أفضل الذكر وأحسن الحسنات
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين
أمّا بَعدُ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي عِلْمًا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ ، قَالَ : إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ هِيَ ؟ قَالَ : هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ.رواه ابن أبي شيبة.
مَعنى الحَدِيثِ أنّه إذَا عَمِلَ العَبدُ سَيّئةً صَغِيرةً أو كبِيرةً يُتبِعُها بالحَسنَة، والحَسنَةُ أَنواعٌ كثِيرةٌ مِنهَا مَا هوَ مِنَ الفَرائضِ ومِنها مَا هوَ مِنَ النّوافِل، فأيُّ حسَنةٍ منَ الحسَناتِ مَن عمِلَها على سَبِيلِ السُّنَّةِ أَي على مَا يُوافِقُ مَا جَاء عن رسولِ الله صلّى الله عليهِ وسَلّم فإنّهَا تُكفّرُ مِنَ السّيئاتِ مَا شَاءَ اللهُ، وفي هَذَا الحدِيثِ أنّ لا إلهَ إلا اللهُ هيَ أَفضَلُ الحسَناتِ وذَلكَ لأنها كلِمةُ التّوحِيدِ بها يَدخُلُ الكافِرُ في الإسلام، ولا يَدخُل بالتّسبِيحِ ولا بالتّكبِير ولا بالتّحمِيد ولا بغَيرِ ذَلكَ مِنْ أَنواعِ التّقدِيسِ للهِ تَعالى، فلِذَلكَ كانَت هيَ أَحسَنَ الحَسَنات، فيَنبَغِي الإكثارُ مِنها أكثَرَ مِن غَيرِها مِن أَنواع الذِّكْرِ. وفي صحِيحِ مسلِم وفي كتابِ الدُّعاءِ للبَيهَقِيّ رحمَهُما اللهُ تَعالى أنّ رسُولَ اللهَ صلّى الله عليه وسلم قالَ:أَحَبُّ الكَلامِ إلى اللهِ تَعالى أَربَعٌ سُبحَانَ اللهِ والحَمدُ للهِ ولا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أَكبَر“. في هَذا الحدِيثِ جمَعَ رسُولُ اللهِ الأربعةَ في سِياقٍ واحِدٍ لكنّهُ لم يُقَدِّمْ ذِكْرَ لا إلهَ إلا اللهُ بَل قَدَّمَ ذِكْرَسُبحَانَ اللهِ ولَيسَ ذَلكَ للدِّلالَةِ على أنّ سُبحانَ اللهِ أَفضَلُ مما بَعدَها، أمّا أنْ تَكُونَ أَفضَلَ مِن الحمدُ للهِ فذَلكَ قَريبٌ محتَمِلٌ، وكذَلكَ محتَملٌ أن تَكونَ مِن حيثُ الثّوابُ في بَعضِ الحَالاتِ أفضَلَ مِن اللهُ أَكبَر.
الرسولُ صلى الله عليه وسلم لم يُرِد بهذا السِّياقِ الذي وَردَ في هذَا الحديثِ التّرتيبَ على حَسبِ الفَضلِ إنما مُرادُه أنّ هذِه الأربَع هيَ أَفضَلُ الكلِماتِ، أي أنها أَفضَلُ مِن غَيرِها مِن أَنواعِ الذّكْرِ والتّمجِيدِ للهِ تَعالى، هَذا المرادُ، أمّا التّفاضُل فِيمَا بَينَها فيُعرَفُ مِن دَليلٍ خَارجٍ ءاخَر كهَذا الحديثِ الذي فيهِ أنّ لا إلهَ إلا اللهُ أَحسَنُ الحسَناتِ، فقَولُ الرّسُولِ إنها أَحسَنُ الحسَناتِ أَفهَمَنا أنها أَفضَلُ مِن جمِيعِ أَنواعِ الذِّكْرِ،ثم هذِه الكلِماتُ الأربَعُ مِنها مَا هوَ فَرضٌ في بعضِ العِباداتِ اللهُ أَكبرُ فَرضٌ في تحرِيمةِ الصّلاةِ لأنّ افتِتاحَ الصّلاةِ هوَ التّكبِيرُ فنَظَرًا لهذِه الحَيثِيّةِ التّكبِيرُ لهُ فَضلٌ خَاصٌّ حَيثُ إنّه جُعِلَ مِفتَاحًا للصّلاةِ التي هيَ مِن أَفضَلِ الأعمَالِ. ثم إنّهُ وَردَ في فَضلِ لا إلهَ إلا اللهُ حديثٌ صَحِيحٌ غَيرُ هَذا وهوَ مَا رواهُ مَالكٌ في الموطّأ وغَيرُه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: أَفضَلُ مَا قُلتُه أنَا والنّبِيُّونَ مِن قَبلِي لا إلهَ إلا الله وحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ” وفي لفظٍ: أَفضَلُ مَا قُلتُه أنَا والنّبِيُّونَ مِن قَبلِي لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لهُ لهُ المُلكُ ولهُ الحَمدُ وهوَ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَدِير” ففِي هَذا الحديثِ الصّحيحِ الثّابِت الذي رواه الإمامُ مَالِك رضيَ الله عنهُ في الموطّأ ورَواه غَيرُه مِن أئِمّةِ الحديثِ دَليلٌ واضِحٌ على أنّ لا إلهَ إلا اللهُ أفضَلُ مَا يُقالُ أي أَفضَلُ ما يُمتَدحُ بهِ الرّبُّ تَباركَ وتَعالى، أَفضَلُ مَا يُمَجَّدُ بهِ الرّبُّ تبَاركَ وتَعالى.
