إسماعيل البخاري به.

وكذا أرويه عن سيّدي العالم الأصولي المالكي محمد الشاذلي النَيْفَر عالم تونسَ رحمه الله عن مُسنِدِ عصرِه بلا منازع العلاّمة عبد الحي الكتاني صاحب فِهرِس الفهارس عن مشايخه الشهاب أحمد بن إسماعيل البرزنجي وأبي النصر الخطيب وعبد الجليل برادة، ثلاثتهم عن والد الأول السيد إسماعيل عن المحدّثِ الأصولي المُسنِدِ صالح بن محمد بن نوح الفُلاّني عن محمد بن سِنّة العمري عن الشريف محمد بن عبد الله عن عضُد الدين محمد بن أركماس الحنفي عن الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني عن شرف الدين أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة بسماعه على جدّه شيخ الإسلام بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة قال أخبرنا به مكي بن مسلم بن عَلاّن عن الحافظ السِلَفيِّ قال أخبرنا أبو غالب محمد بن الحسن الباقِلاّني قال أخبرنا القاضي أبو العلاء محمد بن علي الواسطي قال أخبرنا أبو نصرٍ النيازكي قال حدثنا أبو الخير العَبْقَسِي قال حدثنا البخاري به.

وأما حديثُهُ مِن غريبِ الحديثِ للإمامِ الجليلِ إبراهيمَ الحربيِّ رضي الله عنه فعن شيخي محدِّث الديار المغربية عبدِ العزيزِ بنِ الصِدِّيق الحسنِيِّ الغُمَارِيِّ عن شَقيقِهِ الحافظِ أحمدَ بنِ الصدِّيقِ عن شيخِهِ أبي حفصٍ عمرَ بن حمدانَ المحرسي المدني قال: أنبأنا أبو النصرِ نصرُ اللهِ بنُ عبدِ القادرِ الخطيبُ الدمشقيُّ أنبأنا المُعَمَّرُ عبدُ اللهِ التليُّ أنبأنا الإمامُ عبدُ الغنيِّ النابلسيُّ أنبأنا نجمُ الدينِ محمدُ بنُ بدرِ الدينِ محمدٌ الغزِّيُّ عن أبيهِ عن شيخ الإسلامِ زكريا الأنصاريِّ عن العزِّ بنِ الفراتِ عن أبي الثناءِ محمودِ بن خليفةَ المنبِجِيِّ عن الحافظ الدِّمياطيِّ عن أبي القاسمِ عبدِ الرحمٰنِ بنِ مكيٍّ الطرابلسيِّ عنه

(ح) وعن البدرِ الغزِّي عن الإمامِ السيوطيِّ عن الشمسِ محمدِ بنِ أحمدَ القُمُّصِيِّ عن الشرفِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ الكُوَيكِ عن زينبَ بنتِ الكمالِ عن عبدِ الرحمٰنِ بنِ مكيٍّ عن الحافظِ السِّلَفِيِّ قال: أنبأنا يونسُ بنُ محمدِ بنِ مغيثٍ عن جدِّه مغيثِ بنِ يونسَ بنِ عبدِ اللهِ الصفَّارِ عن أبيهِ أنبأنا أبو يعقوبَ يوسفُ بنُ أحمدَ بنِ الدُّجَيلِ حدثنا محمدُ بنُ إسحاقَ الغزيُّ أنبأنا إبراهيمُ بنُ إسحاقَ الحربيُّ رضي الله عنه قال: حدثنا عفّانُ “حدثنا شُعْبَةُ” عن أبي إسحاقَ السبيعي عمّن سمع ابنَ عمر قال خدِرَت رجلُه فقيلَ: اذْكُرْ أحبَّ الناسِ قال: (يا محمد).