الرّسولُ علَيهِ الصّلاةُ والسّلام قال:إذَا عمِلتَ سيّئةً فأَتبِعْهَا بالحَسنة” قيلَ أمِنَ الحسَناتِ يا رسُولَ اللهِ لا إلهَ إلا اللهُ قالَ هيَ أَحسَنُ الحسَناتِ” فقَولُه هيَ أيْ لا إلهَ إلا اللهُ أحسَنُ الحسَناتِ أي أَفضَلُها.
الرسولُ صَلى الله عَليهِ وسَلّم قالَ:إذَا عَمِلتَ سَيّئةً فأَتْبِعْهَا بالحسَنة” قِيلَ أَمِنَ الحَسناتِ يا رَسُولَ اللهِ لا إلهَ إلا اللهُ،قالَ:هيَ أَحسَنُ الحسَناتِ” فقَولُه هيَ أي لا إلهَ إلا اللهُ “أَحسَنُ الحسَناتِ” أي أفضَلُها، أيْ أنّ لا إلهَ إلا اللهُ أَفضَلُ مَا يُتقَرّبُ به إلى اللهِ معَ خِفّتِها عَلى اللّسان وعَدمِ المشَقّةِ في النُّطقِ بها، ليسَ هُناك في الشّرعِ قَاعِدةٌ كُلّيّةٌ أنّ مَا كانَ مِنَ الأعمَالِ أَشَقَّ وأَكبَرَ كُلْفَةً أَفضَلُ مِن غَيره، بل مِنَ الأعمَالِ مَا هُوَ أَخَفُّ وهوَ أَفضَلُ مِن غَيرِه مِن سَائرِ الأعمَالِ الصّالحةِ كهذِه الكلِمةِ الشّريفَةِ لا إلهَ إلا اللهُ، هيَ خَفِيفَةٌ على اللّسانِ لكنّ اللهَ تَعالى جَعلَها أَفضَلَ الحسَنات، فمَهمَا عَمِلَ الإنسانُ مِنَ الأعمَالِ الحسَنةِ فَإنّ لا إلهَ إلا اللهُ مُقَدَّمَةٌ في الفَضْلِ عِندَ الله، وذلكَ أَنها البابُ إلى الإسلامِ، الكافِرُ إذَا أَرادَ الدُّخُولَ في الإسلامِ لا يَدخُلُ في الإسلامِ إلا بها أو بما يُعطِي مَعناهَا، قالَ الفُقهاءُ إذا قالَ الكافِرُ الذي يُريدُ الدُّخولَ في الإسلام لا خَالقَ إلا اللهُ محمّدٌ رسولُ الله صَحّ إسلامُه أي ثبَتَ لهُ الإسلام،وكذلكَ لَو قالَ لا رَبَّ إلا اللهُ محمّدٌ رسولُ اللهِ قَالُوا صَحَّ إسلامُه، وكذَلكَ لَو قَالَ لا رَبَّ إلا الرّحمن، أو لا إلهَ إلا الرّحمن لأنّ هؤلاء الكلِماتِ كُلٌّ بمعنى لا إلهَ إلا الله، لكنَّ أَفضَلَ ذَلكَ كُلِّهِ هذِه الصِّيغَةُ لا إلهَ إلا الله.