حدثنا أحمدُ بن يونسَ حدثنا زهيرٌ عن أبي إسحاق عن عبدِ الرحمٰن بنِ سعد: جئتُ ابنَ عمرَ فخدِرَت رجلُه. فقلت: ما لرِجْلِك؟ قال: اجتمع عصَبُها قلت: (اُدْعُ) أحبَّ الناس إليك قال: (يا محمدُ، فبسطها).

أمّا حديثُ الهيثمِ بنِ حنشٍ عند ابنِ السنّي فأخبرني به شيخي العزيز محدِّثُ الديار المغربية عبدُ العزيز بنُ الصِدِّيق الغماري عن شيخه العلاّمة عبد السلام غُنَيم الدِمياطي عن الشيخ مصطفى بن حنفي الذهبي عن العلاّمة الشهيرِ الأميرِ الكبيرِ عن العلاّمة السقّاط الفاسي عن سيدي محمد الزُرقاني عن والده الشيخ عبد الباقي عن الشيخ عليٍّ الأجهوري عن الشيخ محمد بن أحمد الرملي عن شيخ الإسلام ابنِ حجرٍ العسقلاني عن شرف الدين أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة بسماعه على جدّه شيخ الإسلام بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة قال أخبرنا به مكي بن مسلم بن عَلاّن عن الحافظ السِلَفيِّ عن أبي محمد عبدِ الرحمٰن بن أحمد الدُوني عن القاضي أبي نصرٍ أحمد بن الحسين الكسّار عن أبي بكرٍ الدِينَوَري “ابن السُني” رضي الله تعالى عنه قال حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي ثنا حاجب بن سليمان ثنا محمد بن مصعب ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الهيثمِ بن حنش قال:

(كنا عندَ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما فخَدِرَتْ رِجْلُهُ فقال له رَجُلٌ: اذكر أحبَّ الناسِ إليك، فقال: يا محمدُ صلى الله عليه وسلم. قال: فقام فكأنما نُشِط من عِقال) وبه إلى ابنِ السني أروي الروايات الأخرى ولله الحمد والمِنّة.

ولي أسانيدُ أخرى عن كثيرينَ غيرِهم بحمدِ الله مشايخَ وأقرانٍ نفعَ الله بالجميعِ ءامين، وليس هذا محلَّ ذِكرِها.

وحُبًّا بالخيرِ لكلِّ مسلمٍ وتقليدًا لمشايخي أصحابِ الفضلِ وحفاظًا على السلسلةِ المباركةِ أقول:

قد أجزتُ لكلِّ مَن كان على عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ عقيدةِ الأشاعرةِ والماتُريديةِ التي هي عقيدةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأكابرِ الأمةِ بعدَهُ في كلِّ عصرٍ روايةَ هذهِ الأحاديثِ وروايةَ الكتبِ التي رَوَيتُ مِن طريقِها وسائرِ مصنَّفاتِ أصحابِها وكان أخَذَ كتابًا في مصطلَحِ الحديثِ كالبَيقُونيةِ أو ما قاربَها ويَعرِفُ كيفَ يَضبِطُ النَصَّ المرويَّ من حيثُ النَحْوُ أو نُسخَتُهُ مضبوطةٌ وأُوصي الجميعَ بما أَوصَى به كلُّ مشايخي نفع اللهُ بهم تقوى اللهِ والإخلاصِ والتواضعِ والتثبُّتِ في النقلِ وسؤالِ أهلِ العلمِ عندَ الحاجَةِ وعدمِ المعرفةِ.

واللهُ مِن وراءِ القصدِ وصلى الله على سيّدِنا محمدٍ الطاهرِ الأمينِ وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.