ثم إنّ مَن أَرادَ الدّخُولَ في الإسلام لو نَطَق بتَرجمَتِها بلُغَتِه التي يَعرِفُها صَحّ إسلامُه، وليسَ شَرطًا للدّخُولِ في الإسلام أن يَنطِقَ بعَينِ اللّفظِ العَربيّ بَل لَو نطَقَ بتَرجمَتِها دَخلَ في الإسلام، أمّا إضَافةُ أَشهَدُ إلى هذِه الكلِمَةِ مَقرونَةً بأنْ أي قَولُ أَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله قالَ الفُقَهاءُ فهوَ أَوْكَدُ لمن يُريدُ الدّخُولَ في الإسلام، القَولُ الصّحيحُ أنّه إذا قالَ لا إلهَ إلا الله صَحّ إسلامُه وإنْ كانَ الأفضَلُ لمنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ في الإسلامِ أنْ يَقُولَ أَشهَدُ أن لا إله إلا الله، لأنّ أشهَدُ تُعطِي مَعنًى يؤكّدُ مَضمُونَ هذِه الشّهادةِ، ولأنّ أَشهَدُ تَدُلّ على أنّ هَذا المتلفّظَ بها يَعتَرِفُ عن إيقانٍ واعتقَادٍ وعِلْمٍ، لَيسَتْ بمثَابةِ أَعْلَمُ، فلَو قالَ أَعْلَمُ أنْ لا إلهَ إلا الله ليسَت بمرتَبةِ أَشهَدُ أن لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ فيها زيادةُ تَأكيدٍ لإثباتِ الألوهيّةِ للهِ تَعالى لدِلالتِها على الاعتِرافِ والاعتقادِ والإيقان.
فمَعنى أشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ أنَا مُوقِنٌ ومُعتَقِدٌ وجَازمٌ بلا تَردُّدٍ ولا شَكٍّ وأنَا عَالم بأنّهُ لا إلهَ إلا الله أي لا مَعبُودَ بحَقٍّ إلا اللهُ أي لا يَستَحِقُّ أَحَدٌ أن يُتذَلَّلُ لهُ نهايةَ التّذلّل إلا الله، أي أنّ اللهَ تَعالى هوَ المنفَرِدُ باستِحقَاقِ نهايةِ التّذلّل أي أنّهُ هوَ الذي يجُوزُ أنْ يُتذَلّل لهُ نهايةَ التّذَلل، ومَن سِوى الله مِن مَلائكةٍ وأَنبياءَ وغَيرِهم مما خَلقَ اللهُ تَعالى لا يَستَحِقّ هذِه العِبادةَ التي هيَ نهايةُ التّذلّل.
ثم كلِمَةُ لا إلهَ إلا اللهُ فيها دِلالَةٌ على جمِيع مَا يجِبُ للهِ تَعالى أنْ يتّصِفَ بهِ مِن صِفاتِ الكَمالِ التي هيَ لا تَثبُت الألوهيّةُ إلا بها، لا تَثبُت الألوهيةُ بدُونها، مِن ذلكَ الحياةُ تَدُلُّ على أنَّ اللهَ حيٌّ، تَدُلُّ علَى أنّ هَذا الذي يَستَحِقُّ نهايةَ التّذلُّل حَيٌّ لَيسَ مَيّتًا وتَدُلّ على العِلمِ أي تَدُلُّ على أنّ هَذا الإلهَ الذي هوَ مُنفَرِدٌ باستِحقَاقِ نهايةِ التّذلل عَالم بكُلّ شَىءٍ، وتدُلّ على أنّه مُتّصِفٌ بالقُدرةِ أي الاقتِدار على اختِراعِ مَا أرادَ دخُولَهُ في الوجُودِ، وهَذا اللّفظُ مُتَضمّنٌ أيضًا للإرادَةِ أي أنّ اللهَ تعَالى يخَصِّصُ مَا شَاءَ بما شَاء، يخصِّصُ مَا شَاءَ بالدُّخُولِ في الوجُودِ فيُدخِلُه في الوجُودِ، ويخَصِصُ مَا شَاءَ بصِفَةٍ دُونَ صِفةٍ أي بدَلَ صفَةٍ هيَ تُقَابِلُها، فبِالمشِيئَةِ خَصّصَ اللهُ تَعالى الحادِثاتِ بما فِيها مِن صِفاتٍ مختَلفَةٍ، هوَ خَصّصَ الإنسانَ بصِفاتٍ خَاصَّةٍ بهِ بدَلَ أن يَجعَلَهُ كغَيرِه مِن مخلُوقَاتِه، وخَصّصَ غَيرَ الإنسانِ أيضًا بصِفاتٍ شاءَ أن تختَصَّ بهِ.
وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.