صورتان عن مخطوطتَين من “الأدب المفرد” للإمام البخاري رضي الله عنه وفيها إثبات “يا محمد” صلى الله عليه وسلم


صورةٌ من شرحِ الحافظِ مُغْلَطاي لسنن ابنِ ماجهْ وفيه كلمة (حنش) بغير نقط وانظُرِ الحروفَ المنقوطةَ حولها:

صورةٌ عن مخطوطِ “الأسماء والكُنى” لأبي أحمدَ الحاكم يظهر فيها (أبو شعبة) وكيف صُحِّفَت (أبو سعيد)

ويتلوه بعون الله (نصبُ الأوتادِ في الدفاعِ عن الرفاعيّةِ والصوفيةِ الأسياد)

وهو إبطالٌ لشبُهاتِ ابنِ تيميةَ والذهبيِّ ومن وافقَهما حولَ كراماتِ الرفاعيةِ خصوصًا والصوفيةِ بما يشمَلُ أولياءَ الصحابةِ وأولياءَ أهلِ البيتِ عمومًا نفعنا الله بهم ءامين، وفيه مناقشاتٌ نفيسةٌ لا يستغني عنها طالبُ حقّ بإذنِ الله.

 

فِهْرِسْت

 

الموضوع                                                         الصفحة

 

– مقدمة……………………………………………………………………. ص 7

– صِحَّةُ روايةِ البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمٰن بن

سعدٍ وذِكرُ أسانيدِها……………………………….. …………… ص 10

– بيان أن سفيان هو الثوري لا غيرُ…………………………… ص 11

– ترجمة أبي إسحاق السبيعي…………………………………….. ص 16

– بيان أن الرواية في تاريخ ابن معين وهم وأن ابن معين

لم يعرف عبد الرحمٰن بنَ سعدٍ المديني المقعد وهو شخص

ءاخر……………………………………………………………………….. ص 17

– ردُّ شبهتين للمخالفين حول توثيق عبد الرحمٰن بن  سعد.. ……………………………………………… ………………………  ص 22

– التحذير من كتاب تحرير تقريب التهذيب لبشار عواد

معروف والشيخ شعيب الأرنؤوط وبيان بعض                 الأخطاء. ……………………………………………… …………………… ص 28

– رواية الإمام إبراهيم الحربي لحديث ابن عمر بإسناد

صحيح………………………………………………………………….  ص 48

– إثبات الحديث من طريق الإمام شعبة وتنتفي بها دعوى

التدليس والاختلاط………………………………………………… ص 49

– إثبات أن أبا إسحاق السبيعي ثقة غير مختلط وأن الأمة

احتجت به مطلقا مع تفصيل………………………………….. ص 52

– نفي احتمال التدليس في رواية أبي إسحاق………………. ص 56

– بحثُ ثبوتِ رواية الهيثم بن حنش مع تبحر وفوائد                             عديدة…… ……………………………. ……………………………………  ص 63

– أمثلة على أحاديثَ حسنةٍ لرُواة مختلفٍ فيهم……………. ص 66

– إثبات أن الهيثمَ بنَ حنشٍ ثقة تامُّ الضبطِ بالاستقراء التام،

وكشف جهل الألباني وأنه ليس أهلا للتصحيح              والتضعيف…… ……………………………………………………………. ص 69

– كشف جهل عبد الرحمٰن اليماني المعلمي الذي يسميه

المخالفون: ذهبي العصر، وهو صاحب التنكيل في الرد على

الكوثري…………………………………………………………………  ص 76

– بحثٌ في صحة رواية شعبَة عن الهيثم ورفع الإشكال                      عنها……. ……………………………………………………………….. ص 79

– بعض التصحيفاتِ القبيحة التي تؤيد ما نحن فيه……….  ص 86

– مثال عن تحايلات ابن تيمية وتحريف معاني النصوص

بالهوى، وسكوته عن ظواهر التجسيم والتشبيه………. ص 89

– روايةُ الحديث عن أبي شعبة عن ابن عمر وهي قصة

مختلفة.. …………………………………………………………………. ص 97

– فصل في الرد على المشبهة أصحاب التجسيم…………  ص 106

– تنبيه مهم بخصوص رواية المجهول الضابط بالتتبع…… ص 116

– فصلٌ في ردّ دعوى الاضطراب…………………………….  ص 118

– فصل في ردّ شبهتهم عن حذف “يا” النداء…………….  ص 125

– فصل في المقصود بحرف النداء (وا) في وامحمّداه، وإثبات

جهل السهسواني الذي يعظمه المخالفون……………….. ص 132

– فصل في الفرق بين علمَي الحديث روايةً ودرايةً……. ص 136

– بيان عدم التفرقة بين لفظتَي (ادعُ) و(اذكرْ) …………  ص 138

– الرد المفصل على محمود شكري الألوسي وفضح جهله ورد

تطاوله على الإمام السبكي وبيان أنه متأثر بالدعوة التكفيرية………………………………………………………………….. ص 159

– معنى حديث: (الدعاء مخ العبادة) ……………………….. ص 161

– ترجمة مفصلة لشيخ الإسلام تقي الدين السبكي…………………………………………………………………… ص 163

– كشف حال محمد رشيد رضا وبيان تزويره…………………………………………………………………….. ص 166

– الرد على الماسوني محمد عبده شيخ محمد رشيد رضا………………………………………………………………………… ص 166

– إثبات إن الدعوة الوهابية كفّرت المسلمين وليست سلفية………………………………………………………………………. ص 168

– بعض نصوص محمد بن عبد الوهاب في تكفير المسلمين………………………………………………………………….. ص 169

– الرد على أبي الحسن الندوي في اللمز بالخلافة العثمانية…………………………………………………………………… ص 170

– الرد على القرضاوي في بعض ما خالف به الشرع…………………………………………………………………….. ص 172

– الرد على كفر عقيدة حزب التحرير وبيان انحرافها……………………………………………………………………. ص 172

– معنى الماسونية وأصلها………………………………………….. ص 175

– فوائد نفيسة تتعلق بحديث توسل الأعمى……………………………………………………………………. ص 186

– الرد على الظاهرية ومَن تبعهم في تمسكهم بالظواهر………………………………………………………………….. ص 192

– إثبات أن مِن العلماءِ مَن سبقنا في الاستدلال بالحديث على

التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم……………………………………………………………………… ص 196

– ذكرُ بعضِ الأحاديث التي فيها استغاثة بالنبي صلى الله عليه
وسلم أزمنة السلف فما تلاها……………………………… ص 199

– استغاثة الناس بقبر الإمام البخاري رضي الله عنه………………………………………………………………………….. ص 212

– الرد عليهم في الاستدلالات الطبية على الأحكام الشرعية…………………………………………………………………… ص 214

– كشف تطاول المخالفين بالشتم على الأئمة الأكابر……………………………………………………………………. ص 217

– دفاع الإمام السيوطي عن الحاكم الذي شتمه الوهابية……………………………………………………………………. ص 220

– فصل في عدم جواز الإفتاء في الحديث لغير الحافظ الثقة
وأن المخالفين متطفلون على هذا الباب ليسوا أهلا له……………………………………………………………………………. ص 222

– فصل في رواية المؤلف لحديث ابن عمر بأسانيده………………………………………………………………….. ص 231

– روايته عن العلاَّمةِ مفتي تونس الشيخ كمال الدين جعيط……………………………………………………………………… ص 232

– روايته عن العلاَّمةِ السيّد عبد الله الهرري عليه رحمات الله…………………………………………………………………………..  ص 233

– روايته عن العلاَّمةِ الأصولي الكبير محمد الشاذلي النَّيْفَر……………………………………………………………………….. ص 235

– روايته عن محدِّث الديار المغربية عبد العزيز بن الصِدِّيق…………………………………………………………………… ص 236

– إجازةُ المؤلف لكل مسلم بالرواية بشروطه المذكورة………………………………………………………………….. ص 239

– صور عن بعض المخطوطوطات لإثبات (يا) النداء في الأدب
المفرد للبخاري ويظهر بها كيف حذفوا (يا) منها في المطبوعة……………………………………………… ……………………ص 240

 

Prev Post

الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة

Next Post

قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام

post-bars